Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أشياء رائعة
أشياء رائعة
أشياء رائعة
Ebook370 pages2 hours

أشياء رائعة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

"قام الدكتور حازم شفيق في ازدراء، وقال: كنت أعتقد أنك تريدني في شيء مهم. ش القبطان يده، وقال: اجلس يا دكتور، فلا ميثاق أكبر من أن يتبادل الأصدقاء أسرار العشق والحياة بل.. ، انحنى مراد، وهمس في أذنه: من خبرتي الطويلة يمكنني أن أخبرك أن لا شيء يقرب الرجل من صديقه سوى أن يتبادلا الغرام مع امرأة واحدة. فتح الدكتور حازم فمه في فزع، وقال وهو يتصنع الهدوء: آسف، لا أفهمك".

- الموت على الأبواب وأحتاج إلى مساعدتك.

- كيف؟

- أريدك أن تبني لي مقبرة .. كمقبرة القدماء.

- القدماء؟ أجدادنا؟.

في رواية "أشياء رائعة" تنكشف علاقة القبطان مراد بالدكتور حازم وأسماء الفلاحة، وينكشف معهم المجتمع المصري بكل تناقضاته ومشاكله.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2016
ISBN9789771454717
أشياء رائعة

Read more from ريم بسيوني

Related to أشياء رائعة

Related ebooks

Reviews for أشياء رائعة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أشياء رائعة - ريم بسيوني

    الغلافAmazing_Things1.xhtmlVector_Smart_Object3Vector_Smart_Object2

    إشـراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-5471-7

    رقـــم الإيــــداع: 22361 / 2016

    طــبــعـــة: مـــــايــــو 2017

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    من كتاب الموتى والأحياء Amazing_Things0.xhtml

    إلى اللص الأول، صاحب خطوة المبادرة.. أرجوك لا تفكر في سرقة مقبرة، بل في قراءة جدرانها..

    فعلى الجدار ستقرأ عن الثورة الأولى والثانية والثالثة..

    وعلى الجدار ستعرف كيف يختلج الحب في القلوب..

    وعلى الجدار يموت المرء، ثم يبعث مرات ومرات.

    وفي بلدنا.. لا نختار المقبرة، وليس لنا حيلة في كتابنا.

    في بلدنا تقرأ كتابك مكتوف اليدين، وتبحث عن المقبرة منذ الأزل.

    وفي بلدنا أيضًا تنكشف روعة كل الأشياء.

    الفصل الأول

    - اعذرني يا دكتور. أعرف أنك لا تزور أحدًا في بيته، وخاصَّةً إذا كان عميلًا في شركتك. ولكنني كما ترى على حافة الموت.

    سكت القبطان لحظات وعيناه تخترقان المرأة التي تتحرك أمامه، وانحنى ناحية ضيفه، وأكمل: فلنتكلم في موضوع بناء المقبرة. طوال حياتي وأنا أخشى الظلام. لا شيء يقهر الظلام سوى ذراع أبيض غض لامرأة متلهفة تغمرك، وتجعلك ترتجف كارتجاف المجداف في يد رجل سكير. ولكنني أعرف أنني لن أقابل امرأة في القبر، ولن يغمرني سوى التراب. لا مال، لا شهوة، لا شيء. النهاية يا صديقي.. أقصد يا دكتور، أم أقول يابشمهندس؟ انظر إليها؛ لخصرها يتدلى أمامك راجيًا في يأس. المرأة ليس لها طعم قبل الأربعين من عمرها، ولا تشبعك أبدًا قبل الأربعين من عمرها. ماذا نفعل في هذا العالم سوى أن نأكل ونؤكل. وما أجمل أن تلتهمني امرأة كهذه في الأربعين! كما تبدو بصدر يصرخ: مَنْ مِنْ مصارع، وساقين تطلبان الشراع الوافر القوي الشامخ.

    قام الدكتور حازم شفيق في ازدراء، وقال: كنت أعتقد أنك تريدني في شيء مهم.

    شدَّ القبطان مراد يده، وقال: اجلس يا دكتور، فلا ميثاق أكبر للصداقة من أن يتبادل الأصدقاء أسرار العشق والحياة بل..

    انحنى مراد، وهمس في أذنه: مِنْ خبرتي الطويلة يمكنني أن أخبرك أن لا شـيء يقـرِّب الرجل من صديقـه سوى أن يتبادلا الغرام مع امرأة واحدة.

    فتح الدكتور حازم فمه في فزع، وقال وهو يتصنّع الهدوء: آسف، لا أفهمك.

    - الموت على الأبواب وأحتاج إلى مساعدتك.

    - لتقيم علاقة بهذه.. هذه..

    لأول مرة ينظر إلى المرأة التي تتحرك أمامه بنشاط وقال: هي خادمتك؟

    - لا تسئ بي الظن، لا تستهويني الخادمات.

    نظر إليها من جديد.. كانت طويلة.. بيضاء.. ترتدي جلبابًا أسود بأكمام واسعة مزركشة، وحجابًا أحمر حريريًّا يتناثر ذيله على كتفها. لم ير وجهها، ولم يلاحظ حتى جسدها داخل الجلباب الفضفاض.

    - هي مربية لأحفادك ربما؟

    ضحك القبطان وقال: فلاحة. هل آتي بمربية لأحفادي من الفلاحين يا دكتور؟ مربية أحفادي تتكلم ثلاث لغات فيما عدا العربية، فهي لا تحتاج إليها.

    قال الدكتور وهو ينظر إلى ساعته: ماذا تحتاج مني؟

    تفحصه مراد بعينين كبيرتين وقال: فقدت اهتمامك بها سريعًا. لم تلهث وراء امرأة يومًا، أليس كذلك؟ جيل مختلف ومصر التي لا أعرفها. كنا نلهث وراء النساء كأسماك القرش في موسم التزاوج. ورؤية عَيْنَي امرأة.. شَفَتَي امرأة.. رموش امرأة - تشعلنا نارًا لا تنطفئ. عصر ولَّى. عصر كان الرجال يحلمون بثورة وأرض ومصنع وحياة.. أغوانا الحكام وغرروا بنا، وغرقت السفينة، واختفى الكنز.. وربما لم يكن هناك كنز.. من يدري؟

    سكت مراد برهة ثم قال: هل يمكنني أن أسألك سؤالًا محرجًا.

    - لا

    - لا بد أن أسأله. اعذرني لم توقفني «لا» من قبل. كيف مات الزعيم.. الذي أيقظ الأمل؟

    كان سؤالًا يعرفه حازم ويتوقعه، وكم سُئِلَ هذا السؤال وهو طفل، وهو شاب..

    - لا أدري، لم يخبرني أبي قط.

    - لا تكذب علي. والدك كان طبيبه الخاص، كلنا نعرف كيف مات؟ قتله الأمل، أم خيبة الأمل، أم اشتاق إلى مقبرة مضيئة مثلي الآن؟

    - يعجبني أسلوبك الشعري. تكتب الشعر؟.

    - كل مصريي الثورة يكتبون الأشعار، ويهيمون في التيه أربعين عامًا أو أكثر.

    - لست من مصريي الثورة إذن ولا أكتب الأشعار.

    - لن تخبرني كيف مات منقذ الأمة؟

    - لا.

    - سأخبرك أنا إذن ما أريد. ولكن اصدقني القول.. هل ترتجف وينتصب شراعك وأنت تنظر إلى هذه المرأة؟ فلاحة نعم.. بغبار الأرض الغنية، ويحيطها طمي النيل قبل السد العالي.. تفقد وعيك بين ذراعيها..

    - ومن تكون؟ قريبتك؟

    - لا.. كيف أعرفها؟ هي تحت حماية زوجتي تغرقها بكرمها.

    - من؟ زوجتك؟

    - لا أدري. هي ستفعل أي شيء لتصبح صديقة زوجتي وكل شيء.. ولكنها ربما لن تفعل الشيء الوحيد الذي سيجعلها مليكة في مصر وجديرة باحترام الجميع.

    - تتزوجك؟

    - يقطع الزواج وسنينه.. ترافقني.. أحقق أحلامها في ثوان.. أنت تـعرف الكلام عن الشرف والكرامة والأم و.. لا بأس.. هل تريدها الآن كما أريدها؟.

    قال دون تردد: لا.

    - يؤسفني هذا. كنت أتمنى أن نصبح صديقين.

    - لا بد أن أرحل.

    - لا تغضب. لا بد أنك يستهويك النوع الآخر من النساء.. الشعر الأشقر، والجسد النحيل، والجامعات الأمريكية والملابس الإفرنجية.. لا بأس. لم يبق في العمر الكثير، وأخشى ظلام المقابر ووحدة المقابر.. وأريد مساعدتك.

    - كيف؟

    - أريدك أن تبني لي مقبرة.. كمقبرة القدماء..

    - القدماء؟

    - أجدادنا.

    - لا أفهم. أنت.. من أي ديانة؟

    ضحك القبطان وقال: أخاف القبر وظلماته، وأريد قبرًا كبيرًا جميلًا عظيمًا، وحوله استراحة لعائلتي، وفوقه برج كبير، وباب سحري، والكثير من الفتحات التي تمتد إلى الشمس.

    - تظن نفسك أحمس أم رمسيس؟

    - إذا كان أحمس قهر الهكسوس فقد تحملت ما يقرب من سبعين عامًا من الأمل وخيبة الأمل، والحروب في الداخل والخارج، والحركات المتطرفة والمتطفلة، والغوص في المياه الضحلة المتسخة، وأنا أدعي أنها غنية وعميقة وممتلئة بالحياة.. سأدفع لك ما تريد.

    - لم يُغْرِني المال قط.

    - يغريك شيء آخر سأعطيه لك.

    - ما هو؟

    - منذ رأيتك وأنا أعرف عن ماذا تبحث..

    - عن ماذا؟

    - عن الخلود..

    - وماذا تعني؟

    - تبني تحفة فنية تعيش أبد الدهر.

    - آسف! لا بد أنك مريض حقًّا.

    - فلنقل إنه سر بيننا لن يعرفه أحد. ابن لي صرحًا مليئًا بالنور.. رغبة رجل على شفا الموت.. هل تريد أن ترى شهادات الأطباء؟

    - لن أصدقها.

    - هل تستطيع؟ أنت أفضل مهندس في مصر.

    - ربما.

    - أعطيك مطلق الحرية.. صمِّم تحفتك وابْنِها وخلِّد نفسك.. ونفسي..

    - يا قبطان..

    - يا دكتور..

    مدَّد حازم ظهره على الأريكة وقال: فلنتكلم في موضوع المقبرة.

    بيت القبطان مراد كان مكتظًّا بالأثاث والآثار كالمتحف المصري. أدار حازم عينيه حول الفيلا وهو يشعر بالرغبة في القيء، فلا شيء يثيره كالذوق الفج والتصميمات المبالغ فيها. وكان يبدو له وكأن القبطان قد ألقى بالذهب على أرض بيته ليعطيه قيمة، فضاع الذهب بين القاذورات والأتربة والأثاث الضخم الذي يفترس كل شيء كالديناصورات.

    قال القبطان وهو يضع بعض النبيذ في كأسه: هل يزعجك أن أشرب كأسًا قبل العشاء؟

    هزَّ حازم رأسه بالنفي.

    فأكمل القبطان وهو يرشف النبيذ الأحمر: أشربه فقط لأحافظ على قلبي. فالنبيذ الأحمر مفيد للقلب. ياه.. في السبعينيات كان لا يوجد بيت مصري يخلو من الخمور. هل تتذكر؟ كم كان عمرك؟ تبدو لي في الأربعين..

    - في الخمسين.

    - لا بأس في السبعينيات كانت زجاجة ويسكي البلاك ليبل تستقر داخل كل ثلاجة مصرية لتسقيع المياه في الصيف، ولا أحد يثور ويغضب.. كان عصـرًا.. لا أدري كيف أصفه. قالوا لي وأنا طفل إيَّاك والسياسة. نحن المصريين لا نتدخل في السياسة، وكأن بلدنا تدار عن طريق مارد سحري. ثم قامت الثورة، قالوا هذه بلدكم رُدَّت إليكم، ولكن إيَّاكم والسياسة: اتركوا العيش لخبازه.. أنتم صغار بلا خبرة، ونحن في حالة طوارئ.. منذ خمسين عامًا ونحن في حالة طوارئ.. أصبحت حالة الطوارئ مستقرة.. وأنا لم أزل أبتعد عن السياسة.. وأقترب من النساء. من الأفضل ألا تقترب من الاثنين معًا، وإلا فأنت تنتحر بإتقان. ماذا تبقى لجيلنا غير اللهو مع النساء؟.. لا نضجنا لنحكم على الأمور ولا تدخلنا في السياسة. قالوا بلدنا رُدَّت إلينا، فرحنا. قالوا العدل ساد.. هللنا.. قالوا انهزمنا ثم انتصرنا.. قالوا نبيع ونشتري ونحكم، قلنا لا بـأس أنتم العارفون والكهنة، ونحن الجاهلون والعامة.

    - تحب السياسة؟

    - أحب مصر. وكل نسائها. حقًّا.. صدقني.. ولائي لبلدي فقط. رأيت العالم وكل نسائه، البيضاء والصفراء، ولا يملأ عيني سوى امرأة كالتي أمامك هذه. نتعشى ثم نكمل كلامنا.

    نظر الدكتور حازم لكريمة زوجة القبطان، وكان شعرها الأسود القصير يغطي عينيها، وملامحها الحادة لا تشي بسنها، وكانت نحيفة وترتدي بنطلونًا أبيض وبلوزة زرقاء، وتنظر حولها في توتر وكأنها لم تستقر بعد في هذا البيت أو هذا العالم. وكانت الفلاحة تنظر إلى كريمة زوجة القبطان في إعجاب وترقب. ومستعدة لتلبية كل الرغبات في وقت قياسي أقل من وقت اختراق حدود العواصم والهبوط على سطح القمر.

    وصوت كريمة الخشن كان يشي بسنين من تدخين السجائر وغيرها.

    جلست الفلاحة أمامه على المنضدة. بدت هادئة خجولًا، ورموشها تتحرك بسرعة وهي تنظر إليه في استسلام، ولا تأكل ولا تتكلم.

    قالت كريمة زوجة مراد في تأثر: كلي يا أسماء يا حبيبتي.. لا تشغلي بالك، ولا تفكري فيهم، ربنا معاك يا حبيبتي.

    ثم نظرت إلى زوجها وقالت: مسكينة تجري على أيتام. أرجوك يا مراد حاول أن تجد لها مشتريًا لأرضها. هل تتصور أهل زوجها بعد رحيله يبهدلونها ويسرقونها.. هي الدنيا جرى فيها إيه؟ مفيش رحمة..

    ثم اقتربت من أسماء وهمست: حبيبتي لماذا لا تأكلين؟

    قالت أسماء في صوت مبحوح: ربنا يخليك يا..

    - كريمة يا حبيبتي.. شوف بقى يا مراد، ابنها الصغير عايزة تدخله مدرسة أجنبية، وابنها الكبير في أولى اقتصاد وعلوم سياسية! تصور؟ مع ابن ليلى صديقتي، هكذا تعرفنا.. فعلًا الخير لم يزل في الفلاحين.. كلي يا أسماء لا تخجلي..

    قال مراد وهو يتفحصها وكأنها سفينة جديدة سيشتريها الآن: أين هي أرضك؟

    - في بنها..

    كانت تتكلم بلهجة قاهرية لا يشوبها سوى النغمة المختلفة بعض الشيء.

    قال لحازم: ما رأيك في أرضها؟ ربما تنفع في مشروعنا.

    لأول مرة تنظر أسماء إلى حازم.. ثبتت عينيها على وجهه لثوان وكأنها ترى رجلًا من كوكب آخر، ثم طأطأت رأسها وقالت: أرضي دخلت في المباني.. لن تجد أفضل منها.

    قال دون أن ينظر إليها: لا بد أن أراها أولًا.

    همست كريمة فجأة: نسيت الملح.. والخادمة لم تأتِ اليوم.. أصبحوا لا يطاقوا.. معندكيش واحدة من الفلاحين يا أسماء؟

    قامت أسماء بسرعة، وأحضرت الملح وشفشق المياه ووضعتهما وقالت: سوف آتي لك بخادمة واثنتين وثلاث.. أتأمرينني يا.. ؟

    - كريمة. نحن أصدقاء الآن. هل تعرفين الدكتور حازم؟

    هزَّت رأسها بالنفي وعيناها لا تقابل عينيه.

    فضحكت كريمة: لا أحد في مصر لا يعرفه.. أين تعيشين؟.. دكتور حازم أستاذ جامعي.. كان.. أستاذًا في كلية الهندسة، والآن لديه شركته الخاصة. والده كان أشهر طبيب في مصر.. دكتور سامح شفيق.. سمعتِ عنه؟

    قالت مسرعة وهي تكذب : بالطبع. لنا الشرف يا دكتور.

    ثم قامت مسرعة وقد أخذت دور الخادمة والصديقة والطباخة باقتدار.. رفعت الأطباق ثم وضعتها في غسالة الصحون وكريمة تنظر إليها في إعجاب.. وجهزت الشاي، ثم قالت في رجاء: لي طلب واحد عندك يا مدام.

    قالت كريمة مسرعة: أي شيء.

    - أتمنى أن تشرفوني كلكم في العزبة. سيستمتع الأحفاد، صدقيني، وفرصة لتعاينوا الأرض.. لا تكسفيني يا مدام، ربنا يخليكِ..

    ابتسمت ونظرت لزوجها فقال مسرعًا: بالطبع.

    كان يوم إبرام الدكتور حازم الاتفاق على بناء المقبرة من أجمل أيام حياته. إن لم يكن أجملها جميعًا، فالقبطان مراد أعطاه فرصة الخلود والإبداع، والرجل لا يطلب من الزمن أكثر من ذلك. ولمَّا كان مبدعًا يعشق تصميم التحف؛ والأصرح فقد سئم تصميم الفنادق والبنوك والنوادي والسينمات، واحتاج إلى تحدٍّ جديد يملأ أيامه ولياليه.

    فكرة مجنونة ولكنها واقعية. والمقبرة وما حولها، والصرح تبلورا داخل عقله حتى قبل أن يخرج من فيلا القبطان إلى سيارته البي إم دبليو الرمادية، حيث كان السائق ينتظره لمدة ساعات في صبر.. ما إن رآه السائق حتى انتفض من مكانه، وفتح باب السيارة في صمت، ثم أغلق الباب، وجلس على مقعده، وبدأ في القيادة.

    سيارة الدكتور حازم كانت من السيارات المحاطة بزجاج داكن يحجب الكهنة عن الرعاة، ولم يكن الدكتور حازم يحتاج إلى هذا الزجاج ليمارس الجنس مع مراهقة تختلج شوقًا، ولا مع غانية تختلج أنوثة كما يفعل القبطان في سيارته المرسيدس، ولكنه كان يحتاج هذا الزجاج ليحجب نفسه عن الصراخ والتلوث والفقر والروائح الكريهة والملابس غير المتناسقة والمباني التي تسيطر على المنطقة وتلقي عليها قنابل القبح والهامشية. كان الدكتور حازم يحتاج إلى أن يقضي وقته في تركيز تام ليعمل في جد كوالده وجده. وفي هذا اليوم ذاته كان يحتاج الدكتور حازم إلى العمل.

    جابر سائق الدكتور حازم كان يضرب كفًّا بكف يوميًّا ويقول لزوجته وهو يدخن الشيشة ليلًا: راجل مجنون بعيد عنك! لم يتكلم معي أكثر من ثلاث كلمات أو أربع في شهر كامل. قال إيه إللي رماك على المر..

    في الحقيقة الدكتور حازم كان يتحاشى الكلام مع العامة، ولا يضيع وقته معهم، وعندما يبدأ جابر في الشكوى من الزمن أو الحديث عن زوجته يقول الدكتور حازم في حزم: جابر..

    وعندما ينطق اسم جابر يفهم جابر قصده فيغلق فمه في حسرة ويتمتم: الله يخرب بيت غرورك يا مجنون.

    وعندما تقترب سيارة من سيارة الدكتور حازم ويضغط جابر على الكلاكس بكل قوته ويلعن سلسفيل أبي السائق الذي يقترب من البي إم دبليو يقول الدكتور حازم في هدوء: لو فعلت هذا مرة أخرى لا أريد أن أرى وجهك. هل تسمعني؟

    يبدأ جابر في الدفاع عن نفسه ولوم السائق الآخر، ويقاطعه الدكتور حازم: لا تنطق. أغلق شباك السيارة، ولا تنطق.

    وعندما يفتح جابر شباك السيارة ليخرج كوع يده ليتنفس الغبار الممتلئ بالحياة، يقول الدكتور حازم وهو يخلع نظارته: أغلق الشباك. أريد أن أقرأ.

    ولو حاول جابر أن يجادل كعادته ويقول: الجو جميل يا دكتور.

    يهمس حازم لنفسه: جاهل..

    ومع ذلك فمراسم الدكتور حازم كانت غريبة. بيته في الزمالك في العمارة القديمة الشهيرة، معظمه بلا أثاث. يؤمن ببساطة الذوق وجمال البساطة.. والفراغ والمساحات البيضاء الخالية من أي شيء سوى لوحة زرقاء لبحر هادئ في كون مختلف، وعمر مضيء وبلد واسع وفارغ وغير إنساني.

    عندما يستيقظ كل يوم يخرج من جيبه مئة جنيه ويضعها في درج مكتبه الأيمن، ثم يبدأ في احتساء النسكافيه الخالي من الكافيين، ويقرأ أوراقه، ويفتح الباب لأم سامي الخادمة، ويصبح عليها بفم مغلق وبطأطأة رأس ثم يخرج لعمله.

    وكان يعرف أن أم سامي ستفتح الدرج الأيمن وتجد ثلاثمئة جنيه، وسوف تسرق مئة جنيه فقط، وتستمر في العمل في حماس. وعندما يعود ستحاول أن تتكلم معه وتناجيه، وتستدر عطفه، وستحكي له عن زوجها الخامل الذي يضربها كل يوم، وربما تشير إلى رأسها وإلى ضربة الزوج التي تركت كدمات على جبهتها، وسوف تحكي له عن ابنها وأصدقاء السوء، وسوف تكون ضحية عالم لا يرحم. وبينما هي تحكي سيقرأ هو في كتابه الهندسي في صمت ووجهه لا ينم عن أنه فهم كلماتها أصلًا. ولم يكن حازم غبيًّا، كان يعرف أن أم سامي تترقرق عيناها بالدموع يوم تسرق المئة جنيه، ودائمًا تسرقها يوم الخميس، ودائمًا تسرق مئة لا أكثر، ودائمًا يعرف، ودائمًا يضع المئة في نفس المكان.

    لم يَعْنِه أن أم سامي تسرقه، ولا يتوقع من مثلها سوى السرقة. العامة لم يكن لديهم نعمة الرخاء والاستقرار والذكاء الفطري، والعامة لا نتوقع منهم خيرًا. ما دام الموقف تحت سيطرته لا يهم، وما دامت أم سامي تسرق بطريقة منظمة ويمكن دراستها دراسة إحصائية، وتوقع الوقت والمبلغ فلا توجد مشكلة.

    تعمل عنده منذ سبع سنوات. في البداية قرر أنها تحتاج إلى المال فرفع مرتبها، ولكنه فهم تدريجيًّا أنها تحتاج إلى أن تحصل على مئة جنيه كل يوم خميس، وأن تكون المئة جنيه مسروقة، ولن تقبل سوى مئة جنيه مسروقة، ولم يواجهها، ولم يكترث للأمر.

    وعندما يأخذ جابرسيارته الفاخرة ليقابل بها أصدقاء السوء على قهوة في صفط اللبن كل جمعة، ويدعي أن السيارة تحتاج إلى صيانة لا يكترث الدكتور حازم.

    ما دام جابر يعيد السيارة وينفذ التعليمات وما دام جابر يستمتع بفكرة خداع ولي نعمته كالعبد الذي يخون السلطان ويغرر بزوجته، لا يهم؛ فهو لا يتوقع من العامة الكثير، والجهل والجشع يسيطران على الجميع. مادام هناك نظام دوري يتبعه العامة فلا يبالي.

    هو يعشق النظام وتوقع النتائج وحساب الأخطار.

    الفصل الثاني

    من كتاب الموتى والأحياء

    أيها اللص

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1