Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

Season of Martyrdom Arabic
Season of Martyrdom Arabic
Season of Martyrdom Arabic
Ebook370 pages2 hours

Season of Martyrdom Arabic

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook


في خضم موجات العنف التي اجتاحت أنحاء المنطقة العربية-العالم، تزور عرّافة رجل أعمال ثريًا وتبلّغه أخبارًا تقلب حياته رأسًا على عقب. في ھذه الأثناء، يكتشف شاب في العشرين من عمره، وھو مقاتل في صفوف إحدى الجماعات الإسلامية ضد النظام السوري، حقيقة تھز كيانه. وبعد أن يجد نفسه ممزقًا بين شعوره بالخزي والخديعة يمضي في طريق الثأر وتدمير الذات
Languageالعربية
Release dateApr 21, 2020
ISBN9789927118074
Season of Martyrdom Arabic

Related to Season of Martyrdom Arabic

Related ebooks

Reviews for Season of Martyrdom Arabic

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    Season of Martyrdom Arabic - Jamal Naji

    ساري أبو أمينة

    لم يخطر ببالي - مُطلقًا - أن تؤدِّي المفاجأة التي أعددتُها لفواز باشا ليلة عيد ميلاده الستين، إلى كل تلك المفارقات والأعاجيب التي حدثت بعدها.

    يبدو أنني فقدت اتزاني ونسيت الحساب في ذلك المساء الحزيراني الحار.

    هي المرَّة الأولى التي يفوتني فيها إخضاع مسألةٍ بتلك الأهمية للتفكير قبل إقرارها، إذْ مِن عادتي أن أُخصِّص نصفَ ساعةٍ في كل صبيحةٍ للانفراد بأهم أحداثِ يومِي، أحيط بمتعلقاتها بدرجةٍ من التركيز، ثم أتخذ قراري بشأنها.

    لكنني أمام تحمسي للمفاجأة التي أعددتُها لفواز باشا ليلة عيد ميلاده، تغاضيتُ عن الاستفراد بالفكرة، وتلك كانت واحدةً من الحالات النادرة، النادرة إلى حدٍّ لا يُحتمل، التي أشعر فيها بانقيادي إلى فعلٍ ما من دون رويَّة، كأنما ثمَّة قوةٌ خفيةٌ تُسيِّرني.

    فواز باشا - طبعًا - لم يقم بدعوة الناس الذين حضروا إلى منزله تلك الليلة محمَّلين بالهدايا الثمينة، كي يهنئوه ببلوغه الستين من عمره المديد.

    أنا من قام بمهاتفة أصدقائه وتذكيرهم بالمناسبة السعيدة (تبين أنهم كلهم يتذكَّرون)، هاتفت رجال أعمالٍ، وصحفيين، ومديرين، ومسؤولين، هاتفتهم كلهم بصفتي مديرًا للعلاقات. هذا هو المسمَّى الذي أطلقه الباشا على وظيفتي، لكنني لم أكن كذلك، ربما كنت أكبر من مدير علاقات، إذ إن ما يكلِّفني به من مهام يكاد لا ينطبق عليه مُسمى وظيفيٌّ على غرار مسؤولي وموظفي شركاته ومكاتبه التجارية المنتشرة في الأردن وخارجه.

    أما ترتيبات الحفل - الذي أقيم في منزل الباشا الواسع الممتد على ربوةٍ عاليةٍ مستويةٍ إلى الغرب من مدينة عمَّان، وهي ربوةٌ مطلةٌ على منطقة الكمالية شرقًا، وعلى قرى مدينة السلط وطرقها المتعرجة المنحدرة غربًا - فقد تعهدها أحد المكاتب المختصة بتنظيم حفلات الزفاف وأعياد الميلاد والنجاح.

    كان المدعوون يجلسون على المقاعد حول طاولةٍ مجمَّعةٍ مستطيلةٍ تتسع لواحدٍ وثلاثين مدعوًّا، عدا عروب العرَّافة التي خصَّصتُ لها مقعدًا عند الزاوية الملاصقة لمقعد الباشا وراء نافورة المياه التي تعتليها ثُلةٌ متحاضنةٌ من الحُوريَّات ذوات الأجساد الكريستالية، يسكبن المياه بأكفهن الشفافة في الحوض المائي الواسع المستدير، وسط الحديقة ذات الممرات العشبية، المحاطة بالأفاريز الحديدية المجدولة، المرصعة بالنجوم النحاسية، وقضبان الرماح المسننة الصاعدة.

    كان الحفل أشبه بإعلانٍ مبهِجٍ عن الطمأنينة السُّلالية للباشا، التي أتاحت له فرصة بلوغ الستين من عُمُره من دون أمراضٍ أو عاهاتٍ تكدِّر العيش، وعن التماسك الزوجي بينه وبين زوجته السيدة «سماح شحادة» إذْ كُتب له الاستمرار على مدى ثلاثةٍ وثلاثين عامًا.

    جلس الباشا إلى جانب زوجته الأنيقة على رأس الطاولة، وصار يحادثها ويبتسم بطريقةٍ توحي بالوئام المتأصِّل بينهما، وكانت هي بتسريحة شعرها المتهدلة، وبفستانها - الذي يُذكِّر بأوراق شجر الموز شكلًا ولونًا - تتبسم بشفتيها الملونتين بنوعٍ من الطلاء الزيتوني المطفأ، ثم تعاود مجاملة الحاضرات والحاضرين.

    لكنها كانت تنظر بحذرٍ بين فينةٍ وأخرى إلى قطةٍ شيرازيةٍ أليفةٍ ذات شعرٍ صوفيٍّ أبيض أحضرتها إحدى المدعوات معها.

    كان لافتًا أن المنظمين عمدوا إلى إبراز مظاهر الأناقة الباذخة، وكانت الأشياء تبدو فاخرةً مترفعةً؛ المائدة الطويلة المغطاة بشراشفَ لؤلؤيةٍ ذات أطرافٍ مطرَّزةٍ، الصحائف المستقرة على قواعدَ مخمليةٍ خمرية اللون، الأطباق المذهبة اللامعة، مزهريات الكريستال التي تضم أزهار التوليب الشمسية اللون، الأكواب الزمردية ذات الأعناق الطويلة المدموغة بالنقوش العريقة. وبالقرب من المائدة ثمة تماثيل النسور المنقضة على الحوامل الحجرية المستديرة، والأعمدة الرخامية الملفوفة بأوشحةٍ مهيبةٍ. ثم الخادمتان الفلبينيتان، والعاملات المحليات الخمس المستأجرات بتنانيرهن القصيرة، وقمصانهن التي تكشف أجزاءً حميمةً من نهودهن.

    كانت بدايةً واعدةً لحفلٍ مكللٍ بالنجاح، وكان الباشا وزوجته يلاطفان الحاضرين ويجاملانهم برُقيٍّ، ويشاركان في أحاديثهم.

    غير أن أمرًا حدث فأربك كل توقعاتي، وأحال مفاجأتي وبالًا عليَّ وعلى الباشا أيضًا.

    فعندما حان الوقت، تقدَّمت عروب العرَّافة نحونا بثقةٍ قلما تتحلى بها امرأةٌ.

    كانت تضع ربطةً سوداءَ بعرض بوصةٍ حولَ جبهتِها ورأسِها، فيتدلى من تحتِها شعرُها السلكي الفاحمُ غير المسرح، وقرطاها بحلقاتهما الفضية المتداخلة، وتحتهما شالٌ صيفيٌّ أزرقُ يتدلى من حول رقبتها منسدلًا على ثوبها الأسود اللامع ذي الكُمين والردنين المتدليين، وهو ثوبٌ أقربُ إلى فستان سهرةٍ منه إلى ثوب عرَّافةٍ تقرأ الكف، وتكشف الطالع. حتى إنها لفتت أنظار الجالسات والجالسين عندما حيَّتهُم بابتسامةٍ موزونةٍ، وحركةٍ مدروسةٍ من رأسها، وبدؤوا يتهامسون فور مصافحتها السيدة سماح، ثم الباشا الذي حيَّته باحترامٍ وانحنت أمامه قبل أن تجلسَ على المقعد بجانبه.

    ويبدو أن المدعوين تداركوا انكشافَ فضولِهم بسرعةٍ، فتشاغلوا بتناول أصنافِ الشرابِ والمقبلاتِ التي تسبقُ تقطيعَ كعكةِ عيدِ الميلاد، وبدؤوا أحاديثهم عن «الرَّبيع العربي»، وعن أحداث العنف في سورية، وتأثيراتها المحتملة على البلاد، بينما واصلت أضراسُهم مضغَ ذلك الطعام الخفيف الذي ينزع شهية الإنسان.

    على الأغلب أنهم لم ينتبهوا إلى مجريات الحديث عند رأس الطاولة وراء نافورة الحُوريَّات، بين الباشا والعرَّافة التي تفرَّست وجهَه بعينيها الحالكتين المحاطتين بظلالِ كُحلٍ خفيفٍ، ثم قرَّبتْ وجهها منه قائلةً بصوتٍ خافتٍ - بالكاد سمعتُهُ أنا الذي وقفتُ وراءَ المسافة الفاصلة بينهما:

    - اليوم ليس عيد ميلادك يا سيدي.

    فرفع حاجبيه الكثيفين، والتفت إلى زوجته، ثم تأمل عروب وقال ضاحكًا:

    - إذا لم يكن هذا يوم مولدي فماذا سيكون؟ يومَ الحشر؟!

    كانت السيدة سماح تستمع باهتمام، وقد زاد اهتمامها حين ابتسمت عروب وأكملت:

    - «السرطان» ليس بُرجك يا سيدي، تاريخ ميلادك الذي يصادف اليوم الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) لا يخصُّك، أنت من أبناء «الأسد»، ثمة خطأٌ في تسجيل ولادتك.

    ثم أنزلت الشال الأزرق عن رقبتها وفردتْه على ركبتيها، ثم عادت تتأمله بعينيها الحالكتين.

    قالت له:

    - المهابة التي تحيط بك، لا يحوزها أبناء «السرطان» أو أي من الأبراج الأخرى. لو تركتَ شعرك ينمو ويطول لأحاط وجهك وصرت كالأسد في طلعته. بشرتك المحمرَّة محكومة بالشمس رمز السُّلطة والسطوة، لا بالقمر الذي يعيش على ضوئها، الشمس هي نجمك وكوكبك.

    ثم إن في «السرطان» ثلاثَ صفاتٍ لا تملكها: فهو حالمٌ وأنت رجل حساب، وهو يعشق الأطفال وأنت لا تطيقهم، وهو بخيل وأنت كريمٌ مِعطاء.

    هزَّ رأسه كأنما ليبدي موافقة ما على قولها، وتبادل وزوجته النظرات، ثم تنحنح فخرج الصوت من تحت شاربيه مطواعًا:

    - طيب. وماذا عن طالع أيامي وأعوامي المقبلة؟

    وضعت كفيها على جانبي رأسها:

    - يا سيدي، لا يكشف طالع أيامك إلا صفحات كفك، لكن أنتم أبناء «الأسد» لا تسمعون إلا ما تريدون.

    فنظر إليَّ كأنما ليسألني عن تلك المفاجأة التي غيَّرت إيقاع ليلته، وحين قربتُ رأسي منه همس في أذني:

    - أنتظرك في مكتبي.

    ثم نهض وسار في أحد الممرات المؤدية إلى مكتبه داخل المنزل فتبعتُه، وحين وقفتُ أمامه، عقد يديه خلف ظهره وصار يتمشى في المكتب، كعادته كلما أصابه القلق.

    انتبهت إلى أن بنطال بدلته الرمادية كان يغطي حذاءه كلَّه، وحين استدار نحوي لاحظت أن حزامه ساحلٌ تحت بطنه الذي بدا لي مُتكرشًا قليلًا في تلك اللحظة.

    قال لي بنبرةٍ مستفهمةٍ:

    - فعلًا مفاجأةٌ، من أين أتيتَ بهذه العرَّافة؟

    قلت:

    - ظننتُ أن مثل هذه الأمور تستهويك، فأحضرتها دون إذن منك لكي تتحقق مفاجأتي التي أعددتها بمناسبة عيد ميلادك. هي من بلاد المغرب، إذا لم يعجبك حديثها سأطلب من السائق إعادتها إلى الفندق الآن، ولننس أنها جاءت إلى منزلك العامر. لكن يجب أن أقولَ بأنني حصلتُ على موافقتها لحضور هذا الحفل بصعوبةٍ، ولولا المصادفةُ لما ظفرنا بفرصة لقائها والتعرُّف إليها. قالت لي إنها تتوقف الآن في عمَّان مدة يومين فقط، في اليوم الأول التقتْ شخصيةً مهمةً جدًّا في البلاد لم أتمكن من معرفة اسمها، وفي ذات الليلة علمت أنها ذهبتْ إلى جنوب البحر الميت برفقة ثلاثةٍ من رجال تلك الشخصية، وبقيَتْ هناك تتأمل النجوم حتى الفجر، وغدًا ستكمل طريقها إلى كراكاس لتلتقي شخصًا ذا شأنٍ كبيرٍ يعاني من مرضٍ عُضالٍ، وبعدها ستطير إلى بروناي. هذا ما قالته.

    رفع حاجبيه باهتمام:

    - إلى هذه الدرجة؟!

    فأجبت:

    - وأكثر. لديها قدراتٌ تفوق التوقُّع. فقد علمتُ أنها تنبأت بنجاح «نيقولا ساركوزي» في انتخابات الرئاسة الفرنسية قبل سبعين يومًا من ترشحه، وهو ما تداولته الصحفُ الفرنسية في حينه. وتوقعتْ سقوط عرش القذافي قبل شهر من ثورة الليبيين، ولقد حدث ذلك كما تعلم. كما أنبأتني بأنَّ أهل سورية سيقتتلون عَشْرًا، أي عشْرَ سنوات، وينقسمون أربعًا، ويبنون ما أتلفته الحرب عَشْرًا. وأنَّ أهل العراق سيشهدون حريقًا لم يرَ الأنامُ له مثيلًا من قبلُ.

    قال:

    - صحيح أنني أهتم بمثل هذه الأمور، لكن.. «كَذِبَ المُنجِّمون ولو صَدقوا»، هل نسيت؟

    فأجبته:

    - هذا يؤكد أنهم يَصدُقون أحيانًا يا باشا.

    صمت ثم قال:

    - وهل تريدها أن تقرأ طالعي وتتحدثَ عن مستقبلي أمامَ ضيوفي؟

    فأجبته:

    - هذا ما كنت سأنبِّه إليه لكنني لم أجرؤ، فإذا أمرتَ سأطلب منها الحضور هنا إلى مكتبك، لتجلس وإياها وتستمع إلى توقعاتها.

    أومأ لي برأسه دون أن ينطق، وقبل أن أتوجه إلى طاولة المدعوين وراء نافورة الحُوريَّات قال لي:

    - بالمناسبة، ما قالته حول تاريخ ميلادي وبُرجي قد يكون صحيحًا.

    عدت إلى عروب فوجدتها منشغلةً بالحديث مع السيدة سماح بصوتٍ خفيضٍ، بينما انشغلت مجموعاتُ الجالسين حول الطاولة بأحاديثَ حول السياسة والأعمال، سياسيون ورجال أعمالٍ وأثرياء، كان واضحًا أنهم وجدوا في الحفل فرصًا للتواصل وبناء العلاقات، وربما الصفقات.

    كان الذهول طاغيًا على وجه السيدة سماح الذي بدا مُتغيرًا مخطوفًا، فيما بدت عيناها مأخوذتين مسمَّرتين.

    السيدة سماح تحب المفاجآت والمفارقات، والسباحة، والموسيقى الكلاسيكية، والسفر. وتكره الحيوانات الأليفة، وهي من أقدر من رأيت على الصبر والتفهُّم، لكنها لا تحب الحديث في السياسة ولا العمل في دهاليزها، قالت لي ذات مرَّة إنها أرفع شأنًا من أن تعملَ في السياسة.

    قالتها - أيضًا - أمامَ أحدِ الوزراء من معارف الباشا فابتسم قائلًا:

    - معك كل الحق سيدة سماح.

    لم أتمكن من معرفة ما قالته عروب لها، انتظرتُ قليلًا ريثما انتهت من حديثها، ثم همستُ في أذنها، فاستأذنتْ من السيدة ورافقتْني.

    وأنا أسير بجانب عروب انتبهتُ إلى أن لثيابِها صوتَ فحيحٍ ورائحةً طيبةً، لكنها على الأغلب ليست نوعًا من العطور، إنها أقرب إلى رائحة الزيوت الطيارة.

    استقبلها الباشا في مكتبه باحترام، وأجلسها على المقعد المقابل لمقعده، ثم طلب مني البقاء معهما.

    استعرض وجهَها وجسَدَها بعينيه الواسعتين. عينا الباشا البُنيتان الواسعتان تستطيعان التحرك بيُسر في محجريهما، فيهما قابليةُ الثباتِ والتوجُّه نحو الأشياء والناس والوجوه بطريقةٍ تثير القلق.

    مع ذلك لم يَبدُ على عروب أيُّ ارتباكٍ حينما التقتْ عيناها بعينيه.

    قالت له بارتياح:

    - افتح كفَّيك يا سيدي.

    تلفَّتَ نحوي مبتسمًا، فابتسمتُ له مشجعًا، ثم بسط كفَّيه فأمسكتْ بهما وبدأتْ تتلمسهما وتتفحصهما.. خطوط الكفين، تلالهما النافرة، أطراف الأصابع وعُقَلها وحذوات الأظافر. تفحصتْ كل ما في كفيه بأصابعها الدقيقة، ولاحظتُ في أثناء تأملي أصابعها أن الخاتم الذهبي في بنصرها يحمل مُجسمًا ذهبيًّا لخنفساء، كما لاحظتُ إذْ نظرت إلى مقطع رأسها الجانبي أن لوجهها الأسمر ملامحَ حادةً، وأنَّ نظراتها لا تنتمي إلى تلك التي تميز النساء اللواتي عرفتهن في حياتي؛ ثمة ما هو مختلفٌ فيها.

    أما عمُرُها فخمَّنتُ أنه لا يزيد على الخمسة والأربعين.

    سماح شحادة

    عروب عروب.

    جنَّنَتني هذه العرَّافة بما قالته عن حُلمي الذي رأيته في منامي ليلة عيد ميلاد زوجي فواز.

    قالت كلامًا غامضًا مخيفًا، لكنه ممكنٌ مع أنني لا أستبعد أن تكون حصلت على أخبارٍ عنِّي وعن زوجي قبل أن تأتي إلينا، فالمعلومات اليوم متوافرةٌ على محركات البحث في الإنترنت، ويكفي أن يعرف المنجِّمون والعرَّافون اسم الشخص لكي يتتبعوا تاريخه وعلاقاته وصوره الشخصية والجماعية قبل الجلوس معه والحديث عن ماضيه ومستقبله، فنحن نعيش في الألفية الثالثة التي ازداد فيها نشاط المنجِّمين، حتى إن بعض الزعماء صاروا يستشيرونهم في خطواتهم وقراراتهم التي يتخذونها.

    على الرغم من كل هذا، فإن بعض المنجمين يثيرون فضولي وقلقي، خصوصًا حين يحدث شيء قريب مما يتنبؤون به. شيء له علاقة بتوقعاتهم مهما كان بسيطًا.

    عروب لا تُشبه غيرها ممن التقيت من العرَّافات.

    لكل عرَّافةٍ بَصمتُها الروحية، هذا ما أشعر به كلما التقيت إحداهن.

    فهي - أولًا - امرأةٌ جميلةٌ، لديها من الحيوية ما يثير الحسد. مع أن العرَّافات وقارئات الكف غالبًا ما يكنَّ من العجائز ذوات الوجوه المجعَّدة والشعر الأشعث.

    في عيني عروب بريقٌ يتآلف مع لمعان الخرزة اللؤلؤية الصغيرة الملتصقة بالهلال الأيسر لأنفها، أمَّا شعرها فشديد السواد منسدلٌ بطريقة «كيرلي» التي تناسب وجهها.

    جسد عروب المتماسك لا يعترف بمرور أكثر من أربعين عامًا من الزمن. وهو يُذكِّرني بنضوج جسدي في الأربعينيات من عمري.

    قلت لفواز في اليوم التالي إن عروب تنفع لأن تكون راقصةً بقدِّها الرقيق، وقامتها المتناسقة، وابتسامتها الساحرة، ربما كانت راقصةً قبل أن تصيرَ عرَّافةً.

    فسألني ما إذا كان ما قلته مدحًا أم ذمًّا؟

    وهي - ثانيًا - قادرةٌ على تدليك الروح، وإطفاء القلق بصوتها العميق الذي تسلل إلى أعماقي وأسكت لساني وفتَّتَ تركيزي.

    لقد أحسستُ بأن روحي هدأت واسترخت وانحبست في سياجها على الرغم من ضجة المدعوين، كأنما حاصرتها وهدهدتها بكلماتها ونبرات صوتها.

    صوتها كان يأتي من مكانٍ عميقٍ في كيانها.

    لقد أحسست أن المسافاتِ متباعدةٌ في جوفها الكوني الفسيح.

    أصابعها دغدغت عُقل أصابعي وأطرافها، وداعبت بطن كفي فنشطت الذبذبات حتى غمرت كياني كله، فأحسستُ بأن الأشياء كالعِهن المنفوش بلا كثافةٍ، وجسدي بلا وزنٍ.

    كان الأمر ممتعًا.

    منذ زمنٍ بعيدٍ لم أشعر بتلك الذبذبات التي ظننت أن تقدُّمي في السن قد جفف منابعها اللذيذة.

    لقد حصلتُ على رقم هاتفها الخاص.

    وهي - ثالثًا - استطاعت أن تعرفَ أن زوجي من مواليد بُرج «الأسد» وليس «السرطان» مثلما كان يعتقد.

    سبق أن قلتُ له إن صفاته تقترب من صفات رجل «الأسد» لا «السرطان»، لكنه لم يرد عليَّ.

    إن تاريخ ميلاده ليس مؤكدًا، لأن والده لم يقم بتسجيله عند ولادته على يدي قابلةٍ تعيش في حيِّهم، وتم تسجيله بعدها تخمينًا في تخمين.

    هذا ما قالته لي المرحومة أمُّه التي ماتت

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1