Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

إعلام الموقعين عن رب العالمين
إعلام الموقعين عن رب العالمين
إعلام الموقعين عن رب العالمين
Ebook705 pages5 hours

إعلام الموقعين عن رب العالمين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

إعلام الموقعين عن رب العالمين كتاب ألفه ابن قيم الجوزية جمع مصنفه فيه بين الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة وتاريخ التشريع والسياسة الشرعية مستعيناً بأول ما أخذ وتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن انتشر عنهم الفقه والدين، ثم تكلم عن الاجتهاد و القياس في بحث مطول. وصل به إلى نهاية المجلد الثاني مع أمثلة مطولة ثم تناول بعد ذلك دراسة تفصيلية في مجموعة كبيرة من الفتاوى في مسائل مهمة في مباحث القضاء والعقيدة والعبادات والمعاملات والزواج والطلاق و الربا وأيضاً بعض الفتاوى عن الضرورات التي تبيح المحضورات وغير ذلك.... فأحسن اختيار الاستشهادات وتروى في الترجيح
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 20, 1902
ISBN9786498211968
إعلام الموقعين عن رب العالمين

Read more from ابن قيم الجوزية

Related to إعلام الموقعين عن رب العالمين

Related ebooks

Related categories

Reviews for إعلام الموقعين عن رب العالمين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    إعلام الموقعين عن رب العالمين - ابن قيم الجوزية

    الغلاف

    إعلام الموقعين عن رب العالمين

    الجزء 3

    ابن قيم الجوزية

    751

    إعلام الموقعين عن رب العالمين كتاب ألفه ابن قيم الجوزية جمع مصنفه فيه بين الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة وتاريخ التشريع والسياسة الشرعية مستعيناً بأول ما أخذ وتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن انتشر عنهم الفقه والدين، ثم تكلم عن الاجتهاد و القياس في بحث مطول. وصل به إلى نهاية المجلد الثاني مع أمثلة مطولة ثم تناول بعد ذلك دراسة تفصيلية في مجموعة كبيرة من الفتاوى في مسائل مهمة في مباحث القضاء والعقيدة والعبادات والمعاملات والزواج والطلاق و الربا وأيضاً بعض الفتاوى عن الضرورات التي تبيح المحضورات وغير ذلك.... فأحسن اختيار الاستشهادات وتروى في الترجيح

    مخانيث الجهمية والمبتدعة

    وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرًا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة (1) إذا سمعوا شيئًا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين. {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 50، 51] ويقول مخنثهم (2): سُدُّوا عنا هذا الباب، واقرؤوا شيئًا غير هذا، وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون؛ لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم (3)، وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جُرِّدَ لهم التوحيد وتُليت عليهم النصوص (4) المُبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم (5)، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، وكذلك (6) تجد أعداء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا سمعوا نصوص الثناء [على الخلفاء] (7) الراشدين وصحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثقل ذلك عليهم جدًّا، وأنكرته قلوبهم؛ وهذا كله شَبَه ظاهر، ومَثَل مُحقَّق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه اللَّه لهم [بالماء] (8) فإنهم لمّا تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم [نسال اللَّه العفو والعافية] (9). (1) في (ن) و (ق): تلاميذ دين الجهمية والمبتدعة، وفي (ك): دين تلاميذ.. . .

    (2) في (ق): مجيبهم، وفي (ك): محسنهم.

    (3) قال (ط): لقد حرص ابن القيم على إثبات أن للَّه صفات لا تحصى، وقد دفعه ذلك إلى التوسط، حتى قال بقيام الحوادث بذاته -تعالى-، انظر تفصيل ذلك في مدارج السالكين، وفي ابن قيم الجوزية" للدكتور عبد العظيم شرف الدين اهـ.

    قال أبو عبيدة: وكلام ابن القيم -وشيخه ابن تيمة من قبل - في مسائل الصفات هو مذهب السلف الصالح، وجزاهما اللَّه خيرًا، فإنهما نصرا الحق في هذا الباب، وكشفا اللثام عن شبه أهل الزيغ والبدع والطغام، ولم يبق لمنصف بعدهما كلام، أما بالنسبة إلى قيام الحوادث بالذات، فانظر كتابنا الردود والتعقبات (ص 73 وما بعد)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1053).

    وانظر: الرد على المنطقيين (ص 463 - 464)، ودرء تعارض العقل والنقل (10/ 17)، ومجموع الفتاوى (16/ 304) جميعها لابن تيمة، ووقع في (ق): على قلوبهم وعقولهم.

    (4) في (ك) و (ق): نصوصه.

    (5) في (ق) و (ن) و (ك): وثقل عليهم.

    (6) في المطبوع: ولذلك.

    (7) في (ن): عليهم.

    (8) في (ق): الذي ضرب اللَّه لهم.

    (9) ما بين المعقوفتين من (ق).

    فصل المثل المائي والناري في حق المؤمنين

    وقد ذكر اللَّه المثلين المائي والنَّاري في سورة الرعد، ولكن في حق المؤمنين؛ فقال [تعالى] (1): {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ [ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ] (2) كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} [الرعد: 17]، فشبه [سبحانه] (3) الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا كواد كبير يسع ماءً كثيرًا، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها، واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها؛ وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومرَّ عليها احتمل غثاءً وزبدًا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوبَ أثار ما فيها من الشَّهوات والشُّبهات ليَقْلَعَها ويُذهبها، كما يثير الدواءُ وقتَ شُرْبه من البدن أخلاطَه [فيتكدَّر بها شاربه] (4)، وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهَب بها، فإنه لا يجامعها ولا يساكنها (5)؛ وهكذا يضرب اللَّه الحق والباطل.

    ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهو الخَبَثُ الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتُخرجُه النار وتميِّزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيُرمى ويُطرح ويذهب جُفاءً؛ فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزَّبدَ والغُثاءَ والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماءُ الصَّافي الذي يستقي منه الناسُ ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمانُ الخالصُ الصَّافي الذي يَنفع صاحبه ويَنْتفع به غيره؛ ومن لم (1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (2) بدلها في (ق): إلى قوله.

    (3) في المطبوع: شبه الوحي.

    (4) في (ن): فسكرت بها مجاريه، وفي (ق) و (ك): فيتكرب بها شاربه.

    (5) في المطبوع: ولا يشاركها.

    يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ولعرف ما يُراد منهما فليس من أهلهما، واللَّه الموفق (1).

    فصل مثل الحياة الدنيا

    ومنها قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ [حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ] (2) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]، شبَّه سبحانه الحياة الدنيا بأنها (3) تتزين في عين الناظر [فتروقُه] (4) بزينتها وتُعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتى إذا ظنَّ أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشَبَّهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتَعْشُب ويحسنُ نباتُها ويروق منظرها للناظر، فيغتزُ بها، ويظن أنه قادرٌ عليها، مالكٌ لها، فيأتيها أمر اللَّه فتدرك نباتَها الآفةُ بغتةَ، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرًا (5) منها؛ فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء؛ وهذا من أبلغ التشبيه والقياس، ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات، والجنة سليمة [منها] (6) قال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} فسماها هنا (7) دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعمَّ بالدعوة إليها، وخصَّ بالهداية مَنْ يشاء، فذاك عدله وهذا فضله. (1) انظر تفسير الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه - لهذه الآية في مفتاح دار السعادة (ص 66 - 67)، وطريق الهجرتين (ص 98)، والوابل الصيب (ص 82 - 78 - بتحقيق الأرناؤوط).

    (2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): إلى قوله.

    (3) في المطبوع: في أنها، وفي (ك) و (ق): أنها.

    (4) ما بين المعقوفتين سقط من مضروب عليه في (ن).

    (5) في (ك): صفراء.

    (6) في (ن): والجنة مسلمة منها. وفي (ك): والجنة سليمة. وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (7) في (ن) و (ق) و (ك): ههنا.

    فصل مثل المؤمنين والكافرين

    ومنها قوله [تعالى] (1): {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} [هود: 24]؛ فإنه [سبحانه] (1) ذكر الكفار، ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين، ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات (2) إلى ربهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن، وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه؛ فشُبِّه بمن بصره (3) أعمى عن رؤية الأشياء، وسمعه أصم عن سماع الأصوات، والفريق الآخر بصير القلب سميعه، كبصير العين وسميع الأذن؛ فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}.

    مثل الذين اتخذوا الأولياء

    ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين [اتخذوهم أولياءَهم] (4) أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها؛ وتحت هذا المثل أن [هؤلاء] (5) المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون اللَّه أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81، 82]، وقال [تعالى] (5): {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ [وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ] (6)} [يس: 74، 75]، وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ (1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (2) الإخبات: الخشوع (ط).

    (3) في (ن): شبه عن بصره.

    (4) بدل ما في المعقوفتين في (ك): أتخذهم أولياءهم وفي (ق): اتخذوهم أولياء.

    (5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (6) بدلها في (ق): الآية.

    ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} (1) [هود: 101].

    من اتخذ أولياء من دون اللَّه أشرك

    فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون اللَّه وليًا يتعزَّز به ويتكبّر (2) به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضدِّ مقصوده.

    فإن قيل: فهم يعلمون أنّ أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نَفى عنهم علم ذلك بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

    فالجواب: أنه [سبحانه] (3) لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًا وقوة (4)، فكان الأمر بخلاف ما ظنُّوه، [ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم] (5).

    فصل تمثيل أعمال الكافرين بالسَّراب

    ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] (6)} [النور: 39، 40]. (1) التتبيب: الخسران والهلاك (ط).

    (2) في (ك): يتكثر والعبارة في (ق): يتعزر به ويتكثر.

    (3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (4) في المطبوع: وقدرة ووقع في (ق): تفيدهم.

    (5) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك).

    (6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): الآية.

    المعرضون عن الحق نوعان

    ذكر سبحانه (1) للكافر مثلين: مثلًا للسراب (2)، ومثلًا بالظلمات المتراكمة، وذلك لأن المعرضين عن [الهدى و] (3) الحق نوعان: أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له (4) عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم، فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب [بقيعة] (3)، يُرى في عين الناظر [ماءً] (5) ولا حقيقة له.

    الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير أمره

    وهكذا الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك، وهذه الأعمال التي قال اللَّه [عز وجل] (3) فيها: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، وتامَّل [تشبيه] (6) اللَّه سبحانه السراب بالقِيعة -وهي الأرض القفر الخالية من [البناء والشجر والنبات] (7)، والعالم - فمَحَلُّ (8) السَّرابِ أرضٌ قَفْر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى. وتامل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}، والظمآن الذي قد اشتدَّ عطشه، فرأى السراب فظنه ماءً فتبعه فلم يجده شيئًا، بل خانه أحوج ما كان إليه (9)، فكذلك هؤلاء، لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول (10)، ولغير اللَّه، جُعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها، فلم يجدوا شيئًا، ووجدوا اللَّه [سبحانه ثَمَّ] (11)؛ فجازاهم بأعمالهم ووفَّاهم حسابهم.

    وفي الصحيح من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - في حديث التجلِّي يوم القيامة: ثم يُؤتى بجهنم تُعْرَض كأنها السراب، فيُقال لليهود: ما كنتم (1) في (ق): تعالى".

    (2) في (ق) و (ك): بالسراب.

    (3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (4) في (ق) و (ك): فيبين له.

    (5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

    (6) في المطبوع: جَعْل.

    (7) في (ق): البناء والنبات والشجر.

    (8) في (ق): محل.

    (9) في (و) و (ق) و (ك): بل جاء ربه أحوج ما كان إليه.

    (10) في (ن) و (ق) و (ك): الرسل.

    (11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزيرًا ابن اللَّه، فيُقال: كذبتم، لم يكن للَّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن اللَّه، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن للَّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون" (1) وذكر الحديث.

    وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه، فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل؛ فإذا كان الاعتقاد غيرَ مطابق ولا حق كان مُتعلّقه باطلًا؛ وكذلك إذا كانت غايةُ العمل باطلةً -كالعمل لغير اللَّه، وعلى (2) غير أمره - بطل العملُ ببطلان غايته، وتضرَّر عامله ببطلانه، وبحصول ضدِّ [ما كان يأمِّله، فلم يذهب عليه عملُه واعتقادُه، لا له ولا عليه، بل صار مُعذبًا بفوات نَفْعِه، وبحصول ضد] (3) النفع، ولهذا قال [تعالى] (3): {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39] فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.

    فصل أصحاب مثل الظلمات المتراكمة

    النوع الثاني: أصحاب [مثل] (4) الظلمات [المتراكمة] (4)، وهم الذين عرفوا الحقَّ والهدى، وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطَّبْع وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغَيّ والهوى، فحالهم كحال من كان في بحر لُجّيّ لا ساحل له، وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر (1) أخرجه البخاري في الصحيح (كتاب التفسير): باب {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، (4581)، و (كتاب التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (رقم 7437)، ومسلم في الصحيح (كتاب الإيمان): باب معرفة طريق الرؤية، (رقم 183) عن أبي سعيد.

    (2) في المطبوع: أو على.

    (3) في (ق): هذا، وقال في الهامش: لعله: ضد. وبدل ما بين المعقوفتين في (ك): هذا.

    (4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

    وظلمة الموج وظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه اللَّه منها إلى نور الإيمان، وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهما (1) الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين اللذين ضربهما اللَّه للمنافقين والمؤمنين، وهما (2) المثل المائي والمثل الناري، وجعل حظَّ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة؛ فكذلك الكفار في هذين المثلين، حظُهم من الماء السراب الذي يغُرّ الناظر ولا حقيقة له، وحظهم (3) الظلمات المتراكمة، وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي؛ فيكون المثلان (4) صفتين لموصوف واحد؛ ويجوز (5) أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف، فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعَمُوا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا (6) حال المغضوب عليه، والأول (7) حال الضالين؛ وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله [تعالى] (8): {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [الْمِصْبَاحُ]} (8) إلى قوله: [{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}] (9) [النور:30، 38] فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة: المُنْعَم عليهم وهم أهل النور، والضالين وهم أصحاب السراب، والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة، واللَّه أعلم.

    أصحاب مثلي السراب والظلمات

    فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع، والمثل الثاني لأصحاب [العلوم والنظر والأبحاث الذي لا ينفع (10)، فأولئك أصحاب (1) في المطبوع و (ق): وهو.

    (2) في المطبوع: وهو.

    (3) في (ق) بعدها: من النور.

    (4) في (ق) و (ك): المثل.

    (5) في (ق): ويحتمل.

    (6) في (ف): فهذه.

    (7) في (ق): عليهم والأولى.

    (8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (9) بدلها في (ق): {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

    (10) في (ق): تنفع.

    العمل الباطل، وهؤلاء أصحاب] (1) العلم (2) الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مَثَّل حال الفريق الثاني في (3) تلاطم أمواج [لشكوك و] (4) الشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشُّبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سُحُبُ الغَي والهوى والباطل، فليتدبر اللبيبُ أحوال الفريقين، وليطابق بينهما وبين المثلين، يعرف عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.

    وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورًا، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور؛ [فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور] (5)، وفي المسند من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - قال: إن اللَّه خَلَقَ خَلْقَه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه [من] (5) ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ (6) فلذلك أقول: جَفَّ القلم على علم اللَّه، فاللَّه [سبحانه] (4) خلق الخلق في ظلمة، فمن أراد هدايته جعل له نورًا وجوديًا يُحيي به قلبه وروحه، كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه، فهما حياتان: حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور، ولهذا سَمّى سبحانه الوحي روحًا لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، [وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ (1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

    (2) في (ق): العمل وأشار إلى أنه في نسخة الباطل.

    (3) في (ق): و.

    (4) ما بين المعقوفتين سقط من ق.

    (5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

    (6) رواه أحمد (2/ 176 و 197) والطيالسي (57 - المنحة أو رقم 291)، والترمذي (2642) في (الإيمان): باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وابن أبي عاصم (241 و 242 و 243 و 244)، والآجري في الشريعة (ص 175 ط الفقي أو 2/ 757 رقم 337، 338 - ط الدميج)، وابن حبان (6169 و 6170)، واللالكائي (1077 و 1079)، والحاكم (1/ 30) والفريابي في القدر (رقم 66، 67، 68، 69، 70، 71) وابن بطة في الإبانة (2/ 134 رقم 135)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 203 رقم 229)، والسنن الكبرى (9/ 4) من طرق عن عبد اللَّه بن الديلمي، عن عبد اللَّه بن عمرو، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي (7/ 193 - 194): ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات.

    ورواه البزار (2145) من طريق يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو. ووقع في (ك) و (ق): عبد اللَّه بن عمر.

    يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]] (1)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا]} (2) [الشورى: 52]؛ فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحيه بهذا (3) الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نورًا فهو في الظلمات ما له من نور (4).

    فصل تمثيل الكفار بالأنعام

    ومنها قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]؛ فشَبَّه أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له، وجعل الأكثرين أضل سبيلًا من الأنعام؛ لأن البهيمة يهديها سائقُها فتهتدي وتتبع الطَّريقَ، فلا تحيد عنها يمينًا ولا شمالًا، والأكثرون يدعوهم الرسلُ (5) ويهدونهم السَّبيلَ فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرُّهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تُفَرِّق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره، واللَّه تعالى لم يخلق للأنعام قلوبًا تعقل بها، ولا ألسنةً تنطق بها، وأعطى اللَّه ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار، فهم أضلُّ من البهائم، فإنَّ من لا يهتدي (6) إلى الرُّشْدِ وإلى الطريق -مع الدليل إليه - أضلُّ وأسوأ حالًا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.

    فصل ضرب لكم مثلًا من أنفسكم

    ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

    (2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): الآية.

    (3) في (ك): هذه.

    (4) أسهب ابن القيم -رحمه اللَّه - في تفسير هذه الآيات هنا، وكذلك في كتابه الفذ اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 6 - 12) فراجعه؛ وانظر له -أيضًا - الجواب الكافي (ص 269)، ومفتاح دار السعادة (ص 59). ووقع في (ق): {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} .

    (5) في (ن) و (ق) و (ك): يدعونهم الرسل.

    (6) في (ق): فإن من لم يهتد.

    مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ] (1) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} [الروم: 28]، وهذا دليل قياس (2) احتج اللَّه سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عَبيده ومُلْكه شركاء، فأقام عليهم حُجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا (3) يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحِجَاج أن يُؤخذ (4) الإنسان من نفسه، ويُحتج عليه بما هو في نفسه، مُقَرَّرٌ عندها، معلومٌ لها، فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائِكم شُركاءَ في المال والأهل؟ أي: هل يُشارككم عَبيدُكُم في أَموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم، كما يخافُ الشَّريكُ شَريكَه؟ وقال (5) ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضُكم بعضًا (6)، والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبدُه شَريكَه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو (7) يخاف أن ينفرد في ماله بأمرٍ يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشُّركاءِ الأَحرار؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلًا في فطركم وعقولكم -مع أنه جائز عليكم ممن في حقكم؛ إذ ليس عبيدكم ملكًا لكم حقيقة، وإنما هم إخوانكم جعلهم اللَّه تحت أيديكم، وأنتم وهم عبيد لي (8) - فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي، مع أنّ مَنْ جعلتموهم (9) لي شُركاءَ عَبيدي ومُلْكي وخَلْقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول (10). (1) بدلها في (ق): إلى قوله.

    (2) في (ق): دليل قياسي وسقطت لفظة سبحانه من (ق).

    (3) في (ك) و (ق): ولا.

    (4) في المطبوع و (ك): يأخذ.

    (5) في (ق): قال.

    (6) أخرجه الطبري في التفسير (21/ 39)، قال: حُدِّثْتُ عن حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وفيه راو مبهم. ولم يعزه في الدر المنثور (6/ 492) إلا لابن جرير.

    (7) في (ق): فهل.

    (8) في (ك): عبيدي.

    (9) في (ق): جعلتموه.

    (10) انظر تفسير ابن القيم -رحمه اللَّه - لهذه الآيات -أيضًا - في الجواب الكافي (ص 207)، ومدارج السالكين (1/ 240).

    فصل مثل من قياس العكس (التمثيل بالعبد المملوك)

    ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ] (1) وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 75، 76] (2) هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس، وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه، فإن القياس نوعان: قياس طرد يقتضي إثباتَ الحكم في الفرع لثبوت علَّة الأصل فيه؛ وقياس عكس يقتضي نفيَ الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه؛ فالمثل الأول [ما] (3) ضربه اللَّه سبحانه لنفسه وللأوثان، فاللَّه سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرًا وجهرًا وليلًا ونهارًا، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحَّاء (4) الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها [شركاء لي] (5) وتعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ وهذا قول مجاهد وغيره (6)؛ وقال ابن عباس: هو مثل ضربه اللَّه للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده [بمن] (7) رزقه منه رزقًا حسنًا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرًا وجهرًا، والكافر بمنزلة عبد مملوك [عاجز] (8) لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ (9) والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه (10) (1) في (ق) بدلها: إلى قوله.

    (2) انظر تفسيره لهذه الآيات من سورة النحل في الصواعق المرسلة (3/ 1030 - 1036)، ومفتاح دار السعادة (ص 410، 413 - 414).

    (3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (4) السَّحُّ: الصب والسيلان من فوق (ط).

    (5) في (ق): شركائي.

    (6) انظر: تفسير الطبري (14/ 151)، وتفسير ابن أبي حاتم (7/ 2293)، والدر المنثور (5/ 149 - 151).

    (7) في المطبوع و (ك): ثم.

    (8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

    (9) عند الطبري (14/ 149) كلام لابن عباس غير هذا، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2292، 2293)، والدر المنثور (5/ 149).

    (10) في (ق): لأنه.

    أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبًا بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] (1)} [النحل: 73، 74]؛ ثم قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحِّد كمن رزقه منه رزقًا حسنًا، و [الكافر] (2) المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا مما نَبَّه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس مُنَبِّهًا [به] (3) على إرادته لا (4) أن الآية اختصَّت [به] (1)، فتأمله فإنك تجده كثيرًا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن، فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله (5).

    فصل مثل ضَرَبَه اللَّه لنفسه

    وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه اللَّه [سبحانه وتعالى] لنفسه ولما يُعبد (6) من دونه أيضًا، فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب [واللسان] (7)، قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتّة، ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة، واللَّه سبحانه حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد، فإن أمره بالعدل -وهو الحق - يتضمن أنه سبحانه عالم به، مُعلِّم به (8)، راض به، آمرٌ لعباده به، محبٌّ لأهله، لا يأمر بسواه، [بل تنزَّه عن ضدِّه الذي هو الجور والظلم والسّفه والباطل، بل أمره] (9) وشرعه عدلٌ كله، وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور (10)، (1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

    (3) سقطت من المطبوع.

    (4) في (ك): لأن.

    (5) انظر في هذا الموافقات (3/ 514) للشاطبي.

    (6) في (ن): يعبدون. وفي (ك): يعبدون هم. وما بين المعقوفتين قبلها سقط من (ق).

    (7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    (8) في (ق): له.

    (9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

    (10) يشير المصنف إلى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن المقسطين عند اللَّه عز وجل على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. = وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح: اللهم إني عبدك [ابنُ عبدك] (1) ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عَدْلٌ فيَّ قضاؤك (2) فقضاؤه هو أمره الكوني، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، فلا يأمر إلا بحق وعدل، وقضاؤه وقدره (3) القائم به حق وعدل، وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر.

    إنَّ ربي على صراط مستقيم

    ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم، وهذا نظير قول رسوله هود (4): {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]؛ فقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله: ناصيتي بيدك (2) وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، نظير قوله: عدل فيَّ قضاؤك (2)؛ فالأول ملكه، والثاني حمده، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وكونه [سبحانه] (5) على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا = أخرجه مسلم في صحيحه (رقم 1827) عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا، وخرجته بنفصيل في تعليقي على فضيلة العادلين (رقم 20) لأبي نعيم الأصبهاني.

    (1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

    (2) رواه أحمد في مسنده (1/ 391 و 452)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في الكبير (10352)، وابن حبان (972)، والحاكم في مستدركه (1/ 509) من طريق فضيل بن مرزوق، أخبرنا أبو سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه عن ابن مسعود به.

    وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، إنْ سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن أبيه، فإنه مختلف في سماعه من أبيه.

    قلت: سماعه من أبيه أثبته غير واحد من الأئمة، منهم سفيان الثوري وابن معين والبخاري وأبو حاتم.

    وقد وقع خلاف في أبي سلمة هذا، حقق أمره شيخنا محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اللَّه - في السلسلة الصحيحة (199) فراجعه فإنه هام.

    ورواه البزار (3122)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (342) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود.

    وفيه عبد الرحمن بن إسحاق وهو الواسطي، وهو ضعيف ثم هو منقطع.

    (3) في (ق): وقدره وقضاؤه.

    (4) في المطبوع: شعيب!.

    (5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

    بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة [ورحمة] (1) وحكمة وعدل؛ فهو على الحق في أقواله وأفعاله؛ فلا يقضي على العبد بما يكون ظالمًا له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئًا، ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب (2) إليها شيئًا، ولا يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يُحمد عليه، ويُثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة، والغايات المطلوبة، فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.

    قال محمد بن جرير الطبري (3): وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على طريق الحق، يُجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام له، والإيمان به. ثم حكى عن مجاهد من طريق شِبْل [عن] (4) ابن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: الحق (5)، وكذلك رواه ابن جُرَيْج عنه.

    وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، وهذا اختلاف عبارة، فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

    وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن ربي يحثُّكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه؛ وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا، ولا دليل على هذا المُقدَّر، وقد فَرَّق [اللَّه] (6) سبحانه بين كونه آمرًا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم؛ وإن أرادوا أن حَثّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا.

    وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مَردَّ العباد والأمور كلها إلى اللَّه لا يفوته شيء منها، وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك، وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق. (1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ق).

    (2) في (ك): ينسب.

    (3) في التفسير (12/ 60).

    (4) زيادة عن من تفسير الطبري (و). وهي في (ق).

    (5) رواه الطبري (12/ 61) من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو في تفسير مجاهد (1/ 305).

    (6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

    وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1