Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ابن الفوضى: الثلاث روايات الأولى: سلسلة ابن الفوضى
ابن الفوضى: الثلاث روايات الأولى: سلسلة ابن الفوضى
ابن الفوضى: الثلاث روايات الأولى: سلسلة ابن الفوضى
Ebook1,249 pages9 hours

ابن الفوضى: الثلاث روايات الأولى: سلسلة ابن الفوضى

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الثلاث روايات الأولى من سلسلة ابن الفوضى، في رواية واحدة
اللحظة صفر - الطائفة - لعنة زينب


شخص مجهول، غير معلومة أهدافه، غير واضحة وسائله، يقوم بعملية غسيل دماغ معقدة لعدد من الضحايا بالتعاون مع امرأة كانت سابقاً قد جُندت للعمل ضده، فمن منهم الذي نجح في غسل دماغ الآخر؟!
ما بين إسرائيل، أمريكا، سوريا، العراق، مالطا، تركيا، يخوض الاستثنائيون حرباً استثنائية، لم تسمع بمثيل لها من قبل.
هذا ما ستتعرف عليه في أحداث رواية "اللحظة صفر" الرواية الأولى من سلسلة روايات ابن الفوضى.
- رواية اللحظة صفر

في الرواية الثانية بعنوان "الطائفة" وليد فتى يافع، وبسبب بقرته يُصبح هدفاً استراتيجي لضابط في جهاز أمن الدولة، يكتشف الضابط أن قصة غامضة تدور حوله، ليجدوا أنفسهم في خضم عملية معقدة لغسل أدمغة جماعية في واحد من أكثر السجون وحشية، لصُنع واحدة من أخطر الطوائف الوظيفية في العالم، ثم ينتهي المطاف بهم تحت مجهر بطل هذه السلسلة.
- رواية الطائفة

بعد هذه الأحداث بات لزاماً معرفة هذا المجهول أكثر، فما قصته؟! من أين هو؟ وكيف أصبح الرجل القادر على التلاعب بالآخرين بهذا الشكل؟!
ولمعرفته جيداً لا بد من معرفة تاريخه، ليس منذ مولده فقط، بل حتى قبله بمائة عام وأكثر، هذا ما نكتشفه في الرواية الثالثة "لعنة زينب".
ما بين اللعنات الفرعونية، والأصول التركية العربية، سر خطير قدم الرجال أرواحهم قبل عشرات السنين في سبيل الحفاظ عليه، تولد قصة عُنف وجنون صنعت حالة استثنائية.
-رواية لعنة زينب

أقدر تماماً أن وقتك ثمين، صدقني، أنا أكثر من يعلم.
لهذا كنتُ حريصاً ألا تكون هذه مجرد سلسلة تقليدية، عادية، للتسلية أثناء شربك فنجان قهوتك الصباحي.
لعلي أريد بها إثارةَ ذلك الجنون داخلك، الذي قيل لك دوماً، أنه سيكون سبباً في نبذك، وطردك، خارج القطيع.


إلى كل المنطوين على ذاتهم، المنعزلين الغرباء عن مجتمعاتهم
إلى كل المجانين، في نظر من حولهم
أنتم من يحدث الفارق

Languageالعربية
Release dateMay 30, 2023
ISBN9798223907459
ابن الفوضى: الثلاث روايات الأولى: سلسلة ابن الفوضى
Author

Ahmad I. Alkhalel

I want to stir up that madness within you, who you have always been told, would be the cause of your ostracism, and your expulsion, out of the herd. When I was a child, I made sure to write down all my concerns, wishes, and aspirations, which were not always childish, or perhaps even so childish, that would occur only to a child who was naive enough of his peers, and then I burned this paper, believing that this would make my words merge with the whole universe so that it, in turn, could react to them as it sees fit. Since then, I have lived a life that may not be successful to the standards of many people today, but it is very exceptional, and the difference between success and exception is a thorny dilemma, with a slight difference. Every exception is a success, but not every success is an exception, at least this is how I see things from my own perspective. And the problem with exceptional people is, that many people are not qualified to see success behind their exceptions. If we wanted to group people according to their academic success, every few million of them would be grouped into one group, and for me, my goal in this life was not to be in a crowded group. In my opinion, the real success lies in the memoirs. If you ever decide to write your own memoirs, do you think that it will be exceptional from the rest of the memoirs of millions and millions of people crowding into your group? You own the answer.

Related to ابن الفوضى

Titles in the series (4)

View More

Related ebooks

Related categories

Reviews for ابن الفوضى

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ابن الفوضى - Ahmad I. Alkhalel

    سلسلة ابن الفوضى

    ––––––––

    الثلاث روايات الأولى

    في رواية واحدة

    ––––––––

    رواية اللحظة صفر

    ––––––––

    رواية الطائفة

    ––––––––

    رواية لعنة زينب

    Copyright © 2022-2023 Ahmad I. Alkhalel

    Ebook: soofch.com

    Written by Ahmad I. Alkhalel

    www.soofch.com

    ––––––––

    فهرس المحتويات

    رواية اللحظة صفر – ابن الفوضى #1

    الإهداء

    كلمة الكاتب

    المقدمة

    النهاية

    الفصل الأول. أوراق الشجر

    الفصل الثاني. مفتاح التطور

    الفصل الثالث. يوم الصلاة

    الفصل الرابع. نشوة الألم

    الفصل الخامس. الدبوس

    الفصل السادس. النظام الأعظم

    الفصل السابع. حتمية الصدفة

    الفصل الثامن. ابن الفراغ

    الفصل التاسع. ليس صديقك

    الفصل العاشر. كلمة الأمل

    الفصل الحادي عشر. السيطرة

    الفصل الثاني عشر. كمين في بغداد

    الفصل الثالث عشر. المطلوب الأول

    الفصل الرابع عشر. ليس نهراً

    الفصل الخامس عشر. ليست جلسة تبشيرية

    الفصل السادس عشر. التخدير الذاتي

    الفصل السابع عشر. طريقٌ مختصر

    الفصل الثامن عشر. رفاهية خدّاعة

    الفصل التاسع عشر. ذريعة الإعجاب

    الفصل العشرون. لون التفاحة الأصلي

    الفصل الواحد والعشرون. لسنا من هنا

    الفصل الثاني والعشرون. لاعبه بحذر

    الفصل الثالث والعشرون. عضو جديد

    الفصل الرابع والعشرون. الضابط هيلموت

    الفصل الخامس والعشرون. الإطار المرجعي

    الفصل السادس والعشرون. الاختراق العكسي

    الفصل السابع والعشرون. اختبار الموت

    الفصل الثامن والعشرون. ما هو إلا حديث عابر

    الفصل التاسع والعشرون. يوم العيد

    الفصل الثلاثون. مجرد أوهام

    الفصل الواحد والثلاثون. عملية الحقن

    الفصل الثاني والثلاثون. تحري إلكتروني

    الفصل الثالث والثلاثون. لوحة تشكيلية

    الفصل الرابع والثلاثون. إنذار فوري

    الفصل الخامس والثلاثون. شيخ الزاوية

    الفصل السادس والثلاثون. جواب السؤال

    الفصل السابع والثلاثون. حتمية المجازر

    الفصل الثامن والثلاثون. التصنيف والاختزال

    الفصل التاسع والثلاثون. تمويل ذاتي

    الفصل الأربعون. خوارزميات الحتمية

    الفصل الواحد والأربعون. ورطة كبيرة

    الفصل الثاني والأربعون. طرف الخيط

    الفصل الثالث والأربعون. الصيد الثمين

    الفصل الرابع والأربعون. لعبة المحترفين

    الفصل الخامس والأربعون. وجهه مألوف

    الفصل السادس والأربعون. الأميرة العاشقة

    الفصل السابع والأربعون. الشك واليقين

    الفصل الثامن والأربعون. لعبة مكشوفة

    الفصل التاسع والأربعون. صفر وواحد

    الفصل الخمسون. خداع العقل

    الفصل الواحد والخمسون. صدمات متتالية

    الفصل الثاني والخمسون. عودة الأميرة

    الفصل الثالث والخمسون. وجهاً لوجه

    الفصل الرابع والخمسون. رصاصة واحدة فارغة

    الفصل الخامس والخمسون. في العام الخاطئ

    الفصل السادس والخمسون. لا تحاول معي

    الفصل السابع والخمسون. في فراغٍ سحيق

    الفصل الثامن والخمسون. لا بد من تخديره

    الفصل التاسع والخمسون. العودة ليست خياراً

    الفصل الستون. دماء ملكية

    الفصل الواحد والستون. بوابة الإله

    الفصل الثاني والستون. وصية السيد الكبير

    الفصل الثالث والستون. تجهيز الخليفة

    الفصل الرابع والستون. على حافة الجنون

    الفصل الخامس والستون. الحصن المنيع

    الفصل السادس والستون. أسطورة في فيينا

    الفصل السابع والستون. نومٌ عميق

    الفصل الثامن والستون. قبل البداية

    الفصل التاسع والستون. اللانهاية

    رواية الطائفة – ابن الفوضى #2

    الإهداء

    كلمة الكاتب

    المقدمة

    الفصل الأول. هروب جماعي

    الفصل الثاني. الغصن

    الفصل الثالث. الدكتاتور

    الفصل الرابع. العجوزُ العادل

    الفصل الخامس. مكرمة القائد

    الفصل السادس. البقرة كاتبة التقارير

    الفصل السابع. مهمة اعتقال

    الفصل الثامن. مفاجئة غير متوقعة

    الفصل التاسع. المنزل الآمن

    الفصل العاشر. ضابط مع وقف التنفيذ

    الفصل الحادي عشر. بائع التمر الهندي

    الفصل الثاني عشر. استراتيجية التوريط

    الفصل الثالث عشر. البقرة المرشد

    الفصل الرابع عشر. إستراتيجية الاستحمار

    الفصل الخامس عشر. لستُ وحيداً

    الفصل السادس عشر. التعدين والاستخلاص

    الفصل السابع عشر. تشابُه أسماء

    الفصل الثامن عشر. المزرعة

    الفصل التاسع عشر. التجنيد

    الفصل العشرون. الطائفة النقية

    الفصل الواحد والعشرون. الطائفة الإلكترونية

    الفصل الثاني والعشرون. التجنيد العكسي

    الفصل الثالث والعشرون. فجرٌ جديد

    الفصل الرابع والعشرون. الحلم المتجدد

    الفصل الخامس والعشرون. لعنة زينب

    الخاتمة

    رواية لعْنةُ زينب – ابن الفوضى #3

    الإهداء

    كلمة الكاتب

    المقدمة

    زلزال تركيا 6-2-2023

    الفصل الأول. الفرن

    الفصل الثاني. السرداب

    الفصل الثالث. طقوس النجاة

    الفصل الرابع. لن تنال مني مرتين

    الفصل الخامس. نسل الأمراء

    الفصل السادس. الطيب النبيل

    الفصل السابع. جهاز يلدز للاستخبارات

    الفصل الثامن. خلية أسيوط

    الفصل التاسع. السيدة الخادمة

    الفصل العاشر. ليلة الالتزام

    الفصل الحادي عشر. الأزقة لن تنساكم

    الفصل الثاني عشر. سقوط الإمبراطورية

    الفصل الثالث عشر. الرداحة

    الفصل الرابع عشر. حتشبسوت العاشقة

    الفصل الخامس عشر. قمر ذات الدماء العثمانية

    الفصل السادس عشر. لا بد من المحاولة

    الفصل السابع عشر. دِماء فِرْعَونِيّة

    الفصل الثامن عشر. الضباط الأحرار

    الفصل التاسع عشر. المهمة المقدسة

    الفصل العشرون. ذات الوجوه المتعددة

    الفصل الواحد والعشرون. الممالك الهاشمية

    الفصل الثاني والعشرون. زواج بالمراسلة

    الفصل الثالث والعشرون. التركماني النبيل

    الفصل الرابع والعشرون. المصائب لا تأتي فرادى

    الفصل الخامس والعشرون. موعد مع الشيطان

    الفصل السادس والعشرون. الغدارة ناكثة العهود

    الفصل السابع والعشرون. العجل السمين

    الفصل الثامن والعشرون. وحيد وسط الفوضى

    الفصل التاسع والعشرون. لعنة سجينة داخلها

    الفصل الثلاثون. كلمة بين شفتيه

    الفصل الواحد والثلاثون. نوبيا ملكة الذّهب

    الفصل الثاني والثلاثون. بيبرس بائع المثلجات

    الفصل الثالث والثلاثون. الجواسيس الصغار

    الفصل الرابع والثلاثون. حتشبسوت النبيلة

    الفصل الخامس والثلاثون. سأحطّم جمجمتها

    الفصل السادس والثلاثون. حب في الجحيم

    الفصل السابع والثلاثون. لستُ وهم خيالك

    الفصل الثامن والثلاثون. الجواسيس الكبار

    الفصل التاسع والثلاثون. الأزقة ما زالت تتذكر

    الخاتمة

    من رواية اللحظة بيبرس. المقر ألفا

    حول الكاتب

    رواية اللحظة صفر – ابن الفوضى #1

    ––––––––

    أحمد أ. الخليل

    ––––––––

    تدقيق وترجمة

    أسيل أ. مخيمر

    ––––––––

    لا تخف

    ما هي إلا روايةٌ عابرةٌ

    وستنتهي

    ––––––––

    سلسلة ابن الفوضى #1

    أحداث هذه الرواية حقيقية، أو ربما غير حقيقية

    الأمر متروكٌ لتفسير معنى الحقيقة لديك

    أو ما سوف يغدو عليه

    First edition. June 19, 2022

    Copyright © 2022 Ahmad I. Alkhalel

    Ebook: soofch.com

    Written by Ahmad I. Alkhalel

    "رأيت أنا جوانغ زي مرة في منامي أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك، أني فراشة حقاً من جميع الوجوه. ولم أكن أدرك شيئاً أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني أني فراشة. أما ذاتي الإنسانية فلم أكن أدركها قط. ثم استيقظت على حين غفلة!

    وها أنا ذا منطرح على الأرض رجلاً كما كنت، ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلاً يحلم بأنه فراشة، أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل"

    - جوانغ زي – فيلسوف صيني

    ––––––––

    إذا لم يشك شخصٌ واحدٌ أسبوعياً بأنك مجنون، فأنت لا تُحدث تأثيراً حقيقياً في العالم

    - ألبرت اينشتاين

    ––––––––

    المجانين هم مجرد أشخاصٍ يعيشون ويفكرون بطريقة مخالفة للعقل الجماعي لمحيطهم المليء بالمجانين في نظرهم

    - لا أحد

    الإهداء

    نظنّ أن حكاية كلُ فردٍ منّا تبدأ في مرحلة ما من مراحل حياتنا، وأنّه على منعطف ما، ونتيجة حادثةٍ ما يتحوّل الأشخاص الهامشيون على صفحات الحياة إلى عظماء مؤثرين.

    الحقيقة أن الحكاية تبدأ يوم ولادتنا، فنحن نُصنَع من عوامل عديدة، ليس فقط البيئة والأسرة والأصدقاء، أو ما نسمعه ونراه، بل عوامل أخرى ربما تكون أشدُ تأثيراً، قد لا تراها ولا تسمعها، ولكن في مرحلة ما ستشعر بها، لتعلم أنّ كل ما أصابك كان لا بد أن يصيبك، ليشكّل ما أنت عليه الآن. فالحتمية فرضت كلمتها وانتهى.

    إلى كل المنطوين على ذاتهم، المنعزلين الغرباء عن مجتمعاتهم

    إلى كل المجانين، في نظر من حولهم

    أنتم من يحدث الفارق

    كلمة الكاتب

    عندما كنت طفلاً، حرصت على كتابة كل همومي، أمنياتي وطموحاتي، التي لم تكن طفولية دائماً، أو ربما كانت على ضخامتها طفولية لا تخطر إلا على بال طفل فاق بالسذاجة أقرانه، ثم أحرق هذه الورقة، لاعتقادي بأن هذا سيجعل كلماتي تندمج مع الكون كله، ليقوم بدوره بالتفاعل معها بما يراه مناسباً.

    منذ ذلك الوقت عشت حياة قد لا تكون ناجحة على مقاييس كثيرٍ من البشر اليوم، ولكنها استثنائية جداً، والفارق بين النجاح والاستثناء معضلة شائكة، يفصل بينهما شعرة، فكل استثناء نجاح، إلا أن ليس كل نجاح استثناء، على الأقل هكذا أرى الأمور من منظوري الخاص. ومشكلة الاستثنائيين تكمن، أن كثيراً من الناس، غير مؤهلين لرؤية النجاح خلف استثنائهم.

    فلو أردنا أن نفرز البشر على مجموعات حسب نجاحاتهم الأكاديمية، لصنفنا كل بضعة ملايين منهم في مجموعة واحدة، وهدفي في هذه الحياة، كان ألا أكون في مجموعة مزدحمة.

    في نظري، النجاح الحقيقي، يكمن في المذكرات، فلو قررت يوماً أن تكتب مذكراتك الخاصة، فهل ترى أنها ستكون استثنائية عن باقي مذكرات ملايين وملايين البشر المتزاحمين في مجموعتك؟ أنت من يجيب!

    عندما سألني أحدهم كم من الوقت احتجت لكتابة هذه الرواية؟! كان جوابي واضحاً وصارماً ولا مجال للنقاش فيه، استغرق مني الأمر أربعين عاماً، كما سوف يستغرق كل أمرٍ آخر سأفعله في هذه الحياة، ابتداءً من طريقة تدخيني لسيجارة، وحتى قراراتي المصيرية.

    ويبقى السؤال الشائك

    من كتبها؟

    بكل صدق لا أعلم، كل ما أتذكره كان قراري بكتابة شيء ما، ويدي، أصابعي، وحتى عقلي، كانت مجرد أدوات للكتابة والتعبير، حالها حال جهاز الحاسب الذي استخدمته، أما الكاتب، فهو شيءٌ أو شخصٌ لا أعرفه، قابعٌ داخلَ جسدي يحاربني للخروج من سجنه، فأساومه على بضعِ كلمات تعبر عنه، كنت كفنانٍ تشكيليٍ تائه، لوحته أمامه وريشته بيده لكن أفكاره مبعثرة، لا يعلم كيف يصلها ولا كيف يبدأ، لكن حواسه تبدأ بحياكة نسيجَ أفكارِ ذاك القابع عميقاً داخله، وتترجمه، ليصنع أكثر اللوحات تعبيراً.

    كل سطرٍ كتبته لم أعلم شيئاً عما سيليه! حتى إنني فوجئت ببعض الفصول وتفاعلت معها، تماماً كما ستتفاعل أنت، فقد كانت جديدة عليّ كما هي عليك، وفي بعض الأحيان كنت أقف مذهولاً لأستوعب ما كتبته، أو لأفهم الترابط الذي كنت قد اكتشفته تواً بين الشخصيات.

    هذه الرواية، كانت منجزة سلفاً في داخلي، لا محالة، فقد كُتبت دفعة واحدة، كانت موجودة مسبقاً، أما تفريغها على ورقٍ، فقد استغرق بعض الوقت، أعبرُ بها عن جزء من استثناء أرى أنني عشته في حياتي.

    لا يمكنني تأكيد أحداثها أو نفيها، رغم أنها قد تكون حدثت بالفعل، بكل تفاصيلها، ما يجزم الأمر هو منظور فهمكم للحقيقة، قد تكون حقيقية تماماً، أو مجرد وهمٍ وخيالاتِ حالمٍ، الأمر يرجع لماهية الحقيقة لديك، أو ما ستغدو عليه.

    أقدر تماماً أن وقتك ثمين، صدقني، أنا أكثر من يعلم.

    لهذا كنتُ حريصاً ألا تكون هذه مجرد رواية تقليدية، عادية، للتسلية أثناء شربك فنجان قهوتك الصباحي.

    لعلي أريد بها إثارةَ ذلك الجنون داخلك، الذي قيل لك دوماً، أنه سيكون سبباً في نبذك، وطردك، خارج القطيع.

    أخيراً، في أثناء كتابتي لكلمة الكاتب، لم أكن أحمل جهاز الحاسوب خاصتي، لذا استعنت بجهاز قريبتي ثم التفت إليها قائلاً، هذه محاولتي الأولى للتعبير عن شيءٍ عشته وعلمته. في حال شعرتي بالسرور، الفخر، الاستثناء، يوماً ما، أن كلمة الكاتب كُتبت على جهازك هذا، فسيكون هذا مؤشراً هاماً لمواصلة ترجمة ما يريد قوله ذلك المنبوذ، المجنون في داخلي، على شكلِ روايات.

    أحمد أ. الخليل

    المقدمة

    بحث عنه البشر عبر آلاف السنين من تاريخهم، وقد أجابوا عليه كلَ مرة، على الرغم من أنهم لم يجيبوا ولا مرة، السؤال الأعظم والأكثر منطقية والأكثرُ غموضاً بين الأسئلة الوجودية كلها!

    ماذا كان قبل أن يكون أي شيء؟ كيف نشأ كل شيء؟ ما هو الزمن صفر؟ ما هي اللحظة صفر؟ ما هو اللاشيء؟

    آه، نعم لقد وجدنا الجواب، هي نقطة في السماء، هناك بعيداً، انظر إليها، لقد درسناها وفهمناها وحللناها وبتنا قادرين على فهم كل شيءٍ جاء بعدها، إنها البداية يا عزيزي، التي بدأ منها كل شيء، سواء كان حولك أم لا، أسترح أيها المُنهك.

    وعلى حين غرةٍ ينتفض الفكر بذات السؤال، ولكن من أين أتت تلك النقطة؟

    وبعد بضعِ مئاتٍ من السنين والتطور والتقدم....

    آه، وجدنا الجواب، علمنا من أين أتت، أخطأ أسلافنا. لقد جاء كل شيءٍ وأتت هي من نقطة أصغر منها وأبعد منها، انظر هناك، لقد درسناها وحللناها وفهمناها وبات كل شيءٍ واضحاً، استرح أيها المُنهك.

    ثم يعاود الفكر انتفاضته بذات السؤال، ولكن من أين أتت النقطةُ الأصغر؟

    وبعد بضع آلاف من السنين....

    آه، وجدنا الجوابَ الحاسم، إنها ذرةٌ صغيرةٌ، أصغرُ من كل شيءٍ عرفناه، انفجرت بطاقةٍ هائلة، فوُلِدَ الكون، تمدد، توسع، وسوف يستمرُ بالتوسع حتى تنفذ طاقته، ثم سينكمش على ذاته ويُسحق، أو سيتوسع ويتمدد حتى يتجمد، وفي كلتا الحالتين سيموت، وما بين الولادة والموت، نشأت الحياة، وجدت طريقها من باب الصدفة.

    ثم ينتفض فكرٌ مشاكسٌ، لا يفهم شيئاً في الفيزياء ولا تعقيداتها، لم يدخل مختبراً كيميائياً يوماً، انتهى قبل برهة صاحبه من وجبةِ غداءٍ دسمة، متكئاً على أريكته غيرَ مبالي، لينسف كل فرحةِ اكتشافنا ويعيد السؤال ذاته، حسناً ولكن أين كانت الذرة؟

    -كانت في الفراغ يا مشاكس

    -آه... إذا من أين جاء الفراغ؟ ومن أين أتت الذرة؟

    لحظة!! ومن أين أتت الصدفة؟

    وبعدها وقبلها.....

    لقد وجدنا الجواب، انه الله، الذي خلق كل شيء، كان وما زال وسيظل، أرح عقلك طويلاً، انتهى البحث.

    ثم فجأة يسأل أحد المجانيين، ولكن من أين جاء.....

    اصمت، أنت تكفر بالله الذي خلقك، لا يوجد نقطة بدأ منها كل شيء، ولا حتى ذرة. هذه الأسئلة خارج حدود قدرتنا على التفكير، لا تجاري العلماء ولا الفلاسفة، هذا كفر، يا كافر، اصلبوه، احرقوه، اقتلوه.

    وحين تنتهي مراسم الصلب والحرق، يصحو أحدهم من سكرته الهمجية، ونشوة العقل الجماعي، ويتساءل ...

    أأحرقتموه لأن السؤال خارجَ حدود تفكيرنا؟ ولكن كيف فكر فيه إن كان خارج حدود التفكير! لماذا يعطينا الله القدرة على التفكير في مسألة لا يريد منا البحثَ فيها؟

    ويضيف مجنونٌ آخر، الله يعلم كل شيء، وهو من أعطانا قدرة العصيان، إذاً لماذا يخلقنا ويعطينا هذه القدرة على عصيانه، ثم يعذبنا على ذنب قد علم قبل خلقنا أننا سوف نقترفه؟ فلو سألني الله قبل أن يخلقني، هل أخلقك بشراً بقدرتك على العصيان، أم ملاكاً لا قدرة له على عصياني، لاخترت الثانية، كلنا لاخترنا الثانية.

    ولكن كيف سيسألني وهو لم يكن قد خلقني بعد؟ لا يهم، هو الله قادرٌ على فعل هذا، لماذا لم يخلقني ملاكاً؟ ما ذنبي انا!

    منحني القدرة على اتخاذ القرار؟ حسناً انا لا أرى هذه إلا نقمة، وقراري هو أني أرفض قدرتي على الاختيار، وأنا غيرُ مسؤولٍ عن أي ذنبٍ اقترفه بعد الآن، لا أريدها. كنت سأختار كوني ملاكاً غير قادرٍ على العصيان، أطير هنا وهناك في ملكوت الله بين الكواكب والنجوم، أُسبح بحمده وشكره طوال حياتي، الطويلةِ جداً.

    أليس من العدل أن يكون لدي القدرة على اختيار ماهيتي؟ فمقدرتي على اتخاذ القرار قد تنتهي بي لجنةٍ ونعيم أو لجهنمٍ وجحيم، وقد قررت أنني لا أريد المخاطرة، لا أريد هذه القدرة، لا أريد جميع ملذات بني الإنسان، المباحة منها والمحظورة، لا أريدها كلها، أريد أن أصبح ملاكاً وهذا قراري، فلمَ المخاطرة بالمكوث في الجحيم يوماً واحداً؟

    لحظة! ....

    الاختيار؟ القرار؟ هل أنعم الله عليّ بسلبي القدرة على عصيانه من قبل! في حياةٍ سابقةٍ ربما؟ وقد فعلت هناك أشياءً جَعلتْ من حياتي هذه لوحةً مرسومةً مسبقاً؟ ولكن ماذا حدث هناك؟ وكيف وصلتُ إلى هنا؟ ما الذي اقترفته، حتى عُوقِبتُ بمنحي القدرة على عصيان الخالق؟

    اصلبوا الثاني والثالث والرابع والعاشر... احرقوهم، هذه الأسئلة محرمة عليكم، ستقودكم إلى الجنون، أو الكفر بالله.

    ولكن هل سبق وسُمح لنا بالتفكيرِ في هذه الأسئلة، حتى نجد الإجابات وهل وجد أحدهم الإجابات من قبل ثم كفر؟ نحاول دوماً جعل السؤال متشبثاً بالأديان حتى نتهربَ من الإجابة عليه، الإجاباتُ مختلفة كلٌ منا على نهج دينه، القناعاتُ مختلفة، لا إجابةٌ مقنعة، لا إجابةٌ من الأساس...

    توقف عن هذه الأسئلة الوجودية فهي إحدى مراحل اللاتوازن النفسي المؤلمة! توقف عن افتعالِ هذه الفوضى الفكرية.

    الفوضى الفكرية هي ألا تعرف إجابةً لهذه الأسئلة، ثم لمَ قلت الفوضى! ألم يرتب الله كل شيء في ملكوته اللانهائي؟ وأفكاري جزء من هذا الكل؟ فكيف أسميتها فوضى؟

    بعد برهةٍ من الزمن، وآلاف مراسمِ الصلب والحرق، يصمت الجميع، الألم لا يطاق، هذه الخلايا الحسية تعذبنا، تستعبدنا، لو أن عقلي توقف عن معالجتها أو الاستجابة لها، أو تجاهل إشاراتها العصبية ببساطة، لما خفتُ من النتائج، ولما توقفت عن البحث عن إجابة.

    الألم؟ لماذا لم يتعلم العقل التحكم به عبر آلاف السنين من التطور!، هذا العقل في هذا الجسد، أكثر الأجهزة المعروفة تعقيداً عجز عن إيجاد آليةٍ بسيطة، بسيطةٍ جداً، للتحكم في عملية نقل الإشارات العصبية، ليجعلها أقلَ ألماً إذا اقتضى الأمر.

    هل عجز العقل عن إيجادها حقاً؟ أم أنه تعمدها مع سبق الإصرار والترصد؟ هل هو مبرمجٌ لجعلنا نخاف الألم؟ هل الألم ما يحدد حدودنا التي لا يمكننا تخطيها بسبب الخوف من العقاب أو الشعور بالألم؟ أليس الأمر نابعاً من داخلنا؟ هل منحنا الله القدرة على العصيان والقدرة على الشعور بالألم حتى يحقق التوازن؟

    آه... مبارك لكم، لقد اكتشفنا للتو أصولكم...

    مبارك لكم أيها القردة، الأذكى.

    لا لم نثبت شيئاً، ولكن هذه الهرطقة تستحق أن تكون نظرية، لم نثبتها أصلاً ولم نقترب حتى، ولكنها تستحق الجوائز! أولاً وأخيراً يجب علينا إيجاد إجاباتٍ ونظرياتٍ تشبع شهوة الهامشية لديكم حتى وإن كانت لا تصدق.

    أيها الرجعيون المتدينون المتخلفون! اختلقتم فكرة الله من بنات أفكاركم، كيف تنكرون أصولكم، لولا الحمض الأميني، لولا صعقة البرق تلك، لولا الصدفة والحظ، لما كان لكم وجود.

    حسناً يا سيدي، ولكن عذراً، من أين أتت صعقة البرق تلك :)

    أكتفي بهذه المقدمة، وقبل بداية الفصل الأول سأنقلك مباشرةً إلى النهاية، نهايةٌ قبل البداية، فرصةٌ ذهبية علك ترح نفسك من عناء المضي في قراءة قصة أبطالها ثلةٌ من المتخبطين والمرضى النفسيين، ولكن قبل اتخاذ قرارك بالتوقف، وأرجح أن هذا ما سيشجعك عليه عقلك، أو ربما يفرض رأيه بأن يأمر جسدك أن يقوم بإفراز بعض هرمونات الضيق أو ما يشابهها، لمَ لا؟ أليس هو من يسيطر على كامل جسدك، فكر للحظة، ماذا لو...

    ماذا لو كان عقلي هو ألد أعدائي؟

    النهاية

    الفصل الأول. أوراق الشجر

    وقف أطفال الحي في أحد أزقةِ مدينة الخليل القديمة في فلسطين، ليس بعيداً عن المسجد الإبراهيمي، حيث مقامات أنبياء الله إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوب وزوجاتهم. يراقبون بسخرية ذلك الرجل الثلاثيني العربي، تعلو محياهم ضحكاتِ الاستهزاء الطفولية. فهذا غريب الأطوار، واقفٌ منذ أربعِ ساعاتٍ أمام شجرة الزيتون، منهمك في شيءٍ هام، يحرك أصابعه على أوراقها تارةَ، يضعُ شريطاً على غصنٍ، ثم ينتقل للغصن التالي.

    لقد دأب موسى منذ أيامٍ على تكرار هذا المشهد بصورةٍ منتظمة، يقف ساعاتٍ طوال أمام شجرةِ زيتونٍ، يختار من بينها أكبرها، وبلا كلل ولا ملل، يبدأ بعد أوراقها.

    لم يفهم أهالي الحي ما أصابه! شابٌ يافع رزينٌ ذكي، أسمر البشرة، طويل القامة، مفتول العضلات، يقضي أغلب وقته بين عمله ونادي بناء الأجسام، مرتبط، وزواجه قريب، ناجحٌ مهنياً، موظفٌ في إحدى شركات العلاقات العامة المرموقة، إذا تحدث اقنع وإذا صمت تعلم.

    فجأةً دخل في عزلته، أغلقَ على نفسه باب بيته، بالكاد يراه أحد.

    وبعد أشهر بدأ يخرج، بشرته شاحبة، منهك، تعب، كأنه بقي في عزلته ألف عام. كلُ شيءٍ فيه منهك إلا عضلاته المفتولة، وكأنه يملك نادي لبناء الأجسام في منزله.

    لعله أصيبَ بمسٍ شيطانيٍ، يقف ساعات وساعات لا يفعل شيئاً إلا عد أوراق الشجر! يهمس بصوت خافت وحازم، سأستهلك كل ما تبقى لديك، أنا السيد هنا. هل تتألم؟ أطعني إذاً...!

    بعد ساعات طوال، يقف للحظة، لقد نسيت! أين وصلت بالعد؟ لمَ نسيت؟ تباً لك، تتلاعب؟

    ثم يحل جميع الأشرطة، ويبدأ من جديد. وهذه المرة بلا أشرطة، فضلاً عن عدد الأوراق فستتذكر جميع الأغصان المنتهى من عدها بلا علامات.

    وسنعلم من منا أصلبُ رأساً وأعند رأياً.

    الفصل الثاني. مفتاح التطور

    على ضفاف نهر البسفور في إسطنبول، يتلألأ متحف التوب كابي، بجوار كنسية أيا صوفيا وعلى مرمى حجرٍ من مسجد السلطان أحمد، يضم المتحف عدداً من أعظم تراث المسلمين، بضع خصلاتِ شعرٍ قيل إنها لنبي الله محمد، وعددٍ من مقتنياته الشخصية.

    وقف روبرت ويل طالب الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتقنية في ممرٍ ضيق في أحد أبنية المتحف عائداً بخياله قرنٌ ونصف القرنِ من الزمان، موجهً كلامه لرداءٍ أصفر اللون، عباءةٌ عربيةٌ قديمة، وضعت في صندوقٍ زجاجيٍ كبير مُحكم الإغلاق، يحيط به أكثر أنظمة الإنذار حساسية في العالم، عباءة ثمينة جداً، قيل أنها تعود لنبي المسلمين محمد.

    ينظر لها بكل وقار، متسائلاً: كيف عرفت أن هذا ممكن الحدوث؟ قبل قرن ونصف! كيف علمت بذلك!

    شابٌ في منتصف العشرينيات من عمره، طويلُ القامة، نحيلُ الجسد، أبيض البشرة، أزرق العينين، شعر بني ووجه مستدير، خليط من الأعراق، أبٌ إنجليزي، أمٌ يهودية بولندية، يشببها كثيراً، بينما العناد وصلابة الرأس؟ فهذا إنجليزيٌ لا محالة.

    لم يثنه كونه ابن أحد سماسرة العقارات عن اختيار المجال الأكاديمي، فقد شغفته الفيزياء حباً، ففي طفولته اعتاد مراقبة الغيوم وحركتها الفوضوية، النجوم وأشكالها، مواقعها، المسافات بينها، وجد في الفيزياء مجالاً من الخيال لا متناهياً في التفكير والبحث المستمر عن إجابات، ليس بالشيء الجديد فالإنسان بطبعه يمجد ما يثير فضوله.

    وعلى الرغم من دراسته لإدارة الأعمال تحقيقاً لإرادة والده، ثم تخبطه بين رغبته في جعل الفيزياء جزءاً من حياته ومساعدة والده في عمله، إلا أنه تمكن أخيراً من تحقيق حلمه بالالتحاق في معهد ماساتشوستس للتقنية في مدينة كامبردج شرق الولايات المتحدة الأمريكية. واحدٌ من أرقى المعاهد في العالم، إن لم يكن أرقاها، تخرج منه أعظم علماء الفيزياء في القرنِ العشرين، وأكثر نتائج أبحاث الفيزياء بشاعةً، القنابل الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناجازاكي.

    لأي شابٍ، فالدراسة هنا حلمٌ بعيدُ المنال، فبالنظر لمصاريف المعهد السنوية التي تقارب ال 60 ألف دولار أمريكي، ومثلها لمصاريف السكن الخاص والمعيشة، روبرت كان محظوظاً جداً، فهو واحدٌ من ألف طالب فقط تم قبولهم، من أصل 22 ألف طالبٍ تقدموا للالتحاق بالمعهد هذا العام.

    أشارت الساعة إلى الثانية عشر والربع ظهراً حين خرج من المتحف، سار في زقاقٍ صغير نزولاً نحو المدخل الرئيسي لحديقة غولهانه القريبة، جلس في مقهاها المجاور لسورها التاريخي.

    كانت هذه الحديقة ملحقة بقصر التوب كابي في عهد سلاطين الدولة العثمانية، مخصصة لحاشية السلطان وحريمه، زوجاته وجواريه، لهذا فالباب الوحيد من القصر الذي كان يمكن وصولها منه هو باب مبنى قصر الحريم، هذا قبل أن تقوم الحداثة بعملها على أكمل وجه، وتحول أكثر الأماكن حرمة للسلطان إلى مزار للسياح وتفتح أبوابه من كل اتجاه.

    نظر مطولاً إلى قائمة المشروبات ثم طلب فنجاناً من القهوة التركية.

    -مشهدٌ غريبُ أن يحتسي أجنبياً هذا النوع من القهوة! أتاه صوت النادل مع نظرة استغراب ممزوجة بابتسامة ودودة، وهو يسجل الطلب.

    -ودون أن يلتفت: هو المشروب القومي هنا، صحيح؟ أودُ تجربته.

    -ضحك النادل: من قال لك هذا؟

    -نظر إليه: اسمه؟ ألا يكفي؟

    -بنظرةٍ تخفي وراءها سخرية، أجابه: لا يا سيدي، اسمها القهوة التركية، لكنها تُزرع وتستورد من البرازيل، وهي بمثابة مشروبٍ قوميٍ عند العرب، إن أردت تجربة مشروبنا القومي فعليك بكأسٍ من الشاي التركي، أنا على يقينٍ أنك لم تتذوق مثله من قبل.

    -أثارت جملة النادل الأخيرة حفيظته: الشاي؟ هل تعلم أني إنجليزي! هل تذوقت الشاي الإنجليزي من قبل؟

    النادل: بالتأكيد، لكن عليك تجربة الشاي التركي قبل أن تتعجل بالحكم يا سيدي.

    روبرت: ربما لاحقاً، الآن دعني أجرب مشروب العرب، فيبدو أن حكايتي معهم ما زالت في بدايتها.

    قادماً من مطار بن غوريون الدولي في تل أبيب عاصمة إسرائيل، هبطت به طائرة الخطوط الجوية التركية في الساعة الثانية عشرة وأربعون دقيقة من ظهر اليوم السابق.

    سارع الخطى، لم يطق صبراً، أراد الوصول إلى ساحة السلطان أحمد في قلب إسطنبول القديمة، القسطنطينية. أنهى إجراءات القادمين، خرج إلى باحة المطار، استقل سيارةَ أجرة، إلى ساحة السلطان أحمد.

    السائق: ما اسم الفندق يا سيدي؟

    روبرت: أريد الذهاب إلى متحف التوب كابي مباشرة

    -هل تود زيارة المتحف؟

    -نعم

    -ولكن أخشى ألا يسعفك الوقت لزيارته اليوم، فأبوابه تغلق في تمام الساعة الثالثة عصراً.

    نظر إلى ساعته، أشارت إلى الثانية والخمس دقائق عصراً، أخرج من جيبه هاتفه النقال، فتح تطبيق الحجوزات الفندقية وأظهر عنوان الفندق للسائق، في وسط الساحة التي تعج بعشرات الفنادق القديمة الصغيرة، ذات الغرف الضيقة، فالسكن هنا في أكثر الأماكن اكتظاظا بالسياح في تركيا، مكلفٌ جداً.

    انطلقت سيارة الأجرة، أحاطت التلال الخضراء بالطريق من كل جانب. كان قد أجرى بحثاً سريعاً عبر الانترنت عن هذه المدينة، قبل أن يحسم أمره بأن عليه زيارتها ومقابلة أحدهم.

    ماذا أفعل هنا؟ ما الذي أصابني؟

    قبل شهر حين كلمته أمه هاتفياً من لندن، كان جالساً برفقة زميلته كريستين في مقهى فوربس العائلي في معهد ماساتشوستس، يخطط لإجازةٍ تمتد لأسبوعٍ كامل، وكيف سيستغلها لاستدراج هذه الفيزيائية الحسناء للوقوع في فخ علاقةٍ جادة.

    كريستين فتاة خجولة، ذكية، طاقتها نحو الفيزياء لا تنضب بقدر غموض الكون، أعتقد أن التعبير يكفيها حقها، حاصلة على منحةٍ خاصة للالتحاق بالمعهد، نظراً لتفوقها الأكاديمي، من عائلة كاثوليكية محافظة من أصول أيرلندية هاجر أجداها لولاية كاليفورنيا في القرن التاسع عشر.

    الخجل في المرأة سمة باتت نادرة، ولكن ما زال لها ذات التأثير القديم على الرجل، فلا شيء في هذه الدنيا يثير الرجل نحو المرأة كخجلها. عيناها الزرقاوان الصافيتان وكأنهما السماء في نهار يومٍ ربيعيٍ مشمس، كبحر من السكون يقبع خلف نظارتها ذات الإطار الأسود، شعرها الذهبي وبشرتها البيضاء، قوامها المعتدل، وجسدها الممتلئ، تنظر إلى فنجان قهوتها مرة، وإلى المخرج مرتين قبل أن ترمقه بنظرةٍ سريعةٍ خاطفةٍ خجولة.

    آخر ما كان يتوقعه، هو شيءٌ يقطع روعة هذه اللحظة، لكن أحياناً تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. وصله اتصالاً هاتفياً من شخصٍ لا يمكنه تجاهله، استأذن منها وذهب بعيداً بضعَ خطواتٍ.

    روبرت: مرحباً أمي، كيف حالك

    الأم: بخير، سأذهب إلى تل أبيب في نهاية الأسبوع، هل لديك ارتباطات؟

    -ضحك وقد فهم مقصدها: وما دخل ارتباطاتي في مخططاتك للسفر؟

    -بنبرة الموبخ: هل ستأتي معي أم تدعني فريسةً للمتعصبين؟ أبوك مشغولٌ في عمله، في الحقيقة هو دائماً مشغولٌ عن القيام بأي واجبٍ ديني.

    -حسناً لا داعي للحديث بهذا الموضوع مجدداً، للأسف لدي موعدٌ في نهاية الأسبوع، ربما عليك تأجيلها.

    - وهل هناك موعد أهم من موعدٍ مع الله؟

    - سنلتقي في تل أبيب، أرسلي لي موعد وصول طائرتك

    لم يكن له أن يرفض طلب أمه لزيارة حائط المبكى في أورشليم القدس، فهي يهودية متدينة، أما أبوه، ورغم كونه من عائلةٍ مسيحةٍ متدينة، إلا أنه يعبد العقارات أكثر من أي شيءٍ آخر.

    فمنذ سُمح للنساء بالصلاة عند الحائط في عام 2013 بقرارٍ رسميٍ صادر ٍعن المحاكم المختصة في إسرائيل، دأبت أمه على فعل ذلك، رغم جميع الانتقادات والرفض وبشكل خاص من التيار اليهودي المتشدد الحريديم والذي تسبب بأعمالِ شغبٍ وصل في بعض الأحيان للتهجم على النساء المصليات.

    لهذا ما كان ليترك أمه تذهب وحيدة، ليس الآن على الأقل، ففي زيارتها الأخيرة تعرضت للبصق والتهجم من المتشددين، كادوا يقتلونها، وما كان ليغضبها وهو يعلم كم من الجهود بذلت مؤخراً في إقناع أبيه على مساعدته في دفع تكاليف الدراسة الباهظة في معهد ماساتشوستس.

    وسط هذه الأجواء من الفوضى الدينية، وجدت حياتهم الأسرية سبيلها للاستمرار، فالحب يصنع المعجزات، أو هكذا يقولون، وهو يعلم أهمية زيارة حائط المبكى بالنسبة لها، فلا بد أن أمه المنتسبة لجماعة نساء حائط المبكى لديها ارتباطات هامة، فقد كان لها دور فاعل وهام في نضالهم المستمر منذ عام 1988 للحصول على قرارٍ رسميٍ بالسماح للنساء بالصلاة عند الحائط. وقد حرصت منذ طفولته على اصطحابه معها إلى أورشليم كعادة جميع اليهوديات، فالمرأة اليهودية تورث دينها لأبنائها.

    عاد إلى مقعده يجر أذيالَ الخيبة

    -كريستين أعتذر لدي ارتباطٌ هام في نهاية الأسبوع، لن نتمكن من الخروجِ سوياً

    كريستين متعجبة: عفواً؟ هل كنا قد اتفقنا مسبقاً على الخروجِ سوياً في نهاية الأسبوع؟

    احمرّ وجهه، تصبب عرقاً، تباً لي، لا يوجد بيننا اتفاق على أي شيء! لقد أراد الخروج معها حتى أنه توهم أنه قد طلب هذا وقد قبلت!

    -أعتذر، لم أقصد هذا، تلعثم ثم أضاف: كل ما قصدته أنني كنت أنوي فقط، وددت، فقط أردت،....

    قاطعته: لا عليك، هل استجد لديك شيء؟ ارتباطٌ مفاجئٌ ربما؟

    روبرت: نعم، اسمعي، أود الاعتذار أنا لم أقصد...

    قاطعته مجدداً: لا عليك يا روبرت

    احمر وجهها خجلاً، ثارت رجولته، تأججت مشاعره، حين قالت: في الحقيقة أنا غير منزعجة أبداً.

    لم يكن صعباً على فيزيائيةٍ بذكائها أن تفهم ما خلف نظراته لها، يتفحصني كلما جلسنا، ينظر إلى أدق تفاصيلي كلما أشحت بنظري عنه، شفتاي، رقبتي، كتفي، نظرات ملؤها الشغف والرغبة، هي خجولة ولكنها أنثى، لن تفشل في الإحساس برغبات رجل نحوها، وهذه أحد أهم نقاط قوتها التي ورثتها عن أسلافها نساءُ العصرِ الحجري.

    تشيح بنظرها عنه، ولكنها ما زالت تراه، فالمرأة ترى محيطها بنظرة شاملة أوسع مما يراه الرجل، تلتقط مستشعراتها المخاطر، المشاعر، الرغبات المكبوتة، أضعاف ما يمكنه ذلك.

    يكفي أن تقف أمام خزانة الملابس ودون أن تحرك رأسها أو عيناها، ترى جميع محتوياتها، تجد ضالتها في ثانية، في حين على الرجل أن يحرك عيناه ورأسه وربما معظم أعضائه بالإضافة لجميع حواسه ليتمكن من إيجاد ما يبحث عنه، وفي الغالب يفشل في ذلك.

    هكذا طور عقلنا هذه القدرات الجسدية، عبر آلاف السنين، كلما دعت الحاجة، فحاجة الرجل كانت التركيز على سهمه وفريسته، فتطورت رؤيته الأمامية، صار أكثر تركيزاً، في حين أن حاجة المرأة هي حماية المسكن والأطفال من المخاطر، فتطورت نظرتها الشاملة لترى محيطها بشكل أوسع من الرجل. هكذا برمج عقلنا نفسه، وعلى هذا النهج طور قدراتنا.

    ما ليس له حاجةً به يتركه أو يهمله حتى يذبل ويموت، وما يتهيأ له أنه بحاجته، يبقيه، يعززه، ويقويه.

    الضرورة، هي كلمة السر ومفتاح التطور.

    حتى الرياضيون يدركون هذا جيداً، ففي صالاتِ بناء الأجسام يرفعون الأوزان تدريجياً، لإجبار عقولهم على تغذية وبناء العضلات، وطالما أنهم ما زالوا يتألمون في رفع وزن ما، فإن عقولهم تدرك أنهم بحاجة للمزيد من القوة العضلية، ليتمكنوا من التعامل مع هذا الوزن بلا خطر، فيبدأ العقل بتدعيم العضلات بالبروتين، بالتالي تقويتها وزيادة حجمها، بل إن لم يجد البروتين الكافي في النظام الغذائي، قام بتخليقه.

    وكلما أصبحت العضلات أقوى، وأصبح حمل الوزن على المتدرب أكثر سهولةً، قام بزيادته، ليبدأ العقل بتقوية العضلات أكثر للتعامل مع الوزن الجديد. وإذا توقف عن زيادة الأوزان، تجمدت العضلة عند القوة والحجم الكافي لحمل الوزن الحالي.

    مبدأ الإهمال والاستعمال، ما له حاجةً يبقى، وما ليس له حاجةً يفنى.

    ولكن حاجةَ موسى مؤخراً أثناء ذهابه لصالة بناء الأجسام لا تكمن في تحفيز العقل على تلبية الحاجات العضلية.

    بل أسبابه كانت أكثر عمقاً وخطورةً وجنوناً....

    وحاجة من منا!...

    الفصل الثالث. يوم الصلاة

    -حسناً يا سيدي، هل تريدها سادة؟

    -عفوا؟ سادة؟

    هذه أول مرة يسمع بها هذه الكلمة، كلمة عربية يستخدمها الأتراك كذلك، تعني بلا إضافات، وعندما يتعلق الأمر بفنجانِ القهوة، يصبح المعنى بلا سكر.

    اعتذر النادل: أقصد هل تريدها بلا سكر يا سيدي.

    -نعم

    عجت الحديقة أمامه بالورود من مختلف الأنواع والألوان، بروائحها الزكية، ينشر عبقها الطمأنينة والراحة لمن حولهم، وتحت ظلالِ أشجارها المعمرة الشاهقة، بين حدائق الورود اختلط البشر من مختلف الأعراق والأديان، اتخذت منها آلاف الطيور مسكناً لها، صوت تغريدها يُنازع صوت أغصانها في تمايلها مع نسمات الرياح، ما أطيبَ هذه القهوة، بل ما أطيبَ أي شيءٍ هنا. وعلى بعد أمتار منه، سار العشاقُ أسفل قوسٍ من الورود امتد لبضعة أمتار، تذكر كريستين، ليتها معي الآن.

    جدوله اليوم حافل، فعليه لقاء الشيخ رسلان.

    الشعب التركي في غالبيته مسلمٌ، من أتباع المذهب الصوفي، وأغلب هذه الغالبية يتبعون الطريقة النقشبندية، وبصورة أكثر دقة، النقشبندية الخالدية والتي أخذت اسمها من خالد البغدادي الذي توفي في القرن التاسع عشر.

    لطالما فكر بهذا التشعب والتشظي، وفعلاً هو أمرٌ موجودٌ في جميع الأديان، بل والأحزاب والجماعات، وكل شيءٍ آخر.

    لماذا ينقسم البشر؟ لو أننا وضعنا اثنين في غرفةٍ واحدة طوال حياتهم لانقسموا لطائفتين.

    جاء كلُ رسولٍ بدينٍ واحد، إلا أن الأتباع أصروا على التشعب والتشظي، فكل ذهب بمذهبه، وكل مذهب تشعب إلى طوائف، وكل طائفة تشعبت إلى جماعات، وسرعان ما بدأوا يتصارعون، وكأن الطبع البشري يغلبه التشظي، والتشرذم، وحتى دين الإله لم يسلم منه.

    قبل أشهر فقط، لم يكن ليخطر في باله أنه سوف يجري هذا البحث الموسع حول المذهب الصوفي، أو يتعرف على أحدهم عبر الإنترنت، فضلاً عن أن يسافر للقائه، هنا في إسطنبول. ولكن الذي حدث في زيارته مع أمه إلى إسرائيل، كان شرارةَ سلسلةٍ من الأحداث، فاقت كل أنواع الخيال، وما سمع به تحدى الزمن، ودغدغ الفيزيائي بداخله.

    وشيءٌ آخر، فالانتقام كالحب، يصنع المعجزات.

    مستقلاً رحلته من مطار بوسطن لوجان الدولي، في تمام الساعة 9:50 دقيقة صباحاً، رحلةٌ لساعة واحدة إلى مطار جون أف كنيدي في واشنطن، انتظارٌ سريعٌ لساعةٍ واحدة، ثم رحلةٌ ثانية لمدة 10 ساعات إلى مطار بن غوريون الدولي في تل أبيب.

    وجد أمه في انتظاره في المطار، تعتليها البهجة.

    -هل الصلاة تستحق كل هذا السفر والعناء يا أمي؟

    -ليس الوقت المناسب لإغاظة أمك، تعال لأحتضنك، لقد اشتقت لك يا بني.

    -يومان فقط، ثم سأعود إلى المعهد، لدي ارتباطات قبل نهاية الإجازة.

    -حسناً يا بني، سوف نذهب اليوم لزيارة جدتك، هي مشتاقة لك، أعدت لنا وليمة مدعوٌ لها جميعُ أفرادِ العائلة، غداً تستريح، وبعده الصلاة، بعدها أنت حرٌ طليق.

    وجبة عشاء دسمة، وسهرة عائلية تخللها الكثير من الذكريات، المزاح، والاستهزاء بتلك القصة الإسلامية الخيالية حول حائط المبكى، علت قهقهة أمه، رجل البرق، ذلك الكذّاب!

    بعد يومين استقل وأمه السيارة، وتوجها إلى أورشليم أو مدينة القدس بالعربية، إلى حائط المبكى، ساعةً وربع الساعة هي المسافة لها من مدينة يافا القديمة أو تل أبيب.

    كان اسمه تل الربيع بالعربية، حي صغير في مدينة يافا الفلسطينية، وبعد قيام إسرائيل في عام 1948 ميلادي توسع هذا الحي، نواة عاصمة إسرائيل، حتى التهم مدينة يافا بأكملها.

    أورشليم مدينة جميلة، لا شيءَ يعكر صفوها إلا تلك. قالت أمه وقد برزت أمامهم تلك القبةُ الذهبيةُ الضخمة اللامعة تحت أشعة الشمس المقدسية.

    يسميها المسلمون بقبة الصخرة، بناها الخليفة الأموي المسلم عبد الملك بن مروان في عام 691 ميلادي، بعد ستة سنوات من العمل الشاق، بجوارها يقع المسجد الأقصى ثاني أطهر الأماكن المقدسة عند المسلمين بعد مكة. لا يُعرف تحديداً متى بُني المسجد الأقصى أولَ مرة، فمن المؤرخين من قال أن آدم أبو البشر من بناه، ومنهم من قال أنه سام ابن نوح، وآخرون رجحوا أنه نبي الله إبراهيم، المؤكد أنه قديم جداً، قدم البشر أنفسهم.

    بناءٌ بهذه الأهمية، حروبٌ عظمى دارت عبر التاريخ من أجله، قصص وروايات غريبة! أنبياءٌ ورسل، قديمٌ كفاية لأن تنسى ذاكرة البشرية متى ومن أول من بناه! لقيّ عبر التاريخ أهميةً خاصة، أُعيد بناءه وترميمه مراراً وتكراراً، بجواره تقع أكثر الأماكن قدسية لدى اليهود، حائطُ المبكى، يقولون أن ما بقي من هيكل نبي الله سلميان مدفون في مكانٍ ما تحت هذه الأرض، وليس بعيداً عنه، في الحي المسيحي، تنتصب كنسية القيامة شامخة متحدية الزمن والحروب والمجازر، يقول المسيحيون أن عيسى ابن مريم قد صُلب حيث بُنيت، أطهر بقاع الأرض عندهم.

    وقبل قرنٍ ونصف من الزمان، باتت هذه الأرض وما عليها ملك للمسلمين أو هكذا يدّعون، حين توجه باتجاهها نبيهم محمد من مكة في الجزيرة العربية على بعد آلاف الأميال، وأدى أول سجدةٍ في صلاتهم.

    يومها اكتسب المسجد الأقصى اسمه، أولى القبلتين، وبعد هذه السجدة قرر المسلمون أنه لهم، وأمرهم نبيهم باسترداده وبشّرهم بذلك، وقد حدث هذا بالفعل بعد بضعةِ أعوامٍ فقط من موته في عهد خليفته الثاني عمر ابن الخطاب.

    ورغم وقوعه تحت سيطرة أعظم الإمبراطوريات إطلاقاً وقتها، الإمبراطورية الرومانية، فإنه بطريقة درامية على غرار قصص ألف ليلة وليلة تمكن بضعة آلاف من المسلمين في عام 636 ميلادي من هزيمة الإمبراطورية الرومانية وجيشها الذي بلغ قوامه ربع مليون في معركة اليرموك في الأردن، وهذا تزامناً مع نفس العام الذي تمكن فيه بضعة آلاف آخرين منهم يقاتلون بعيداً في العراق وإيران، من تحطيم ثاني أعظم الإمبراطوريات في وقتها، الإمبراطورية الفارسية، معلنين عن قيام إمبراطورية جديدة سيتردد صداها أبعاداً كثيرةً عبر أصقاع الدنيا كلها.

    تمنت أمه لو لم يكن هذا المسجد هنا، فاليهود يؤمنون أنه في مكان ما تحت هذا البناء يوجد هيكل نبي الله سليمان، ولقدسيته عند المسلمين لم يتجرأ أحدٌ على هدمه طوال 74 عاماً من قيام إسرائيل وسيطرتها على المدينة، يعرفون إن مسه شيئاً من الأذى فسوف يخرج العالم كله عن السيطرة، فهو مقدسٌ عند المسلمين بقدر قدسية مكة.

    ورغم ذلك حاول العديد من الجماعات والمتطرفين اليهود إلحاق الأذى به، حاول بعضهم حرقه سابقاً وتجري حفريات بذريعة البحث عن الهيكل تحته، يتهم المسلمون إسرائيل أنها تستهدف هدمه.

    وكلما حدث واقتحمت القوات الإسرائيلية باحة المسجد، تنتفض القدس كلها، وتقع صدامات دامية بينهم وبين أهلها المسلمين.

    منذ سكنها الكنعانيون، ودخلها نبي الله موسى ببني إسرائيل، مروراً بعيسى ابن مريم نبي الله كما يقول المسلمون أو ابن الله كما يقول المسيحيون، سمه كما تشاء، مر فوقها إمبراطوريات وممالك، بقيت هذه الأرض مضطربة وبقي ذلك المسجد قائماً، الكل يريدها، الكل يدّعي ملكيتها.

    ثم بعد سيطرة المسلمين عليها شنّ عليها المسيحيون حملاتٍ سُميت بالحملاتِ الصليبية بدأت في عهد البابا أوربان الثاني، توحدت فيها جيوش أوروبا، في محاولات حثيثة لاستعادتها، واستمرت قرابة المائتي عامٍ منذ عام 1096 ميلادي.

    نجحت حملات الصليبيين باستعادتها من أيدِ المسلمين في عام 1099 ميلادي ومساحةٍ كبيرةٍ من بلاد الشام، وبقيت تحت حكمهم، وبقي ذاك البركان في قلوب المسلمين يغلي، حتى عام 1187 حين ثار، وتدفقت حممه بقيادة القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي ونجح باستعادتها مرة أخرى، ثم بعدها بدأت الحملات الصليبية الثانية، بقيادة ريتشارد قلب الأسد، والتي مُنيت بالهزيمة والفشل.

    حل السلام أخيراً في مدينة السلام قرابة ال 800 عام التي تلتها، ازدهرت، أصبحت منارة للعلم والثقافة، جمعت بين جميع الأديان، بهدوءٍ وحبٍ ووئام، حتى سقطت الدولة العثمانية في عام 1924 ميلادي، واحتلت بريطانيا فلسطين، ثم سلمتها لليهود ليعلنوا بها قيام دولة إسرائيل، وليعود الاضطراب مجدداً.

    واليوم كان أحدَ الملايين منها!

    الفصل الرابع. نشوة الألم

    قررت مجموعة من المتطرفين اليهود اقتحام باحة المسجد، وكالعادة وقعت اشتباكات بينهم وبين من يسمون أنفسهم بالمرابطين المقدسيين، مجموعات من أهالي القدس لا يخلون ساحات المسجد الأقصى أبداً، يتبادلون نوبات الحراسة فيما بينهم.

    وصلا على مقربةٍ من المدخل الشرقي

    -أمي هناك صدامات! دعينا نعود أدراجنا

    لم يكد ينتهي من هذه الكلمات، حتى خرج مجموعة من الشبان في الشارع خلفهم، مجموعة أخرى ترشق الجنود بالحجارة أمامهم، امتدت الاشتباكات لخارج الساحة، بدأ الجنود يطلقون قنابل الغاز نحوهم.

    مسرعين وسط هذا الصخب، يحاولون العودة إلى السيارة، سقطت إحدى قنابل الغاز بجوارهم، وقعت أمه شبه مغشيٍ عليها.

    -النجدة، النجدة

    يصرخ نحو الجنود، ولكنهم منشغلين بما هو أهم بالنسبة لهم.

    احمرت عيناه، لم يعد يرى شيئاً، سالت دموعه، نوبةٌ من السعال الجاف، ضيقٌ في التنفس، أعماه الغاز، حمل أمه وبدأ يسير بلا هدىً، أحس بيدٍ تمسكه، ويدٍ أخرى تساعده في حملها، اقتادهم رجل وفتاة بعيداً.

    بالكاد كان يستطيع فتح عينيه حين لمح المنازل القديمة، حيٌ قديم، أزقةٌ ضيقة، فجأة توقفوا، وضع شخصٌ ما بين يديه زجاجةً من المياه الغازية، قال له اغسل وجهك بها سريعاً، تحرقه عيناه بشدة، في حين أُسعفت أمه داخل إحدى سيارات الإسعاف المتوقفة.

    وما إن غسل وجهه بالمياه الغازية حتى بدأت آثار الغاز مسيل الدموع تخف تدريجياً، بدأت تلك الغشاوة تنقشع عن عينيه، تسمر في مكانه، في نقطة طبية ميدانية في وسط حيٍ عربي، يحيط به العرب، وأمه في سيارة إسعافٍ مخصصة لإسعاف المصابين من المرابطين المقدسيين.

    -لا تخف، سنساعد أمك.

    علا صوتٌ ذكوريٌ يتحدث الإنجليزية بجواره، نظر إليه والعرق يتصبب منه، لم ينبس ببنت شفة.

    خرجت الفتاة من سيارة الإسعاف.

    -إنها بخير، لا تخف، ارتفاعٌ بسيط في ضغط الدم، سببه الغاز والخوف، لقد استعادت وعيها.

    مد الرجل يده مصافحاً: انا موسى

    -أهلاً بك وأنا روبرت

    -لا تبدو من هنا! هل أنت أجنبي؟

    -نعم بريطاني، وأمي كذلك

    ضحك موسى: لا تخف لن نؤذيك حتى إن كنت إسرائيلياً ثم أردف: ما الذي جاء بك إلى هنا؟

    تلعثم، تصبب عرقه أكثر...

    موسى: آه، أنتم يهود؟

    روبرت: لالا لسنا يهود صدقني، نحن هنا للسياحة فقط.

    إلا أن صلوات أمه التي لا تدرك مكانها بعد في داخل سيارة الإسعاف، فضحت كل شيء.

    التفت إليه: في الحقيقة أمي يهودية نعم، ولكن أرجوك عليك أن تتفهم....

    قاطعه موسى: قلت لك يا سيدي لن نؤذيك، ولكن علينا الخروج من الشارع فليس الكل هنا يمكنه تفهم ما أتفهمه أنا.

    بدأ المصابون يتهافتون باتجاه النقطة الطبية، هناك من هم بحاجة الإسعاف أيضاً، قالت الفتاة: خذهم للبيت فلا أحد هناك، وسألحق بكم مجرد انتهائي هنا.

    اقتادهم موسى، وقد أدركت الأم مكانها، بقيت صامتةً خائفة، على بعد 100 متر وسط الصخب والهتافات القادمة من باحات المسجد، استداروا نحو اليمين، دخلوا في زقاقٍ صغير، ثم انعطفوا يمناً، وكأنهم عائدين إلى المسجد، وقبل نهاية الزقاق، بيتٌ مقدسيٌ قديم، دخلوه وأغلقوا الباب خلفهم.

    موسى: تصرفوا كأنكم في منزلكم. وتوجه نحو المطبخ.

    همست الأم في أذن روبرت: هل نحن مخطوفون؟ أين هاتفي؟ وبدأت تبحث في حقيبتها.

    روبرت: لا تفعلي شيئاً، لا تحاولي الاتصال بأحد، أنهم ودودون حتى اللحظة، لو أحسوا بشيءٍ أو قرروا أذيتنا فلن يفيدنا اتصالك شيئاً، دعينا نجاريهم فقط.

    أحضر موسى إبريقاً من الماء ووضعه على الطاولة أمامهم: إنها خطيبتي وهي ممرضة، الناس بحاجتها الآن.

    روبرت: أتمنى أن تعود بخير، بيتكم جميل

    -لا ليس بيتنا، هو بيت أهلها وهم خارج المدينة حالياً، أنا من مدينة الخليل وأعيش هناك.

    -أنت هنا لزيارة أهل خطيبتك؟

    قال روبرت بصوت مرتفع في محاولة منه معرفة إن كان موسى من المرابطين في القدس، فهم الأعنف على اليهود من بين الجميع.

    موسى: نعم، أملك هويةً زرقاء تسمح لي بزيارتهم دون معاناة التصاريح الأمنية وكنت ذاهباً مع خطيبتي للصلاة حين بدأ الصدام.

    تنهد الصعداء وأراح كتفيه وجسده لأولِ مرةٍ منذ ساعة بدت كأنها قرناً بأكمله، وهكذا فعلت أمه.

    أزاح وجهه بعيداً عنهم باتجاه النافذة: إنها مدينة السلام، مدينة الأنبياء، ولكنهم يفعلون بها هذا، وأشار بيده نحو دخان الغاز المتصاعد من باحات المسجد.

    بقي روبرت وأمه صامتين، لا يودان استفزازه، في الحقيقة ودت أمه لو أنها تقول أنتم السبب، إنها لنا، هذه أرضنا الموعودة وأنتم من سرقها قبل ألفٍ وخمسمائة عام.

    روبرت: سيدي شكراً لك على استضافتنا، هل يمكننا المغادرة فهناك من هو قلق بشأننا بالتأكيد.

    موسى: يمكنك الاتصال بهم وطمأنتهم، ولكني لا أنصحك بالخروج الآن، انتظر إلى حين هدوء الأوضاع في الخارج.

    وقد كان محقاً، مدت الأم يدها سريعاً إلى حقيبتها وأخرجت هاتفها، استأذنت: أود الاتصال بزوجي.

    أشار لها موسى تجاه إحدى الغرف، دخلت وأغلقت الباب.

    أحس روبرت بالمزيد من الأمان، فهم غير مخطوفين فعلاً، هذا الرجل أنقذهم، فبادره الحديث: لماذا حدث هذا؟ كيف بدأ؟

    -مجموعةٌ من اليهود قرروا فجأة اقتحام باحة المسجد، فتصدى لهم المرابطون في ساحاته.

    -فجأة! ألم يعلنوا عن هذا قبلها؟ فقد جرت العادة أن يعلنوا عن نيتهم!

    -لا أبداً، حدث كل شيءٍ من باب الصدفة، اعتقد أن بعض المصلين عند حائط البراق قد تحمسوا وقرروا فعل هذا.

    بدت عليه نظرة من الرفض اللاشعوري، في غمضةِ عينٍ حاول إخفاءها، والسبب هو تسمية موسى لحائط المبكى بالبراق.

    التقطها موسى وفهمها: لا يهم التسمية يا روبرت، كل شيء بدأ عند كومة الحجارة تلك.

    ابتسم، فهو يعلم تماماً سبب تسمية المسلمين الحائط بالبراق، بالأمس فقط كانت هذه القصة إحدى فكاهاتهم، عندما تحدثوا عن مخططاتهم لزيارة حائط المبكى، فالمسلمون يقولون إن نبيهم محمد قد سافر في دقائقٍ من مكة في الجزيرة العربية على بعد آلاف الأميال على ظهر شيء يشبه الحمار أرسله له الله، من هناك حتى أورشليم في دقائقٍ معدودة فقط، قام ببعض الطقوس فيها، أمراً يتعلق بالصلاة مع بقية الأنبياء، ثم صعد إلى السماء ثم عاد في نفس الليلة، حكايةٌ مجنونة، وتقول هذه الأسطورة أنه قد ربط دابته في حائط المبكى أو البراق كما يسمونه، أخذ تسميته عندهم من اسم الدابة، البراق. مشتقة من البرق، وفيه دلالة على سرعتها العالية جداً.

    كذبةٌ مفضوحةٌ من أكاذيب محمد، وعلى الرغم من ذلك صدقوه! العرب المجانين، رجل البرق، هكذا اعتادت أمه تسميته، استهزاءً به وبروايته.

    موسى: ماذا تعمل أنت؟

    روبرت: على مقاعد الدراسة حالياً

    -حقاً! تبدو كبيراً كفايةً للعمل أليس كذلك؟

    ضحك: نعم لقد أنهيت بكالوريوس إدارة الأعمال، وأنا الآن أدرس الفيزياء

    موسى بحماسة: تقول الفيزياء؟

    -نعم، ما الغريب في الأمر؟

    -الكثير من الغرائب، هل درست النظرية النسبية لأينشتاين؟

    -طبعا، هل أنت مهتمٌ بها؟

    -نعم نعم، وكذلك كان نبي الله محمد

    زمّ عينيه بفضول وهز رأسه مرة واحدة، لم يفهم ما يرمي إليه بالضبط: عفواً هل لك أن توضح؟

    ضحك موسى: نحن نقف في أولِ مكانٍ ذُكرت فيه النظرية النسبية، ألا تعلم ذلك!

    بقي روبرت صامتاً تعلو محياه نظرة من الدهشة!

    أضاف: بل أن أولَ تطبيقٍ عمليٍ لها عرفناه كان عند كومة الحجارة تلك، وأشار برأسه تجاه حائط البراق.

    ابتسم روبرت، ماذا يقول هذا المجنون، بدأ يشعر بالخوف.

    موسى: نعم، هذه الأرض حبلى بالغرائب فلا تتعجب.

    أنقذته أمه من دهشته، حين مدت رأسها من الباب والهاتف مازال بيدها: أبوك يقول هل بإمكان الرجل أن يوصلنا خارج الحي؟

    التفت إليه، فهز موسى رأسه موافقاً.

    بعد قليل عادت الفتاة: لقد هدأت الأمور قليلاً، إنها فرصتكم للخروج.

    غادروا المنزل، عبروا أزقةً ضيقة بعيداً عن أعين المتطفلين، حتى وصلوا خارج الحي، ودعهم وأدار ظهره عائداً، حينها ناداه صوت روبرت: انتظر، رجاءً انتظر.

    التفت إليه: ماذا؟

    روبرت: لم تعطني رقم هاتفك، أظن أن عليّ رد الصنيع لك، علينا أن نلتقي.

    -هذا من دواعي سروري، ربما تزورني في الخليل، إنها مدينةٌ جميلة.

    قاد سيارته إلى أحد المشافي: لا بد من الاطمئنان على صحتك يا أمي.

    الأم: نعم هذا جيد، لا أثق بهؤلاء العرب، لعلهم فعلوا شيئاً بي دون علمي.

    الذهاب إلى مستشفى في القدس؟ فرصة مثالية لتلقين روبرت درساً قديماً متجدداً عن معاناة شعب الله المختار في أرضه، هزت رأسها مستنكرة: لقد استغلوا حاجة أهلها اليهود لإجبارهم على تغيير دينهم!

    نظر لها بطرف عينه وقد علم مقصدها: ليس وقته يا أمي علينا الاطمئنان عليك.

    لا مبالية أكملت: كانوا بحاجة للرعاية الطبية، عالجوهم مقابل اعتناقهم للديانة المسيحية.

    -لحظة، أنت الآن تتحدثين عن أجدادي

    قال ممازحاً في محاولةٍ لتلطيف الأجواء.

    الأم: من أعطاهم الحق بدعوة الناس للمسيحية بعد علاجهم مجاناً! لقد أقاموا المستشفيات التبشيرية في كلِ مكان، وخصصوها لليهود، وجعلوا كثيراً منهم يغيرون دينهم مقابل العلاج!

    روبرت: الأمر ليس هكذا، هم فقط وجدوا حاجةً ولبوها لهم، ثم حاولوا إقناعهم ولم يجبروهم.

    الأم: لم يجبروهم؟ استغلال لحظةِ حاجتك وضعفك، ثم حشو رأسك بأفكارٍ مسمومة، هل هذا إقناع؟

    أدارت وجهها نحو النافذة: ليس إقناع، بل إجبارٌ ناعم، جلدٌ للعقول، تضليلها بقناع الرحمة.

    في القرن الثامن عشر أقيمت العديد من المشافي التبشيرية في فلسطين والقدس، واحدٌ منها مبناه القديم ليس بعيداً عنهم، المستشفى الإنجليزي التبشيري، أُقيم في الربع اليهودي من البلدة القديمة عام 1844، قبل قيام إسرائيل بقرنٍ من الزمان، على مقربةٍ من كنيسة القيامة، قدم رعاية صحية متطورة في ذلك الوقت مقارنة بباقي المشافي، تخصص في علاج اليهود فقط، والهدف هو إقناعهم لاعتناق الديانة المسيحية، ولهذا أطلق عليه الناس حينها المستشفى اليهودي.

    رفض الكثير منهم تلقي العلاج فيه، وقاطعوا كل من دخلوه، ورغم هذا لجأ إليه البعض، وبعد موجات من الاحتجاج والاعتراض تم نقل مبناه إلى شارع الأنبياء في عام 1895، وأقيم بجواره مدرسة تبشيرية للبنات، وفي عام 1969 انتقل مجدداً إلى عين كارم تحت مسمى مستشفى هداسا، وحُول مبنى المستشفى القديم إلى مدرسةٍ خاصة، يرتادها أبناء الدبلوماسيين، وتم هدم مبنى مدرسة البنات التبشيرية في شارع الأنبياء وأقيم مكانه فندق، بينما أعيدت باقي المباني لمُلّاكها الأصليين.

    لطالما كان لها في قصتها درسٌ وعبرة، أو هكذا أرادت أن يكون.

    -عليك أن تعلم يا بني، أن استغلال حاجة البشر لتغيير قناعاتهم بقناع الرحمة والإنسانية، لا يختلف عن تغيير قناعاتهم بالحديد والنار. فإن كان التبشيريون رحماء وملائكة كما ادعوا، لكان عليهم علاجهم وانتهى، بلا أي محاولاتٍ لإقناعهم لتغيير أي شيء، إن كانت دعوتهم هي الحق لما استغلوا حاجةَ الناس، فما الفارق بين أن أعذبك وألحق بك الألم، ثم أوقفه بعد أن تغير قناعتك، أو إذا لحق بك المرض، أمنع عنك العلاج إن لم تغيرها؟

    أجابت نفسها: لا فرق، فالألم في كلتا الحالتين سوف يزول إن غيرت قناعتك، بغض النظر عن سبب زواله.

    -ولكنهم لم يمنعوه عنهم حتى عندما رفضوا اعتناق المسيحية.

    -مسكين، لقد جعلوا عقولهم تفهم بطريقةٍ غير مباشرة، أن زوال الألم في اعتناق المسيحية، وأن المسيحية سبب في زواله.

    التفتت إليه: أنت لا تعلم كم هم خبيثون يا بني

    ابتسمت، وأضافت: نعم نعم أجدادك، لا تنظر إليّ هكذا.

    لعل الأم كانت صادقة، فالألم بمختلف أنواعه، الجسدي والنفسي، له سحرٌ ونشوة، لا تعيشها إلا بعد زواله، بل وأن أحد أساليب الاستعباد، وكسب الأتباع، هي بتعريضهم للألم، ثم برفعه عنهم بفضل السيد، وبمكرمة منه، ليصبحوا جميعاً عبيداً عنده، وتحت رهن إشارته.

    وما الفرق بين أن يكون هذا الألم نتيجة عارضٍ، أو متعمداً؟ فالألمُ واحد، وحلاوةُ ذهابهِ، واحدة، والنتيجة غالباً واحدة.

    ربما روبرت نفسه بات تحت وقع تأثير نشوة زوال الألم من حيث لا يدري، فقد عاش لتوه تجربة جديدة من نوعها، مخيفة، قنابل الغاز، صدامات دامية، حي عربي، رعب الاختطاف، نقطة طبية، ثم الخلاص، وبر الأمان!

    بعد برهة من الصمت، التفتت إليه من جديد! فقد انفجر ضاحكاً على نحوٍ مفاجئ.

    -ما بك؟

    -تباً النظرية النسبية!

    ثم نوبةٌ جديدةٌ من الضحكِ الهستيري

    الفصل الخامس. الدبوس

    يظن الكثيرون أن إسطنبول هي نفسها مدينة القسطنطينية القديمة، حتى روبرت نفسه كان يعتقد هذا، ولكن سرعان ما اكتشف أن هذا غيرُ دقيقٍ تماماً، فحين بدأ بالبحث عن المذهب الصوفي الإسلامي، اكتشف أن مدينة القسطنطينية آخر مدن الإمبراطورية الرومانية وأعظمها، والتي بُنيت في عام 330 ميلادي كعاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية الإمبراطورية البيزنطية، هي عبارة عن جزء صغير من إسطنبول، تسمى حالياً منطقة الفاتح، نسبة لمحمد الفاتح القائد العثماني الذي فتحها وأسس عليها مدينة إسطنبول عاصمة إمبراطوريته.

    تقع ساحة السلطان أحمد وكاتدرائية آيا صوفيا على قمة تلة تطل على القرن الذهبي، وهو فرع من مضيق البسفور الذي يفصل بين قارة أوروبا وآسيا.

    على مدار مئات السنين حاول سلاطين الدولة العثمانية السيطرة عليها، إلا أن أسوارها المنيعة حالت دون ذلك، حتى تمكنوا في عام 1453 من دخولها بقيادة محمد الفاتح.

    بشر نبي المسلمين بهذا كذلك، قال لهم قبل ألفِ عام، سوف تفتح القسطنطينية على يد المسلمين. وفي حينها كان هذا ضرباً من الجنون، لا يقل جنوناً عن قصته مع البراق.

    إلا أن روبرت لم يعد يرى هذا النبي مجنوناً ولا كذاباً، ليس في كل شيء على الأقل.

    خرج من المقهى، تمشي في الحديقة شمالاً، نحو الباب الخلفي، أخرجه مباشرة في مواجهة القرن الذهبي، سار محاذياً له، حتى وصل ميناء إمينونو، استقل العبارة، قاطعاً مضيق البسفور، نحو الجزء الآسيوي من إسطنبول، رافقتهم النوارس طوال الرحلة، طالبةً كسراتِ خبزٍ يرميها لها الناس.

    بعض النوارس حطت على سياج المركب بجواره، على غير المعتاد، بعضها طار فوقه رأسه تماماً، مشهدٌ غايةً في الفوضى والإتقان، رحلةٌ بحرية لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة، كفيلةً بجعلك تستشعر عظمة المكان، الضاربِ عمق التاريخ.

    أمامه بعيداً في الجانب الآخرة تظهر تلة العرائس،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1