Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الآنسة هيام
الآنسة هيام
الآنسة هيام
Ebook973 pages8 hours

الآنسة هيام

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

استطاعت هيام أن تشعل فيه النار التي تصور أنها انطفأت إلى الأبد، كيف حدث هذا في ساعة واحدة؟ إنه يحتقرها ويحبها، يلعنها ويعبدها، إنها الداء والدواء معًا، إنها مرض مزمن.. وهو يموت إذا أحبها، ويموت إذا كرهها.. ولكنه يفتقدها.. كل الشفاه الحلوة لم تعوضه رحيقها، كل واحدة من هؤلاء الفاتنات المليئات بالجاذبية لم تستطع أن تكون أكثر من امرأة واحدة.. لكن هيام.. وحدها.. هي امرأة العمر.. وكلما تصور أنها انتهت، بدأت من جديد.. كيف تتجدد هيام كأنها نتيجة حائط؟!
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2018
ISBN9789771455691
الآنسة هيام

Read more from مصطفي أمين

Related to الآنسة هيام

Related ebooks

Reviews for الآنسة هيام

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الآنسة هيام - مصطفي أمين

    الغلاف

    الآنسة هيام

    تأليف

    مصطفى أمين

    الآنسة هــيــام

    تأليف: مصطفى أمين

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 1-5569-14-977-978

    رقـــم الإيــــداع: 2017/27522

    طــبـعـة: يـنــايـــر 2018

    Section0003.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون : 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس : 33462576 02

    خدمة العملاء : 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    - 1 -

    تريد قبلة واحدة من شفتي؟ قبلة واحدة فقط! يا لك من شاب متواضع الأحلام محدود الرغبات، لا تعرف الطمع والجشع! أي القبلات تريد؟.. إن القبل أنواع وأشكال وأحجام، قبلة تسكر، وقبلة تفيق، قبلة تفقدك عقلك، وقبلة تفقدني عقلي، قبلة تزلزل قلبك فيتحطم كل شيء فيه، وقبلة تطفئ نار جهنم التي تضطرم في نفسى الظمأى للحب والحياة!!

    أتريد قبلة «أم» أطبعها على جبينك كأنها البلسم فيشفي الجروح؟ أتريد قبلة باردة كالتي يطبعها بعض الأزواج على خد زوجته قبل ذهابه إلى عمله؟ إنه يحس وهو يطبعها بنفس شعوره وهو يدفع ثمن تذكرة الأوتوبيس! ويتمنى في قرارة نفسه أنه يغافل «الكمساري» ويركب الأوتوبيس دون أن يدفع ثمن التذكرة الزهيد! كل الناس يكرهون الضرائب حتى ولو كانت على شفاه زوجاتهم، هذه القبلة التي يسمونها قبلة الجواز، لا نسبة للزواج، ولكن نسبة لجواز المرور، ليذهب الزوج إلى عمله، أو ليسهر مع أصدقائه، أو ليتأخر في العودة إلى البيت!!

    أتريد قبلة مصنوعة، لها شكل القبلة وليس فيها طعمها، كالورد الصناعي فيها لون الورد وشكله وليس لها رائحته وعبيره، ونشوته ورعشته؟ أتريد قبلة لله؟ إن المرأة تعطي أحيانًا قبلات لله، على سبيل الجود والإحسان، ولكنها قبلات ماسحة، أشبه بالقرش الماسح الذى لا تعرف كيف تصرفه فتعطيه لشحاذ وتحصل على دعوات بالمجان، ولكن المرأة لا تصنع القبلة. لابد من شفاه أربع ليشتعل الحريق في ذلك الهيكل المسحور! قبلة المرأة في مقاس شوق الرجل، إن حرارتهما واحدة، إن شفتي المرأة أحيانًا تشبهان «الترموس»، إذا وضعت فيه ماء باردًا بقي مثلجًا 24 ساعة ثم يفتر، ومن كثرة الاستعمال يفقد الترموس خاصيته، ويصبح الماء ماسخًا لا طعم فيه. لا هو بارد ترتعش منه الشفاه ولا هو ساخن يحرقهما بالنار، ما أشقى الذين يعيشون بغير أن يحرقهم اللهب، أو تجمدهم الثلوج! أي أنواع هذه القبلات تريد؟ هل تعجبك واحدة منها؟ إن عينيك تقولان.. إنك تريد قبلة واحدة من شفتي!

    يفتح الله يا سيدي! أنا لو أعطيت لا أعطي قبلة واحدة، أنا أبيع بالجملة، ولا أبيع بالقطاعي، أنت تقول إنك تريد قبلة واحدة مني وتموت، أنت غلطان في العنوان. إن قبلتي لا تجيء بالموت وإنما هي تبعث الحياة. القبلة عندي بداية وليست نهاية، إنها مفتاح قلبي. لا تظن أنني أبخل عليك بقطعة من حديد رخيص، إنك إذا دخلت قلبي فستجد نفسك في روحي وفي كياني وفي جسدي.

    لعلك تريد أن تذوق قبل أن تشتري، مثلك مثل الزبون الشاطر في محل بقالة. تريد أن تذوق الزيتون، ثم تذوق الجبن، ثم تذوق المخلل، ثم تذوق الحلاوة الطحينية، ثم تذوق البندق والجوز واللوز، ثم بعد ذلك تطلب بقرش واحد علبة كبريت! إن علبة الكبريت الصغيرة التي ستدفع فيها ملاليم لن تفقرك. ولكنها سوف تفلسني! ستحرق محل بقالتي كله.

    أنا لن أعطيك قبلة، إن قبلتي هي حياتي. من يرضى أن يدفع عمره كله ثمنًا لنشوة لا تعيش إلا لحظة؟ إنني قديمة في تجارة القبلات. خبيرة في هذا النوع من البقالة، رأيت قبلك زبائن كثيرين جاءوا وذاقوا ولم يشتروا شيئًا. كن صريحًا. قل ماذا تريد.. لا تتردد. لا تخجل. إن الخجل هو أحد الأصباغ التي تلون بها الحقيقة وجهها لتبدو فاتنة. كثير من خجل المرأة صنعته شركة تجميل ماكس فاكتور ولم يصنعه الحياء.. لا تقف كالصنم المؤدب.. تحرَّك.. إن المرأة مثلي تصمد أمام الرجل المؤدب، وتتهاوى أمام الرجل الوقح، تتنمر للراكعين أمامها وتذوب أمام الذي يصفعها على وجهها، إن القبلة يا بني مثل حقوق الشعوب تؤخذ ولا تعطى.

    إن شفاه المرأة مثل خزائن البنوك الضخمة التي يحفظون فيها الودائع الثمينة والمجوهرات الغالية، هذه الخزائن الحديدية تصمد أمام الطارق وتنفتح بلمسة سحرية، الخبراء بالنساء هم وحدهم الذين يعرفون الأرقام السرية التي تفتح خزائنها بسهولة، ولكن يبدو أنك لست خبيرًا بالمرأة، تجهل أسرار أبوابها المغلقة، هذا أول محل بقالة تدخله في حياتك، وتريد أن تجول فيه، إنك أخطأت العنوان أيها اللص الصغير، إن هذا أكبر محل بقالة يبيع القبلات في هذا البلد، إن اللص الصغير يجب أن يتعلم أولًا في محل بقالة صغير.. ما لي أرى الدموع في عينيك؟ هل آلمتك صراحتي؟ هل جرحتك جرأتي؟ إن الدم الذي ينزف من جرحك يثيرني، إن عينيك تتوسلان إلى عيني، إن شفتيك تبتهلان إلى شفتي.. أنت مصر أنك تريد قبلة واحدة؟ ماذا ستفعل بقبلة واحدة؟ إنها ستحرق شفتيك ولكنها ستحرق قلبي، ستدفئك دقائق، ولكنها ستجعلني أعيش عمري في ثلاجة الندم!

    أريد أن تبقى لشفتيك عذريتهما، لا أريد أن أفض بكارة هاتين الشفتين الطاهرتين بقبلتي الآثمة!

    قبلة واحدة أيها الفتى الصغير هي تذكرة سفر إلى عالم الخيال من غير أن تملك تذكرة العودة إلى الأرض.. ستبقى معلقًا طوال حياتك في خيط من الأحلام، إن قبلتي مثل مياه النيل من يذوقها مرة لابد أن يعود ليشرب منها مرة ثانية، ولكنك لن تذوق هذا الماء المقدس مرة واحدة، ستمضي حياتك عطشان في صحراء من الحرمان!

    كل هذه الأدلة والبراهين لم تقنعك.. ما زلت مصرًّا على أن تنال قبلة من شفتي.. ماذا جرى.. أرى الدموع تملأ عينيك، إن دموعك تسلمني إلى الجنون، لا تبك.. سأمنحك القبلة التي تريدها.. سأعطيك إياها.. ولكن دعني أحذرك أولًا.. أنذرك أولًا.. شفاهك ستبقى سكرانة كل عمرك.. لن تفيق أبدًا من هذه النشوة.. ستبقى طوال حياتك عطشان إلى هذه القبلة. سيكون طعم قبلات جميع النساء الأخريات علقمًا في شفتيك، ستحس بأن في كل قبلة أخرى مرارة إذا قارنتها بحلاوة الشهد في فمي، تعيش حياتك ضائعًا تائهًا حيران؛ لأنني وأنا أضع فمي على فمك سأعطيك زفيري وأسحب منك شهيقك.

    سأعطيك كل هوائي الفاسد وسأسلب منك كل هوائك النقي، ستبقى فيك أنفاسي ما دمت حيًّا، سأمنحك شعلة مقدسة تبقى تلتهب في روحك إلى نهاية العمر.

    سأدخلك الجنة لحظة.. لحظة واحدة، ثم ستبقى إلى الأبد في جهنم، إن الذين لم يروا الجنة ليسوا تعساء معذبين كالذين أمضوا فيها لحظة ثم خرجوا منها ولا يستطيعون العودة إليها.

    إنك مازلت بعد كل هذا مصرًّا على أنك تريد قبلة واحدة من شفتي؟ مصرًّا على أن تنال قبلة واحدة وتموت؛ إذن خذها.. وسوف تعيش.. سوف أموت أنا يا حبيبي.

    وتقدمت الغانية الفاجرة نحو الشاب الصغير البريء، وطوقته بذراعيها، وضمته إلى صدرها المرتعش، وطبعت على شفتيه قبلة حارة ملتهبة، طويلة.. طويلة، طويلة..

    وأغمض الشاب عينيه وترنح. وكأنه يسكر ويحلم في وقت واحد، في لحظة واحدة يعيش ويموت، أو يموت ويعيش!

    وأسدل الستار على الفصل الأخير من المسرحية الجديدة «قبلة.. للبيع» وساد صمت عميق.. لم ترتفع يد واحدة بتصفيق. لم يخرج صوت واحد بتحية، والتفتت الممثلة الأولى «هيام سعيد» ممثلة دور الغانية في ذعر إلى الممثل «أنور فتحي» الذي يقوم بدور الفتى البريء، وقالت في صوت خافت كالأنين: الرواية سقطت.. لم يصفق أحد، وفجأة سمعت «هيام» صوتًا كالرعد القاصف.

    كان المتفرجون عندما نزل الستار متسمرين في مقاعدهم، كأنهم منومون تنويمًا مغناطيسيًّا، كأنهم مسحورون بفعل ساحر جبار، خرست ألسنتهم فلم يهتفوا، وتجمدت أيديهم فلم يصفقوا، وشلت أقدامهم فلم يتحركوا فوق مقاعدهم، كأنهم سكروا وحلموا، وعاشوا وماتوا، مع قبلة «هيام سعيد» على شفتي «أنور فتحي».

    ثم فجأة استيقظ الحالمون، وبعث الموتى، وتحرك المشلولون ونطق البكم، ودوى مسرح الكورسال بتصفيق كالرعد وهتاف بحياة الممثلة «هيام».

    وفتح الستار من جديد.. وخرجت «هيام» للجماهير المجنونة بقوة أدائها وروعة تمثيلها، وفقد الوقورون سيطرتهم على وقارهم، وراحت الجموع تهتف هتافًا منغمًا واحدًا.. هيام.. هيام.. هيام...!

    ومسحت سيدات دموعهنّ بمناديلهن الحريرية، ورمى رجال طرابيشهم على الأرض، وألقى بعض أولاد البلد عمائمهم في الهواء.. وانحنت هيام للجماهير المشدوهة بها، ثم أسدل الستار من جديد.

    وعاد الصراخ من جديد، وتضاعف التصفيق، وراح المتفرجون يضربون الأرض بأقدامهم ويقولون بنغمة موسيقية: نريد هيام.. نريد هيام.. نريد هيام..

    فتح الستار من جديد، وقدمت هيام للجماهير زميلها أنور فتحي ثم قدمت جميع ممثلي الفرقة، ثم قدمت المخرج الأستاذ عزيز سليمان، ثم قدمت المؤلف الأستاذ جلال مدكور.

    ولكن الجماهير لم ترهم، كانت صورة هيام الجميلة تملأ كل عيونهم، كان صمتها يدوي في كل آذانهم، كانت قبلتها على شفاههم أجمعين.

    ثم أسدل الستار ورفع، وأسدل ورفع، ثماني مرات والمتفرجون لا يتحركون ماضين في تحية هيام في الليلة الأولى لمسرحية «قبلة للبيع».

    وبدأ عمال الصالة يطفئون الأنوار، وخرج المتفرجون يترنحون كالسكارى لا يتحدثون عن الرواية، وإنما يتحدثون عن الممثلة التي تتألق في كل دور مسرحي تقوم به، إنها تبدع في أدوار العاشقة، وكأنها أمضت حياتها كلها في الحب والهوى والعشق والغرام.

    قال المثال «محمود الجزار» عميد المثالين في مصر، وهو يرتدي معطفه ويلف الكوفية الصوف حول عنقه العجوز ليحميه من شتاء ديسمبر القارس، إنه ينوي أن يبدأ الليلة بنحت تمثال للممثلة هيام في هذا الدور، سوف يطلق على التمثال اسم «إلهة الحب».

    ووقف حافظ باشا منصور وزير الخارجية يساعد زوجته خديجة هانم في ارتداء معطف الفرو الفاخر الذي اشتراه لها هدية من باريس، لكي يلهيها به عن مراقبة نظراته الفاجرة التي يوزعها على النساء من رعايا جلالة الملك ورعايا الحكومات الصديقة والحكومات العدوة طبقًا لجمالهن، وليس طبقًا لحسن العلاقات بين البلدين، وكان الوزير يتحدث مع زميليه وزيري الزراعة والأشغال اللذين كانا ضيفيه في اللوج عن قبلة هيام، وقال إن تمثيلها يذكره بتمثيل الممثلة الفرنسية الخالدة سارة برنار في دور مرجريت جوتيه في مسرحية «غادة الكاميليا»، مع فارق واحد، هو أن سارة برنار كانت في الخمسين، وهيام في عمر الورد، إن هيام سكبت كل جاذبيتها في هذه القبلة النارية الملتهبة كأنها إكسير الحياة الذي يعيد الشباب للشيوخ، وقاطعته زوجته خديجة هانم في غيظ وقالت: إنك تأخرت يا باشا عن موعد نومك، ولا تنس أنك مريض بالذبحة والضغط وبالروماتيزم وبالتهاب المفاصل. وأحس حافظ باشا بأن زوجته تريد أن تذكره بأنه ليس في سن تسمح له بأشياء قبلة هيام، فأسرع يتحدث عن بعض أخطاء لاحظها في الإضاءة والمناظر والديكور، وأن صوت الملقن كان في بعض الأحيان أعلى من صوت الممثلين.

    وبدا على وجه خديجة هانم الرضا، وكأنها قطعت جثة الممثلة هيام إلى أجزاء صغيرة ووضعتها في زجاجات دواء زوجها الوزير العجوز.

    وبقي الأمير الشاب كمال الدين إبراهيم جالسًا في البنوار رقم «1» يمين ومعه سكرتيره الخاص، ينتظر حتى يخرج المتفرجون من المسرح، حتى لا تتكسر في الزحام بدلة الأمير أو تتكرمش، هذه البدلة التي لا تزال تبدو منتظمة ومهندمة كأنها خارجة من محل المكوجي، أو كأن السكرتير كان يحمل مكواة طوال عرض المسرحية يكوي بها بدلة الأمير فوق جسمه، حتى تبقى له أناقته التي يحرص عليها سموه حرصه على لقب الإمارة، وكان الأمير الشاب لا يزال يحملق إلى المسرح، وكأن الستار لم يسدل من بضع دقائق، وكأنه لا يزال يرى هيام في قبلتها الحارة التي ألهبت مشاعر المتفرجين.

    وفي البار الذي إلى يمين باب الخروج من الصالة خرجت الأصوات والضحكات مختلطة بدخان السجائر الكثيف، وكان معنى هذا أن عددًا من الصحفيين والأدباء والكتاب والنقاد قد اختلفوا إلى موائد البار يشربون كئوسًا من الويسكي أو شوبًا من البيرة ويتحدثون عن المسرحية التي دعوا لحضور حفل افتتاحها.

    وكانوا كلهم يلتفون حول الأستاذ عبدالمجيد حلمي صاحب مجلة المسرح، والناقد المسرحي المشهور، وكان أطولهم قامة، وأطولهم لسانًا وعرف بهجومه العنيف على يوسف وهبي، وسخريته من طريقته في التمثيل، واتهامه له بالدجل والتهويش، وكان الممثلون والممثلات يخشون قلمه، كان يكتب دائمًا بالخنجر لا بالقلم، ولهذا كان الدم الذي يريقه على الورق أكثر من الحبر الذي يكتب به الكلمات.

    وقال الأستاذ عبدالمجيد إن هيام لم تمثل القبلة، لأنها تعيش في قبلة دائمة! إنها تمرنت طول حياتها على طبع القبلات.. إنها أستاذة في هذا المضمار، فالقبلة التي رأيناها لا يمكن أن تكون قبلة الممثلة الوقور المحافظة التي لا تعرف الهوى والغرام، هذا الدور الذي تقوم به هيام في حياتها الخاصة وتريد أن توهمنا أنه دورها الحقيقي، وأنها لا تمثل، إنني لم أقتنع أبدًا بما يقال عنها من أنها عذراء المسرح، وأنها وهبت حياتها للفن. هذه دروس للتهويش والتدجيل تعلمها الممثلون والممثلات في مدرسة يوسف وهبي، إن ناقدًا مثلي أمضى عمره في المسرح يستطيع أن يفرق بين القبلة الحقيقية والقبلة المزيفة، إن قبلة هيام الليلة فضحتها، إنها عرتها تمامًا، إن هيام في رأيي هي دكتور جيكل ومستر هايد، لها شخصيتان: سيدة محترمة وغانية، راهبة الفن وفاجرة الفن في الوقت نفسه، إنها نجحت فى خداع الناس لأنها امرأة كتوم، تعرف كيف تخفي أسرارها عن عيون الفضوليين بألسنتهم الثرثارة، ولهذا فهي دائمًا تحاول أن تقنعنا نحن النقاد بأنه ليست لها حياة خاصة.. وأنها وهبت نفسها للفن، وأنها عذراء، وبعض السذج منكم صدقوا هذا الكلام الفارغ، ولكن الجريمة المثلى لا وجود لها. أعظم مجرم في العالم مهما احتاط ليضلل البوليس فإنه سيترك أثرًا.. وهذه القبلة التي رأيناها الليلة هي الدليل القاطع على أن هيام كانت تضللكم وتخدعكم وتسخر منكم جميعًا.

    وتلفت الصحفيون والنقاد والأدباء إلى الأستاذ محمد القاضي رئيس تحرير مجلة «أنوار المدينة» الذي طالما أشاد بهيام، ونشر صورتها وتنبأ لها بالمجد الذي وصلت إليه، حتى إن بعض الصحفيين طوال اللسان كانوا يطلقون عليه «الناقد الملاكي للممثلة هيام» وتوقعوا أن ينبري للدفاع عن هيام كعادته ولكنهم فوجئوا به يعلن الثورة على إلهة الفن التي عبدها، ويحطم على رأسها المعبد الذي كان كبيرًا للكهنة، فيه، وقال الأستاذ القاضي إنه لا يعتقد أن هذه القبلة تمثيل، إنها قبلة حقيقية، لا يمكن أن يكون الذي رأيناه الليلة تقمصًا في شخصية أو اندماجًا في دور مسرحي، إنه أكثر من هذا، إنه حب حقيقي.. هوى مبرح.. غرام ملتهب.. إن هيام تحب أنور.. الملكة تحب الصعلوك، تحب عبدها، إن أنور بدا بين ذراعيها وكأنه بلا حراك، كأنه فقد النطق، وهذا ما يحدث للعبد عندما يذوق للمرة الأولى الرحيق الحقيقي من شفتي الملكة التي تملكه!.. إن هيام كانت قبل هذه الليلة قديسة فعلًا.. ملاكًا فعلًا.. عذراء المسرح فعلًا.. راهبة الفن فعلًا.. ولكنها الليلة فقط في رأيي نجحت كممثلة عظيمة.. وسقطت كامرأة..

    وتهامس الصحفيون الصغار الواقفون.. تهامسوا أن قبلة هيام الليلة تغيظ فعلًا.. تغيظ كل من أحبها، إن هذه القبلة أثارت غيرة الناقد الملاكي للممثلة هيام فلم يتردد أن يرفع راية الثورة والعصيان في وجه هذه الخيانة العلنية.

    ولكن أحدًا من النقاد الكبار لم يسمع همسات النقاد الصغار، فقد كانوا مشغولين في ملء أقداحهم التي فرغت بالويسكي من جديد.

    وتدخل الأستاذ محمد علي المحرر الفني لجريدة «البيان» في الحديث، إنه اشتهر بنقده الموضوعي، وأسلوبه الجاد في تحليل المسرحيات، وهوعندما يكتب يقيس كلماته بالمسطرة، فلا يعطى ممثلًا ثناء أكثر مما يستحق، ولا يحرم ممثلة ناشئة ناجحة من نفس المساحة التي تحتلها ممثلة كبيرة فشلت في دورها. وكان إذا تكلم يبدو كقاض يصدر أحكامًا لا تقبل النقض والإبرام، ولهذا كان يلقى الاحترام من قرائه وزملائه.

    قال الأستاذ محمد علي وهو يمسح نظارته بتؤدة ويعيدها إلى أنفه: إن هيام تفوقت على نفسها، إنها تخدعنا في كل دور تقوم به، عندما رأيناها في دور العاشقة الصغيرة في مسرحية «سنة أولى حب» قلنا إنها تشكو من الكبت، وتتعذب من الحرمان، ويشقيها الجوع للرجال، وإنها مراهقة في سن الثلاثين، وعندما رأيناها في دور الزوجة المهجورة في مسرحية «الدموع... أنا» خرجنا نؤكد أنها لابد قد صدمت في حب عنيف، وأن الحب حطمها وحولها إلى حفنة من رماد، وعندما شاهدنا مسرحية «الجائعة» وقامت فيها هيام بدور عانس. فاتها سن الزواج، ولم تذق طعم الحب، قلنا إن سبب نجاح هيام في هذا الدور أنها تقوم بدورها الحقيقي في الحياة، وأنها عانس فعلًا بسبب العزلة التي فرضتها على نفسها، وأنها كانت تندب حظها، لا تبكي فقط بطلة دور الجائعة.. تبكي شبابها الضائع.. تلعن رجال الدنيا جميعًا الذين جبنوا، ولم يفكر واحد منهم أن يحطم هالة القداسة التي تحيط بها ويغتصبها، فالذي يحدث دائمًا أن هيام تتقمص كل دور تقوم به، وتجعلنا نتصور بسذاجة أن كلمات المسرحية هي كلماتها هي.. أنها تنسينا بروعة أدائها، أنها تمثل، إننا نسقط في كل مرة في الفخ الذي تنصبه لنا نحن النقاد «الفيران» الذين ندخل في مصيدة تمثيلها الرائع.

    ونحن داخل المصيدة نبحث ونناقش ونتشاجر في تطبيق دورها على المسرح على حياتها الخاصة، ونبقى في داخل هذه المصيدة، إلى أن تمثل دورًا جديدًا فتفتح لنا باب مصيدة جديدة ندخل فيها.. إننا بدلًا من أن نخرج من صالة المسرح بعد انتهاء الرواية نجدها حملتنا إلى خشبة المسرح بغير إرادتنا ووزعت علينا أدوارًا تريدنا أن نمثلها، وجعلتنا أشخاصًا في مسرحيتها، ووضعت على ألسنتنا العبارات التي تريدنا أن نقولها، ومناقشاتنا وخلافاتنا وتفسيرنا هو الضجة التي تريدها هيام.. هي الطبول التي تدق إعلانًا لمقدم الغازي المنتصر، وبعضنا يتصور أن هذه الطبول تزعجها، ولكن المسرحية لا تنجح في بلادنا إذا مدحها كل النقاد، وإنما يتزايد الإقبال عليها كلما اختلف الكتاب في شأنها.. إن قوة هيام هي أنها تسيطر على المتفرج، تجذبه من مقعده في الصالة، ترفعه وتضعه بجوارها على المسرح، وتوهمه بأنها توجه الكلام إليه هو، إذا همست ففي أذنيه، وإذا اتجهت فإلى عينيه، وإذا ابتسمت فإن الابتسامة له وحده، وعندما تنتهي المسرحية ويسدل الستار وتطفأ الأنوار وتنصرف هيام إلى بيتها، يبقى المتفرج المسكين مربوطًا على المسرح بلا حراك.

    شجع حديث الأستاذ محمد علي الجاد تردد الأستاذ يونس توفيق المحرر الفني لجريدة «السياسة الأسبوعية»، إنه شاب خجول درس الفلسفة، وقرأ في الأدب وحاول أن يرفع مستوى النقد إلى أيامه الذهبية عندما كان عباس العقاد يكتب عن أغاني سيد درويش، ومصطفى عبدالرازق يصف غناء أم كلثوم، وتوفيق دياب ينقد روايات مسرح رمسيس، وطه حسين يشرح الروايات الفرنسية التي تمثل على مسرح الأوبرا.

    قال الأستاذ يونس إنه يشك في أن تكون بين الممثلة العظيمة هيام والممثل الناشئ أنور فتحي علاقة غرام، إن المرأة القوية تعشق رجلًا أقوى منها وتتزوج رجلًا أضعف منها، إن نيتشه يقول: «عندما تذهب إلى النساء خذ سوطك معك»، وماذا يفعل شاب ضعيف صغير مثل أنور وهو يرى أن في يدي هيام لا سوطًا واحدًا دائمًا أو سوطين.. في عينيها سوطان.. في شفتيها سوطان... في أنوثتها عدة كرابيج.. ماذا يستطيع شاب أعزل أن يفعل في مثل هذه المعركة، إن لقاء شخصين متناقضين كهيام وأنور كلقاء النار والماء، لقاء غازٍ فاتح بأسير مهزوم، مثل هذا اللقاء سيكون «علقة ساخنة» أكثر منه موعد غرام ساخنًا...

    أطل الأستاذ عز الدين شكشك بقامته القصيرة وقد شب على قدميه ليستطيع المحررون طوال القامة أن يروه، والأستاذ شكشك هو صاحب مجلة «الوطواط» وهي مجلة فنية ضعيفة الانتشار يستعملها باعة اللب والفول السوداني للف القراطيس أكثر مما يستعملها القراء للقراءة، ولكن الأستاذ عز الدين شكشك اشتهر بتخصصه في جمع فضائح وأسرار الممثلات والممثلين في شارع عماد الدين الذي كان في تلك الأيام شارع المسارح والملاهي ودور السينما والمراقص والكباريهات، وكان الصحفيون يختلفون في تسميته، بعضهم يسميه «الأستاذ عز الدين بالوعة شارع عماد الدين» لأن كل المياه القذرة في شارع الفن تصب فيه، وكان آخرون يسمونه «صندوق زبالة شارع عماد الدين». وكان غيرهم يطلق على الأستاذ عز الدين شكشك اللقبين معًا.. وكان الأستاذ شكشك إذا دخل مكانًا فيه صحفيون وكتاب أسرعوا ووضعوا أيديهم على أفواههم وأنوفهم يسدونها، فقد كان أشبه بمجرور يمشى على قدمين، تفوح منه روائح كريهة غريبة، إما لأنه لا يستحم أبدًا، ويخاصم الصابون خصامه لكل شيء نظيف، وإما لكثرة الفضائح التي يحملها في جيوبه وعلى لسانه.

    ولم يكن الصحفيون يخفون هذه الحركة عن الأستاذ شكشك، ومع الأيام أصبحت تحيته الرسمية فما يكاد يقول: السلام عليكم، حتى يسرع الجالسون ويضعون أيديهم على أنوفهم، وكأنهم يقولون: له وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

    قال الأستاذ شكشك إن ما يقوله الأستاذ يونس توفيق المحرر الفني لجريدة السياسة الأسبوعية عن رأي نيتشه في الممثلة هيام كلام فارغ، إن نيتشه لم يعش في شارع عماد الدين، ولو جاء إلى شارع عماد الدين لكانت مجلة «الوطواط» أول من عرف بوصوله.

    وضحك الجالسون لجهل الأستاذ عز الدين شكشك، ورفضوا أن يقولوا له إن نيتشه فيلسوف ألماني مات قبل أن تولد مجلة «الوطواط» والأستاذ شكشك بسنوات طويلة.

    ومضى عز الدين شكشك يفتي باعتباره مالك الوحيد في المدينة، مدينة الفضائح والأسرار، وقال إن كل ممثلة لها طريقة خاصة لتندمج في دورها، وإن ممثلة كبيرة ذكر اسمها كانت تصر قبل أن تقوم بدورها الأول في مسرح رمسيس أن يحضر يوسف وهبي إلى غرفتها ويمضي بين ذراعيها ربع ساعة لتهيأ نفسيًّا للاندماج في دورها، فإذا لم يذهب يوسف وهبي إلى غرفتها ويقم بهذه المهمة امتنعت عن الظهور على المسرح وادعت أنها مريضة، وكان يوسف وهبي يضطر أن يقوم بهذه العملية على مضض إنقاذًا للمسرحية التي كانت هذه الممثلة تقوم بالدور الأول فيها وتحمل المسرحية كلها على كتفيها... وإن ممثلة أخرى كانت لا تستطيع أن تندمج في التمثيل إلا إذا ضربها عشيقها علقة قبل رفع الستار. وإن الراقصة المشهورة فلانة كانت لا تستطيع أن تظهر على المسرح إلا وهي مخمورة، فإذا لم تجد زجاجة الويسكي بكت وأبت أن تخلع ملابسها وتظهر على المسرح وقالت: أنا بنت ناس، ولا يمكن أن ترى الجماهير الغريبة فخذي العاريتين أو صدري المكشوف...

    والممثلة المشهورة هيام لها هواية إبدال الرجال، إنها تغير الرجال كما تغير جواربها، وعندما تخلع الجورب من قدميها تضع في هذه القدم رجلًا، وفي الصباح تخلع الرجل وترميه، وترتدي جوربًا نظيفًا.

    وأضاف الأستاذ شكشك أن عصفورة مجلة «الوطواط» التي تجيء له بالأسرار والأخبار أكدت له أن الممثل أنور فتحي سيمضي هذه الليلة بين ذراعي الممثلة هيام - وأن العصفورة تؤكد أن الليلة ستكون حمراء، يرقص فيها الشيطان عاريًا حتى الصباح.

    وبحركة مسرحية أخرج الأستاذ عز الدين شكشك جنيهًا من جيبه وقال بحركة مسرحية: من منكم يراهنني بجنيه في مقابل جنيه أن أنور فتحي سيكون بعد نصف ساعة بالضبط في غرفة نوم هيام؟

    ولكن أحدًا من الصحفيين الواقفين لم يقبل الدخول في رهان معه، لأنهم يعرفون أن الأستاذ شكشك لا يدفع الرهان الذي يخسره، ولأنهم يعرفون أن عصفورة مجلة «الوطواط» لا تتحرك من رأس شكشك، ولا تعرف ما يجري في غرف النوم، لأن هذه العصفورة كانت وشمًا في جبهته، جاء به من قريته ثم أزاله بالكي بالنار عندما أصبحت العصفورة نكتة على شفاه الممثلين والممثلات ونقل العصفورة إلى صفحات مجلة «الوطواط» وهم يعلمون أنه يحقد على كل ممثلات مصر منذ أن تطلقت منه زوجته الراقصة امتثال، وفضحته في كل الوسط الفني وأطلقت عليه لقب الأستاذ شكشك أغا، ومن أجل ذلك أصبح الأستاذ شكشك أغا يتخيل دائمًا فضائح موهومة وأحداثًا لم تحدث ولكنها تجري في غرف نوم الممثلات وتصفها مجلة «الوطواط» وصفًا فاضحًا مثيرًا يصدقه السذج الذين يشترون القصص الرخيصة التي تباع في ميدان العتبة الخضراء، عن المرأة التي أكلت ذراع زوجها، والرجل الذي تزوج 180 امرأة ولا يزال يبحث عن عروسة جديدة ويأكل 48 رغيفًا في الطقة الواحدة.

    وتجاهل الأدباء والصحفيون أسرار الأستاذ شكشك، وانصرفوا عنه ومضوا يتحدثون عن القبلة التي طبعتها هيام على شفتي أنور فتحي، إن هذه القبلة لا تزال في خيالهم، لا يزالون يعيشون في حرارتها، لا تزال في شفاههم بقية من حلاوتها.

    وأقبل الأستاذ عبدالحميد الشريف صاحب جريدة «أنباء الصباح» اليومية الواسعة الانتشار، وحياهم واحدًا واحدًا وطلب لكل واحد منهم كأسًا من الويسكى على حسابه الخاص، وبعد أن تأكد أن كل واحد منهم تناول كأسه قال لهم باسمًا: لا تنسوا أن تكتبوا أن الممثلة نيللي كانت رائعة.

    وابتسم الصحفيون والنقاد أدبًا، لأنهم يعرفون أن الممثلة الصغيرة نيللي هي العشيقة الجديدة للأستاذ الكبير، وأنه فرضها بنفوذه فرضًا على الأستاذ عزيز سليمان مخرج الرواية، وأنه أراد أن يخلق منها ممثلة كبيرة ولكن كل نفوذ جريدة «أنباء الصباح» وكل الصور التي نشرتها لنيللي وكل الحكم والأفكار العبثوية التي وضعتها الجريدة على لسانها، لم تستطع أن تشق لها طريق النجاح، إن الصحف الكبيرة مثل كاسحات البولدوزر الضخمة التي تحطم الصخور وتفتح الطرق في الجبال، ولكنها تعجز أن تشق الطريق لفنان، إن طريق الفنان يشق بأظافره هو في الصخر ويرش بالعرق الذي يتطاير منه. ويرصف بالدم الذي يبذله، ويضاء بأعصاب الفنان المحترقة جهدًا وعملًا وتفانيًا واستمرارًا.

    كانت الممثلة الصغيرة نيللي فتاة جميلة، ولكن بغير روح، كل جزء من جسمها رائع وجذاب ومثير، ولكنك تشعر أن شيئًا ما ينقصها، وكأنها جهاز تدفئة انقطع عنه تيار الكهرباء. ولقد كان دورها في مسرحية «قبلة للبيع» دور خادمة تفتح الباب في الفصل الثاني للممثلة الكبيرة «هيام» وتقول لها كلمتين اثنتين لا ثالث لهما «أهلًا وسهلًا» ولكن مع قصر دورها، تلعثمت نيللي وهي تنطق بالكلمتين، وتصور الجمهور أن دورها دور خادمة تتلعثم في الحديث فضج بالضحك.

    وقال الأستاذ عبدالمجيد حلمي صاحب مجلة «المسرح» مداعبًا: إن كأسًا من الويسكي لا يكفي ليكتب عن نيللي في نقده للمسرحية، وإن المسألة محتاجة إلى صندوق من الويسكي.

    وضحك الصحفيون والنقاد، ولكن الأستاذ عبدالحميد الشريف صاحب جريدة «أنباء الصباح» لم يضحك للدعابة، ولعله تضايق أن كأس الويسكي الذي قدم على حسابه للنقاد لم يفقدهم الوعي تمامًا.. ومضى يقول:

    إن عيب الممثلة هيام أنها غول، إنها تبلع كل ممثل وممثلة يقف أمامها على المسرح، إنها تتعمد أن تسرق «الكاميرا» حتى لا تظهر إلى جوارها ممثلة أخرى. حتى يبدو للجميع أنهم أقزام أمام عملاق جبار. إن المسرح لن يتقدم أبدًا إذا استولت ممثلة واحدة على كل الأدوار الأولى، تحتكر وحدها كل الأنوار وتترك لزملائها الظلال والظلام، هذا هو الاحتكار الذي تحاربه جريدة «أنباء الصباح». ستقولون إن الجمهور يريد هذا. يقبل على الروايات التي تظهر فيها «هيام» ويضرب عن حضور المسرحيات التي ليس لهيام دور فيها، يجب أن نعلم الجمهور أن يوزع المجد بين الناس.

    وقاطعه الأستاذ يونس وقال: وما رأيك لو طبقنا هذه القاعدة على كل شيء وقسمنا توزيع جريدة «أنباء الصباح» مناصفة بينك وبين مجلة «الوطواط»؟

    وضجّ النقاد بالضحك العالي، وفي ضوضاء الضحك همس الأستاذ عبدالمجيد حلمي صاحب مجلة «المسرح» وقال: أو يقتسم النقاد الآنسة «نيللي» ويأخذها كل واحد منهم ليلة. وبذلك تعطي المثل في وجوب القضاء على الاحتكار.. وسمع الأستاذ عبدالحميد الشريف القفشتين، تظاهر أنه لم يسمعهما ومضى يقول:

    إن العمل المسرحي الناجح هو عمل فريق بأكمله، تمامًا مثل مباراة كرة القدم، فإذا بقيت الكرة طوال المباراة في قدم لاعب واحد، هو وحده الذي يحاور، وهو وحده الذي يصيب الهدف، فإن المباراة تصبح مملة.. ما ذنب الممثل الصغير أنور فتحي الذي لم يذكره كاتب بكلمة واحدة، كأنه لم يقف أمام الجمهور على المسرح ثلاث ساعات كاملة، وكأنه لم يشترك في حمل المسرحية على كفيه تمامًا كما فعلت «هيام» أخذت هيام كل التصفيق وكل الأضواء وكل الهتاف ولكن ماذا أخذ أنور فتحي؟

    وتكلم الأستاذ محمد القاضي رئيس تحرير مجلة «أنوار المدينة» وكأن ثعبانًا لدغه وقال: ماذا أخذ أنور فتحي.. أخذ كل شيء.. أخذ قبلة ليس لها مثيل.. قبلة تساوي كل هتاف الدنيا من تصفيق وهتاف وأنوار.. ولكنه لوح.. لوح ثلج.. إنني لاحظت عندما وضعت هيام شفتيها على شفتي أنور أنه ذاب فجأة.. تلاشى، تحول إلى تمثال لا روح فيه ولا حياة.

    كان المفروض في قبلة هائلة كهذه أن تحول تمثال الرخام إلى لحم ودم، أن تدب فيه الحياة، أن تظهر عليه آثار النشوة... كما حدث للمثال «بيجماليون» في الأسطورة اليونانية عندما قبل التمثال الذي صنعه في عين الإلهة «فينوس» ولكن كل هذه التأثيرات والتعبيرات لم تظهر على وجه أنور، إنه تجمد.. تصلب.. تحول إلى تمثال من جرانيت... لو أن هيام بصقت عليه، لفعلت فيه أكثر مما فعلت بقبلتها.. إنني في دهشة أن تحب امرأة أشبه بالفرن المشتعل لوحًا من الثلج.

    وأحس الأستاذ عز الدين شكشك أن المناقشة عادت إلى اختصاصه وهي المسائل الشخصية والعلاقة الغرامية بين هيام وأنور فتحي، فعاد يشب على قدميه ويقول: لا تظلم أنور فتحي يا أستاذ قاضي، إن أنور يحتفظ بالحرارة للساعة التي يدخل فيها غرفة نوم هيام، ولا تطلبوا منه أن يفرغ كل حرارته على المسرح، فإذا ذهب إلى غرفة نومها ارتمى بجوار هيام مرهقًا وراح في سبات عميق.. يا بختك يا أستاذ أنور.. الليلة ستفتح لك طاقة ليلة القدر.. أليس كذلك يا أستاذ كمال مفيد؟.

    وتنبه النقاد والصحفيون لأول مرة أن بينهم الأستاذ كمال مفيد نائب رئيس تحرير جريدة «أنباء الصباح»، لم يعرفوا هل دخل إلى البار فى هذه اللحظة أو كان معهم منذ بداية الحوار أو لعله دخل مع الأستاذ عبدالحميد الشريف صاحب الجريدة التي يعمل بها؟.

    وتنبه الأستاذ كمال مفيد عندما سمع اسمه يردده صاحب مجلة «الوطواط»، أفاق فجأة مذعورًا وكأن بعوضة لدغته وأيقظته من حلم لذيذ، وضج الصحفيون والنقاد بالضحك فقد عرفوا أن كمال مفيد كان غائبًا عنهم طوال الحديث، كان سارحًا في عالم آخر غير عالمهم، ولم يفهم كمال مفيد سر ضحكهم، والتفت إليهم في خجل وحيرة: أريد أن أسمع النكتة مرة أخرى..

    قال الأستاذ محمد القاضي رئيس تحرير «أضواء المدينة»: إننا لم نكن نقول نكتة، كنا نتحدث عن مأساة.. كنا نتحدث في موضوع قبلة هيام. نحن نعرف أن الحديث عن الممثلات والممثلين بالنسبة إليك هو حديث باللغة الصينية التي لا تفهمها، أراهن أنك كنت الآن سارحًا في الخلاف بين الوفديين وحزب الأحرار الدستوريين وفيمن سيؤلف الوزارة الجديدة، وصمت الأستاذ كمال مفيد ولم يقل شيئًا.

    وقال الأستاذ عبدالحميد الشريف صاحب جريدة «أنباء الصباح» وكأنه يخف إلى نجدة مرءوسه كمال مفيد الذي فقد النطق: الواقع أنني قبضت الليلة على كمال في مكتبه بالجريدة، وجئت به مقبوضًا عليه إلى المسرح، وهو يقاوم ويحتج ويقول إن المسرح الوحيد الذي يهمه هو المسرح السياسي، ولكن جئت به ليشاهد المسرحية الجديدة ويرى نيللي، وفي نهاية المسرحية سألت كمال: هل رأيت نيللي؟ فأجابني كمال: نيللي.. لا... إنها لم تحضر اليوم إلى دار الجريدة.. قلت له: إنني لا أسألك عن الجريدة، لقد كانت الليلة واقفة على المسرح، ولكن كمال قال إنه لم يرها إطلاقًا..

    وضحك الأستاذ عبدالمجيد حلمي صاحب مجلة «المسرح» وقال: لقد كان دور نيللي صغيرًا جدًّا، ومن الممكن ألا يلاحظ كمال وجودها على المسرح، ولكن أقسم لك لو سألت كمال: هل رأيت هيام ممثلة الدور الأول؟ لقال لك إنه لم يرها أيضًا.. إن كمال مشغول بالتياترو السياسي، نجومهم هم رؤساء الوزارات والوزراء، تغيير المناظر عنده هو تغيير الوزارات، أدوار الممثلين هي تصريحات الساسة وأحاديث المسئولين، ولو سألته عن يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء في ثورة سنة 1919، ولو سألته عن رأيه في قبلة هيام لاكتشفت أنه لا يعرف شيئًا عن القبلات، لأن رجال السياسة عندنا لا يقبلون بعضهم، وإنما يستبدلون قبلات الشفاه بالخناجر تغمد وراء الظهور.

    وسكت الأستاذ كمال مفيد ولم يرد بكلمة على هذه الدعابات، وكأنهم يتحدثون عن رجل لا يعرفه، وعن مسرحية لم يحضرها، وعن ممثلة لم يسمع باسمها.

    ولو تكلم الأستاذ كمال لأفاقوا جميعًا من سكرهم، لقال لهم إنهم سوف يفاجئون في اليوم التالي عندما يقرءون الزاوية التي يكتب فيها يوميًّا في جريدة «أنباء الصباح».. لن يجد القراء فيها المقال السياسي الذي تعودوه عن الخلاف في الوزارة، وتدخل المندوب السامي البريطاني في الشئون الداخلية للحكومة المصرية، ولا عن الأزمة بين وزير المالية ورئيس الوزراء، وإنما سيجدونه قد كتب عن الممثلة «هيام» وأنه بدأ مقاله بقوله:

    «كان صوتها وهي تمثل كأنها أم كلثوم تغني، كان لنبراتها موسيقى كأعذب ألحان عبدالوهاب، وصفقت لها الجماهير وكأنها تصفق للزعيم سعد زغلول بعد خطاب من خطبه التاريخية التي تهز المنابر وتحرك الملايين، وعندما خرج الناس من المسرح كان في شفة كل واحد منهم بقية من رحيق شفتي هيام كأنها قبلت كل واحد من هذه المئات التي غص بها مسرح الكورسال، قبلته في شفتيه قبلة لا يمكن أن ينساها، لأن طعمها سيبقى حارًّا في شفاهنا ما بقيت أنفاسنا حارة في أجسادنا».

    لم يقل الأستاذ كمال مفيد شيئًا من هذا للصحفيين والنقاد الذين يتصورون أنه كان غافلًا طوال المسرحية، وجذب نفسًا من السيجارة، وألقاها على الأرض، وداسها بقدمه، وكأنه يدوس الأفكار الصبيانية التي جالت بخاطر زملائه من النقاد والصحفيين.

    وخرج النقاد والكتاب والصحفيون من بار مسرح الكورسال، فرادى وجماعات ولا تزال على شفاههم بقية من رحيق قبلة هيام، وفي قلوبهم بعض من حرارتها، وفي رءوسهم سؤال غرسه فيها صاحب مجلة «الوطواط».

    ترى ماذا تفعل الليلة هيام.. صاحبة القبلة التي سيطرت على أحاديثهم وأفكارهم طوال الليل.. وستبقى مع أحلامهم إلى الصباح؟.

    - 2 -

    فتحت هيام ذراعيها وكأنها تعانق الصباح، وفتحت نصف رموش عينيها فرأت شعاعًا رفيعًا من الضوء الأبيض يطل من وراء فتحة الستائر الوردية المسدلة على نوافذ غرفة نومها.

    إن كل شيء في لون الورد في غرفتها، السجادة العجمية، والأثاث المصنوع من خشب الورد، وثوب نومها الوردي الشفاف الذي يكشف عن تقاطيع جسدها العاجي.

    ملاءة الفراش بلون الورد، حتى عمر هيام هو عمر الوردة التي تفتحت لتساهم في صنع جمال الحياة.

    ثم انقلبت هيام على بطنها وأخفت رأسها في الوسادة وكأنها تختبئ من ضوء الصباح، أو كأنها لم تشبع بعد من النوم، ثم عادت وانقلبت على ظهرها وتثاءبت، وفتحت ذراعيها تتمطى، وبينما هي تحرك ذراعيها لمست الذراع جسم الراقد بجوارها في الفراش، وأحست كأنها مست تيارًا كهربائيًّا، فانتفضت ورفعت رأسها من المخدة، ونظرت إلى الراقد بجوارها وهو يحملق بعينيه السوداوين الواسعتين في جسدها البض الذي لا يخفيه قميص النوم الوردي الشفاف، بل يكشف عن مفاتن جسمها وتفاصيله وخفاياه.

    وقالت هيام وهي نصف متيقظة ونصف حالمة وهي تتحسس الشعر الأسود في جسم الراقد بجوارها، كأنها تريد أن تطمئن إلى أن هذا الشعر الذي طالما أحبت ملمسه لم يحترق أثناء الليل من لهيب النار، هل استيقظت قبلي يا حبيبي؟ ظننت أنك مازلت نائمًا، ترى هل حلمت بي؟ أم اكتفيت بأنك أمضيت الليل بجواري في فراش الأحلام؟ أنت كنت نائمًا عندما قدمت من المسرح، دخلت على أطراف قدمي عندما عدت ليلة أمس حتى لا أوقظك من أحلامك السعيدة، وكنت أود أن أوقظك لأقص عليك أنباء المجد الذي صنعته، التصفيق الذي هز المسرح وكاد يسقط سقفه وجدرانه، الهتاف الذي لم يسبق له مثيل، المظاهرة التي أقامها لي المتفرجون عندما خرجت من باب المسرح لأستقل سيارتي وأعود إليك، ولكنك كنت نائمًا يا حبيبي، أشفقت عليك أن أوقظك، وعندما خلعت ملابسي وغسلت وجهي من بقايا المكياج رقدت بجوارك، واحتضنتك وقبلتك في شفتيك، قبلة أحلى وأطول وأشهى من القبلة التي ألهبت خيال الجماهير ليلة أمس، هذه القبلة التي أفقدتهم عقولهم لم توقظك من النوم، إنك أيها الحبيب القاسي لم تتحرك.

    فتحت نصف عينيك ثم أغلقتهما، واستأنفت نومك من جديد، كأنك تريد أن تطمئن إلى أن الشفاه التي قبلتك هي شفاه هيام، وليست شفتي امرأة أخرى تنافس في هواك.. آه لو عرف الناس أنك تعاملني هذه المعاملة القاسية. تنام وتتركني ساهرة أقبلك فتدير وجهك، أغمرك بقبلاتي الساخنة الحارة الملتهبة فتمضي في النوم..

    لو علمت الجماهير التي تحبني بمأساتي معك لثاروا عليك يا «جميل».. لغضبوا لأن المخلوق الوحيد الذي اخترته ليقاسمني فراشي كل ليلة يستقبل قبلتي الحارة بهذا البرود لشنقوك في ميدان عابدين انتقامًا لمعبودتهم التي دنستها بجفاك وأذللتها ببرودك، ولكنك في قلبي مطمئن لمكانتك في نفسي، تعرف أنني أفضل برودك على حرارة الرجال جميعًا، إن برودك يدفئني.. صمتك يشجيني.. دلالك يزيدني لهيبًا..

    تحرك يا «جميل» وأعطني قبلة.. قبلة واحدة.. قبلة تسكرني، قبلة ترويني، قبلة تسحرني، قبلة تشجيني، قبلة واحدة وأموت.

    ولكن «هيام» لم تنتظر القبلة التي تطلبها، بل مدت ذراعيها إلى الراقد بجوارها وطوقته واحتضنته وراحت تغطي كل جزء من أجزاء جسمه بقبلاتها الدافئة ثم الساخنة ثم الحارة ثم الملتهبة.. قبلته في شفتيه، ثم في جبينه، ثم في عينيه، ثم في صدره، وأمسكت يديه تقبلهما، وما إن انتهت من يديه حتى راحت تلثم ساقيه وهي تقول في أنفاس متقطعة: أموت في هاتين الساقين يا حبيبي، ثم مضت تدلك الساقين بشفتيها وهي تقول: ترى ماذا يقول الصحفيون لو عرفوا أنني أقبل قدميك كل صباح.

    وعلت شفتيها ابتسامة شماتة وهي تذكر الصحفيين، فتذكرت أنها عندما عادت ليلة أمس إلى بيتها دخلت غرفة أمها وقبلت يدها كما تفعل كل ليلة بعد عودتها من المسرح، وبينما هي تحدث أمها عن الانتصار الذي حققته في مسرحية «قبلة للبيع» دق جرس التليفون.. وإذا المتكلم في هذه الساعة المتأخرة صديقها الصحفي الأستاذ محمد القاضي، إنه لم يستطع أن ينام قبل أن يقدم لها تهانيه الحارة، ويقدم لها تقريرًا عن الحديث الذي جرى عنها بين النقاد والصحفيين في بار مسرح الكورسال وعن الرهان الذي تحداهم به عز الدين شكشك صاحب مجلة «الوطواط» من أن الممثل أنور فتحي سيرقد هذه الليلة بين ذراعي هيام.

    وضحكت هيام لهذا الرهان الغريب، ولم تشأ أن تكذب صاحب مجلة «الوطواط» أو تؤيده وإنما اكتفت بأن قالت إنها حرة في أن تختار من يقاسمها فراشها.

    وابتسمت هيام وهي تستعيد هذه المكالمة التليفونية، وتصورت صديقها الصحفي محمد القاضي وهو يتقلب في فراشه بين الشك واليقين، ولكنها ابتسمت ابتسامة أكبر عندما تذكرت الأستاذ شكشك.. وتساءلت هيام لو كان الأستاذ عز الدين شكشك يملك طاقية الإخفاء التي يتحدثون عنها في قصة «ألف ليلة وليلة» واستطاع أن يختفي الليلة تحت فراشها وسمع المناجاة الحارة التي كانت أكثر كثيرًا مما تخيله وهو يراهن على اللقاء المنتظر الذي سيحظى به الممثل الناشئ في فراشها، لو سمع هذه المناجاة الخطيرة لأسرع يعود إلى دار مجلة «الوطواط» ليصدر ملحقًا فوق العادة، فيه تفاصيل هذا الحديث الرهيب الذي سمعه بأذنيه في فراش عذراء المسرح وراهبة الفن والممثلة الأولى، أن يذكر السذج أن سمعتها فوق الريب والشكوك، ولباع شكشك أفندى النسخة الواحدة من مجلة «الوطواط» بجنيه، ولن تستعمل صفحات مجلة «الوطواط» في هذه المرة لصنع قراطيس اللب والفول السوداني كما جرت العادة، ولكن لتتوارثها الأجيال أبًا عن جد، كمستند تاريخي عن الفضائح التي تجري في شارع الفنون.

    وحمدت هيام الله على أن شكشك أفندي لم يصل بعد إلى طاقية الإخفاء.. ثم مضت تقول لنفسها: ولو أن الأستاذ شكشك كان يفهم أن الصفاقة هي علم وليست فهلوة، لعرف أن من شروط الصحفي الناجح أن يصبر ولا يتعجل، ولو صبر لعرف أن المصيبة أفدح مما توهم في أول الأمر من مجرد حديث هيام، فإن النائم فوق السرير لم يكن الممثل أنور فتحي الذي قبلته «هيام» ليلة أمس أمام الجماهير المفتونة المصعوقة المسلوبة الفؤاد.

    وتخيلت هيام الأستاذ شكشك وهو يخرج من جيبه الجنيه وروحه تخرج من الجنيه.. ثم عادت تستغرق في الضحك على الأستاذ شكشك. وقالت وهي تحدث نفسها: إنها قرأت في بعض الكتب أن الصحفي العبقري لا يجوز أن ينظر إلى الأمور من زاوية واحدة.. أي أنه لا يجوز أن يحكم على الأمور من تحت السرير فقط، بل عليه أن يرى أيضًا ما فوق السرير، ولو أن الأستاذ شكشك أخرج رأسه من تحت السرير ورأى الراقد بجوارها، الذي منحته من القبلات الحارة أضعاف ما نال الممثل أنور فتحي لهاله أن الحبيب المجهول لم تعرف عنه مجلة «الوطواط» شيئًا برغم ما كانت تنشره أسبوعيًّا عن حنان العشاق الذين كانت تصفهم في كل عدد على فراش الممثلة الحسناء.

    سوف يفجع الأستاذ شكشك عندما يكتشف أن الحبيب المجهول الذي تناجيه هيام لم يكن نجمًا مشهورًا، ولا ممثلًا مغمورًا، بل لم يكن أحد المعروفين أو المجهولين في شارع عماد الدين.

    ولم يكن الحبيب المجهول وزيرًا حاليًّا ولا زيرًا سابقًا ولا موظفًا ولا خادمًا ولا واحدًا من كبار الأغنياء الذين يحومون حول هيام كما يحوم الذباب على طبق العسل المكشوف، لم يكن الحبيب المجهول شابًّا ولا رجلًا، وإنما كان كلبًا.

    وقهقهت هيام وهي تتصور منظر الأستاذ شكشك وراحت تحمل الكلب «جميل» في يديها وتمسكه من شاربه وتداعبه وتقول له: أنت تضحك أيضًا يا «جميل» على الأستاذ شكشك.. إنه لن يموت كمدًا كما تتصور، إنه سيخرج من هنا ويكتب مقالًا في مجلة «الوطواط» بعنوان (فضيحة في بيت الممثلة هيام).. (هيام تعشق كلبًا).. (الكلب حبشي) إهانة كبرى للشعب المصري والشعوب العربية والشعوب الإفريقية، لأن هيام عندما أحبت.. أحبت كلبًا.. اختارته من آسيا.. وابتسم الكلب «جميل» وكأنه شارك سيدته بابتسامته الحلوة.. أو كأنه فهم النكتة التي أطلقتها هيام عن الصحافة والصحفيين في شخص الأستاذ شكشك صاحب مجلة «الوطواط».

    وغاصت الابتسامة من شفتي هيام، تذكرت كيف تكره الصحافة وتكره الصحفيين، تخاف منهم ولا تثق بهم، تجد لذة في أن تخفي عنهم كل شيء عن حياتها وعن ماضيها، تتصورهم أشخاصًا يريدون أن يجردوها من ثيابها.. يعروها في الطريق لا ليستمتع عباد الجمال برؤية جسد الإلهة العاري الرشيق، بل ليضحكوا ساخرين من المرأة التي هبت عليها ريح الصحافة، فشلحت ملابسها في الشارع العام!

    كم كانت تود لو أن الأقلام لم تتحدث إلا عن فنها وعن أدوارها وعن أدائها المسرحي، ولكن الأقلام كانت تكتفي بأن تتحدث في سطرين عن كل هذا.. وبقية الصفحة مخصصة عن ملكة الحب، عن حب لم يقع، عن مغامرة لم تحدث أو عن الثوب الذي كان يكشف ذراعيها وفخذيها في دورها في مسرحية «الشيطان».

    كثيرًا ما ينصحها المخرج الأستاذ عزيز سليمان أن تفتح بيتها للصحفيين، لقد كانت المطربة فتحية أحمد تقيم مأدبة أسبوعية فاخرة للصحفيين عملًا بالمبدأ القديم الذي يقول: «أطعم الفم تستحي العين» واستحى الصحفيون الفنيون والنقاد وأطلقوا على فتحية أحمد لقب «مطربة القطرين» لأنها كانت تسافر للغناء في كل صيف إلى سوريا وتقيم هناك أيضًا مآدب للصحفيين السوريين، وكلما زادت كمية الديوك الرومى والحمام المحشي وطواجن الفراخ على مائدة المطربة فتحية أحمد غمرتها الصحف المسرحية بالألقاب، وعندما انتهت الألقاب، بدأت المجلات تطلق ألقابًا على أولادها فأطلقت على ابنها الأكبر اسم «البرنس» وعلى ابنها الثاني اسم «الوزير» وعلى ابنها الثالث اسم «الباشا».. وهكذا حول الحمام المحشي بيت فتحية أحمد المتواضع إلى مملكة.

    وأم كلثوم بدأت حياتها الفنية تتفادى الأدباء والصحفيين.. كانت ترتدي عباءة وعقالًا بدويًّا تظهر بهما في الحفلات الغنائية، وكانت تمشي ووراءها والدها الشيخ إبراهيم يرتدي عمامة وملحنها الشيخ أبو العلا يرتدي عمامة وأخوها يرتدي عمامة، وكانوا أشبه بالحرس الخاص الذي لا يفارقها، فإذا جلست في أثناء الأنتراكت أحاطوا بها، وعندما ترى أم كلثوم في هذه الصورة تحسب أنك في اجتماع لهيئة كبار العلماء في صحن الأزهر، لا في حفلة طرب في صالت «سانتي» بحديقة الأزبكية، ويومها ضج منها الصحفيون والمسرحيون وأطلقوا عليها اسم «شيخة العرب أم كلثوم»واتهموها في صحفهم بالبخل الشديد، وأطلقوا عليها اسم «أم إسرائيل» لأن اليهود اشتهروا بالبخل الشديد، وأنقذ أم كلثوم من هذا الهوان أن جزارًا من شبرا اسمه المعلم دبشة أصبح من أكبر المعجبين بالمطربة الصاعدة وكان كلما قرأ كلمة طيبة عن أم كلثوم سارع بإرسال ثلاثة أرطال من اللحم الضاني إلى المحرر كاتب الكلمات..

    وهكذا أصبح من الطبيعي أن تكثر مقالات المديح والثناء عن أم كلثوم في أواخر الشهر عندما يبدأ الجزار في رفض بيع اللحوم بالشكك للصحفيين الفنيين، ويستمر المعلم دبشة في إبداء إعجابه بالمقالات بقطع الكرشة والممبار واللسان والمخ والمصارين.

    وكانت المطربة منيرة المهدية تقيم مآدب فاخرة في عوامتها الراسية على النيل تدعو إليها الأدباء والشعراء والصحفيين، وكانت فترة لا تقرأ ولا تكتب، ولكن الأطباق الشهية التي كانت تملأ مائدتها، فيها من الفلسفة والعلم والأدب أكثر من كتب أرسطو ولراردين وشكسبير، ولهذا أطلقت عليها المجلات الفنية «سلطانة الطرب».. باعتبار أن أم كلثوم وغيرها من المطربات الناشئات من رعايا صاحبة العظمة السلطانة..

    وكان عبدالوهاب في بداية ظهوره الفني بخيلًا، ولكن صديقه الشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء افتداه، فكان الشاعر الكبير يقيم مآدب مستمرة في بيته في الجيزة الذي اشتهر باسم «كرمة ابن هانئ» وكان يدعو إلى هذه المآدب النقاد والأدباء وأصحاب المجلات الفنية، ويقدم لهم عبدالوهاب ويطلب منه أن يغني ويعزف أمامهم، وهكذا لمع اسمه واشتهر، وأصبح يكسب الألوف دون حاجة إلى أن يقدم فنجانًا من القهوة لأي صحفي من الصحفيين الفنيين.

    كان المخرج الأستاذ عزيز سليمان يحدث «هيام» عن كل هؤلاء الكواكب والنجوم وما استطاعت الصحافة أن تفعل لهم أو تفعل بهم، ولكن «هيام» كانت تكره الصحفيين الكبار والصغار والفنيين وغير الفنيين وتهرب منهم، وتتجنب أن تستقبلهم في بيتها، حتى صديقها الصحفي محمد القاضي الذي يسمونه «الناقد الملاكي لهيام»، لم يدخل بيتها مرة واحدة.

    إنها قابلته في بيت المخرج عزيز سليمان عدة مرات، وشعرت أنه يريد أن يفرض نفسه وصيًّا عليها، حاول أن يدس أنفه في شئونها واضطرت مرغمة أن تنافقه.. تصافحه وهي تتمنى أن تصفعه.. تبتسم في وجهه وهي تريد أن ترفسه، ولكنها مضطرة أن تجامله، لأنه كان يكثر من الإشادة بها، ونشر صورها على غلاف مجلته، ولكنها أحست في الوقت نفسه أنه يعتبر ما ينشره عنها كمبيالات تستحق الدفع من فمها وجسدها، واشمأزت من فكرة أن يصبح مصرفًا تقطع فيه الكمبيالات والديون المتأخرة، ولكنها قاومت شعورها ومضت تمنحه ابتسامات وكأنها أشبه بطلبات لتأجيل دفع الكمبيالات.

    ومضت «هيام» تمرر أصابعها في شعر كلبها «جميل» وتفكر في سوء ظنها بالصحافة والصحفيين، ولكن الصحفيين ليسوا وحدهم خصومها، إن الجماهير التي تعبدها لا تفهمها، إنهم يظلمون نجوم الأرض كما يظلمون نجوم السماء عندما لا يستطيع أهل الأرض أن يصلوا إلى النجوم يتصورونها ويتخيلونها بما لا يستطيعون أن يروه بأعينهم ويلمسوه بأيديهم، إننا قبل أن نصل لكوكب المريخ نرسم في الكتب ونخرج في الأفلام صور سكان المريخ، فنجعلهم قصارًا؛ لأننا نريد أن نكون أطول منهم، ونرسم وجوههم قبيحة؛ لأننا نريد أن نستأثر وحدنا بالجمال، ونتهم كل طبق طائر بأنه إنذار بالفناء من أهل الكواكب إلى أهل الأرض ولا يخطر ببالنا مرة واحدة أنه ربما تكون هذه طريقتهم في إرسال خطابات الغرام..

    نلتقط من الجو ذبذبات كهربائية ويعكف علماؤنا على تفسيرها وحل رموزها، ونخرج منها بأشياء وأشياء لم تخطر على بال أهل الكواكب النجوم، بقينا ألوف السنين نتغزل في القمر، ونضمنه بأشعارنا وأغانينا، ونقارن بين جمال النساء اللاتي نجهر بجمالهن بجمال القمر وروعته، وعندما اقتربنا منه اكتشفنا أنه أرض جدباء

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1