Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

يعربية
يعربية
يعربية
Ebook501 pages3 hours

يعربية

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

بالألم والأمل، حيث تبدأ بنبوءة من شيخ غريب لـ"حلم"، الفتاة التي لطالما كانت تعيش في عالمها الخاص مع رواياتها ومذكراتها.

تتسارع الأحداث وتأخذنا بطلتنا في رحلتها الشيقة لإيجاد الحب عندما تقابل رجلين في مدينة موديرنيا، لكن من منهما ستختار "حلم"؟ وكيف ستتغلب على المسائل الشائكة من الماضي التي تظهر في خضم أحداث تتوالى بشكل غير متوقع؟

ترى، هل ستجد "حلم" الحب والسعادة أخيرًا بمساعدة أصدقائها من الأغراب، ميتانو وميناتا؟ أم ستظل حبيسة آلام ماضيها للأبد؟
Languageالعربية
Release dateAug 7, 2023
ISBN9791222433660
يعربية

Related to يعربية

Related ebooks

Reviews for يعربية

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    يعربية - حنان أحمد

    يعربية

    رواية

    حنان أحمد

    مقدمة

    كانت أنفاسه الكريهة ترتطم بوجهها بعنف، وهي تحاول مرةً تلو المرة إبعاده عنها. شعرت بقواها تخور ببطء، كيف لا وحجمه ضِعفَا حجمها كما أن الشراسة والدناءة البادية في عينيه قد زادت من قوته أضعافًا. أرادت أن تصرخ ولكن لا وقت لذلك الآن؛ إذ يجب عليها أن تستمر بالمقاومة مهما حدث.

    تبًا لكِ، سأجعلك تندمين على ما فعلته سابقًا.

    بدأت ذكريات ما حدث تتدفق بسرعة في ذهنها بشكلٍ متتابع، مما جعلها تشعر بالخوف أكثر وأكثر وهي تردد في سرها: لماذا أنا؟ لماذا أنا دائمًا؟.

    لكن بالرغم من كل شيء، استمرت حُلم تقاوم مع تضاؤل فرص نجاتها في كل لحظةٍ تمر.

    ***

    إقليم أرض الحكماء قبل ثلاثة أشهر من الآن من العام المائتين وخمسين بعد الحرب العالمية الثالثة

    1

    جلستْ حُلم لتكتب كعادتها في مفكرتها بيضاء اللون:

    أشعر باني أفضل حالًا الآن. سعاد الحبيبة تبدو أقل قلقًا علىّ نوعًا ما بالرغم من أنها لا تملّ من محاولة إقناعي بالتعرف على الناس، وإيجاد شخص مناسب أفتح قلبي له وأتزوجه، بينما أشعر بأني لا أهتم بذلك بتاتًا، وكل اهتمامي محصور بسعادتي لإيجادي روتينًا يوميًا، يساعدني على البقاء إيجابية ومنتجة في نفس الوقت. لا رغبة لي بالتعرف على أي أحد، ومجرد كتابتي لهذه الكلمات كيوميات لهو شيء يبعث في نفسي السعادة والسرور، ويريح عقلي من كثرة التفكير الذي يدخلني في حالة من الكآبة الشديدة كلما تأملت في واقعي و....

    حُلم، حُلم.

    قاطع صوت سعاد أفكارها لتتذكر بأنها يجب أن تسرع لتلحق بموعدها مع مشرفها بالجامعة، والتي استقرت في قلب المدينة العريقة موديرنيا بإقليم أرض الحكماء، والمشهورة بعلو كعبها في مجال التعليم، حيث تنهي دراستها لتصبح حكيمة متمرسة في صناعة العقاقير العشبية الطبية. تركت حُلم دفتر مذكراتها على سريرها، ونهضت على عجل محاولةً اللحاق بموعدها. لطالما أحبت الطبيعة وكل ما يتعلق بها، وشعرت بنوع من العلاقة الحميمة معها.

    لا تنسي أن تحضري طلبات المنزل يا حُلم، فهو دورك اليوم في إحضارها.

    أتاها صوت أختها الكبرى سعاد مجددًا، من الدور الأرضي من منزلهما الصغير حيث تقيمان مؤقتًا.

    كانت سعاد لا تفارقها أبدًا، منذ أن جعلت من نفسها المسؤولة الأولى عن حماية أختها حُلم مهما حدث، والتي تصغرها بعامين، وذلك لأكثر من عشرين عامًا بالرغم من كونها ابنة متبناة من قبل عائلة حُلم، ريثما تنهي هذه الأخيرة دراستها، وبينما تجمع سعاد مبلغًا جيدًا من المال من عملها كمساعدة للمدير في أحد أكبر محلات الملابس في أرض الحكماء، لتفتح محلها الخاص في بلدتهما الجبلية، حيث يعيش جداها اللذان توليا تربيتهما منذ الصغر، بعد وفاة والديها في الوباء الذي انتشر وقتها.                                                                                                                                             

    حاضر ياسعاد، لن أنسى.

    رفعت بها حُلم صوتها وهي تتحرك بسرعة بحثًا عن حقيبتها. أخيرًا وقعت عيناها اللوزيتا الشكل واللتان استقرتا في وجهها البيضاوي الحنطي المائل للاستدارة والمزين بشفتين ممتلئتين على حقيبتها التي لطالما نسيتها مفتوحة، فأمسكتها بسرعة وراحت تقفلها وهي تقول: آمل أني لم أنس شيئَا الآن، لأنه لا وقت للعودة وأخذه.

    أتاها صوت سعاد مجددًا من الأسفل وهي تقول: لا تقلقي علىَّ إن تأخرت، فلدينا اجتماع مع المدير اليوم لمناقشة خطة التسويق الجديدة.

    حسنًا، حسنًا.

    قالتها حُلم وهي تركض على الدرج مسرعة نحو المطبخ، بينما سعاد تبتسم قائلة: لو أنك نمتِ أمس مبكرًا لاستيقظتِ مبكرًا، ولما كنت في عجلة من أمرك بهذا الشكل، لكنك مهووسة بالقراءة وبمذكراتك هذه التي لا أرى أملًا لك في تركها.

    قالت لها حُلم وهي تقضم الشطيرة التي صنعتها على عجل مما جعل كلماتها تخرج بشكل مضحك وصعب الفهم: إن كنتِ تعرفين ذلك فلِمَ هذا الموشح كل صباح أيتها المساعدة الحاذقة؟.

    لأنك يجب أن تفهمي بأن الحياة تحتاج إلى خطة وترتيب، وليس إلى عيشها بشكل عشوائي كما تفعلين الآن، وقراءتك كما الكتابة مهما كانت يجب ألا تأخذ حيز الأشياء المهمة في حياتك و....

    قالت حُلم وهي ما زالت منهمكة في الانتهاء من شطيرتها: ولكني أدرس ياعزيزتي، هذا نوع من الخطط حتى وإن كان لا يرقى إلى مستوى خطتك الأصلية والبديلة وبديلة البديلة.

    الحياة أيتها المتهكمة تتطلب ذلك، لا بد أن تكوني مستعدة لجميع الاحتمالات، ولو تركت الأمر لك لكنا نعيش في فوضى عارمة.

    لست بهذا السوء يا سعاد، فلتعترفي بذلك على الأقل. أعني، لمجرد أني آخذ الدنيا بعفوية، وليس لدي حبيب غني لأتزوجه، وخطط تجارية لافتتاح محل ألبسة خاص بي، لا يعني بأني فوضوية هائمة في الحياة. في النهاية، من سيتحمل صحبتي ويطيق رؤية وجهي لبقية عمره؟! هذا أشبه بحكم المؤبد إن سألتني، فأنا لست أنت، الفتاة الحسناء بشعرها الأشقر المصبوغ وبشرتها المخملية وقدها الممشوق والتي يتسابق على رضاها جميع الرجال.

    ولكنك فعلًا فوضوية، وما يثير غيظي أني أعرف أنكِ تستطيعين أن تفعلي أفضل مما تفعلين الآن، فأنت ذكية وإن كنتِ تثيرين أعصابي بتهربك من الواقع، كما أنه بإمكانك أن تُظهري جمالك بشكل أفضل لو تركت عنك لباسك المتواضع الخالي من الإكسسوارات والزينة و....

    سعاد ياعزيزتي، أنا أدرك بأني لن أعيش الحب مثلك وأنا راضية بقدري، كما وأنه يمكنني أن أعيش ما أريد من أحداث كثيرة ومثيرة في القصص التي أقرأها، وأستمتع بها جدًا، فلا داعي للقلق.

    لا تقولي مثل هذا الكلام يا حُلم. أنا واثقة بأنه هناك من يريدك لو أتحتِ المجال له، بدلًا من أسلوبك الجاف هذا مع الرجال، وهذه فرصتك حيث هناك العديد من الشبان المتعلمين هنا في أرض الحكماء. ألم تنفري من شبان بلدتنا، بل وحتى المتعلمين منهم في أرض القديسين القريبة منا عندما زرناها؟ أعني إن لم تجدي رجلًا الآن، فلا أعتقد أنك ستقتنعين بأي من الرجال الآخرين حين نعود لبلدتنا بعد انتهاء دراستك، كما وأنك الآن في الحادية والثلاثين من عمرك و....

    ولكني لا أحبهم. هم فقط يريدون أن تعامليهم كالأطفال، وأن تكوني رهينة تفكيرهم البغيض، وأرجوك لا تجعليني أبدأ بالحديث عن أرض القديسين. ألا تتذكرين الأوصياء الروحيين هناك، وتزمتهم وتعاليهم المقرف على الجميع، وكأنهم خُلِقوا من طينة غير طينتنا نحن معشر البشر؟ لو كنتُ أملك المقدرة لطردتهم جميعًا، فأنا لا أرى أية فائدة منهم.

    لا تأخذي الأوصياء الروحيين عذرًا لعدم رغبتك في الارتباط، فلا أحد يحبهم فعلًا. ما أعنيه أنك يجب أن تفكري في حياتك، فأنا لن أكون معك طوال الوقت للاعتناء بك.

    أرجوك يا سعاد، أنا أعرف بأنني يجب أن أكون أقوى في مواجهة الحياة وأكثر استعدادًا لها مما أنا عليه الآن، وأنه يجب أن أعتمد على نفسي، ولكني لا أريد أن أقع في الحب، أعني أني أحب الحب ولكن لا أريد حبيبًا.

    ولما لا؟! مهلًا، انتظري لحظة. قالتها سعاد وهي تسرع تجاه طاولة استقرت في غرفة الجلوس، وأخذت رسالة يبدو أنها قد فُتحت للتو لكون ظرفها ما يزال إلى جوارها، وراحت تقرأها بحماس لحُلم: حبيبتي سعاد، يا من اُختصرت سعادة الكون فيها. أكاد أموت شوقًا إليك، ولكني أطمئنك فأنا سأكون في موديرنيا بأرض الحكماء بعد شهرين من الآن وسأراك حينها. أكاد لا أطيق صبرًا وأنتِ بعيدة عني يا أجمل ما في الوجود و....

    هنا اصطبغ وجه سعاد باللون الأحمر وأقفلت الرسالة وعيناها تلمعان وهي تقول لحُلم: لن أستطيع إكمالها لك فأنت أختي الصغرى مهما كان، ولكن....

    هنا اقتربت سعاد من حُلم، ولفت ذراعها حول ذراع الأخيرة، وقالت لها كمن يلقي درسًا هامًا حَرِصَ على استيعاب مستمعه له: ولكن مهما كان، أنت تستحقين أن تعيشي مثل هذا الحب. الحب جميل فلا يغرك الهراء الذي تسمعينه عنه أو تقرئينه هنا أو هناك. أريد أن أراك مع شخص يحبك ويعتني بكِ.

    قالت حُلم متبرمة وهي تسحب ذراعها من ذراع سعاد الذي أحاط به بإحكام: وأنا أيضًا أريد أن أرى نفسي مع شخص يحبني ويعتني بي، ولكن ذلك محال.

    ولِمَ لا؟ كفاك كلامًا بهذا الشكل.

    أنا فقط أدع الحياة تتخذ قراراتها وليحدث بعدها ما يحدث، هذه فلسفتي ببساطة يا عزيزتي سعاد.

    ولكن يجب أن تكوني أنتِ من تتخذ قراراتها بنفسها، وتنخرط في غمار الحياة وليس العكس. قناعتك هذه هي ما جعلك سلبية في تعاملك مع حياتك، وعدم أخذ زمام المبادرة خصوصًا في الناحية العاطفية منها و....

    ويجب أن أذهب الآن فلقد تأخرت، إلى اللقاء ياسعاد.

    ألم تسمعي كلمةً مما قلت؟!.

    قالت سعاد بحنق بينما ردت عليها حُلم بمرح: بلى، ولكن لا وقت لهذا الآن، إلى اللقاء.

    قالتها حُلم وهي تنطلق إلى وجهتها بينما سعاد تتمتم لنفسها: يا إلهي الرحمة. فلتساعدني يا رب فأنا قلقة جدًا عليها.

    ***

    2

    كانت حُلم تتمشى بسعادة بالغة في ذلك السوق الشعبي، المقام بعد عصر آخر يوم قبل عطلة نهاية الأسبوع، في أول يوم من أيام ديسمبر تحت أشعة الشمس النادر ظهورها في مثل هذا الوقت من السنة في مدينة موديرنيا عاصمة إقليم أرض الحكماء. كانت سعادتها نابعة من إنهاء إجراءات بداية رسالتها في الجامعة مع المشرف عليها، وهي التي قد أنهت جميع متطلباتها الأخرى والآن لم يتبق عليها إلا مقابلته كمسؤول عن رسالتها الجامعية الأسبوع المقبل، ليبدأ التحضير الفعلي لكتابة الرسالة. كانت سعادتها أيضًا تنبع من مراقبتها لذلك التنوع المسالم لمختلف أصناف البشر على اختلاف أطيافهم والمتواجدين بكثرة في ذلك السوق، دون أن يؤذي أحدهم الآخر أو حتى يضايقه. كانت رائحة الخبز الطازج في المخبز إلى يسارها تملأ الأجواء، بالإضافة لأصوات العربات وضجة الناس من حولها في سوق البلدة. إن كان هناك شيءٌ ما هي ممتنة له فيما يتعلق بالحرب العالمية الثالثة قبل مئتين وخمسين عامًا من الآن -كما قرأت في كتب تلك الحقبة- فهو أنها أنهت الاعتماد على التقنية والسيارات والطائرات وغيرها، مما يلوث الجو، وكل ما جعل البشر يعتقدون أنهم أقوى من الطبيعة، التي احتضنتهم بحب وصبر لقرون، وأعادتهم للحياة البسيطة بالرغم من الثمن الباهظ الذي دُفع مقابل ذلك. كانت حربًا شرسة خسر فيها العالم غروره، وركع بنهايتها على قدميه خاضعًا لحدود الطاقات المحدودة للبشر في مجابهة الطبيعة. كان صلفنا وتعنتنا كبشر هو ما أنهى حضارة القرنين العشرين والحادي والعشرين، وجعلنا نعود في القرن الثالث والعشرين الحالي كمجتمعات، للاعتماد على ما اعتمد عليه أباؤنا من قبل، والانحناء في تواضع، وطلب الصفح من الطبيعة، لتتعامل معنا بحبها اللامتناهي من جديد. ما زالت تذكر قصص جدتها عما سمعته من أجدادها سابقًا عما أثارته الزلازل القوية الكثيرة والمتعاقبة، والتي ابتلعت الكثير من البشر والسيارات والمباني التي نتجت عن استخدام الأسلحة النووية من قِبِل الدول العظمى وحلفائها ضد بعضها البعض حينذاك، والتي نجم عنها طفرات جينية وتشوهات لبعض البشر ما زالت نتائجها ظاهرة للعيان حتى الآن، مما جعل الأرض تستجيب بردة فعل غاضبة وعنيفة بالكثير من البراكين والأعاصير، بالإضافة للزلازل والتي قضت على معظم البشرية، وما تلا ذلك من مجاعات واضطرابات، حتى قرر ما تبقى من البشر في كل أصقاع الأرض أن يتحدوا كمجتمعات جديدة، موزعة على أقاليم متعددة، تتعاون فيما بينها تحت مظلة منظمة جديدة مستحدثة، سميت بالأقاليم المتحدة، تنظم العلاقات بين هذه التجمعات المتشكلة، للحرص على عدم تكرار أخطاء الماضي التي أدت لهذه المأسآة. كان السلام والتكاتف هو الحل المنطقي الوحيد لمن حالفه الحظ بالبقاء حيًا، للاستمرار في العيش والبدء بصفحة جديدة من السلم والتعاون المشترك بين الأقاليم، وتبادل المنافع القائمة على احترام كل إقليم للآخر. نتيجةً لذلك، انقسمت الأقاليم إلى أربعة أقاليم رئيسية: إقليم أرض الحكماء في الغرب، إقليم أرض الزعامة وما يتبعه من مقاطعات ومنها أرض القديسين المقدسة في الشرق، أرض الأغراب والتي لا يعرف عنها الكثير بينهما، إقليم الألفاز في الشمال، وإقليم سيراج في الجنوب واللذان لا تعرف عنهما الكثير.

    ولكن ذلك كله من الماضي. أما الآن فكل ما عليها فعله هو الاستمتاع بالجو الجميل، وإحضار أغراض المنزل كما طلبت سعاد، ثم العودة وأخذ حمام دافئ لينعش أمسيتها، وهي تنغمس كما كل ليلة في إحدى قصصها التي ابتاعت مجموعة جديدة منها منذ وقت غير بعيد.

    لكن أفكارها أبت إلا أن تعود لجموع الناس متسائلةً: هل يمكن لمثل هذا الجمع من الرجال والنساء كبارًا وصغارًا على اختلاف مشاربهم، أن يكون له مثيل في إقليمها إقليم أرض القديسين دون وجود أحد من الأوصياء الروحيين فوق رؤوسهم، لتعكير الجو عليهم ومراقبتهم حتى من قبل أنفسهم ممن يدعي امتلاكه لسلطة الله في يديه وتحت أمر هواه البغيض؟

    لكن حُلم لم تلبث إلا أن ألقت بأفكارها بعيدًا، عندما لفتت نظرها فتاة صغيرة جميلة الوجه، وهي تحمل باقة من الورود متنوعة الألوان بين يديها الصغيرتين، مما دعا حُلم -التي لم تقاوم جمال المنظر- إلى ابتياع تلك الباقة بأكملها. راحت حُلم تكمل رحلتها وهي تستنشق رائحة عبق الورود المسْكر باستمتاع عجيب، ولم تنتبه إلا وهي إلى جوار زقاق ضيق قصير الطول ومتوسط العرض وشيخ كبير غريب الهيئة يتوسطه.                                                                                                   

    شعرت حُلم برغبة مفاجئة في الاقتراب من الشيخ، والحديث معه بدون إحراجه بالرغم من خوفها من هيئته. لم تكن إلا لحظات حتى حزمت أمرها واقتربت منه وهي تقول بلطفٍ بالغٍ: سيدي، هل تسمح لي، لقد اشتريت الكثير من الورود وأرغب في منحك بعضها إن أنت أذنت لي؟.

    نظر إليها الشيخ بتأملٍ غريبٍ قبل أن يخفض عينيه مشيحًا بوجهه بعيدًا وهو يقول: لن أقبلها إن لم تقبلي أنت هديتي لك.

    استغربت حُلم، وتساءلت عن أي نوع من الهدايا قد يملكه مثل هذا الرجل المعدم كما توحي به هيئته، وأكبرت فيه عزة نفسه بالرغم من تواضع حاله.

    بالطبع سأقبلها، بل وسأدفع لك مقابلها. ما رأيك؟.

    كلا، لا أريد مالك، فهناك من هم أشد بؤسًا مني، ولكن سأعطيك هديتك كما وعدتك. اتفقنا؟.

    قالت حُلم بتردد: حسنًا، كما تشاء. ومدت له ثلاث وردات مختلفات الألوان.

    شكرًا لك يا ابنتي. الآن، أعطيني يدك.

    شعرت حُلم بشيء من الخوف. ماذا لو كان لهذا الشيخ مآرب أخرى وهي في هذا الزقاق، حيث لن يسمع صوتها أحد في حال حدوث مكروه، لكن العجوز قاطع أفكارها قائلًا: لا تخافي، أعدك بشرفي ألا أؤذيك. هيا أعطيني يدك.

    بعد أن حزمت أمرها وغلب فضولها خوفها، مدت حُلم يدها المرتجفة إلى الرجل والذي أمسكها وراح يتأمل راحتها باهتمام وهو يتمتم: هممم. يا له من شيء عجيب! لم أر مثل هذا من قبل!.

    لقد أخفتني، ماذا هناك وماذا ترى بالضبط؟.

    أمر غريب، في الواقع ليس غريبًا وجود مثل هذا في حياة أية صبية، ولكن....

    ولكن ماذا؟ هيا، كفاك مقدمات وأخبرني: ماذا رأيت بالضبط؟.

    في حياتك يوجد قدران، كلاهما له جذور في عائلة عريقة ذو نفوذ. أحد هذين القدرين مُتوّج بشكل صريح، والآخر لا زال ينتظر تتويجه، وهما في صراع على الفوز بتاج قلبك.         

    تتحدث وكأن قلبي عرشٌ متنازعٌ عليه.

    أو ليست قلوب كل النساء عبارة عن عروش تبحث عن ملك يُتوّج عليها؟

    قالها الشيخ بابتسامة ماكرة، بينما أجابته حُلم بضحكة قصيرة: ولكني لم أفهم ما تعنيه بكلمة قدر؟ أتعني شخصًا ما أو ظرفًا ما أم ماذا؟! ما أعنيه هو أن حياتي محدودة ورتيبة ومعارفي شبه معدومين، فهل أنت واثقٌ مما ترى؟ قد تكون مخطئًا.

    قال الشيخ باقتضاب: كلا. لم أخطئ من قبل، ولا أظنني مخطئًا الآن.

    عندما رأت حُلم مدى ثقته في كلامه لم تملك إلا الاستسلام أمام ذلك، فسألته: وماذا ترى أيضًا؟.

    ستكونين في حيرة من أمرك. تشابه الطريق لهذين القدرين المتناقضين ظاهريًا سيدخل قلبك في شيء من الحيرة، ولكن فلتعلمي بأن أقدارنا مكتوبة وأرواحنا ستستقر حيث يتحقق قدرنا، حتى وإن لم نختر هذا القدر.

    إذن أنت مع أننا مسيرون لا مخيرون في حياتنا.

    نحن مسيرون فيما لا نعرف، مخيرون فيما نعرف. هذه حالنا في هذه الدنيا باختصار.

    إذن كلما زاد علمك زادت حريتك في الاختيار، أليس هذا ما تعنيه؟.

    شيءٌ من هذا القبيل.

    وأي قدر سأختار؟ القدر المتوج أم غير المتوج؟ وعلى أي عرشٍ سيتوج؟ هل تقصد قلبي؟.

    ليس بالضرورة، فأنواع العروش عديدة، هناك عروش بلاد، وهناك عروش أمم، وهناك أنواع أخرى، لكن كلها عروش رابضة بسكون في انتظار أصحابها الشرعيين كعروش القلوب مثلًا.

    وكيف أعرف أيهما هو قدري؟ هلا أعطيتني إشارة ما؟.

    هناك العديد من الإشارات على طول الطريق، كل ما عليك فعله هو الانتباه جيدًا. في النهاية قلبك سيخبرك بالحقيقة كما فعل دومًا. يجب عليك فقط أن ترهفي سمعك قليلًا لسماع موسيقاكِ الداخلية.

    هذا الكلام مبهم. أعطني إشارة واحدة على الأقل، أرجوك؟.

    حسنٌ، القدر الذي ستختارينه هو من سيردد صدى موسيقاكِ الداخلية، وينشد بدوره موسيقى يتردد صداها بداخل قلبك.

    يا للرومانسية! عذرًا يا سيدي ولكني لم أفهم شيئًا، إن كنت تقصد شخصًا ما فهلا قلت لي على الأقل أول حرف من اسمه.

    أسماؤنا الحقيقية هي عبير أفعالنا لا الأسماء التي اختيرت لنا رغمًا عنا، لذا لا فائدة من إخبارك باسمه.

    إذن قل لي صفته الأكثر وضوحًا لأميزه على الأقل.

    حسنًا، إنه القدر الذي تتجلى فيه معاني إيثار مصلحة الأخرين والاهتمام بهم أكثر مما يفعل الشخص لنفسه، ولذلك سيسعى الناس إلى الدفع بتتويجه فوق عرشه بالرغم من رفضه الشديد والمستميت لذلك.

    هذا غريب! لست أفهمك، فمن طريقة كلامك لا أستطيع التمييز أشخص هو أم هي أحداث ستقع! ولكن أخشى إن صدقت نبوءتك ألا أجيد قراءة الإشارات وأضلّ طريقي. صدقني، لست أملك انتباهًا يساعدني على ذلك، إذ إني أحب أن أقضي معظم وقتي في أحلام اليقظة. أرجوك، ساعدني بشيء ما.

    حسنًا، إن شئت المساعدة فسأقدمها لكِ ولكن بشرط.

    أرجوك، لا شروط فأنا لا أحبها.

    كما تشائين، إذًا لا مساعدة.

    إذًا النبوءة غير صحيحة وإلا لكنت ساعدتني على تحقيق قدري.

    قالت حُلم متبرمة.

    تصديقي من عدمه هو شأنك الخاص يا بنيتي، ولكن الأيام كفيلة بكشف النقاب عما تخفيه من أحداث قد تدهشك.

    قالت حُلم مستسلمة وقد بلغ بها التشويق مبلغه: آسفة، فلم أشأ أن أقلل من شأن كلامك، ولكن كلامك يبدو بعيد المنال وصعب التحقيق. فليكن، سأقبل شرطك. بالمناسبة، هل أنت من أهل الكشف؟.

    ضحك الشيخ لصراحة حُلم وقال لها: الكشف موجود لمن أراد أن يرى، في النهاية عدم معرفتك أو اختبارك المادي لشيء ما لا ينفي وجوده في الحياة، أليس كذلك يا بنيتي؟.                                                                                                 

    أجابت حُلم وهي تتفكر في كلامه: أنت على حق، إذ لطالما آمنت بذلك، إذ إن الكون سيكون محدودًا ومملًا جدًا إن نحن عرفناه فقط بما نعلم، فمهما بلغ علم الإنسان إلا أنه ما زال هناك الكثير والكثير مما يجهله.                                                               

    هل ما زلت تريدين المساعدة؟.

    قالها الشيخ مذكرًا.

    بالطبع، هلم بها.

    ما كان من الشيخ إلا أن قال:

    عندما تشعرين بالحيرة، فقط ضعي يدك على قلبك واستمعي لما يقوله لك، سيخبرك بما يتوجب عليك فعله فثقي به.

    أها، لقد فهمت الآن. سأفعل ذلك وأرى ما النتيجة.

    لا تنسي، يجب أن تقاتلي من أجل تحقيق قدرك، وإلا فإنك ستقضين بقية عمرك في الندم على ضياعه.

    ابتسمت حُلم ابتسامة سريعة وهي تحاول أن تبقي فمها مغلقًا بدلًا من أن تقول للشيخ كفاك هراءً، فلا شيء يستحق القتال من أجله فعلًا. ابتسم الشيخ لحُلم وقال لها إيذانًا بنهاية حديثهما: سعدت جدًا برؤيتك والحديث معك يا بنيتي.                               

    وأنا أيضًا، شكرًا لك على لطفك يا سيدي.

    أنصتي لقلبك وانتبهي لما يقوله لك، لا تنسي ذلك أبدًا.

    سأفعل، شكرًا لك.

    قالتها حُلم وهي تهم بالرحيل عن ذلك الزقاق وما فيه من نبوءة غريبة، لرجل شكت أنه قد يكون أحد أولئك الناس ممن فقدوا عقولهم بالرغم من إعجابها بسعة إدراكه، إلا أنها تفاجأت بالشيخ يتكلم بكلام غير مفهوم وهو يبتعد، لتسمع امرأة كانت تمر إلى جوارها مع رفيقتها تعلق بقولها: الرجل المسكين، إن حالته هذه لتدمي القلب؛ فمنذ فقده لزوجته منذ عدة سنين فقد عقله أيضًا.

    تساءلت حُلم في صمت: أيعني هذا أن نبوءته ما كانت إلا محض أوهام لشخص فقد عقله يا ترى؟! قالتها وهي تهز رأسها في أسى، وتنطلق بدورها وقد صرفت ذهنها تمامًا عما جرى قبل قليل. بمعنى أدق: حاولت أن تصرف النظر عنه لكنها لم تستطع، وتذكرت ذلك الفيلم القديم جدًا، والذي شاهدته  في تلك السينما العتيقة والذي يتحدث عن فتاة، تتعرض للعديد من الإشارات التي توجهها لقدرها بمن فيه. هل هي تشبهها يا ترى؟

    ***

    3

    كانت حُلم تهرول مسرعة بخطواتها المتسارعة، والتي اعتادت صديقاتها قليلات العدد في صغرها على تشبيهها لذلك بالبطريق إغاظة لها. كانت تحث خطاها في حرم الجامعة التي شيدت منذ سنين طويلة، لتظل عراقتها خاطفةً للأنفاس، وهي تنقل بصرها بين ورقة كُتب فيها عنوان مكتب أستاذها، الذي كان من المفترض أن تقابله بعد نصف ساعة من الآن، وبين تلك اللافتات في المبنى التي انتشرت من حولها في ترتيب منمق.                                                                                                                                                   

    لا بد أن مكتبه قريب من هنا. تبًا، ألا يوجد أحد ما يمكنني سؤاله في هذا المكان؟.

    قالتها حُلم بحنق وهي تعيد قراءة ورقة العنوان لعلها أخطأت وفجأة...

    أخ! رأسي!.

    أنا جد آسف يا آنسة، هل أنتِ بخير.

    رفعت حُلم نظرها إلى ذلك الشخص الذي اصطدمت به، وهي تفرك جبينها متألمة قائلة: لا عليك، لم أكن أنظر أمامي.أخ! ولكنك يا هذا صلب كجدار!.                                                                         

    آسف مرة أخرى، لم أكن أنظر أمامي أنا الآخر. هل أنتِ بخير؟.

    راحت حُلم تتأمل ذلك الشاب فارعَ الطول -على الأقل مقارنة بها- ذا الشعر الأشقر والجسد الرياضي، والذي يبدو عليه أنه من أبناء المنطقة، وهو ينظر إليها بابتسامة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1