Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الموافقات
الموافقات
الموافقات
Ebook966 pages6 hours

الموافقات

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب الموافقات في بيان مقاصد الكتاب والسنة والحكم والمصالح الكلية الكامنة تحت آحاد الأدلة ومفردات التشريع والتعريف بأسرار التكاليف في الشريعة ألفه الحافظ إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790 هـ 1388), وقد اختار إبراهيم بن موسى الشاطبي للكتاب اسما غير اسم الموافقات وهو التعريف بأسرار التكليف إلا أنه عدل عنه إلى الموافقات وكان ذلك بسبب رؤيا لأحد مشايخه حين قال الشيخ للإمام الشاطبي رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته فسألتك عنه فأخبرتني أنه الموافقات وسألتك عن معنى هذه التسمية الظريفة فأخبرتني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة .
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateFeb 28, 1902
ISBN9786341458960
الموافقات

Read more from الشاطبي

Related to الموافقات

Related ebooks

Related categories

Reviews for الموافقات

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الموافقات - الشاطبي

    الغلاف

    الموافقات

    الجزء 7

    الشاطبي، إبراهيم بن موسى

    790

    كتاب الموافقات في بيان مقاصد الكتاب والسنة والحكم والمصالح الكلية الكامنة تحت آحاد الأدلة ومفردات التشريع والتعريف بأسرار التكاليف في الشريعة ألفه الحافظ إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790 هـ 1388), وقد اختار إبراهيم بن موسى الشاطبي للكتاب اسما غير اسم الموافقات وهو التعريف بأسرار التكليف إلا أنه عدل عنه إلى الموافقات وكان ذلك بسبب رؤيا لأحد مشايخه حين قال الشيخ للإمام الشاطبي رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته فسألتك عنه فأخبرتني أنه الموافقات وسألتك عن معنى هذه التسمية الظريفة فأخبرتني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة .

    3 أخرجه البخاري في الصحيح كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، 6/ 546/ رقم 3518، وكتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ}، 8/ 653/ رقم 4907 عن جابر, رضي الله عنه.

    4 وهو أن الترك محله غير المأذون فيه، والمؤلف في رده هذه الأمور إلى القاعدة تارة يلاحظ الفعل فيجعله منهيًّا عنه، وتارة يلاحظ الترك فيجعله مطلوبًا، وهما متلازمان، وإنما هو التنويع في التعبير. د.

    أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَرْكٍ بِإِطْلَاقٍ1، كَيْفَ وَقَدْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟

    وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَقَدْ صَارَ فِي حَقِّهِ التَّنَاوُلُ مَمْنُوعًا أَوْ مَكْرُوهًا لِحَقِّ2 ذَلِكَ الْغَيْرِ، هَذَا فِي غَيْرِ مُقَارَبَةِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مَعَ مُقَارَبَتِهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا؛ فَهُوَ عَامٌّ3 فِيهِ وَفِي الْأُمَّةِ؛ فَلِذَلِكَ نَهَى آكِلَهَا عَنْ مُقَارَبَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهَا لِمَنْ أَرَادَ مُقَارَبَتَهُ.

    وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَهُوَ مِنَ الرِّفْقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ؛ فَالتَّرْكُ هُنَالِكَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الذَّرَائِعِ إِذَا كَانَ تَرْكًا لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ خَوْفًا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ خَوْفًا مِنْ مَآلٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ؛ صَارَ التَّرْكُ هُنَا مَطْلُوبًا.

    وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ4 فِيهِ رُجُوعُهُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

    وَأَمَّا الْخَامِسُ؛ فَوَجْهُ النَّهْيِ الْمُتَوَجَّهِ عَلَى الْفِعْلِ حَتَّى حَصَلَ التَّرْكُ أن 1 أي: لا يعد تركًا رأسًا؛ لأن إقراره كفعله سواء، وقد أقر أكله على مائدته، وأيضًا؛ فهو جبلي لا يدخل في الباب رأسًا كما تقدمت الإشارة إليه. د.

    2 أي: وهو أمر مستمر ومطلق لا يخص حالًا دون حال. د.

    3 كما ورد في الحديث: من أكل ثومًا أو بصلًا؛ فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، أخرجه في التيسير عن الخمسة. د.

    قلت: أخرجه مسلم في صحيحه رقم 567 عن عمر، ورقم 563 عن أبي هريرة، ورقم 565-566 عن أبي سعيد، والبخاري في صحيحه 2/ 339/ رقم 853، ومسلم في صحيحه رقم 561 عن ابن عمر، والبخاري 2/ 339/ رقم 856 و9/ 575/ رقم 5451، ومسلم رقم 562 عن أنس, رضي الله عنه.

    4 أي: في مبحث المباح، وأن مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بالكل؛ فلذلك قال: تبين رجوعه، ولم يقل: إنه منهي عنه. د.

    الرَّفِيعَ الْمَنْصِبِ مُطَالَبٌ بِمَا يَقْتَضِي مَنْصِبُهُ، بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَغَيْرَ لَائِقٍ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، حَسْبَمَا جَرَتْ بِهِ الْعِبَارَةُ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ1، إِنَّمَا يُرِيدُونَ فِي اعْتِبَارِهِمْ لَا فِي حَقِيقَةِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ، وَلَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ بَعْدَ الْقَسْمِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ يَعْتَذِرُ إِلَى رَبِّهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ! هَذَا عَمَلِي فِيمَا أَمْلِكُ؛ فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ2، يُرِيدُ بِذَلِكَ مَيْلَ الْقَلْبِ 1 انظر ما قدمناه 3/ 548.

    2 أخرجه الترمذي في الجامع أبواب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، 3/ 446/ رقم 1140، وأبو داود في السنن كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242/ رقم 2134، والنسائي في المجتبى كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، 7/ 64، وابن ماجه في السنن كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، 1/ 633/ رقم 1971، وابن أبي شيبة في المصنف 4/ 386-387، وأحمد في المسند 6/ 144، وإسحاق بن راهويه في المسند رقم 1370, مسند عائشة، وابن أبي حاتم في العلل 1/ 425، وابن حبان في الصحيح 10/ 5/ رقم 4205, الإحسان، والطحاوي في المشكل 1/ 88، والحاكم في المستدرك 2/ 187، والبيهقي في الكبرى 7/ 298 من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة به.

    ورجاله ثقات، واختلف في رفعه ووصله، وانفرد حماد بن سلمة في وصله، وأرسله غيره.

    قال النسائي بإثره: أرسله حماد بن زيد، وقال الترمذي عقبه: ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة.

    وقال ابن أبي حاتم: فسمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا، وقال: قلت: روى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه ... الحديث مرسل.

    وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 386 من طريق ابن علية التي ذكرها ابن أبي حاتم. = إِلَى بَعْضِ الزَّوْجَاتِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُمْلَكُ، كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا أَنْفُسِهَا.

    وَالَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْمَوْضِعَ -وَأَنَّ الْمَنَاصِبَ تَقْتَضِي فِي الِاعْتِبَارِ الْكَمَالِيِّ الْعَتْبَ عَلَى مَا دُونَ اللَّائِقِ بِهَا - قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ1، وَفِي اعْتِذَارِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا، بِخَطِيئَتِهِ وَهِيَ دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ, وَدُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، قَالُوا2: وَبَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] وَهَذَا يَقْضِي3 بِأَنَّهُ دُعَاءٌ مُبَاحٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَقْصَرَ نَفْسَهُ لِرَفِيعِ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مِثْلِهِ مِثْلُ هَذَا؛ إِذْ كَانَ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ اعْتَذَرَ بِخَطِيئَتِهِ، وَهِيَ الثَّلَاثُ الْمَحْكِيَّاتُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ4؛ فَعَدَّهَا كِذْبَاتٍ وإن = ويشهد لما ذكره المصنف أولًا ما أخرجه أبو داود في السنن كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242-243/ رقم 2135، والحاكم في المستدرك 2/ 186، والبيهقي في الكبرى 7/ 74 عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس؛ حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها". وإسناده حسن.

    1 انظره بطوله في صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417-418/ رقم 6565، وصحيح مسلم كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، 1/ 180-181/ رقم 193.

    2 كأنه يحتاج عنده إلى تثبت، وسيأتي له أن قوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك} [نوح: 27]، إنما كان بوحي، وأنه هو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوح ...} إلخ [هود: 36] ؛أي: يستلزمه، إلا أن كل هذا وإن أفاد أن دعاءه اقترن بما هو في معنى: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك ...} إلخ [هود: 36] ؛فهو لا يعتبر أنه ما دعا إلا بعد ما نزل عليه ذلك صريحًا، بل هذا القدر محتاج للإثبات. د.

    3 في ط: يقتضي.

    4 مضى تخريجه قريبًا ص414 وهو في الصحيحين عن أبي هريرة, رضي الله عنه.

    كَانَتْ تَعْرِيضًا اعْتِبَارًا بِمَا ذُكِرَ.

    وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ1 فِي دَلِيلِ الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ لَمْ تُرَدَّ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ أَوْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَى مَا فِيهَا؛ فَهِيَ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ، فَإِذَا عَرَضْنَا مَسْأَلَتَنَا عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ دُعَاءَهُ عَلَى قَوْمِهِ؛ فَقَالَ: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نُوحٍ: 26] .

    وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَتْبٍ وَلَا لَوْمٍ، وَلَا خُرُوجٍ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ حَكَى أَنَّهُ قَالَ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} الآية [نوح: 27] .

    ومعلوم أنه -عليه السلام - لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] .

    وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّاتِ: 88، 89] .

    وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ مَا يُشِيرُ إِلَى لَوْمٍ وَلَا عَتْبٍ، وَلَا مُخَالَفَةِ أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 63] ؛فَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الْمَسَاقِ ذِكْرٌ لِمُخَالَفَةٍ وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى عَتْبٍ، بَلْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصَّافَّاتِ: 84]، وَهُوَ غَايَةٌ فِي الْمَدْحِ بِالْمُوَافَقَةِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَاقِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.

    وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ...} [الْأَنْبِيَاءِ: 51] إِلَى آخِرِهَا؛ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ مَدْحَهُ وَمُنَاضَلَتَهُ عَنِ 1 في ص160.

    الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا نَاضَلَ بِهِ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ 1، وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْقِيَامَةِ يَسْتَقْصِرُ نَفْسَهُ عَنْ رُتْبَةِ الشَّفَاعَةِ بِمَا يَذْكُرُهُ2، وَكَذَلِكَ نُوحٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ هُنَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِ3 مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا تَطْلُبُهُ بِهِ الْمَرْتَبَةُ؛ فَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَسْأَلَةِ الْقَسْمِ4.

    وَقَدْ مَدَدْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْضَ النَّفَسِ لِشَرَفِهِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ؛ لِبُيِّنَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَى بَيَانِهِ النَّفْسُ، مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

    وَفِي آخِرِ5 فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي أَيْضًا مِمَّا يَتَمَهَّدُ بِهِ هَذَا الْأَصْلُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَنَّ التَّرْكَ هُنَا6 رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ، لَكِنِ النَّهْيُ الِاعْتِبَارِيُّ.

    وَأَمَّا السَّادِسُ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْكِ الَّذِي يقتضيه النهي لأنه من باب 1 مضى تخريجه ص414، وهو في الصحيحين عن أبي هريرة.

    2 وهو قوله: وإني كنت كذبت ... إلخ، وكذلك نوح إذ يقول: إني كانت لي دعوة دعوت بها على قومي. د.

    قلت: ورد ذلك في حديث الشفاعة المشار إليه آنفًا، وهو في الصحيحين.

    3 في م: قبيل.

    4 والحديث مرسل وليس بصحيح، كما بيناه قريبًا ص430.

    5 في المسألة الثامنة عشرة، وفيها أنه إذا رجع الأمر إلى الأصل والنهي إلى المآل يكون من باب سد الذرائع، وقوله: هذا الأصل؛ أي: وهو أن الترك محله في الأصل غير المأذون فيه، وتمهيده للوجه الثالث منه ظاهر، ولو ذكر هذا هناك؛ لكان أوضح. د.

    6 أي: في الوجه الخامس. د.

    تَعَارُضِ مَفْسَدَتَيْنِ؛ إِذْ يَطْلُبُ الذَّهَابَ إِلَى الرَّاجِحِ، وَيَنْهَى عَنِ الْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ، وَالتَّرْكُ هُنَا هُوَ الرَّاجِحُ؛ فَعَمِلَ عَلَيْهِ.

    فَصْلٌ:

    وَأَمَّا الْإِقْرَارُ1 فَمَحْمَلُهُ2 عَلَى أَنْ لَا حَرَجَ فِي الْفِعْلِ الَّذِي رَآهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَقَرَّهُ، أَوْ سَمِعَ بِهِ فَأَقَرَّهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي3 الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الذي 1 أي: تثبيته لأحد على شيء. ماء.

    2 في ماء: فمحله.

    3 وحاصله أنه إذا علم بفعل وإن لم يره، فسكت قادرًا على إنكاره، فإن كان معتقد كافر يعلم إنكاره له -صلى الله عليه وسلم - فلا أثر لسكوته لأنه يعلم أن لا ينتفع بالإنكار في الحال، وإن لم يكن معتقد كافر، فإن سبق تحريمه بعام يكون الفعل الذي أقره نسخًا للتحريم أو تخصيصًا له به، على الخلاف بين الحنفية والشافعية في ذلك، وإلا بأن لم يسبق التحريم؛ فدليل الجواز حتى لا يكون فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير واقع في الشريعة، فإذا استبشر بالفعل؛ فأولى أن يدل على الجواز، إلا أن يدل دليل على أن هذا الاستبشار لأمر آخر اقترن بالفعل لا لنفس الفعل؛ فعند ذلك يختلف القول في اعتبار سكوته واستبشاره تقريرًا لأصل المسألة وأحقيتها، أو يجعل السكوت والاستبشار غير إقرار ولا موجب لأحقية أصل المسألة، كما في مسألة المدلجي لما دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم - فإذا أسامة بن زيد وزيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما، وقد بدت أقدامهما؛ فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وكان أسامة مثل الليل، وزيد مثل القطن؛ فأثبت الشافعي صحة النسب بالقيافة ومنعها الحنفية، ولكل منهما حجته ورده على الآخر، وإنما نقلنا هذه النبذة لتساعد على فهم المقام. د.

    قلت: وتجد كلامًا عن القيافة في الطرق الحكمية لابن القيم، وتعليقنا عليه، ومضى تخريج حديث: إن هذه الأقدام ... في ص75، وهو صحيح، وانظر بسط موضوع الإقرار في: التمهيد 1/ 11 وما بعدها للكلوذاني، وشرح الكوكب المنير 2/ 166، 194، والمحلى على جمع الجوامع 2/ 94، والإحكام 1/ 169 للآمدي، وتيسير التحرير 3/ 19، وأصول السرخسي 1/ 113، والتلويح على التوضيح 2/ 2، ونهاية السول 2/ 238، وفواتح الرحموت 2/ 97، والتفتازاني على ابن الحاجب 2/ 22، وإرشاد الفحول 33، وإعلام الموقعين 2/ 387 وما بعدها.

    يَخُصُّ الْمَوْضِعَ هُنَا أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ جِنْسٌ لِأَنْوَاعٍ: الْوَاجِبُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمُبَاحُ بِمَعْنَى الْمَأْذُونِ فِيهِ1 وَبِمَعْنَى أَنْ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ؛ فَغَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَهُ2 عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَلَيْهِ يُؤْذِنُ إِطْلَاقَهُ بِمُسَاوَاةِ3 الْفِعْلِ لِلتَّرْكِ، وَالْمَكْرُوهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَكْرُوهَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ السُّكُوتُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحَلَّ تَشْرِيعٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَكْرُوهُ بِحُكْمِ إِطْلَاقِ السُّكُوتِ عَلَيْهِ دُونَ زِيَادَةٍ4 تَقْتَرِنُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ وَلَا تَعْرِيفٌ5 أَوْهَمَ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ، وَهُوَ الْإِذْنُ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَكْرُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

    لَا يُقَالُ: فَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ؛ إِذْ لَا يُفْهَمُ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ فِيهِ غَيْرُ مُطْلَقِ الْإِذْنِ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ، وَلَيْسَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَرْكِهِ وَمَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ, وَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ زَائِدٌ6 عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَلَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ مُقْتَضَى الْإِقْرَارِ، وقد زعمت أنه7 داخل، هذا خلف. 1 مرتبط بالمباح إشارة إلى إرادة معنييه السابقين في مبحث المباح. ف.

    2 أي: تحت ما لا حرج فيه الذي هو محمل الإقرار الشامل للأنواع الثلاثة. ف.

    3 أي: على الأقل، حتى يدخل الواجب والمندوب، ثم يقال: وهل هذه العبارة تسع دخول المباح, بمعنى ما لا حرج فيه على تفسيره له سابقًا؟ د.

    4 أي: زيادة من شأنها أن تصرف السكوت إلى غير معنى الإقرار. د.

    5 أي: ولا قول يفيد غير الإذن. د.

    6 أي: ينافي مطلق رفع الحرج، يرشدك إلى ذلك قوله: للموافقة بينهما المقتضي أن أصل الاعتراض بالتنافي بين عدم الحرج, وبين مفهوم الواجب والمندوب. د.

    7 الأنسب: أنهما داخلان. د.

    لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُمَا دَاخِلَانِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَرَجِ مَعَ فِعْلِ الْوَاجِبِ1 لَازِمٌ لِلْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي الِاقْتِضَاءِ قَصْدًا مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ صَارَا لَا حَرَجَ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِ، لا من جهة الفعل، وأن لَا حَرَجَ2 رَاجِعٌ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَلَا يَتَوَافَقَانِ، وَإِلَّا؛ فَكَيْفَ يَتَوَافَقَانِ وَالنَّهْيُ يُصَادِمُ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ؟

    فَإِنْ قِيلَ: مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَعْفُوًّا عَنْهُ هُوَ مَعْنَى عَدَمِ الْحَرَجِ فِيهِ، وَأَنْتَ تُثْبِتُ هُنَا الْحَرَجَ بِهَذَا الْكَلَامِ.

    قِيلَ: كَلَّا، بَلِ الْمُرَادُ هُنَا غَيْرُ الْمُرَادِ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَالِكَ فِيمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ الْمَكْرُوهِ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ بَحْتًا3 كَمَا هُوَ مُصَادِمٌ فِي الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَلَكِنَّ خِفَّةَ شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعدما وَقَعَ فِي حُكْمِ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ اسْتِدْرَاكًا لَهُ مِنْ رِفْقِ الشَّارِعِ بِالْمُكَلَّفِ، وَمِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ، وَالصَّلَوَاتِ، وَالْجُمُعَاتِ، وَرَمَضَانَ، وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَسَائِرِ مَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالصَّغِيرَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْمَكْرُوهِ؛ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً.

    وَأَمَّا مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ مُصَادَمَةِ النَّهْيِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَنَظَرٌ إِلَى مَا قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؛ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَدْخُلَ المكروه تحت 1 الأنسب: مع فعل الواجب أو المندوب. ف.

    2 أي: الذي يدل عليه الإقرار إنما هو في الفعل، وهذا موجود في الواجب والمندوب لا في المكروه. د.

    3 صوابه: بحتًا -بالتاء - أي: خالصًا لا شبهة فيه. ف.

    مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ؛ كَقِيَافَةِ الْمُدْلِجِيِّ فِي أُسَامَةَ وَأَبِيهِ زَيْدٍ1، وَأَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَتِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ2.

    وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ؛ قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: فَالْتَزَمْتُهُ فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شيئًا، قال: فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مبتسمًا3.

    وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى طَهَارَةِ دَمِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَى من شرب دم حجامته4. 1 مضى تخريجه ص75.

    2 مضى تخريجه ص357، 423، وهو في الصحيحين عن خالد, رضي الله عنه.

    3 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772 بعد 72، وأخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 8/ 481/ رقم 4214، ومسلم أيضًا رقم 1772 بعد 73 عن عبد الله بن مغفل بلفظ آخر.

    4 أخرج البزار في مسنده 3/ 145/ رقم 2436, زوائده، والحاكم في المستدرك 3/ 554، والطبراني في الكبير -كما في التلخيص الحبير 1/ 30، والمجمع 8/ 270، ومناهل الصفا رقم 72، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 1/ 329-230، وهو ساقط حتى من القطعة التي طبعت ملحقًا بالمعجم - والبيهقي في الكبرى 7/ 67 من طريق موسى بن إسماعيل عن هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه؛ قال: احتجم النبي -صلى الله عليه وسلم - فأعطاني الدم، فقال: اذهب فغيبه. فذهبت فشربته، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: ما صنعت؟ . قلت: غيبته. قال: لعلك شربته؟ . قلت: شربته. زاد الطبراني؛ فقال: من أمرك أن تشرب الدم، ويل لك من الناس، وويل للناس منك".

    قال البزار: قد روي عن ابن الزبير من وجه آخر. قلت: كما عند الدارقطني في السنن 1/ 228، وأبي نعيم في الحلية 1/ 230، والطريق المذكور آنفًا فيه هنيد -أو جنيد - بن القاسم، لا بأس به، ولكنه ليس بالمشهور في العلم، قاله ابن حجر في التلخيص 1/ 30، وقال الهيثمي في المجمع 8/ 270: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح؛ غير جنيد بن القاسم، وهو ثقة.

    ولذا أطلق السيوطي في مناهل الصفا رقم 72 على إسناده بأنه جيد. وفي الباب عن جماعة والمذكور أقواها، انظرها في البدر المنير 2/ 206-219.

    الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:

    الْقَوْلُ مِنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَارَنَهُ الْفِعْلُ؛ فَذَلِكَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي التَّأَسِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ فِعْلَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاقِعٌ عَلَى أَزْكَى1 مَا يُمْكِنُ فِي وَضْعِ التَّكَالِيفِ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ.

    بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُطَابِقْهُ الْفِعْلُ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ؛ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ2 عَلَى أَفْضَلِيَّةٍ وَلَا مَفْضُولِيَّةٍ.

    وَمِثَالُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: أَأَكْذِبُ لِامْرَأَتِي؟ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ. قَالَ: أَفَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا؟ قَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ 3.

    ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ مَا أَجَازَهُ، بَلْ لَمَّا وَعَدَ عَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَذَلِكَ حِينَ شَرِبَ عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ4 عَسَلًا؛ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أزواجه: إني أجد منك 1 أي: أكمله في شرع التكاليف وإنشائها؛ ففعله في أعلى طبقات التشريع للأحكام، أي فإذا انضم إلى القول؛ كان ذلك أعلى مراتب الصحة في الاقتداء. د.

    2 كيف هذا؟ وسيأتي له في التعقيب على الأمثلة يقول: وذلك يدل على مرجوحيته، أي: إن مخالفة فعله لقوله يدل على مرجوحية مضمون القول، فإن قيل: إن ذلك بالنظر للقول وحده بدون نظر إلى أن تركه قصدًا؛ قيل: إن القول إذا كان بصيغة الأمر ففيه أقوال في كونه مشتركًا أو للوجوب والندب كما سبق له؛ فلا يتأتى إطلاق القول بعدم الدلالة على راجحية ومرجوحية. د.

    3 الحديث صحيح بشواهده، وقد مضى تخريجه 1/ 491، وانظر: السلسلة الصحيحة رقم 498، 545.

    4 وهي السيدة حفصة -رضي الله عنها - كما جاء في حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم - شرب عند حفصة عسلًا، فتواخينا أن نقول له: أكلت مغافير، وهي صمغ العرفط، وله ريح كريهة. ف.

    رِيحَ مَغَافِيرَ -كَأَنَّهُ مِمَّا يُتَأَذَّى مِنْ رِيحِهِ - فَحَلِفَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ، أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -وَيُرْجَعُ1 إِلَى الْأَوَّلِ - فَقَالَ اللَّهُ2 لَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التَّحْرِيمِ: 1]، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَعِدَ وَيَقُولَ، وَلَكِنَّهُ عَزَمَ بِيَمِينٍ عَلَّقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ تَحْرِيمٍ عَقَدَهُ؛ حَتَّى رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ.

    وَأَيْضًا؛ فَلَمَّا قَالَ لِلرَّجُلِ الْوَاهِبِ لِابْنِهِ: أَشْهِدْ غَيْرِي3 كَانَ ظَاهِرًا فِي الْإِجَازَةِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ4 هُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ دَلَّ على مرجوحية مقتضى القول. 1 فقد قارن فعله -وهو الكف عن شربه - قوله: إنه لن يشربه، ثم التمثيل به إنما يظهر لو أنه كف عنه وفاء بوعده للزوجة فيما لا يلزم الوفاء به، بل لمجرد إرضائها، ولكنه قرن الوعد بالحلف والتحريم؛ فليس له قبل نزول آية التحليل أن يخالف؛ فجعل المثال مما نحن فيه ليس واضحًا، وتقدم لنا أن التمثيل لهذا الوضع بقدر البقول الذي امتنع عن التناول منها مع أمره بتقريبها لبعض من حضر من أصحابه أوضح من هذا المثال. د.

    2 أخرجه البخاري في الصحيح كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، رقم 4912، وكتاب الطلاق، باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، رقم 5267، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حرم طعامًا/ رقم 6691، ومسلم في صحيحه كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، رقم 1474، وأبو داود في السنن كتاب الأشربة، باب في شراب العسل، 3/ 335/ رقم 3714، والنسائي في الكبرى كتاب التفسير، 2/ 450/ رقم 628، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، رقم 20، والمجتبى كتاب الطلاق، تأويل هذه الآية من وجه آخر 6/ 151، وكتاب الأيمان والنذور، باب تحريم ما أحل الله, عز وجل، 7/ 13، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، 7/ 71 عن عائشة, رضي الله عنها.

    3 مضى تخريجه ص422، وهو في الصحيحين وغيرهما.

    4 وأيضًا قوله: لا أشهد على جور، بل هذا محتاج إلى تأويل في الجور بالتغليظ على الرجل بتسميته جورًا حتى يبقى الأصل جائزًا. د.

    قلت: مضى تخريجه ص422.

    وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَسَّانَ وَغَيْرَهُ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ1 وَأَذِنَ2 لَهُمْ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ مُنِعَهُ3 -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ يُعَلَّمْهُ، وَذَلِكَ يدل على 1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، 6/ 553/ رقم 3531، وكتاب المغازي، باب حديث الإفك، 7/ 436/ رقم 4145، وكتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6150، ومسلم في الصحيح كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1934/ رقم 2489 عن عائشة؛ قالت: استأذن حسان بن ثابت النبي -صلى الله عليه وسلم - في هجاء المشركين؛ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: فكيف بنسبي؟ . فقال حسان: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.

    وأخرج البخاري في صحيحه كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6153، ومسلم في الصحيح كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت, رضي الله عنه، 4/ 1933 عن البراء بن عازب؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان بن ثابت: اهجهم -أو هاجهم - وجبريل معك.

    وانظر سائر الأحاديث في جزء أحاديث الشعر للحافظ عبد الغني المقدسي ت 600هـ، وهو مطبوع. وانظر الاعتصام 1/ 345 وما بعده ط ابن عفان و270 ط رضا.

    2 فقد دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة ينشد بين يديه:

    خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله

    البيتين.

    فلما أنكر عمر على ابن رواحة وقال له: بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟ قال له: خل عنه يا عمر؛ فلهي أسرع فيهم من نضح النبل، أخرجه الترمذي وصححه النسائي. د.

    قلت: أخرجه النسائي في المجتبى كتاب مناسك الحج، باب إنشاد الشعر في الحرم، 5/ 202، وباب استقبال الحج، 5/ 211-212، والترمذي في الجامع أبواب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر، رقم 2847 والشمائل 245، وأبو يعلى في المسند رقم 3394، 3440، وابن حبان في الصحيح رقم 5758, الإحسان، والبيهقي في الكبرى 10/ 228، وأبو نعيم في الحلية 6/ 292، والبغوي في شرح السنة رقم 3404 عن أنس بإسناد صحيح.

    3 قد يقال: حيث لم يكن في قدرته الشعر، ولم يكن تركه اختيارًا؛ فلا يكون مما نحن فيه إلا أن يقال: إن هذ يكون أبلغ في الدلالة على مرجوحيته، ويقويه قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69]. د.

    مَرْجُوحِيَّتِهِ، وَلِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69]، وَقَالَ لِحَسَّانَ1: اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ؛ فَهَذَا إِذْنٌ فِي الْهِجَاءِ، وَلَمْ يَذُمَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَدًا بِعَيْبٍ فِيهِ، خِلَافَ عَيْبِ الدِّينِ، وَلَا هَجَا أَحَدًا بِمَنْثُورٍ، كَمَا لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ الْمَنْظُومُ أَيْضًا.

    وَمِنْ أَوْصَافِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَيَّابًا وَلَا فَحَّاشًا2، وَأَذِنَ لِأَقْوَامٍ فِي أَنْ يَقُولُوا3 لِمَنَافِعَ كَانَتْ لَهُمْ فِي القول أو نضال4 عن الإسلام، ولم 1 يوم قريظة، حيث قال له: اهج المشركين؛ فإن جبريل معك، أخرجه الشيخان. د.

    2 يدل على ذلك أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في الصحيح كتاب الأدب، باب لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452/ رقم 6031، وباب ما ينهى عن السباب واللعن، 10/ 464/ رقم 6046 عن أنس بن مالك, رضي الله عنه؛ قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم - سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه.

    وأخرج مسلم في الصحيح كتاب الفضائل، باب كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا، 4/ 1804-1805 عن أنس؛ قال: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب عليّ شيئًا قط.

    قلت: مضى تخريجه قريبًا.

    3 يكذبون الكذب المباح المستثنى في الأحاديث؛ كحديث الخمسة إلا النسائي: ليس بالكذاب الذي يصلح بين اثنين؛ فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا، وحديث الترمذي الذي استثنى فيه الكذب على المرأة، وفي الحر وفي إصلاح ذات البين من حرمة الكذب. د.

    4 كما في قصة نعيم بن مسعود الذي قال له, عليه الصلاة والسلام: خذل عنا إن استطعت. فقال لقريش وغطفان وقريظة ما قال؛ حتى أوقع الفرقة بينهم، وتخاذلوا في واقعة الأحزاب. د.

    قلت: وقصته في سيرة ابن هشام 3/ 264, مع الروض الأنف -وذكرها ابن حجر في الفتح 7/ 402 وسكت عنها - ومغازي الواقدي 2/ 480-493، ومغازي الزهري ص80-81، وقصته في ضعيف الجامع رقم 2818، وأفاد أنها عند الشيرازي في الألقاب.

    يَفْعَلْ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهُ التَّوْرِيَةُ؛ كَقَوْلِهِ: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ1، وَفِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْغَزْوِ؛ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً2 وَرَّى بِغَيْرِهَا3، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِالْقَوْلِ4 الَّذِي مَفْهُومُهُ الْإِذْنُ إِذَا تَرَكَهُ قَصْدًا مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَحْسَنُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَالتَّوْسِعَةُ عَلَى وَفْقِ الْقَوْلِ مَبْذُولَةٌ، وَبَابُ التَّيْسِيرِ مَفْتُوحٌ، والحمد لله. 1 لقي النبي -صلى الله عليه وسلم - طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه؛ فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال لهم: نحن من ماء. فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياء اليمن كثير, فلعلهم منهم. والمعنى الآخر أنهم مخلوقون من ماء. د.

    قلت: القصة المذكورة أخرجها ابن إسحاق, كما في سيرة ابن هشام 2/ 194-195: حدثني محمد بن يحيى بن حبان به، وهي معضلة، وعنه ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 263، وابن الجوزي في الأذكياء 140-141، وذكرها ابن القيم في الطرق الحكمية ص41.

    2 إلا في غزوة تبوك، كما ورد في حديث كعب من مالك عن تخلفه عنها، وقد أخرجه في التيسير عن الخمسة. د".

    قلت: ومضى تخريج تخلف كعب 2/ 270.

    3 أخرج البخاري في صحيحه كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، 6/ 112-113/ رقم 2947، 2948 بسنده إلى كعب بن مالك -رضي الله عنه - قال: ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورى بغيرها.

    4 يريد أن يجمل حكم هذا القسم الثاني المعبر عنه سابقًا بقوله: بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل؛ أي: ففعل ما أذن فيه الرسول قولًا، ولكنه تركه قصدًا يعد مما لا حرج فيه, وتركه بقصد الاقتداء بالرسول في تركه له أحسن وأفضل لمن قدر ولم يتضرر بالترك، وقوله: تركه قصدًا مفهومه أنه إذا كان تركه -صلى الله عليه وسلم - له اتفاقًا ومصادفة، أو لأنه تعافه نفسه كأكل الضب، أو لأنه منع منه سجية كالشعر لا يكون مما نحن فيه، وتقدم الكلام عن الإشكال في الشعر والجواب عنه. د.

    الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:

    الْإِقْرَارُ مِنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا وَافَقَ الْفِعْلَ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي التَّأَسِّي لَا شَوْبَ فِيهِ، وَلَا انْحِطَاطَ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّأَسِّي؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصَّوَابِ، فَإِذَا وَافَقَهُ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ كَمُجَرَّدِ1 الِاقْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ؛ فَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ زَائِدٌ مُثْبِتٌ.

    بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنِ اقْتَضَى الصِّحَّةَ فَالتَّرْكُ كَالْمُعَارِضِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ؛ فَقَدْ رَمَى فِيهِ شَوْبَ التَّوَقُّفِ لِتَوَقُّفِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الْفِعْلِ.

    وَمِثَالُهُ إِعْرَاضُهُ عَنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ2 وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، وَبُعْدُهُ3 عَنِ التَّلَهِّي بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْرِجْ4 فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِحَضْرَتِهِ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ5 وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا دعت إليه حاجة 1 لا يصح أن يكون الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم - في مجموع فعله وإقراره كمجرد الاقتداء به في الفعل؛ لأن كلًّا منهما دليل مستقل؛ فاجتماعهما أقوى وأقطع للاحتمالات، ألا ترى أن الفعل وحده لا زال يحتمل الخصوصية مثلًا؟ وأيضًا؛ فإنه لا يتفق مع قوله: وَلَا انْحِطَاطَ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّأَسِّي لِأَنَّ الفعل وحده ليس كذلك ففي العبارة ضعف، وكأنه يريد أن يقول: إن الفعل القائم من المكلف على الاقتداء بفعله صحيح، ويزيد على ذلك الإقرار لأنه دليل مثبت أيضًا. د.

    قلت: انظر في اختلاف التقرير والفعل واختلافه والقول في: جمع الجوامع 2/ 365، وأفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم 2/ 226-227.

    2 يشير المصنف إلى قوله, صلى الله عليه وسلم: لست من دد، ولا دد مني، ومضى تخريجه ص425،

    3 كما تقدم في حديث غناء الجاريتين بغناء بعاث. د.

    قلت: وهو في الصحيحين كما مضى ص424.

    4 في ماء: يخرج بالخاء.

    5 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، 1/ 463/ رقم 670 بسنده إلى سماك بن حرب؛ قال: قلت = أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَمَّا جَاءَتْهُ الْمَرْأَةُ تَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ طَهَارَةِ الْحَيْضَةِ؛ قَالَ لَهَا: خُذِي فِرْصَةً 1 مُمَسَّكَةً 2 فَتَطَهَّرِي بِهَا 3. فقالت: وكيف أتطهر بها؟ فأعاد عليها واستحيا حَتَّى غَطَّى وَجْهَهُ4. فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ مَا أَرَادَ، ففهمتها بما هو = لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم.

    وأخرجه مسلم أيضًا في كتاب الفضائل، باب تبسمه -صلى الله عليه وسلم - وحسن عشرته، 4/ 1810/ رقم 2322، والنسائي في المجتبى كتاب السهو، باب قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم، 3/ 80-81 وعمل اليوم والليلة 170، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب صلاة الضحى، 2/ 29/ رقم 1294، وأحمد في المسند 5/ 91، 105، وعلي بن الجعد في المسند رقم 2755، والبيهقي في الكبرى 7/ 52، وفي رواية للترمذي في الجامع رقم 2850، والطيالسي في المسند 771، وأحمد في المسند 5/ 105، وابن أبي شيبة في المصنف 8/ 712-713، والبيهقي في السنن 7/ 52 و10/ 240 عنه، قال: وكان الصحابة يذكرون عنده -صلى الله عليه وسلم - الشعر وأشياء من أمورهم.

    1 الفرصة, بكسر الفاء: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة تتمسح بها الحائض. ف وم.

    2 الممسكة: المطيبة بالمسك، يتبع بها أثر الدم، فيحصل منه الطيب والتنشيف. ف وم.

    3 أخرجه البخاري في الصحيح كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، 1/ 414/ رقم 314، وباب غسل المحيض، 1/ 416-417/ رقم 315، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، 13/ 330/ رقم 7357، ومسلم في صحيحه كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، 1/ 260-261/ رقم 332 عن عائشة, رضي الله عنها.

    4 المعروف أنه أعرض بوجهه؛ فانظر أين وردت التغطية؟ د.

    قلت: ورد في صحيح مسلم 1/ 261: واستتر، وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه، وعند النسائي في المجتبى 1/ 136: فاستتر كذا، وفي مسند أبي يعلى 8/ 179 / رقم 4733: فستر وجهه بطرف ثوبه، ورواية الإعراض في صحيح البخاري ومسند أحمد 6/ 122، والمجتبى 1/ 207-208 للنسائي.

    أَصْرَحُ وَأَشْرَحُ؛ فَأَقَرَّ عَائِشَةَ عَلَى الشَّرْحِ الْأَبْلَغِ، وَسَكَتَ هُوَ عَنْهُ حَيَاءً؛ فَمِثْلُ هَذَا مُرَاعًى إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَيَانُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ1 مِنْ بَابِ الْجَائِزِ، أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْإِفْهَامُ كَيْفَ كَانَ؛ فَإِنَّهُ مَحَلُّ مَقْطَعِ الْحُقُوقِ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ2.

    وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ3، بَلْ فِيهِ مَا يَكُونُ كَذَلِكَ نَحْوَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْمَطْلُوبَاتِ4 وَالْمُبَاحَاتِ الصِّرْفَةِ وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالْأَمْثِلَةِ.

    فَإِنْ قَارَنَهُ قَوْلٌ5، فَالْأَمْرُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ6، فَيَنْظُرُ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَيَقْضِي بِمُطْلَقِ الصِّحَّةِ فِيهِ مَعَ الْمُطَابَقَةِ دُونَ المخالفة. 1 أي: العمل بالفرصة من باب الجائز فلا يتعين فيه الإفهام، أو أن نفس التفهيم لما وجد من يقوم به عنه وهو عائشة صار غير متعين عليه، وعد جائزًا. د.

    2 تقدم منها تقريره لمن اعترف بالزنى، وتصريحه باللفظ الذي يعد في غير هذا المقام فحشًا مبالغة في الاحتياط في الحد. د.

    3 أي: وضم دليل آخر يعين خصوص الحكم. د.

    4 انظر ما وجه زيادة المطلوبات، مع أن أصل الكلام في مطلق الجواز، ولو قال بدله مطلق الإذن لشمل المطلوبات والمباح بنوعيه، وكان موافقًا لما تقرر آنفًا فيما يفيده الإقرار من أنه لا حرج فيه، ولكن لا يناسب قوله: ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة المذكورة التي هي من النوع الثاني من المباح، أعني: ما لا حرج فيه. د.

    5 مقابل أصل المسألة تكميل للصور التي يقتضيها المقام، وهي هنا ضم القول إلى الإقرار. د.

    6 أي: في صورة انضمام الفعل للإقرار، وقد قرر ما يقتضيه التشبيه؛ فقال: فينظر إلى الفعل ... إلخ، أي: ينظر إلى الفعل الذي أقره الرسول: هل جاء القول على وفق الإقرار له، أم جاء على عكسه؟ أقول: أما فرض مطابقة القول للإقرار؛ فظاهر، والحكم ظاهر أيضًا، وهو مطلق = الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:

    سُنَّةُ1 الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سُنَّةٌ يُعْمَلُ عَلَيْهَا وَيُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَمِنَ الدَّلِيلِ على ذلك أمور: = الصحة أو مطلق الإذن، ولكن كيف يتصور مخالف الإقرار للقول؟ وكيف يتصور بقاؤهما دليلين مع هذه المعارضة بحيث يجوز الأخذ بأيهما بلا حرج، قياسًا على ما سبق في مخالفة الفعل للإقرار؟ اللهم إلا إذا كان القول المخالف للإقرار خاصًّا بالرسول وليس فيه تصريح بأمر ولا نهي للمكلف ولا إباحة له، كما إذا فرض في مسألة الضب أنه مع الإقرار للآكل قال: لا آكل فقط دون أن يبين أن العلة أنه تعافه نفسه الشريفة. د.

    قلت: وعدم أكله -صلى الله عليه وسلم - للضب وتعليله ذلك بالمذكور آنفًا مضى تخريجه ص423.

    1 مفاد الدليل الأول

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1