Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

زجزاج
زجزاج
زجزاج
Ebook359 pages2 hours

زجزاج

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الرواية استعراض لحياة ست سيدات كنّ فى زمن سابق زميلات دراسة فى مدرسة راهبات فرنسية منذ الطفولة وحتى أواخر المراهقة، جمعتهن الدراسة، والمكان، وحب الكتابة، وفرقتهن الحياة، تستعرضهن الكاتبة من سن الـ 36 وحتى الـ 45. ومن خلال تلك الشخصيات وحياتهن تستعرض الرواية الواقع المصرى الحديث، تعريه للواقع الإجتماعى والسياسى والثقافى.. كما تتعرض الكاتبة لإبراز الهوس الدينى وتناقشه وتنتقده فى مواضع عدة.
ورغم أن الرواية تلمس الواقع المصرى، إلا انها إنسانية عالمية، بمعنى أنها تنتمى للإنسان العالمى (رجل كان أو امرأة) فى كل مكان وزمان. .تبتعد عما يسمى بالكتابة النسوية، حيث حرصت الكاتبة على التوازن فى علاقات الأفراد وتوصيفهم، فلا أفرق بين رجل وامرأة، فالكل يندرج تحت كلمة إنسان.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2017
ISBN9789771455653
زجزاج

Related to زجزاج

Related ebooks

Reviews for زجزاج

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    زجزاج - رضوى الأسود

    زجـزاج

    رواية

    رضوى الأسود

    إشـراف عام: داليا محمد إبراهيم

    الأسود، رضوى

    زجـزاج / رضوى الأسود

    القاهرة: دار نهضة مصر للنشر ، 2017

    304 ص ، 14 سم

    تدمك: 9789771455653

    1 - القصص العربية

    أ - العنوان

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-5565-3

    رقـــم الإيــــداع: 2017 / 27518

    طــبــعـــة: يناير 2018

    Zegzag1.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    إهداء

    إلى

    علي و ليلى

    «كل شيء عابر، كل شيء سيمضي،

    وما سيمضي سيصبح أجمل».

    ألكسندر بوشكين

    «نحن لا نحزن شهوة في ذلك،

    ولكننا نحزن لأننا لا نملك أجوبة

    لأسئلتنا المستعصية».

    واسيني الأعرج

    ميلاد جديد

    «أعلم أنك ورثتِ عني تلك الموهبة، فاكتبي، والأهم أن تظهري موهبتكِ للنور، فمن يكتب لا يموت».

    عبارة الأم التي لم تُلقِ لها نادية بالًا حينما قرأتها، كان همُّها الوحيد أن تُظهِر رواية أمها للنور بناء على رغبتها ووصيتها الأخيرة. لم تؤمن بموهبتها من الأصل، فكيف بعملية الكتابة ذاتها، ومن ثَمَّ النشر؟! كانت ترى أن ما تخطه على الورق لا يتعدى خواطر من الممكن أن تتراءى لأي شخص ويكتبها، لكنها بقيت تتساءل عن سر سماع طنين تلك العبارة في أذنها كلما شعرت بالاختناق! ترى ما هو الرابط بين طنين الأذن وطنين الروح؟!

    تواءمت سريعًا مع حياتها الممسوخة، ترتِّقُ ثقب الروح بهروب دائم نحو أحلام اليقظة. أحلام ظهيرتها تتوارى بجانبها أحلام ليلها الطويل التي كانت في معظمها كوابيس. نور يطرد ظلمة حياتها. أنهار من لبن، وعسل مراق، جنات عرضها الأرض بما رحبت، ولادةُ أفراح تأتي بالجملة بعد مخاض عسير، نجاحات في العمل، وأحلام مستحيلة برجل مستحيل.

    كانت تتبوأ منصبًا حساسًا في شركة كبرى، بقي لسنوات قبلها حكرًا على الرجال: مديرة تصدير. المسئولة عن كل كبيرة وصغيرة بدءًا من محاولات التسويق التي لا تهدأ (على الرغم من أن هناك من يشغل هذا المجال)، ثم توقيع العقود، والإشراف على الإنتاج والتأكد من المنتج النهائي وجودته وكميته، والاتفاق مع المعمل الذي سيتولى فحص المنتج، ثم الاتصال بشركة التفتيش التي سوف تفحص الشحنة المراد تصديرها، وحثها بعد ذلك على الإسراع في إصدار الشهادة المعتمدة التي يجب إبرازها عند المعابر الحدودية البرية للدول المستورِدة. وعلى الرغم من أنها تستنزف قواها عدوًا في تلك الدائرة الجهنمية عن قصد وعمد، فقد كان هناك دائمًا متسع لحلم بقي يراودها عن عملها، يباغتها وهي في اجتماع مغلق، وهي تستمع لصوت عميل سوف يشرع في إبرام صفقة مع شركتها، وهي توقع عقودًا بملايين الجنيهات لمنتج من المنتجات. لم تكن تلك الأحلام تعطلها عن شيء، لم تكن تؤجل شيئًا، ولم تشل حركة عقلها المتقد يومًا، يتحركُ في ألف اتجاه في الدقيقة الواحدة. اكتشفت أنها كلما توغلت في الحلم، نجحت في تحقيق جزء منه، وبالفعل حققت نجاحات ملموسة في العمل ومراكمة الثروة، وغزلت علاقة صداقة حميمية مع ابنيها، لكنها نجحت في تحقيق فشل وحيد مع أكبر وأهم شريك في رحلة حياتها.

    كان كرهها للفشل وحبُّها لابنيها يدفعانها للاستمرار في مواصلة رحلتها في بركة راكدة، مسيرة بلا سير، سكون وجمود تام وكأنها يرقة لم يأن لها الأوان كي تمزق شرنقتها لتخرج فراشة كاملة. كانت مقتنعة، رغم غصة لا تفارقها خاصة حينما تخلو إلى نفسها، بأن ما أنجزته في حياتها يستحق التأمل والشكر لله، وما دون ذلك يعدو بطرًا تتخوف من عواقبه.

    ***

    لا تبدأ حياتنا عادة منذ يوم الولادة. أحيانًا نعيش عمرًا دون أن نعيش، وأحيانًا يسطر حدث ما بداية العمر الحقيقي، فيلغي ما قبله وكأنه لم يكن. بدأت قصتها الحقيقية يوم كانت في اجتماع مهم في شركتها بالتجمع الخامس، حينما رأت وميضًا على شاشة هاتفها منزوع الصوت.. كانت منى، توءم الروح، والعقل، وزميلة الدراسة الجامعية. هاتفتها بعد نهاية الاجتماع. بُهِتَ لونها وهي تحدثها. تركت العمل ومكتبها المنثور فوقه الأوراق، وفي خضم لهفتها نسيت سترتها الخفيفة معلقة فوق كرسيها.

    كان الطريق كله فيلمًا تسجيليًّا للحظاتهما معًا، لأحاديثهما التي لا تنتهي، لمغامرات منى التي حرمها الله مما تتوق إليه المرأة، لكنه أعطاها كل ما يتوق إليه الإنسان، تلك المرأة المدهشة التي عاشت حياة مليئة بالتفاصيل، والتي يتطابق عمرها الحسابي مع عمرها الحقيقي.

    بعد ثلث ساعة كانت تجلس بجوارها في مكانهما المفضل في مطعم الفندق الأنيق الذي يقع في أرقى مناطق العاصمة الجديدة.

    - قال الأطباء إنني في مرحلة متأخرة من المرض وإن ما أمامي ليس بالكثير.

    انهارت نادية باكية، انكمش جسدها الضئيل البض ثم ارتخى. شعرت به يتحلل، هي الآن من تشعر بالموت يحاصرها من كل جانب وليست منى التي أخذت تربت على ظهرها محتضنة إياها. كانت ثابتة.. قوية كالجبل.. تملك وجهًا صافيًا متفائلًا رغم شحوبه. تنظر إليها نادية بعينين باكيتين وروح مهشمة، فتجد صورتها ترتسم أمامها. إنها لا ترى صديقتها. هي الآن ترى نفسها أمام نفسها. ارتعبت، وارتج جسدها. تاهت لثوان ثم عادت على ابتسامة صافية تربعت على وجه صديقتها التي تقترب من نهايتها!

    لم تتزوج منى ولم تنجب، لكنها عاشت. نجحت في أن تحيا سعيدة وسط أحياء أموات من صديقات وجارات ومعارف. يومها قالت لنادية إن ممارسة الحياة فن لا يعرفه الكثيرون، ثم أسرت إليها بأنها للأسف واحدة منهم رغم أنها على يقين من أنها في حالة صراع مميت لن ينجيها منه سوى أن تكون نفسها: «التمكن من حب الناس يبدأ بعد الوصول لحب النفس، وإن هذا لا علاقة له أبدًا بالأنانية والتمحور حول الذات، فالقليل من تدليل النفس لا يضر». أكدت لها أن صدق الرغبة فيما تريده والعمل عليه سوف يجعله يحدث، لكن إن لم يحدث، فلا يتوجب عليها الحزن، لأن القادم أفضل، طمأنتها على جثة زواجها المتحللة قائلة: «يحيي العظام وهي رميم»! ذكرتها بوصية أمها ونبهتها إلى أن علاجها في الكتابة التي ستكون بمثابة عالم جميل متخيَّل يعوضها عن أشياء كثيرة تفتقدها. قالت لها إنها سوف تغرق فيه وتنسى كل شيء، بل إنها سوف تندم على كل دقيقة من حياتها أضاعتها دون كتابة، وتنبأت لها بمستقبل واعد حتى وإن بدأت متأخرة: «أحلام يقظتك هي حيلتك للتغلب على قسوة الواقع، لكن الكتابة حيلة أقوى وأكثر فاعلية، لأن دورك فيها إيجابيٌّ وليس سلبيًّا». وأخيرًا أكدت لها مقولة إنها «بعد عشرين عامًا، سوف تندم على الأشياء التي لم تفعلها، وليس على الأشياء التي فعلتها».

    قالت لها إن الحياة اختيار، ومغامرة، ومقامرة، وشريك قوي عنيد. الاختيار مصير، ومن الشجاعة تحمله مهما كانت عواقبه.

    الحياة مغامرة، ليست بالضرورة أن تكون محسوبة، فكم من حسابات أثبتت فشلها! خوضي المغامرة من أوسع أبوابها وانتظري ما لا تتخيلينه من نفسك ومن الكون.

    الحياة مقامرة، ارمي النرد، ولا تبتئسي للخسارة، وكوني على يقين من أن المكسب حتمي، لكن كلٌّ بأوانه، فاستعدي لهذا الأوان.

    الحياة تحب القوي، فإن لم تكوني ندًّا لها، فستغلبك من أول جولة، وستخرِّين صريعة قبل أن تفتح لك أول صفحة من كتابها.

    «راضية أنا ومرحبة بالموت.. فعلت كل ما تراءى لي.. لم أؤجل رغبة أو حلمًا مهما كان مجنونًا. سددت فواتيري وفواتير آخرين، أسعدت بشرًا وأسعدني بشر، سامحت وشكرت الخائن والوضيع. لست خائفة من شيء، ولا نادمة على شيء».

    ***

    رحلة منى مع المرض كانت قصيرة، لم تعانِ كثيرًا، وكأن الله يكافئها على حياة لم تؤذِ فيها أحدًا. عاشت حرة كالفراشة، تطير هنا وهناك، تحل أينما تحب وترغب، خبيرة في استخراج الرحيق الذي يجعلها تستمر في مغامرة الحياة.

    هزها موت منى أكثر مما فعل موت أمها الكاتبة الجميلة التي لم تتمكن من جني ثمارها الإبداعية، بل أشعرها باليتم الحقيقي. كانت وحيدة بلا أشقَّاء، فقدت صديقةَ الدراسة الوحيدة بعد حادث زواج سريع، أصر زوج صديقتها على انتقاء أصدقائها، وافقت، وكان أن تم استبعادها من القائمة القصيرة التي بالطبع حوت الإناث فقط، بعدها وجدت منى، أو بالأحرى منى هي التي وجدتها، ذهبت إليها وتعرفت إليها، بعد أن استفزتها نادية برقتها وندرة حديثها في مدرَّج الكلية ووسط زملاء الدراسة. من يومها أصبحتَا أعز وأوفى صديقتين. حافظتا منذ تخرجهما على طقوسهما التي كان أهمها مكالمة تليفونية يومية، ونزهة أسبوعية على الأقل.

    هي الآن وحيدة تمامًا، نعم هناك ولداها اللذان يملآن حياتها، لكن ماذا عنها هي؟! لم تقوَ على احتمال وحشتها الداخلية. اكتشفت أن منى، بوجودها في حياتها، كانت ترتق، دون أن تعي، ثقب روحها بعد صدمتها في زواج دون زوج. فِعل الموت هذه المرة، قتل شيئًا ما بداخلها وأحيا آخر، لم تتعرف بدقة على ما حدث لها إلا أثناء تلك الرحلة، وتيقنت منه تمامًا بعدها.

    بعد أسبوع واحد على رحيل منى، كانت نادية في إجازة خارج القاهرة، وحيدة، عن عمد. إجازة سعت لها بعد الوفاة بيوم واحد، لا تعلم لمَ فعلت ذلك؟! كيف أقدمت على هذه الهدنة الاختيارية، هي التي كانت لا تتغيب عن العمل إلا لظروف قاهرة كمرض يلم بها أو بأحد ولديها. كانت تتنازل لماكينة العمل الضخمة التي لا تتوقف عن أيام عديدة من رصيدها الذي لا تمسه بسوء، فتترك بمحض إرادتها من رصيدها الثلاثيني عشرين يومًا وربما أكثر بعد أن تستهلك الثلث تقريبًا.

    هل بدأت في تطبيق ما أوصتها به منى؟!

    أيضًا لا تعلم لم اختارت «سيوة» تحديدًا لتذهب إليها. هل كان ذلك بدافع من كلمات صديقتها التي زارتها منذ سنوات قليلة وأتت لتحكي لها عن تلك الواحة، مبهورةً بطرق الاستشفاء بمياهها المعدنية وزيارتها لمعبد آمون ومقابر جبل الموتى؟ أم أنه السحر الذي ألقي عليها منذ أن قرأت رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر؟ هي أيضًا لا تعلم لم آثرت أن تذهب بحافلة بدلًا من أن تستقلَّ سيارتها، ولا تعرف لم كانت حقيبتها لا تحوي سوى القليل الضروريّ من الملابس! هي لا تعلم أي شيء سوى أن هناك سببًا خفيًّا يدفعها نحو مجهول ما.

    في الحافلة، حاصرها الأزواج من كل جانب، المقعدين الأماميين، والخلفيين والجانبيين، لتجد نفسها وحيدة إلى جوار مقعد فارغ من صاحبه، تذكرت زوجها الذي لم يكلف نفسه مشقّةَ السؤال عن السبب وراء إجازتها، ولم يؤرقه ذهابها إلى خارج القاهرة وحيدة! سمعت هسهسات أحاديثهم الجانبية التي تفضح نظرات العيون حميميتها، وتتذكر شريكها الذي حينما طالبته بتحمل جزء من مسئولية الولدين اللذين يكبران وتكبر معهما مشاكلهما، كانت إجابته: «اعتبريني ميتًا»! لأول مرة تتركهما وحيدين مع أبيهما. حينما تفكر في ذلك، تشعر بألم يعتصر قلبها.

    كانت قد حجزت بالفعل غرفة فردية في فندقٍ فخمٍ ودفعتْ مبلغًا ماليًّا تحت الحساب في إدارته التي تقع في القاهرة، لكن تغيرت الخطة، وتغير كل شيء، وتغيرت هي، بالضبط في تلك اللحظة التي هبط فيها من السماء ذلك الشاب الذي قرر أن يجلس إلى جوارها في الحافلة، كان لطيفًا، عذب الصوت، بدأ بتقديم نفسه إليها بجرأة وثقة، وجدته يقتحمها بنعومة، لم تشعر أنه متطفل يفرض نفسه على حيزها، كان مهذبًا، حديثه شيق، وروحه جميلة. يمتلك شركة تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، ويتحدث عدة لغات.

    - هذا ليس مقعدي. مقعدي في الخلف، أجلس دائمًا هناك، في الظل، والنور كله أمامي، مغرم بالتفاصيل الدقيقة، بملاحظة الناس وتصرفاتهم، وقد أغرمت بك من أول لحظة راقبتك فيها.

    تنظر إليه مليًّا وقد اعتلتْ ملامحها دهشة أخرستْ لسانها. تريد أن توقفه، وتريده أن يستمر!

    - لماذا كل هذا الحزن؟

    لا ترد، فيجيبها:

    - لا بأس.. دعيني أجيب بدلًا منك. أنت روح شفيفة طيبة، يؤثر فيها كل شيء. أعلم أن روحك تعاني رغم أنك شخصية ناجحة، لكنك قانعة بما قسمه الله لك.

    فغرت فاها وحدَّقت به، عجز لسانها أصبح معضلة كبرى تزيد من تكبيلها. تذكرت ذلك اليوم الذي اصطحبتها فيه منى لزيارة قبر والدها المتوفى، وبعد أن سكبتا معًا دموعًا تروي العطشى والمحرومين، وتأهبتا للعودة، كان الوقت قد مضى دون أن تشعرا به، أقبل الليل فجأة وكأنه في سباق عدوٍ يريد أن يحتل فيه المقعد الأمامي دون منافس، وعلى الرغم من وجود إنارة خفيفة هنا وهناك من لمبات صغيرة أوقدها حفَّارو القبور، فإن جسد منى كان يرتعش من الخوف، ويبدو أنها رأت شيئًا ما، فصرخت صرخة أفقدتها الوعي، لكن تلك الصرخة أتت بأحدهم، فساعد نادية على حملها ثم أوقف لهما سيارة وعادت نادية سالمة، لكن منى كان قد حدث بداخلها شيء عجيب! أصبحت ترى أحلامًا تتعلق بها وبغيرها، تتحقق كاملة بعدها بأيام أو أسابيع أو حتى سنوات. أحد ما، شيء ما، سكن أذنيها وأخذ يثرثر، يسكب فيهما أسرارًا لأشخاص تعرفهم، ويطلعها على ما يؤرقهم حاضرًا، وما سيحدث لهم مستقبلًا. تساءلت عن إمكانية أن يكون قد حدث لهذا الشاب ما حدث لمنى، وإلا فما تفسير ما يعلمه عنها، كأنه يراها عارية أمامه؟!

    - أيضًا سأجيبك عن السؤال الذي تعجزين حتى عن قوله. قراءة الناس تتأتى إما عن روح حرة يقظة، وإما بعد تجارب مضنية عديدة، وإما بقراءات في علم الفراسة وعلم النفس ولغة الجسد. وسأدع لك تخمنين ماذا أمتلك من الثلاثة.

    تستمر في حالة صمت حادة، مأخوذة بذلك الشاب الذي لم ترَ له مثيلًا، ها هي المديرة ذات الشأن الرفيع والذهن الصافي، اللبقة، التي يقولون عنها إنها بعشرة ألسن، تفقد النطق أمامه! شيء آخر جعلها تستسلم لتلك الحالة العجيبة، كانت تريده ألا يكف عن الكلام، أن يستفيض، أن يستمر في إبهارها، أن تظل في حالة دهشة أبدية يتوقف عندها الزمن ولا يحيد.

    أحس بها ولم يخذلها، ظل يتكلم، فتصير طفلة صغيرةً .. يتكلم، فتزداد إشراقًا.. يتكلم، فتشعر بشيء يتحرك بداخلها كجنين!

    عرض عليها تجربة ذلك النُّزُل البدائي المنعزل الذي لا يعرفه ولا يقدره سوى أشخاص قليلين جدًّا، حيث كل شيء مصنوع من الرمال والبوص والخشب والطوب اللبن، وحيث يصنع النزيل طعامه بنفسه، ويستحم بـ «كوز» حديدي. وحتى لا يدع لها مجالًا للتفكير، أخرج من حقيبته كاميرا ضخمة، متطورة، معقدة، وأخذ يعرض عليها صورًا للنُّزُل، كانت صورًا مبهرة، ناطقة، كل ما فيها يتنفس، يتحرك أمامها. رأت ذلك الفندق المقبب الرملي العجيب يفترش قلب الصحراء، يحفه الجبل من الخلف وكأنه يحتضنه، رأت ذلك الدَّرَج الضيق الصاعد ذي العتباتِ الصغيرة المصنوعة كيفما اتفق، على الجانب الأيمن يتربع قنديل جاز زجاجي، قاعدته من الحديد فوق درج، ثم بعده بثلاث درجات يقع آخر على الجانب الأيسر.. وهكذا، غرفة الطعام جدرانها من الزلط الصغير، الأرائك من الخشب، شموع أسطوانية كبيرة الحجم تحتل المناضد الخشبية وتنير المكان فتشعله سحرًا ورونقًا، وعلى جوانب الغرفة تنتصب شمعدانات طويلة من الخشب يحمل كل منها خمسة شموع صغيرة منيرة، أشجار النخيل في كل مكان، جزء لا يتجزأ من الديكور الداخلي، تُرِك كما هو دون أن يتم نحره. رأت نفسها داخل الصور، تتسلَّق الدَّرَج بتأنٍّ، يبهرها الضوء المنبعث من المصباح والمتراقص فوق جسدها، فيبرقُ ثم يخفت، رأت نفسها داخل الغرفة القائم سقفها فوق جذوع النخيل المثبتة بخيوط بنية غليظة خشنة الملمس، تجلس القرفصاء فوق بساط يدوي ذي ألوان زاهية مصنوع من صوف الماعز، يستلقي على الأرض ذات الألواح الخشبية مستعرضًا جماله وكأنه امرأة تحتفي بعريها ولا تحفل بأحد.

    يا ربي ما هذا المكان الذي يغريها كل سنتيمتر فيه بقبول التجربة. مكان بلا هواتف، بلا كهرباء، بلا مدنية، إنها البداية .. بكارة الطبيعة.. عري آدم وحواء.

    كان يستمتع بدهشتها المتزايدة مع كل صورة يريها إياها، ملامح وجهها تثيره إلى حد لا يصدقه

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1