Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

صَدِيقي زياد
صَدِيقي زياد
صَدِيقي زياد
Ebook363 pages2 hours

صَدِيقي زياد

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كان يمكن أعطاء هذا الكتاب عناوين أخرى مثل: كيف تصبح مليونيراً انسانياً، أو كيف تقيم الصداقات، أو تجارب في مواجهة السرطان، أو الحياة بين صديقين، وغير ذلك، لكن الاختيار وقع على صديقي زياد لان المرحوم كان بمثابة الصديق لكل الذين عرفوه.
هذا الكتاب يضم سيرة للمرحوم زياد ابو عجينة، كان رجلاً ميسور الحال طيب القلب ملتزم بدينه بشكل ايجابي. صديقه، المؤلف، يكتب هنا عن رؤية زياد للحياة، وفلسفته التي اصعدته من الصفر الى المليونيرية وكيف بقى قمة في التواضع، وما هي العوامل التي دفعته للكرم والتكرم، وكيف انعكس ذلك على علاقاته وحب الجميع له. كان صديقاً للاطفال والاهل والطلاب والاقارب وشركائه وموظفيه، خصوصاً في السنوات الاخيرة من حياته.
عنصر هام أخر تحتويه هذه السيرة عن زياد وهو مكافحته لمرض السرطان الذي انتصر على الحياة في النهاية. كان الايمان عنصر مهم وأساسي في تحمل العلاج والتماسك النفسي. أقتنع زياد ان الله سينجيه من المحنة، وأذا أختاره الى جانبه فهذا كون الله يحبه، أي ان العلاقة ربح ربح مهما الت اليه الظروف وكانت النتيجة.
يكتب المؤلف عن رؤية صديقه في شؤون عدة منها: العلاقة مع الوالدين والاهل والاقارب، وكيفية العلاقة مع الناس، ومزايا وأفضال فعل الخير على الفاعل والمتلقي، ورؤيته للصداقة التي كان مقتنعاً انها قائمة على تبادل منافع حتى لو كانت صداقة وحب بين الطفل والام، فالاول يريد الرعاية والام تريد الحنان وشعور الامومة.
وشاءت الظروف ان يمر المؤلف هو الاخر بتجربة صحية بعد فقدان صديقه بعام، تجربة سجلها بمشاعرها وظروفها لتضيف الى كمية المعلومات الطبية والنفسية التي يقدمها للقارئ من دون ان يكيل أي نصائح او مواعظ.

Languageالعربية
Release dateMay 14, 2020
ISBN9780463744932
صَدِيقي زياد
Author

Abdel Gabbar Adwan

عبد الجبار عدوان - ويكيبيديا

Read more from Abdel Gabbar Adwan

Related to صَدِيقي زياد

Related ebooks

Reviews for صَدِيقي زياد

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    صَدِيقي زياد - Abdel Gabbar Adwan

    تمهيد

    بعد شهرٍ على الوداعِ الأخيرِ لزياد.. جلستُ لأخطّ هذا الكتاب، لكنّ غُصّةً شديدةً أوقفتني، فاكتفيتُ بتدوين ما يخطرُ لي من الافكار، ثمّ عدتُ بعد شهورٍ ستّةٍ فعادت الغُصّةُ وكأنني عائدٌ للتوِّ من مقبرة أبو هامور في الدوحة.. لكنّني هذه المرّة قرّرتُ الاستمرار في الكتابة عن هذا الإنسان الذي يُقرُّ كلُّ من عرفه عن قربٍ أنه يتّشحُ بالكثير من سمات التفرّد التي تجعلُ الكتابةَ عنه وإشهار صفاته عملاً اجتماعياً معرفيّاً مُفيداً لمن يجهله ولمن يعرفه، ناهيك عن الإثارة التي مثّلتها حياتُهُ، ليس فقط كونه وصل من الفقر إلى المليونيرية، أو تفرّده بين حَمَلَةِ جيناته، أو تميّزه بين نظرائه الأثرياء، بل للكثير من الأسباب الأُخرى التي ستكون في صلب هذا الكتاب.

    أجدادُنا وآبَاؤنا كانوا يعرفونَ بَعْضَهم البَعْض، ومررت أنا مثل زياد في ظروفِ حياةِ طفولة متقاربة، ثُم تَقاربت عائلتَيْنا حِين تَزوجَ ابنة أخي في الدوحةِ عام 1983، ولكنني تعرفتُ عليه عن قربٍ بداية العام 2009 في عَمان، ومنذ ذلك الحين تَعَمقت صَداقتنا وثِقتنا واحترامنا لِبَعضنا البَعْض. كَثُرَت اللقاءات والزيارات والاتصالات، وأَثمرت عِلاقتنا أَكثر مِمَا هُوَ بين دفتيّ هذا الكتاب من رُؤىً ونِقاشاتٍ ومَعارف، يَعودُ الفضل الأول فيها لِصديقي. هذه السيرة أذاً مُحددة في زمن صداقتنا، كما انها لا تشمل جوانبَ كثيرة أخرى من حياة زياد ومحبيه.

    قُبيل الانتهاء من الكتابةِ مررتُ بتجربةٍ صحيةٍ ظننت أنها أَودت بي إلى الاقترابِ من حافةِ الموتِ، ومن ثَم استمرت الحياة لاحقاً مع بقاءِ احتمالِ الموت المفاجئ في أي لحظة، وهذا ما دَفعني إلى تركيز التَفكر والتَأمل في الحياةِ الدنيا والآخرة، وأَضفتُ لهذا العمل، في نهايته، ما مررتُ وشعرتُ به، ومَا رأيته من تَميزٍ واختلاف بين قناعاتِ صديقي وقناعاتي في هذا الشأن، وبينَ نعمة الموت مع سابقِ الإنذار، والموت السريع سواء مَرضياً أو عَرضياً .. ولأسباب عملياتية تأخر نشر هذا الكتاب، وحين كشرت جائحة الكُورونا عن أنيابها لجأت الى النشر الالكتروني.

    واحدةٌ من أجملِ الحِكَمِ المُسْتَخلَصة والرابطة بين الموتِ والصداقةِ والمفيد تَذكُرهِا: يَجبُ ألا نبكي على أصدقائنا، إنّها رحمة أن نَفقدَهُم بالموتِ فَنتذكرهم، ولا نَفقدهم وهُم أَحياء فَنَتناساهم. أَما الخُلاصة فَيُفْتَرض أن تَدُور حولَ معرفة أَنك لا تَتَحكم سوى بأفعالك وأفكارك، وهكذا فكل شيء آخر هو خارج عن مجالِ سيطرتِك، ومَا يُفكر فيه البشر أَو يَفعلونه لك أو ضدك، يجب أَلا يُتعسك، وبالتالي تكون سَعادتك بَين يديك، وجَنتُك أو جَحِيمك هنا في متناولِ يَديك.

    مِنَح ومِحَن

    وبالوالدينِ إحساناً

    قالت لي والدتُهُ ذاتَ زيارةٍ ونحن نراقب حركة الناس: شايف هالجموع والترحاب الذي يُقابلُهم به زياد.. الناس يأتيهم ضيفان فيحتاروا في استقبالهم ويركضوا ملخومين ماذا يُغدّونهم، وزياد ضيوفه بالمئات، ويتصرف بكل أريحية. لم يكن هناك أيّة مبالغة في حديث أم زياد.. فكل ليلةٍ يحضر العشرات من الأصدقاء والأقارب والأنسباء والزوّار إلى ديوانه المفتوح طوال الأسبوع، يتسامرون ويتبادلون الأخبار ويتناولون العشاء في جوٍّ ودود غير متكلّف. وفي يومي الخميس والإثنين هناك لقاءاتٌ في مزرعته على أطراف الدوحة. الخميس يلتقي عشرات العائلات مع أطفالهم وشيبهم وشبابهم إناثاً وذكوراً، والإثنين لقاء الذكور فقط، ليتاح لمن يريد من موظفي شركاته الالتقاء والتعارف خارج إطار العمل، وفي الليلتين يُقدم أنواع العشاء المطبوخ في المزرعة ومن خيراتها، ويتنقّل زياد بين الحضور مُرحّباً ومادحاً وشاكراً لكلٍّ منهم على حضوره.

    كانت الوالدة هي حُبّه الكبير، فلا يمرّ يوم من دون أن يزورها ويحضنها ويُقبّل رأسها ويجاريها بما تريد، ويُسمعها ما تحب، كان يريد أن يُشبعها حناناً حتى يعوّض ذاته عن حرمانه من أمنيةٍ عزيزة على قلبه أخبرني بها مراراً.. كان يتمنّى لو أن عمر والده قد امتد ليشاركه في يُسر الحال، وليرتاح بالُهُ أنّ توصياته وأمنياته لولده قد أثمرت وتحقّقت. قبل وفاته بثلاثة أيامٍ، أفاق زياد من غفوته على سرير المستشفى، وقال للحضور: أنا ذاهبٌ مع أبي.. كانت ملامحه توحي بخليطٍ من الانشراح والدهشة، وهو يشير إلى الزاوية الغربية في الغرفة، وكأن والده في انتظاره.. كان ذلك في يوم ذكرى وفاة والدة (11) أغسطس 1985. حتى في الفترة التي سبقت نقله النهائي إلى مستشفى حَمد كان يعرف أنّ الأجل قد اقترب، ولم تظهر عليه علامات الجزع، كان شديد الاطمئنان على مصيره في الحياة الآخرة، معتمداً على إيمانه بالله والقرآن وحُسن أعماله. في سنوات الصحّة والعافيّة، وحين كنّا نتطرّق للحديث عن الموت.. كان من ضمن فلسفته في هذا الصدد القول: لقد أنجزتُ الكثير وأرضيتُ ربي وأمّنّتُ عائلتي، ولو فقعتُها موتة الآن فلن أحزن كثيراً، فهذا ما يريده الله لي، ولن يريد لي إلا الأفضل.

    يتوجب علي هنا الاشارة الى استنتاجات سابقة استخلصتها من معرفتي لزياد وقدراته وخصائصه، فلديه قدرةُ مدُربةُ على التحكم في عواطفه، يُخفي ما يريد منها متى شاء والمبالغة في تفجيرها المنظم حين تساعده في تحقيق غاياته. كان أثناء سنوات النشاط العملي قبل تعرفي عليه، وكما قال لي وعرفت من أخرين، يرهب الموظفين في مكتبه الى درجة احتساب بعضهم لعدم رؤيته في اي يوم بمثابة وقت سعيد. هذا الحال كان يؤهله لتجنب مشاكل عبر إخفاء المشاعر، بل تحقيق فوائد مالية في ظروف معينة مثل اتقان عدم الاهتمام بصفقة محددة فيتحكم في سعر الحصول عليها. كما ان التحكم في تفجير المشاعر يؤهله ضمن أمور عديدة أخرى، لاختصار الوقت مع الموظفين ودفعهم للتركيز على عملهم واتقانه وجهلهم لما يعرف فيصبحوا وكأنهم في قاعة أمتحانات دائمة. سيكون الوضع خطيراً لو لم يكن متحكماً في المشاعر وخاضعاً للانفعالات.

    في بداية حياته العملية كان ذهنه يخوض صراعات مخفية وخيالية مع الذات ويقاتل الناس وهمياً ويهدر الوقت في مثل هذه الافكار، لكنه، وكما حدثني مراراً، قاوم هذا التوجه وتخلص من قبضته ومارس تمارين طويلة للتحكم في القلق وتجاهل الافكار المزعجة واستبدالها بأشياء ذات نفع ومواقف عقلانية. هكذا أيضاً لم يمر قبل مرضه بأوقات أكتئاب شديد تنبع في العادة من الافكار الشخصية خصوصاً لمرضى السرطان، اذ كان يراقب شعوره ويتعامل مع الافكار التي تتحكم في المزاج وقرارات الحياة ويصبغ عليها اللمسة السارة السعيدة عبر تساؤل دائم اذا كانت تلك الافكار ايجابية او سلبية. ربما هذا من اسرار توفق زياد في السنوات العشر التي عرفته فيها، كنت اراه يظهر الاهتمام بالامور السارة والاستهانة بالمشاكل المزعجة وعدم منحها الوقت الاضافي وانما حسمها والقفز عنها. حين تكون القضايا معقدة وكبيرة كان يقسمها الى جزئيات يسهل حلها ويبحث عن اسباب التعقيد ويتعامل معها.. هذا كله ساعده على تحمل زمن المرض وتحسس السير الى النهاية.

    لم يكن زياد يتمنّى الموت ولكنه لم يخفهُ أبداً، حتى اللحظة الأخيرة. قبل شهرٍ من انتهاء حياته إثر سرطانٍ في الرئة قال لي إن الله يريد إنذاره عبر هذا المرض القاتل بالتدرّج، إنذاره باقتراب الموت، وبالتالي انتهاز الفرصة لضبط أوضاعه قدر الإمكان: تصوّر لو كنتُ في كامل صحّتي وغير محتاطٍ من الموت أو متوقّعٍ له، ثم مُتّ فجأةً تحت عجلات شاحنة.. هذه ستكون فاجعةٌ، لكنّ هكذا.. فالحمد لله. وبعد وهلةٍ قصيرةٍ قبل أن أتجاوب مع رأيه هذا.. اتبعني بالقول: ألم تلاحظ أنني لا أتألم كثيراً من الإصابة، وألمي مصدره الجرعات الكيماوية، وهذه أيضاً ضمن المعقول.. فالحمد لله على ذلك. إن تخصّصاتي العلمية هي السياسة وعلم النفس والعلوم الإسلامية، وأعتبر نفسي مُجيداً لقراءة لغة الجسد، ولم أسمع في نبرة زياد أو أرى في ملامحه أو تصرّفاته أثناء هذا الحديث أيّ قلقٍ أو شكوك، كان بالفعل مقتنعاً بما يقول ومرتاحاً له، ومستسلماً لإرادة ربه. كانت فلسفته أنّ الموت يجب أن يُذكّرك بالقيم التي يُفترضُ أن يعيش الإنسان من أجلها على الأرض، والتجاوب مع قناعة وجود حياةٍ أخرى بعد الموت، وعقاب وثواب لاحق يتطلب منك الآن التفكير في طرق حياتك.

    ذلك لا يعني أبدأ أنه تمنّى الموت، ولا حتى في لحظات الألم بعد جرعات الكيماوي، وأوجاع تقرّحات الفم من جرّاء ذلك. بعد إعلانه الاستسلام لإرادة ربه وشكره على هذا التحذير.. مارسنا سوياً بعض الرياضة في الماء، وعاد يُعلّمني نظرياً وعملياً كيفية التنفس للغوص تحت الماء والصمود لأكثر من ثلاث دقائق: أنا واثقٌ أن الله سيشفيني ويعيد لي كلّ صحّتي كما كانت. غطستُ تحت الماء متأثراً بما يقول، فأنا أعرف تماماً أنه ذاهبٌ إلى النهاية، إذ عرضتُ تقاريرَه وشرحتُ حالته للعديد من الأطباء المختصّين في عدّة بلدانٍ من دون إخباره بذلك، وكلّهم أعطوا نفس التوقّع، ولهذا لم أعترض على لجوئه إلى الأعشاب والأدوية البديلة لاحقاً.

    أوعدك حين تشفى أن أحجّ معك إلى بيت الله الحرام.. قلتُ له بعد أن رفعتُ رأسي من تحت الماء لأشرح قلبه.. طلب منّي تأكيد هذا الوعد، وقد تهلّل وجهُهُ، فأكدتُ وعدي، وعدتُ تحت الماء لأخفي مشاعري. كان زياد المؤمن تماماً يعرف آرائي من تطبيق الأديان والفروض، وبالتأكيد، لم يظنّ أنّ الهداية نزلت عليّ فجأةً، ولكنّي سأحجّ معه لأسبابٍ معيّنةٍ، لكنه لم يفقد الأمل أن تنزل الهدايةُ أو تبدأ بالنزول على صديقه الحميم أثناء الحجّ: هكذا سوف تكسب أنت حسناتٍ شتّى لأخذي معك إلى الكعبة.

    في شهر مايو 2018 ذهبتُ لزيارة زياد في الدوحة بشكلٍ مفاجئٍ، كنت أعرفُ أنّ المرض بدأ ينعكس على وضعة الجسميّ هُزالاً، وتأثّرتْ عيونُه فاضطر إلى وضع غطاءٍ على إحدى عينيه لتركز الأخرى، وأصبح يُصابُ بنوبات صداعٍ شديد. لقد انتقلت الخلايا الخبيثة إلى العمود الفقريّ، وفي طريقها إلى المخّ. كان قد مرّ عامٌ على اكتشاف السرطان، والبدء برحلة علاجٍ أخذته إلى أمريكا مراراً. ذهبتُ إلى الديوان وجلستُ مع والدته في الساحة حتى خرج من الديوان.. سألني ونحن نتعانق إذا كنتُ قد أبلغت الوالدة، فنفيت. كل الدوحة كانت تعرف بمرض زياد وكل أولاده وبناته وأنسبائه وأحفاده وشركائه وعُمّاله ومديري شركاته، ومئاتٍ ممن يتردّدون صباح مساء على الديوان ويصبحون ويُمسون على الحجّة، ويضبطون حديثهم حتى لا تعرف بمرض ابنها.. كان يخاف عليها من الصدمة والمعاناة معه.

    هي لا تعرف حتى الآن؟ سألته وأنا أنظر إلى وجهه الذي يحمل علامات مرض، وعينه المغطّاة بعصبة: ماذا تُخبرها عن تحوّلك إلى موسى ديّان؟

    أخبرتها أني ذهبتُ في رحلة بحرية ولفحني الهواء.. قال وضحك بعمقٍ وكحّ مرتين وعاد لضبط تنفّسِه، وأضاف: المهم أنّ كلّ هذه الأمم صغيراً وكبيراً مشاركون في مؤامرة الصمت.. سجّل عندك هذا الإنجاز. أم زياد امرأةٌ كبيرةٌ في السنّ، صاحيّة العقل، طيّبة القلب، وأستغرب أنها لا تشكّ في هذا الوضع. صحيحٌ أن زياد بعد كلّ غيبة سفرٍ طويلةٍ كان يُحدّثها عن الانشغالات في العمل، ولكنه كان يجاهد ويُكابرُ أمامها ويتركها عندما تأتيه موجات الصداع والألم، ولا يكفّ عن الحديث والمُزاح أمامها ليطمئنها ويصرف أيّة شكوك قد تنتابها، وكانت تُصدّقه على الدوام، أو ربما أرادت أن تُصدّقه، ولم تسأل الآخرين حتى لا تحصل على إجابةٍ لا تودّ سماعها. لم يكن يريد لها المعاناة معه، رفقاً بها وإحساناً لها.

    في صباح اليوم التالي كان زياد في المطبخ، بينما جلستُ مع صديقٍ مشتركٍ لنا في بلكونة البيت، وكان زياد يُتابع حديثاً عامّاً بيننا عن تكتيكات المخابرات في بعض الدول العربية. موجز الحديث هو تجنيد أشخاصٍ يُسمّونهم المصدر ووظيفتهم الوشاية عن المعارضين للنظام، ولأن هؤلاء ضِعاف النفوس، وكونهم تحت ضغط الإنتاج، فهم يُفبركون التهم ولا يتورّعون عن الانتقام الشخصيّ أو بيع قُدراتهم لآخرين يريدون الانتقام من أبرياء لا علاقة لهم بالسياسة أو المعارضة. كان الصديق يُقدّم الأدلة التي يعرفها، إذ ظهر عليّ عدم التصديق. وقال أيضاً أنّ هؤلاء المصادر يشعرون بعظمةٍ ولكنهم مضطرون للبقاء ضمن واقعهم الماديّ حتى لا تظهر عليهم النعمة، وتكثر حولهم الشكوك.. غضبتُ وشتمتُ بشكلٍ إجماليٍّ مثل هذه الشعوب التي تُفرّخ مثل هؤلاء. ترك زياد المطبخ ودخل إلينا قائلاً: لا.. لا.. لا تشتم الشعب، أين علومك وكتبك وحنكتك.. أُشتم الأنظمة التي تصنع الواشين وتضعهم فوق القانون ولا تفشي أمرهم، بل تحميهم وتكافئهم، لو ساد القانون لما حصل أيّ شيء من هذا القبيل، ولكانت الأمور أفضل في كلّ مكان في الوطن العربي.. الفوضى هي التي تُنتجُ الزعران والمرتشين، وتغطي على الأغلبية الطيّبة والفئات المتنوّرة في المجتمعات.

    كان صافي الذهن كالعادة، وأيّدتُ كلامه، واستخطأتُ موقفي، وتوقعتُ أن يكون قد فاز ببضع ساعاتٍ من النوم بدون صداع. شجّعته على الحديث بعزيمة.

    لم يكن زياد سريع الحكم على الامور سواء ما يخص الافراد او القضايا الجديدة التي تُطرح عليه، كان ينصت ويفكر ويستمع من الاخرين ربما لضبط رأيه من مجموع ما يسمع او لاتخاذ موقفٍ مخالف تماماً لكل ما سمع. وحين يتوجب الانتقاد فلم يكن هجومياً جارحاً بل يوحي للمعني بانه لم يكن يقصد ما قاله وان موقفه هو ما يقوله زياد ولكنه ربما اساء التعبير أو تسرع فيه، وحين يتطلب الامر انتقاداً صريحاً فكان يوصله لصاحبه على انفراد، اذ كان يتخيل ذاتياً وقع النقد الفظ على المستمع. مارس اسلوب تقويم أخطائه وعيوبه الذاتيه وغض البصر عن عيوب الاخرين حين لا يرتبط الامر بالعمل. ذات يوم جاء ابنُه الصغير واعترف انه اخذ مفاتيح السيارة من البيت وخرج بها واحط بها على الرصيف واعتذر ثم أقترح خصم التصليح من مصروفه. قال لي زياد انه تبسم لابنه وشكره على الصراحة واخبره انه صغير على تعلم السواقة الان، وقال لي انه عرف على الفور عدم مصداقية القصة لان هذا الابن مستحيل ان يفعل ما وقع. تحرى الامر واكتشف ان الابن تحمل المسؤولية لحماية صديق وقريب له، فاثنى على الابن لرغبته في حماية الصديق وافهم المتسبب بالحادث سوء فعلِهِ، وتقبله بالتضحية بصديقه ليحمل عنه المسؤولية والعقاب.

    بَينَ المَنحِ والمِحنِ

    كان زياد منذ عرفته قليلَ النوم، ربما ساعتين أو ثلاثةً قبيل موعد صلاة الفجر، لكنه كان يُجيد استنشاق الأوكسجين، ويؤكد أنّ هذا ينشّط العقل والجسد، ويُغني عن النوم. كلما زرتُه في سنوات العافية كان يصطحبني من الصباح الباكر إلى أيّ مشوارٍ بينما معظم الناس نيام. أحياناً كان يخبرني أنّ إفطاراً شهيّاً ينتظرنا، فأرافقه حتى يقف بسيارته أمام كشكٍ لآسيويين يتجمع عنده العمّال لتناول إفطارهم. يُخيرني -بين أشياء- بأسماءٍ غريبةٍ ثم يطلب سندوتشي بيضٍ حار: معدتي يا زياد لا تتحمّل الحرّاق، وإذا دخلها شيء في الصباح فلا بد أن يخرج بديله شبه فوريٍ.

    كان يقاطعني، ويتمنّى أنّ أُجرّب بضع قضماتٍ ثم ينتقل إلى الثناء على هؤلاء العمال، وإلى الحديث عن الأقارب الذين يُفضّلون أعمالاً معيّنةً. بينما نقضمُ الفطور أخذ زياد يُحصي أعداد الزبائن، وأكدّ لي أن هذا الكشك ينشغلُ عدّة مراتٍ في اليوم بهذه الكثافة، وحَسَبَ تكلفة السندويتش وفارق الربح، وضَرَبَ وطَرَحَ وتساءل: لماذا لا يفعل هكذا فلانٌ وعلانٌ، ويُعدّد أسماءً ممن نعرفهم، ثم يجيب: لأنهم يحبون النوم والجخّة.

    في فجر يومٍ آخر أخذني إلى ميناء صيد السمك، فكلانا يعشق السمك، وقد تعلّم منّي أن يُفطر سمكاً، وأصبحتْ عادةً عند الكثيرين من أهله ومعارفه خصوصاً حين نبيت في المزرعة، ونصحوا على إفطارٍ متنوّعٍ، لكننا نخصّ نفسينا بالسمك. في الميناء ننتظر ما يُحضره الصيادون، فيفرغونه على منصّةٍ إسمنتيةٍ، ويبدأ التجّار فوراً بالمزاد.. كنّا نختار النوع الذي نريد، ونتابع التاجر المشتري، ونذهب لمحلّهِ في ذات الموقع لنشتري السمك.. وبينما كان التاجر يُنظّفُ الطلبية نذهب إلى موقعٍ آخر في الميناء، حيث تبني إحدى شركاتِه يخوتاً خليجيةً تقليديةً تُسمى سمبوك نتفقد الموقع، ونتجوّل حول السفن. يشرحُ لي عن المشاكل، وكيف يستورد الخشب من الهند..

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1