Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

لعبة الحقل الرقمي: صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي: توسيع إطار النظرية البورديوية
لعبة الحقل الرقمي: صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي: توسيع إطار النظرية البورديوية
لعبة الحقل الرقمي: صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي: توسيع إطار النظرية البورديوية
Ebook1,208 pages8 hours

لعبة الحقل الرقمي: صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي: توسيع إطار النظرية البورديوية

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تتناول الدراسة منصَّات التواصل الاجتماعي إحدى أبرز مظاهر الثورة الرقمية التي نعيشها، فتلك المنصَّات تشهد بصورة متزايدة حركة ديناميكية مِن التطور والانتشار والتأثير؛ لهذا فإنَّ الدراسة تحاول أن تكشف خفايا هذا العالَم انطلاقًا من نظرية بيير بورديو Pierre Bourdieu) 1930 -2002) وذلك باعتبارها فرصة للتركيز على منصَّات التواصل الاجتماعي بوصفها فضاء لعب افتراضي للجهات الفاعلة المهيمِنة الساعية للمحافظة، أو تعزيز موقعها في فضاء هذا الحقل، وعليه فإنَّ هذا الاتِّجاه التحليلي البورديوي هو في الأساس محاوَلة لتجنُّب التعامل مع التكنولوجيا على أنَّها بِنية خارجية أو حالة خاصة مِن الناحية النظرية، مع رغبة في تفادى الانقسامات الثنائية بين التكنولوجيا والمجتمع أو الموضوع والذات. تتناول الدراسة خفايا اللعبة الكامنة بداخل منصَّات التواصل الاجتماعي وإستراتيجيات وممارسات فاعليها، تخوض في دراسة القاطنين وطبيعة الحياة والصراعات الكامنة بداخل حقل التواصل الاجتماعي، إنَّه نهج استكشافي لهندسة الحقل مِن خلال تحليل داخلي (موضوعي) لبنية الحقل الموضوعية مِن خلال تناول طبيعة الحياة العلائقية وأشكال صراعات الحقل الحاصلة سواء الصراعات الأهلية (الداخلية) أو الصراعات الخارجية والإستراتيجيات الكامنة. سوف تستكشف الدراسة الكيفية التي يكون فيها اللاعبون أو المتنافسون في هذا الفضاء في مواقع مختلفة استجابةً لمجموعة مِن الرساميل لديهم، وفي نفس الإطار سوف نناقش "لعبة الحقل" في هذا الفضاء الافتراضي في محاولة لاستجلاء طبيعة وشكل لعبة الهيمنة والنفوذ، وممارساتها وأشكال التمايز مِن خلال النظرية البورديوية مِن منظور الحقل الصراعي.
Languageالعربية
Release dateMay 31, 2022
ISBN9789948817031
لعبة الحقل الرقمي: صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي: توسيع إطار النظرية البورديوية
Author

الدكتور / بلال موسى العلي

باحث متخصِّص في الشؤون البرلمانية والعلاقات السياسية في المجلس الوطني الاتحادي. متخصِّص في الدراسات التاريخية والاجتماعية والأديان. خبير تحكيم دولي. المؤهلات دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر 2016، المملكة المغربية، فاس، جامعة محمد بن عبد الله ( فاس - سايس). ماجستير في التاريخ الاجتماعي 2009،المملكة المغربية، الرباط، جامعة محمد الخامس. دبلوم العلاقات الدبلوماسية والسياسية والمنازعات ذات الطابع الدولي 2017، جمهورية مصر العربية، الهيئة الدولية للتحكيم. دبلوم محاسبة. الجوائز جائزة الشيخ راشد للتفوق العلمي - ندوة الثقافة - دولة الإمارات العربية المتحدة.(2016) جائزة سلطان العويس في دورة (21). أفضل كتاب لمؤلف من الإمارات (2013) دولة الإمارات - دبي. ميدالية ذكرى اليوبيل الفضي لتوحيد القوات المسلحة (2002) دولة الإمارات العربية المتحدة. الكتب كتاب "الإمارات المتصالحة من خلال الصحافة البريطانية" (2017) - وزارة الثقافة وتنمية المعرفة - دولة الإمارات العربية المتحدة. كتاب " قصة الرمز الديني" (2013) - مطبعة رأس الخيمة - دولة الإمارات العربية المتحدة - رأس الخيمة. كتاب "الإمامة الإباضية والاستعمار" (2010) - مركز الوثائق والبحوث - دولة الإمارات العربية المتحدة - رأس الخيمة.

Related to لعبة الحقل الرقمي

Related ebooks

Reviews for لعبة الحقل الرقمي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    لعبة الحقل الرقمي - الدكتور / بلال موسى العلي

    لعبة الحقل الرقمي

    صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي:

    توسيع إطار النظرية البورديوية

    الدكتور / بلال موسى العلي

    Austin Macauley Publishers

    لعبة الحقل الرقمي

    الدكتور / بلال موسى العلي

    الإهـداء

    حقوق النشر©

    المقدمـة

    الباب الأولالمدخل المنهجي: النظرية البورديوية:نظرة تعريفية وملاحظات أساسية

    الفصل الأولالتعريف بالنظرية ومنهجيتها (البناء النظري)

    الفصل الثانيإشكاليات النظرية والمصاعب الموضوعية العامة

    الفصل الثالثالنظرية البورديوية والفضاء الافتراضي:(الإبحار في عوالم جديدة)

    الباب الثانيحقل التواصل الاجتماعي: ولادة حقل جديد

    الفصل الأولصعود الشبكات: تاريخ موجز لمِنصَّات التواصل الاجتماعي

    الفصل الثانيالبنى الذاتية: تشكل الهابتيوس الرقمي

    الفصل الثالثانبثاق الحقل: تاريخه وخصائصه

    الباب الثالثالحياة بداخل حقل التواصل الاجتماعي

    الفصل الأولصراعات الحقل: المواجهات الأهلية والخارجية

    الفصل الثانيحقل التواصل الاجتماعي بوصفه حقلاً للإنتاج الثقافي المعاصر

    الفصل الثالثالتصنيفات الحقلية: القاطنون والمتداخلون في الحقل

    الباب الرابعلعبة الحقل: الرهانات والقواعدوالإستراتيجيات

    الفصل الأولرهانات الحقل: رساميل الحقل الافتراضي

    الفصل الثانيلعبة الحقل: القواعد وفضاء اللعبة

    الفصل الثالثإستراتيجيات اللعبة الحقلية

    الفصل الرابعمِنصَّات التواصل الاجتماعي: كأداة لإستراتيجيات إعادة الإنتاج

    الباب الخامس:المنظومة الرمزية لحقل التواصل الاجتماعي(رأس المال، السلطة، العنف)

    الفصل الأولرأس المال الرمزي والسلطة الرمزية في الحقل

    الفصل الثانيالتعسفات الثقافية في الحقل: العنف الرمزي

    الفصل الثالثالدولة والحقل: تجاذبات حول رأس المال الفوقي (الميتاكابيتال)

    الخاتمة

    بيبلوغرافياالمراجع العربية

    المراجع الإلكترونية (Webographie)

    الدكتور / بلال موسى العلي

    باحث متخصِّص في الشؤون البرلمانية والعلاقات السياسية في المجلس الوطني الاتحادي.

    متخصِّص في الدراسات التاريخية والاجتماعية والأديان.

    خبير تحكيم دولي.

    المؤهلات

    دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر 2016، المملكة المغربية، فاس، جامعة محمد بن عبد الله ( فاس - سايس).

    ماجستير في التاريخ الاجتماعي 2009، المملكة المغربية، الرباط، جامعة محمد الخامس.

    دبلوم العلاقات الدبلوماسية والسياسية والمنازعات ذات الطابع الدولي 2017، جمهورية مصر العربية، الهيئة الدولية للتحكيم.

    دبلوم محاسبة.

    الجوائز

    جائزة الشيخ راشد للتفوق العلمي - ندوة الثقافة - دولة الإمارات العربية المتحدة.(2016)

    جائزة سلطان العويس في دورة (21). أفضل كتاب لمؤلف من الإمارات (2013) دولة الإمارات - دبي.

    ميدالية ذكرى اليوبيل الفضي لتوحيد القوات المسلحة (2002) دولة الإمارات العربية المتحدة.

    الكتب

    كتاب الإمارات المتصالحة من خلال الصحافة البريطانية (2017) - وزارة الثقافة وتنمية المعرفة - دولة الإمارات العربية المتحدة.

    كتاب قصة الرمز الديني (2013) - مطبعة رأس الخيمة - دولة الإمارات العربية المتحدة - رأس الخيمة.

    كتاب الإمامة الإباضية والاستعمار (2010) - مركز الوثائق والبحوث - دولة الإمارات العربية المتحدة - رأس الخيمة.

    الإهـداء

    " كل مهيمن سيجد مرآته في هذا الكتاب، كل متفرِّج سوف تتجلَّى لديه أشكال الهيمنة والسيطرة والنفوذ، كل قارئ سوف يستكشف اللعبة وقواعدها وإستراتيجياتها.. كلنا سوف نكتشف أننا مستغرقون ومحصورون في وَهْمِ اللعبة الرقمية.. إنها لعبة افتراضية تحمل في طياتها النعمة واللعنة في ذات الوقت!

    إهداء إلى كل الراغبين في ممارسة اللعبة الافتراضية في الحقل.

    حقوق النشر©

    الدكتور/ بلال موسى العلي 2022

    يمتلك الدكتور/ بلال موسى العلي الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقاً للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأية وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948817024 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948817031 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب: MC-10-01-5776047

    التصنيف العمري:E

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن المجلس الوطني للإعلام.

    الطبعة الأولى 2022

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    المقدمـة

    تُعَدُّ مِنصَّات التواصل الاجتماعي Social Media إحدى أبرز مظاهر الثورة الرقمية التي نعيشها، فتلك المِنصَّات تشهد بصورة متزايدة حركة ديناميكية من التطور والانتشار والتأثير، مما سمح لها بأن تفرض نفسها بقوة على شتى مجالات الحياة وتوصف بكونها سلطة خامسة، ففي ظل تطور التكنولوجي ووسائل الاتصال والتواصل بات العالم بمثابة قرية كونية أو قرية كوكبية بحسب تعبير المفكر الكندي ماك لوهان Mc.Luhan، وذلك بفعل الترابط الشبكي وسرعة وكمية التدفق المعلوماتي الهائلة، وقدرة المجال على تجاوز حاجز الزمكان والاتصال والتفاعل الفيزيائي المباشر (الجسدي أو المادي)، التي عملت على تضخيم المجتمعات والهويات الافتراضية بداخلها، لهذا عبَّر توماس فريدمان T.Friedman بأننا نعيش العصر الثالث من العولمة، وهو عصر ظهور العالم بلا حدود، ويصفه بأنه انكماش كوكب الأرض من حجم صغير إلى حجم صغير جداً.

    أما أكثر القوى الدافعة وضوحاً لهذا الطور فهي ظهور الكمبيوتر الشخصي وتطور الإنترنت ما ربط الأفراد في أي مكان على الأرض بعضهم ببعض...¹، ولعل أحدى أهم ما يميز منصات التواصل الاجتماعي هو أنها (ثنائية الاتجاه) حيث إن الجميع مرسل ومتلقٍ، بعكس الإعلام التقليدي، الذي هو إعلام أحادي الاتجاه يبدأ بإرسال مؤسساتي إلى متلقٍ جماهيري، وبذلك فإننا في ظل تلك المِنصَّات، فقد انتقلنا من الإعلام الأحادي إلى الإعلام الجماعي الذي يساهم فيه الجميع.

    تساهم منصات التواصل الاجتماعي في "تقوية العلاقات الاجتماعية وتسهيل التواصل، كما إنها تعتبر منابر حرة، لإبداء الرأي ومناقشة القضايا والموضوعات بحرية بالغة بعيداً عن الإكراهات والحدود التي يرسمها المجتمع ووسائل إعلامه التقليدية في الواقع²، وذلك من خلال قدرتها على تجاوز حاجز الزمكان، ومن ثم قدرتها على الانفلات من العالم الاجتماعي الواقعي إلى فضاء أو عالم فوضوي بلا ضوابط، برغم مظهره التنظيمي، إنه مجال تكنو - ديمقراطي يؤمِّن لفاعليها القُدرة على التخفِّي وتجاوز الانكشاف، وبناء علاقات تفاعلية متعددة الأوجه دون الحاجة للتواصل الجسدي (الفيزيائي) المباشر أو التنقل. إنه مجال يؤمِّن لصاحبه علاقات اجتماعية وتواصلية بدون كلفة مادية عالية أو حواجز نفسية واجتماعية، وعليه فقد غدَت مِنصَّات التواصل الاجتماعي نقطة للتواصل والالتقاء والتفاعل بين الفاعلين الاجتماعيين، إنها مساحة تتسم بالسرعة والمرونة، كما تؤمِّن فرصة للتعارف وبناء الصداقات، وتتيح فُرَصاً للتشارك والاستثمار والتعبير عن الذات والانفتاح على الآخر، علاوة على دورها في تداول الأخبار وتبادل المعارف والمعلومات والأفكار والمعاني، وبذلك فإنه مجال يعمل بمنطق السوق الاستهلاكي في إطار اقتصاد الاهتمام والممارسات الرمزية، تتوفر فيه آليات العرض والطلب والإعلانات والبحث عن المستهلكين.

    كان لظهور منصات التواصل الاجتماعي دورٌ بارزٌ في بناء الهويات الافتراضية التي باتت تتضخم يوماً بعد يوم، كما أصبحت تسهم بشكل فعَّال في عملية تشكيل الواقع الاجتماعي عبر التدفُّق المعلوماتي الهائل، فالمحتوى الرقمي ( المنتج الثقافي) من الصُّور والفيديوهات والكتابات والسمعيات تشكِّل جميعها خطاباً يعمل على تفسير العالم الاجتماعي من خلال تشييد القناعات والتصورات والرؤى حول مجمل الواقع الاجتماعي ومختلف القضايا والأحداث في مختلف المجالات. وبالفعل كانت منصات التواصل الاجتماعي مجالاً يتم بداخله تكوين المعطى عبر التدفُّق الهائل للمنتوجات الثقافية، بوصفها قوة سلطوية "قُدرة على الإبانة والإقناع، وإقرار رؤية عن العالم أو تحويلها، ومن ثم قُدرة على تحويل التأثير في العالم، وبالتالي تحويل العالم ذاته³، وهكذا فإنَّ العلاقات الاتصالية عبر مِنصَّات التواصل الاجتماعي في حقيقتها مندمجة في علاقات القوة من السيطرة والهيمنة والنفوذ، لهذا يشير بورديو P. Bourdieu بأنه لا يكفي أن نسجِّل أن علاقات الاتصال لا يمكن فصلها عن علاقات القوة، فالنظام الرمزي كوسيلة محكمة البناء، تكمن وظيفته في فرض شرعية السيطرة التي تساهم في تأمين سيطرة طبقة على طبقة (العنف الرمزي) وذلك بتقديم دعم القوة التي يملكها"⁴.

    يوضح آندرياس شميتز Andreas Schmitz بأن مِنصَّات التواصل الاجتماعي ساهمت في تحرير الفرد من العوائق المادية في العالم الواقعي، أو القيود الزمكانية والتنظيمية والقيود الطَبَقية أو القِيَمِية الاجتماعية أو المعيارية، بل وتقلل، التوقعات بحسب التصميم⁵. كل ذلك مهَّد لتزايد أعداد المستخدمين لتلك المِنصَّات التي غدت ظاهرة كونية، يشكل أعضاؤها الآن ما يقارب ربع سكان الكرة الأرضية، فالعالم الاجتماعي بدأ يشهد مواسم للهجرة إلى العالم الافتراضي، وبعبارة أخرى، بات العالم أكثر انزياحاً ناحية العلاقات الرقمية أو الافتراضية، فهنالك مجموعة من الحوافز المتعدِّدَة والمعقَّدة التي تدفع الناس للاشتراك في مِنصَّات التواصل الاجتماعي، حيث تشير بعض الدراسات بأن هنالك فئتين رئيسيتين من المحفزات في هذا المجال هما: المحفزات المهنية والاستثمارية والتي ترتبط بالمقام الأول في العمل وحسابات عقلية ووظيفية مرتبطة باهتماماتهم الخاصة بحياتهم المهنية والعملية، والثانية هي: الحوافز الاجتماعية، التي ترتبط بشكل أساسي بالتفاعل والتواصل وعقد روابط اجتماعية في إطار اقتصاد الاهتمام⁶.

    كتب دانيال يرجين Daniel Yegin أن عصرنا هو عصر النفط، والمجتمعات الحديثة هي مجتمعات نفطية، والإنسان المعاصر أساساً إنسان هيدروكربوني...، ولعل تلك المقالة إلى غاية بدايات الألفية يجانبها الكثير من الصواب، لكننا في الوقت الحالي، بدأنا نشهد ثورة رقمية طاغية تفرض ذاتها، أصبح الإنسان فيها تكنولوجي مفرط إلى حد الإدمان في استخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة، فعند البعض صار قَطْعُ الاتصال بالشبكة بمثابة نهاية العالم، وبالفعل لقد غيرت مِنصَّات التواصل الاجتماعي المفاهيم والطرق التقليدية في العمل في مختلف الحقول الاجتماعية (الاقتصادية والسياسية والدينية والفنية... إلخ)، وبذلك مجمل أشكال الممارسات والعلاقات الاجتماعية والتفاعلات، فقد أصبحت تلك المِنصَّات قوة فاعلة حقيقية قادرة على التأثير وبناء التمثلات والواقع الاجتماعي، لهذا يشير لوتشيانو فلوريدي: "إننا ما زلنا معتادين النظر إلى تكنولوجيات المعلومات والاتصالات على أنها أدوات للتواصل والتفاعل مع العالم ومع بعضنا البعض، والواقع أنها صارت قِوَىً بيئية وأنثروبولوجية واجتماعية وتفسيرية، تخلق وتشكل واقعنا الفكري والمادي، وتغيِّر فهمنا لذواتنا، وتطور الكيفية التي تربطنا بعضنا ببعض، كما تربطنا بذواتنا، وتحسِّن من كيفية تفسيرنا للعالم من حولنا، وكل ما يجري بصورة واسعة الانتشار وبعمل وبلا هوادة.

    بات الإنترنت "ليست كما سمعنا كثيراً؛ التكنولوجيا الجديدة للإعلام والاتصال ( NTIC ) فقط – وهو المفهوم المنتج والمقترح من مهندسي الشبكات – بل أيضاً تكنولوجيا العلاقات une technologie de la relation (TR)⁸، فقد خلق عالماً وجودياً جديداً للعلاقات الاجتماعية والهويات الافتراضية وجنى العوائد أو المصالح المادية والرمزية، مما خلق تبايناً جدلياً حول تأثيرات الإنترنت وقيمته في مجال تثمير أو هدر رأس المال الاجتماعي. وبالحقيقة كما يشير بورديو بأنه يوجد دائماً مكان لصراع عقلي بشأن أشياء العالم⁹، لهذا نجد بأنه طرحت أفكار وتساؤلات عدة حول تأثيرات الإنترنت على الأفراد والجماعات، حيث تتلخص تلك التساؤلات حول مدى التأثيرات التي يخلقها الإنترنت على الفرد أو الجماعات؟ فهل الإنترنت يؤثر على ممارساتنا وسلوكياتنا، أو مجرد وسيط لا يملك سيطرة أو قدرة تأثيريه على فاعليه، ومدى تأثيرات علاقاتنا الافتراضية على قيمة ونوعية رأس المال الاجتماعي.

    يوضح نديم منصوري بأن تصورنا لتأثير الإنترنت في المجتمع، يتأرجح بين نظريتين متعارضتين، الأولى: تعتبر الإنترنت حيادياً يستطيع فقط أن يجعل الرسائل والأفكار تنتقل بصورة أفضل وأسرع، وكذلك الأفكار والمعتقدات وهو ليست له أي سيطرة على الفردـ أما الثانية: تعتبر أن الإنترنت تسلطي أي أنه ينتج عبر محتواها ونشأها وأعمالها شكلاً جديداً من العلاقات الاجتماعية، وبالتالي نمطاً جديداً من الثقافة والسلوكيات، في حين يعارض منصوري كلاً من النظريتين، حيث يرى بأن التقنية لا تفرض شيئاً، بل تقترح والإنسان يتدبر ويؤلف¹⁰. وفي هذا المجال تتأرجح وجهتا نظر عامتان ومتعارضتان، فالأولى تنظر إلى الدور الإيجابي للإنترنت ومِنصَّات التواصل الاجتماعي في دعم التواصل والتشبيك الاجتماعي، ومن ثمة رصيد الأفراد من رأس المال الاجتماعي، أما الثانية باعتبارها تعمل على هدر وإضعاف العلاقات الاجتماعية الواقعية، مما يسهم في العزلة والتباعد الاجتماعي، وبالتالي تآكل ومزيد من الهدر في رصيد الأفراد من رأس المال الاجتماعي.

    وبالحقيقة فإننا نرى بأن تلك التساؤلات إحدى إشكاليات السوسيولوجية التأسيسية التي تتنازع حول ثنائية الذاتي والموضوعي، فالإنترنت بمثابة فضاء افتراضي أو سايبري Cyberspace يتشابه مع الفضاء الاجتماعي الواقعي، لهذا فإننا لا نجد ظاهرة مُعَاشَة في الواقع الحقيقي إلا بات لها مرادف في المجتمع الافتراضي¹¹، فكلاهما عالم وسيطي تدور بداخلهما مختلف الممارسات والسلوكيات والأفعال، فهذا الفضاء الافتراضي يؤثِّر على الفرد وفي نفس الوقت يتأثَّر فيه، مما يجعلنا أمام علاقة اندماجية من الترابط والتكامل بين ثنائية الذاتي والموضوعي. ولعل الاختلاف الجوهري بين الفضاءين يكمن في التوسط التقني (الآلة)، ففي العالم الافتراضي الذي يشابه العالم الواقعي، بكونه عالم اجتماعي بالدرجة الأولى، لأنه يتأسس على التفاعل بين الأفراد والجماعات وحتى المؤسسات¹²، نجد بأن هنالك علاقات اجتماعية افتراضية تخلق سلطة، وهكذا نتحصَّل بداخل مِنصَّات التواصل الاجتماعي بوصفها حقلاً على مجموعة من الصراعات، وأشكال من التراتبية الهرمية وعلاقات قوة من النفوذ والهيمنة وأشكال من التمايز، كما تتوفر بداخله ممارسات سلطوية تعسفية، ومن ثم سوف نجد بأن مِنصَّات التواصل الاجتماعي لن تكون مجرد مساحة بريئة توفر التواصل والترفيه والتسلية والأعمال - فحسب - بل ستكون أيضًا ميدانًا مليئًا بالصراعات على السلطة، بوصفه مجال قوة يتم فيه عمليات تثميرية لرأس المال مما يسمح للأفراد والجماعات جني الأرباح والمصالح المادية والرمزية.

    يمثل الفضاء الافتراضي أو السيبراني موطناً للآلاف من المجموعات البشرية الذين يلتقون لتبادل المعلومات والأخبار ومناقشة الاهتمامات أو المصالح المتبادلة، كما أنه مجال للعب الألعاب وتنفيذ الأعمال التجارية¹³، وبذلك فإن التفاعلات الاجتماعية الافتراضية الحاصلة بداخل مِنصَّات التواصل الاجتماعي قد ساهمت في إنتاج وتبادل مجموعة من الممارسات الأفكار والآراء والمواقف ووجهات النظر والتصورات والمعلومات، وفق استراتيجيات ورؤى معينة لكل فاعل اجتماعي شبكي، وعليه باتت طرفاً أساسياً في بناء الواقع الاجتماعي بفعل المنظومة الرمزية التي يشتغل بها بوصفها أدوات للمعرفة والتواصل، ومجال للقوة السلطوية وممارس العنف التعسفي، لقد أصبحت مِنصَّات التواصل الاجتماعي تلقي بظلالها على مختلف المجالات أو الحقول الاجتماعية في الفضاء الواقعي على مستوى صراعاته (علاقات القوة)، وتأثيرها على قواعد واستراتيجيات اللعب في تلك الحقول الاجتماعية، مما يعكس قوة ودينامية وفعالية تلك المِنصَّات، وقدرتها الكامنة في التأثير والسيطرة والهيمنة الرمزية، وبالفعل فإن تلك المِنصَّات من خلال إتاحتها للاتصال الشبكي تقوم بـ تجديد المجتمع من خلال تقوية الروابط التي تربطنا بالعالم الاجتماعي الأوسع، وفي نفس الوقت زيادة قوتنا في هذا العالم¹⁴.

    إشكالية الدراسة

    تم تصميم مِنصَّات التواصل الاجتماعي وفق متطلبات الاجتماع الإنساني، لتسمح للتواصل والتفاعل الفعال، وبالفعل فإن تلك المِنصَّات في عمقها تمثل إحدى أنماط شبكات تبادل المعلومات والتواصل؛ كالأسواق والمقاهي والأندية... إلخ، القادرة على خلق السلطة والنفوذ والهيمنة، إنه مجال تتوسع بداخله المساحات والتفاعلات الاجتماعية بصورة افتراضية، باعتباره بيئة تُثَمِّن الديمقراطية الرقمية وتوفر الترابط والتواصل والتفاعل الاجتماعي الشبكي بسرعة فائقة، وتتيح التزامن والتدفق المعلوماتي وتجاوز الزمكاني والتواصل المباشر (الجسدي)، وبالتالي القدرة على التخفي، لكن في نفس الوقت علينا أن نعترف بأننا قادرون على قطع الاتصال والعلاقات التي تم تشكيلها في تلك المِنصَّات بنفس السهولة والسرعة التي يمكننا بها تكوينها، مما قد يكون له آثار بالغة على اللاعبين في هذا الحقل ورهاناته، أي بأن هناك تأثير بالغ على سلطة وهيمنة وبصمة التمايز لهؤلاء اللاعبين التي تم اكتسابها من خلال الحقل.

    لاحظ العديد من المنظرين المعاصرين وفي مقدمتهم مانويل كاستيلز Manuel Castells تأثير تقنيات الاتصالات الناشئة على المجتمع والثقافة والسياسة، مما جعلهم يقترحون أُطُرَ عَملٍ جديدة لفهم وظيفة السلطة، فعملية استكشاف الظروف التي يمكن أن تنمو وتتطور السلطة يوفِّر رؤى جديدة في علاقات القوة في العالم الافتراضي، الذي يؤثر بدوره على العالم الحقيقي، فالممارسات عبر الإنترنت لا تنجو من منطق الممارسة الذي ينطبق على جميع مجالات العمل الإنساني، وبذلك تشكل مِنصَّات التواصل الاجتماعي ميادين أو مجالات نشطة مستقلة ترتكز على الاتصال واقتصاد الاهتمام والتبادلات والثروات الرمزية، لهذا تحتاج دراسة تلك المِنصَّات إلى نظرية اجتماعية لفهم ما يحدث فيها، واستكشاف الآثار والمظاهر المترتبة على ذلك، لا سيما في ظل ثورة تكنولوجية ورقمية غدت تصبغ حياة الملايين من البشر، وتفرض ذاتها على العالم الواقعي.

    بدأ العديد من الباحثين والدارسين يولي اهتماماً متزايد حول قضايا وإشكاليات التكنولوجيا والعالم الرقمي وممارساته وتحدياته وتأثيراته على العالم الواقعي وفاعليه، وانطلاقاً من هذا نرى بأن نظرية بيير بورديو Pierre Bourdieu (1930 -2002) حول الحقل والممارسة تحتل موقعاً غاية في الأهمية؛ حيث توفر قيمة ومنطلقاً هاماً في هذا المجال، فهي تمنح أدواتٍ منهجية غاية في الأهمية لفهم الممارسات وطبيعة التفاعلات والعلاقات الاجتماعية الافتراضية على مِنصَّات التواصل الاجتماعي، برغم إنها وُضِعت بشكل أساسي لدراسة المجتمعات غير متصلة بالشبكة أو الفضاء الاجتماعي الواقعي، لكن مع ذلك توفِّر تلك النظرية فرصة غاية في الأهمية في دراسة الممارسات وعلاقات السلطة وأشكال التمايز، كما تساعد في تفكيك آليات النفوذ والهيمنة والسلطة، لهذا فإن النظرية تمثل قيمة بالغة حيث إنها تضع مختلف الأنشطة التفاعلية في سياق اجتماعي أوسع، وتعمل على إبراز التأثيرات الحقلية على مستوى فاعليه، ومن جهة أخرى، على مستوى مختلف الحقول الاجتماعية، لهذا يوفر التحليل البورديوي فرصة للتركيز على مِنصَّات التواصل الاجتماعي بوصفها فضاء لعب افتراضي للجهات الفاعلة المهيمنة الساعية للمحافظة، أو تعزيز تموقعها في فضاء هذا الحقل، وعليه فإن هذا الاتجاه التحليلي هو في الأساس محاولة لتجنب التعامل مع التكنولوجيا على أنها بنية خارجية أو حالة خاصة من الناحية النظرية، مع رغبة في تفادي الانقسامات الثنائية بين التكنولوجيا والمجتمع أو الموضوع والذات¹⁵.

    توصف السيسيولوجيا البورديوية بكونها سيسيولوجيا انعكاسية، التي يصفها بكونها من قبيل البنائية البنيوية أو البنيوية البنائية (بنيوية تركيبية أو تكوينية)، في محاولة لتمييز نظريته، وإحداث حالة من التفرد أو القطيعة عن التجربة الأولى للبنيوية التقليدية (الأرثودوكسية أو المُجْمَعِ عليها) كما يطرحها التقليد السويسري أو ليفي كلود شتروس، إنها نظرية تشدِّدُ على وضع الفعل والبنية في علاقة، انطلاقاً من نموذج بنية - هابتوس - ممارسة"¹⁶، وعليه تهدف الدراسة إلى محاولة إخضاع مِنصَّات التواصل الاجتماعي كمجال بحثي إمبريقي (تجريبي) بكونه حقلاً أو ميداناً ينسجِمُ مع النظرية البورديوية الانعكاسية التكوينية، فالدراسة تقوم على توسيع لأطر النظرية البورديوية، والعمل على البناء الاستكشافي التي تزاوج بين البحث الإمبريقي والنظرية ضمن فضاء يتجاوز مفهومي الزمان والمكان، فكما يشير مانويل كاستلز M.Castells بأن المكان يمثل الدعامة المادية للممارسات الاجتماعية التي تتقاسم الوقت، بمعنى التزامنية، ومن هذا المنطلق يمكن فهم تطور تكنولوجيا الاتصال باعتباره فك اتصال الزمن ومقاسمة الوقت¹⁷.

    يهدف البحث للاستفادة من قيمة النظرية الاجتماعية البورديوية لفهم ما يحدث على مِنصَّات التواصل الاجتماعي، لا سيما بأن نظرية الحقل والممارسة قد تكون مفيدة، بشكل خاص لفهم العلاقات والتفاعلات بين الفاعلين الرقميين أو الشبكيين على مِنصَّات التواصل الاجتماعي، وأشكال الإنتاج والاعترافات المتبادلة المتدفقة في إطار اقتصاد الاعتراف والاهتمام والثقة أو اقتصاد التبادلات والثروات الرمزية، التي تخلق تراتبية وتسلسلاً هرمياً للفاعلين أو المستخدمين بداخل الحقل بصورة كمية رقمية، وعليه فإن التراتبية الهرمية التي تحدد في مِنصَّات التواصل الاجتماعي بشكل كَمِّي، قد تظهر كشكل موضوعي لبنية علائقية تحدِّدُ المجال بوصفه حقلاً لصراعات القوى وأشكال التمايز بما يتسق مع الفهم العلائقي للنظرية البورديوية للعالم الاجتماعي، خاصة بأن نظرية الحقل قد تساعد في فهم الممارسات والتفاعلات الحاصة بين الجهات الفاعلة في مِنصَّات التواصل الاجتماعي.

    يعتبر بيير بورديو على نطاق واسع من بين الأكثر السوسيولوجيين تأثيراً في أواخر القرن العشرين، باعتباره باحثاً تجريبياً وناقداً ومشاكساً، كانت مساهماته أساساً للعديد من الأبحاث والدراسات في مجالات عدة من قبيل التعليم والفن والإعلام والثقافة الطبقية، ومع ذلك فقد فتحت النظرية البورديوية الباب على مصراعيه بفضل فعاليتها وحيويتها على العديد من الأبحاث والدراسات في مجالات عدة، لهذا نرى بأن تلك النظرية تقدم إسهامات وإضاءات قيِّمة فيما يتعلق في السلطة وممارسات الفاعلين الشبكيين بداخل الفضاء الافتراضي في إطار علاقات صراعات القوة والنفوذ والهيمنة ومبدأ التصنيفات والتمايز، وبذلك فإن مِنصَّات التواصل الاجتماعي في إطار السوسيولوجيا البورديوية (الانعكاسية) تساهم في الكشف عن آليات الهيمنة والسلطة وبناء وتمثيل ونزع العالم الاجتماعي. إنها نظرية يمكن النظر إليها باعتبارها نظرية كبرى للفعل أو الممارسة في قطيعة مع البدائل المعتادة¹⁸.

    يحاول بورديو في أعماله وأطروحاته بأن يكشف ويفكك أبعاد الواقع الاجتماعي، بما يتضمنه من أشكال الصراع والهيمنة والتمايز بين مختلف الفئات الاجتماعية، من خلال نظرية سوسيولوجية انعكاسية ذات منهجية بنيوية ورؤى نقدية وتوليفية، وتؤكد على أهمية وترابط البعد النظري والتجريبي (الإمبريقي) في البحث العلمي، فهي تمنح دراسة الواقع الاجتماعي صفة الصبغة العلمية التي تزاوج بين النظرية والتجربة أو الجانب النظري والعملي، من خلال إثراء مشروعه النظري بمفاهيم جديدة التي تمثل في الأصل نتاج تراكمي ومحاولة لإعادة قراءة وتفكيك للمفاهيم السوسيولوجية والفلسفية الكلاسيكية، حيث أضفى إليها أبعاداً ونَفَسَاً جديداً، ومنحها آفاقاً سوسيولوجية أكثر ديناميكية واتِّساعاً وتصالحاً بين الذاتية والموضوعية أو البنية والفعل، مما جعله يبتكر قاموساً مفاهيمياً من قبيل الهابيتوس Habitus والحقل Champ ورأس المال Capital، وإعادة الإنتاج Reproduction والعنف الرمزي Violence Symbolique وغيرها من المفاهيم والأدوات المنهجية التي طورها وعاود صياغتها خلال مشروعه ومشواره العلمي.

    تمتلك مِنصَّات التواصل الاجتماعي مواصفات وخصائص فريدة، تخولها أن تعمل كـحقل باعتبار عن كل علاقة اتصال أو علاقة اجتماعية هي علاقة سلطة، لهذا فإن البينة العلائقية بداخلها تخضع لمنطق علاقات القوة أو الصراع بوصفه حقلاً ، يمتلك تاريخه وقواعده التأسيسية ورهاناته من الموارد أو العوائد من رأس المال، تلك الموارد القابلة للمراكمة أو التثمير والتحويل بهدف جني المنافع والمصالح المتوخَّاة سواء المادية أو الرمزية، فالنظرية البورديوية ترتكز بشكل أساسي على النظام العلائقي، لهذا فإن مفهوم البنية لديه يشير إلى هذا المنحى العلائقي بين الأشياء، باعتبار أن مفهوم البنية لا يقتصر على البنية التحتية المعيارية، أي المكان المادي أو فرص الاتصال الفعلية، ولكنه هو الكيان العلائقي¹⁹، كما إن النظرية البورديوية حول الممارسة تعترف بأن الفاعلين يمكن أن يكونوا على صلة بأطراف فاعلة أخرى وأن يتأثروا بهم دون تقاسم الروابط معهم مهما كانت منفصلة أو كامنة.

    تطابق مِنصَّات التواصل الاجتماعي المعايير والمواصفات اللازمة للاشتغال بوصفها حقلاً، فهي قادرة على الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بمدى وجود الحقل في المقام الأول، ومدى تمتعه بالحكم الذاتي فيما يتعلق بالحقول الأخرى، ذلك باعتبارها أسئلة تجريبية دائمة وأساسية في النظرية البورديوية حيث يتحتم تطبيقها تجريبياً أو إمبريقياً، لهذا فإن دراسة مِنصَّات التواصل الاجتماعي بوصفه حقلاً تمثل فرصة لدراسته كموضوع للبحث العلمي، فكما يبين أنطونيو د. ستيفانو Antonio Di Stefano بأن بورديو حدد ثلاثة معايير رئيسية مطلوبة في نهاية المطاف للكشف عن الحقل، وهي: (1)- إمكانية الإشارة إلى وكلاء (فاعلين) ذوي مواقع متباينة في علاقات مستقرة نسبياً (من السلطة) مع بعضهم البعض، (2)- وجود قدر معين من الحكم الذاتي، (3)- إمكانية إظهار وجود – أو ربما على نحو أدق – إِثباتُ تأثير وجود شكلٍ من أشكالِ رأس المال الخاص بالحقل"²⁰

    لقد أكد بورديو في إطار نهج بنيوي اندماجي على العلاقة المترابطة والمندمجة بين ثنائية الذاتي والموضوعي، سعياً وراء تجاوز الانفصال الحاصل بين تلك الثنائية في النظريات السوسيولوجية، ومن ثمة تفسير ممارسات الفاعلين أو الجماعات وفق هذا المنطق، والتي تمخضَّت عنها مجموعة من المفاهيم العلائقية مثل الهابيتوس، والممارسة، والحقل، والإنتاج وإعادة الإنتاج، والتي تؤكد على الآثار البنيوية للظواهر الاجتماعية، وتفتح الأبواب لمناقشة وتفسير قضايا مختلفة في الواقع الاجتماعي، لاسيما بأن مقولة الحقل تسمح بدراسة مختلف أنساق المواقف والتفاعلات التي تنتظم بداخله، كما نجد بأن مِنصَّات التواصل الاجتماعي بوصفها حقلاً تتم بداخلها عمليات إنتاج ثقافية ضخمة في إطار اقتصاد الاهتمام والممارسات الرمزية، يتم فيه خلق تمثلات وتصورات واستعدادات ومواقف ورؤى وأذواق، ويتم فيها عمليات من إعادة إنتاج الهيمنة والنفوذ، ومن ثمة عمليات من الإنتاج وإعادة إنتاج سواء على مستوى البناء الاجتماعي أو الواقع الاجتماعي، لهذا يبين أنطونيو د. ستيفانو Antonio Di Stefano بأن الموقف، والاستقلالية النسبية (من الحقول المهيمنة الاقتصادية والسياسية) والأشكال المشروعة لرأس المال هي الفئات الأساسية التي بإمكان الحقل من خلالها أن يأخذ على نحو فعال شكل النظام العلائقي الاجتماعي للنظرة السوسيولوجية"²¹.

    إن مِنصَّات التواصل الاجتماعي تمثِّل نموذجاً ممكناً للاختبار الإمبريقي للنظرية البورديوية حول الممارسة والحقل، وبعبارة أخرى، العلاقة بين الموضوعي والذاتي، وآليات وأشكال السلطة والهيمنة والنفوذ والتمايز وعمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج السلطة في هذا السوق التنافسي، فـالحقل Champ هو جهاز تحليلي في النظرية البورديوية يطبَّق لِفَهم كيف يكون الهابيتوس ورأس المال والممارسات متشابكة على نحو علائقي في الحياة الاجتماعية، لهذا فإن عملية تحليل حقل التواصل الاجتماعي يَسمَحُ بتحليل البُعد البنيوي للممارسة والتفاعل من خلال علاقة الذاتي بالموضوعي، بهذا فإن الدراسة محاولة لإدراك هذا العالم الاجتماعي الافتراضي، باعتبار أن مِنصَّات التواصل الاجتماعي فضاء علائقي افتراضي صراعي يعمل بوصفه حقلاً، يمتلك تاريخه وقوانينه أو نواميسه ومنطق عمله ورأس ماله ورهاناته ومصالحه الخاصة، أنه فضاء افتراضي صراعي يقطنه الأفراد والجماعات والمؤسسات، حيث تتم بداخله عمليات استثمارية أو ألعاب اجتماعية في إطار علاقات القوة والهيمنة.

    يمكننا القول بأن هياكل أو بنية الشبكات تحدد ماهية الحقل بشكل أساسي، لهذا فإن حقل التواصل الاجتماعي الذي نبتغي دراسته هو ساحة للنضال أو الصراع، باعتباره بناء مشيداً أو مبنياً (بنية مبنية) بين فاعلين شبكيين يمتلكون هابيتوس رقمي تم بناؤه اجتماعياً بتوسُّط تقني، فـ الممارسة في العالم الافتراضي يمكن أن نفكر فيها، باعتبارها نوعاً من العلاقة بين (الهابيتوس)؛ أي استعدادات المرء وموقعه (رأس ماله)، في إطار سياق اجتماعي معيَّن ضمن (حقل) من الحقول على الإنترنت Online Fieldsالتي تشكل لنا العالم الافتراضي"²²، لهذا فإن الهابيتوس الرقمي يمثل ذلك التاريخ الفردي المتجسد في الذات، فالفاعل الاجتماعي بداخل هذا الفضاء الافتراضي بات أكثر فردانية وعقلانية في ممارساته، وأكثر تكيُّفاً وانسجاماً مع الحقل، فالهابيتوس يمنح استعدادات إدراكية تميل إلى التكيف والتأقلم مع فضاء الحقل والموقع، كل ذلك يجعل الفاعل الشبكي في هذا الفضاء الافتراضي كـ السمكة في الماء، وفي ذات الوقت، يعمل هذا الهابيتوس الرقمي من خلال تفاعله الاجتماعي في فضاء الحقل، بالاشتغال بوصفه بنيات بانية (مولدة)، منتج للممارسات والتمثلات المتاحة للتصنيف من قبيل هذا مؤثر أو فاشينستا أو يوتيوبوز أو إنستغرامرز... إلخ، باعتبار أنها تمثل في آن واحد نسقاً من نماذج إنتاج الممارسات ونسقَ نماذج إدراك وتقييم الممارسات، وفي كلتا الحالتين تُعبِّر عملياته عن الواقع الاجتماعي الذي تم بناؤه فيه، ونتيجة لذلك ينتج الهابيتوس ممارسات وتمثلات متاحة للتصنيف²³، وبناء على ذلك كله، سوف نحاول استكشاف الإمكانية والقيمة التحليلية لمفهوم الحقل والهابيتوس" في مِنصَّات التواصل الاجتماعي وتأثيراته على فاعليه وصراعات الحقل.

    يعتبر بورديو في إطار سوسيولوجيته الانعكاسية بأن العالم الاجتماعي فضاء للنضال أو لصراعات القوة تميزه طبيعة العلاقات والتفاعلات القائمة بين الفاعلين، يتكون العالم الاجتماعي أو الفضاء الاجتماعي (الكوسموسCosmos) من عدة حقول ذات استقلالية نسبية باعتبارها فضاءات علائقية، تملك كل وحدة منها منطقها وقواعدها الخاصة، فقد اقتنع بورديو بأن فهم الواقع الاجتماعي انطلاقاً من منهجيته البنيوية النقدية، يفترض إدراكه كفضاء علاقات، فضاء هو مكان لتعايش المواقع الاجتماعية، لعلامات مانعة باتفاق الطرفين (بالتبادل)، والتي تشكل بالنسبة إلى من يشغلها أصل وجهات نظرهم²⁴، لهذا فإن الحقل بناءٌ مشيَّدٌ أو مبنيٌّ (بنية مبنية)، فضاء علائقي متعدد الأبعاد، ويتكون فضاء الحقل من عوالم مصغَّرة ميكروكوزمات Microcosmose متجانسة نسبياً ومستقلة ذاتياً وتمتلك ممارستها الوظيفية الخاصة، تلك العوالم التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من منطق اشتغال وكيان الحقل العام، ومن ثم يتضح بأن الحقل مجال ذو استقلالية نسبية يتميز بكونه مجالاً للقوة والصراع تميزه طبيعة العلاقات والتفاعلات القائمة بين المنخرطين فيه، ففي هذا الفضاء العلائقي رأس مال قادر للتحول إلى أشكال أخرى من رأس المال، ليغدو بذلك أساس بناء فضاء افتراضي لصراعات القوى على شكل مواقع متمايزة مختلفة متناثرة في توزيعات وتراتبيات يحتل الفاعلون مواقع مختلفة غير متساوية أو متوازنة تحدَّدُ عبر كميِّة ونوعية الأشكال المختلفة للرساميل المتراكمة، مما يؤدي إلى نشوء علاقات قوى تتبعها علاقات سلطوية التي تأخذ شكل الهيمنة والنفوذ (المهيمنين/ المهيمن عليهم أو الخاضعين).

    إن الحقل البورديوي هو عالم اجتماعي كامل Tout un monde social، ويتضمَّن سلطة ورساميل وعلاقات قوة وصراعات واستراتيجيات من أجل المحافظة أو تغيير علاقات القوة القائمة، علاوة على منطقه وتاريخه الخاص وآليات اشتغاله، وفي نفس الوقت، يعبر بورديو عن الحقل بكونه نسقاً له حدوده وتاريخه التي تضمن استقلاليته النسبية وتمايزه عن الحقول الأخرى، وأنه كلما كان الحقل مستقلاً وقادراً على فرض منطقه الخاص كلما أمَّن بقاءه وحافظ على استمراريته، وفي نفس الإطار وفي تزاوج بين الذاتي والموضوعي في التحليلي السوسيولوجي البورديوي نجده يطرح مفهوم الهابيتوس لوصف للبنيات الذاتية والاجتماعية أو التاريخ الفردي، في علاقاته مع الحقل والتي تشكل منطلقاً لتحديد ممارسات وأشكال ومبدأ التصنيفات والتمايز لدى الفاعلين، باعتباره نسقاً من الاستعدادات والتصورات والرؤى والأذواق، فالهابيتوس ينتج أفعالاً في الوقت الذي يكون منتجاً هو نفسه من لدن التكيفات التاريخية والاجتماعية²⁵.

    تستهدف الدراسة مِنصَّات التواصل الاجتماعي بوصفها حقلاً، إنه مجال علائقي تدور بداخله صراعات وتجاذبات وعمليات تنافسية لمراكمة رأس المال الاجتماعي الافتراضي ورأس المال الثقافي الافتراضي في إطار علاقات القوة من الهيمنة والنفوذ والسيطرة، ولعلَّ الدراسة القيِّمَة لـ سيسيليا سور H.Cecilia Suhr حول وسائل التواصل الاجتماعي والموسيقي، تُمثِّل منطلقاً هاماً لفهم الطبيعة العلائقية والفريدة لمِنصَّات التواصل الاجتماعي كـ مواقع للشبكة الاجتماعية تعمل كحقل رقمي للإنتاج الثقافي حيث يتم تعيين القيم وتكريس الأعمال الفنية المتنازع عليها²⁶، كما نجد بأن حقل التواصل الاجتماعي يمثل مجالاً لإنتاج واستهلاك السلع الثقافية (المحتوى الرقمي)²⁷، مما يجعله مجالاً لمبدأ التصنيفات والتمايز، ويمارس قدرة سلطوية بفعل الكثافة الشبكية الافتراضية المتوالدة بداخل الحقل، مما يساهم في إنتاج أشكالٍ من العنف التعسُّفي، ذلك العنف الذي تنتجه السلطة وتعمل على ترسيخه، وبذلك سوف يتم مناقشة هذ الحقل من خلال منطق السوق، باعتباره العالم الاقتصادي المنعكس، وبالتالي الكشف عن الهيكل العام للحقل وحدوده ورهاناته وتاريخه وقواعده وعلاقاته بالحقول الاجتماعية الأخرى في العالم الواقعي (المادي)، ومن ناحية أخرى، محاولة الكشف عن العلاقات التفاعلية المترابطة بين البنى الموضوعية والذاتية من خلال التفاعلات والعلاقات الاجتماعية الافتراضية القائمة بين الفاعلين الشبكيين (المستخدمين)، بوصفه تفاعلاً والتقاءً بين تاريخين لبنيتين، هما البنى الذاتية ( الهابيتوس) بوصفه التاريخ الفردي في مقابل البنى الموضوعية بوصفه (تاريخ الحقل).

    سوف تتناول الدراسة آليات العرض والطلب في هذا السوق، وطبيعة الإنتاج والاستهلاك القائمة بوصفه حقلاً للإنتاج الثقافي، أي فضاء المنتجين وفضاء المستهلكين في حقل التواصل الاجتماعي، وتبيان العلاقة الكامنة بينهما في بنية هذا الفضاء العلائقي، باعتبار الحقل مجالاً للإنتاج واستهلاك السلع الثقافية، فالفاعلون في هذا الحقل هم منتجون ومستهلكون للمنتوجات الثقافية (المحتوى الرقمي) في نفس الوقت، لهذا تعتبر العملية التفاعلية من خلال قنوات التواصل الاتصال المختلفة، ليست مجرد وسائل للإعلام Communication Media، إنها وسائل للإعلام الجماعيGroup Media ، تعمل على استدامة ودعم العديد من التفاعلات²⁸، لهذا تمارس في الحقل اقتصاد الاهتمام والتبادلات والثروات الرمزية، إنها أشكال أو أعمال الاعتراف والاهتمام والثقة المتبادلة كمظاهر لأنماط القوة والهيمنة والنفوذ والتمايز.

    في هذا المجال، علينا أن ننوه بأن مفهوم السوق في المنظور البورديوي يتجاوز المفهوم الفيبري M. Weber للسوق الذي يتكون من البائعين والمشترين الذين يتنافسون أولاً مع بعضها البعض، ومن ثم الدخول في تبادل مع بعضها البعض، لهذا يؤكد بورديو بأن وجود سوق لا يعني بأي حال من الأحوال أن العمليات لا تمتثل إلا لقوانين المنافسة الميكانيكية، وبأن التبادل الدائم للهدايا، والكلمات... إلخ، لا يتوافق مع المنطق المحدد لسوق مجرد، وبناء على ذلك يرى بأنه من خلال تجاوز مفهوم الفيبري للأسواق، يمكن فهم كل تبادل (وكل تفاعل) بشكل أفضل من أنها علاقة ثنائية الاتجاه تكون دائماً في الواقع علاقة ثلاثية بين فاعلين اثنين والفضاء الاجتماعي الذي يقعان فيه²⁹".

    إن الحقل فضاء للإنتاج وإعادة الإنتاج والتداول والاستثمار والاستحواذ على المنافع المتوخَّاة سواء المادية أو الرمزية، وبذلك فإن مِنصَّات التواصل الاجتماعي بوصفها حقلاً نجدها تخضع لمنطق السوق وفق آليات العرض والطلب والإعلانات والبحث عن المستهلكين، مما يجعلنا نحاول أن نستكشف طبيعة الإنتاج والمنتجات التي يتم إنتاجها وتبادلها واستهلاكها في الحقل، لاسيما في ظل الطبيعة المزدوجة للفاعل الاجتماعي بداخل هذا الفضاء الشبكي بوصفه المنتج والمستهلك في آن واحد، وانطلاقاً من ذلك كله، فإن الدراسة تسعى لاستكشاف العلاقات السلطوية بداخل فضاء هذا الحقل، والكيفية التي يتم من خلالها إضفاء الشرعية من الاعتراف والقبول على تلك العلاقات السلطوية، والكيفية التي يتم من خلالها إعادة إنتاجها، فمن خلال نظرية الحقل سوف نحاول إبراز أنماط حياة الصراعات الافتراضية القائمة بداخل الحقل، وتوضيح منطق تكوُّن وتشكُّل الفاعلين الشبكيين بداخل الحقل، علاوة على السعي لاستكشاف رهانات الحقل من التمايز وأشكال الموارد أو رأس المال التي تتمركز حولها صراعات الحقل، وبذلك تستهدف الدراسة استكشاف اللعبة القائمة في الحقل وقواعدها واستراتيجياتها، وأشكال واستراتيجيات إعادة الإنتاج بداخل الحقل.

    تبدأ النظرية البورديوية من نقطة الفاعل الاجتماعي بداخل حقل معين لتنطلق لتشرح مجمل الحقل ومكوناته وقواعده واستراتيجيات الفاعلين ونحوه، وبناء عليه فإن الدراسة سوف تناقش الكيفية التي يتحول بها بصورة تدريجية أفراد عاديون بوصفهم مجرد فاعلين شبكيين (مستخدمين) لمِنصَّات التواصل الاجتماعي، ليصبحوا مهيمنين أو لاعبين جدد ضمن عملية ارتقاء هرمي من الأسفل إلى الأعلى، وعليه الكيفية التي غدوا فيها فاعلين مهيمنين حائزين على الشرعية من الاعتراف والقبول والمكانة، ويزاحمون المهيمنين التقليديين أو الأسماء المكرَّسة في سلطتهم وامتيازاتهم بوصفهم النبلاء الجدد La Nouvelle Noblesse ، ولهذا سوف نسعى – قدر المستطاع – إلى استيضاح وفهم كيفية اكتساب الأفراد أو الجماعات الاجتماعية للسلطة داخل مِنصَّات التواصل الاجتماعي، فالدراسة محاولة تسعى إلى فهم قواعد اللعبة وكيف تدار؟ ومن يديرها؟ علاوة على معرفة الإستراتيجيات والمنافع المتوخاة، وأشكال السلطة والتأثيرات التي يخلقها الحقل، لاسيما بأن النظرية البورديوية تقدم مساهمات هامة حول أشكال التمايز في الحقل، وإبراز العلاقة بين السلطة والمكانة أو الوضع في الحقل، ووصف كيفية إنتاج علاقات القوة وإعادة إنتاجها وتحويلها ديناميكيًا من خلال تصرفات الفاعلين.

    تهدف الدراسة إلى بحث آليات اشتغال حقل التواصل الاجتماعي، ودراسة الإستراتيجيات التي يوظفها الفاعلون (الوكلاء) الاجتماعيون في اللعب بداخل الحقل وفقاً لموقعهم في فضاء الحقل. إنها في الحقيقة محاولة جادَّة تسعى إلى إماطة اللثام، ونزع الأقنعة عن الممارسات السلطوية والتعسُّفية المتخفِّية وراء البديهيات أو المسلَّمات في الحقل، باعتبار أن الحقل يشتغل بصورة مكثفة وفعَّالة في إطار المنظومات الرمزية التي تعتبر "أدوات للمعرفة والتواصل... (و) تدين المنظومات الرمزية بقوتها الذاتية لكون علاقات القوة التي تعبر عن نفسها لا تتجلى فيها إلا في شكل علاقات بين معانٍ.. (التحويل)³⁰"، وبذلك فإن الدراسة تسعى إلى تحديد بنية الحقل وعلاقات القوة الحاصلة في مِنصَّات التواصل الاجتماعي، وبالتالي محاولة نحو تفكيك آليات السلطة والسيطرة والهيمنة لتلك المِنصَّات باعتبارها إحدى القوى التكنولوجية العميقة التي باتت تؤثر في حياتنا ومعتقداتنا وعلاقتنا ومحيطنا.

    كما سوف نسعى إلى إبراز الدور الذي يلعبه الحقل وفاعلوه في إطار رهان مبدأ التصنيفات والتمايز، لكونه يمثل إحدى أبعاد الصراع بين الجماعات الاجتماعية سواء في الفضاء الافتراضي أو الواقعي، الذي يأخذ شكل وصورة صراع رمزي، وعلى هذا مدى تأثير المكانة التي يحتلها الفاعلون الشبكيون في الحقل على مختلف الاستعدادات والتصرفات والمواقف والأذواق والأحاسيس، وبعبارة أخرى البحث عن الخيط الرابط أو العلاقة الارتباطية الحاصلة في الحقل بين ثالوث الوضعية والمكانة والممارسة الرقمية، وبذلك تحاول الدراسة تفسير ممارسات وسلوكيات الفاعلين الاجتماعيين المتصلين بالشبكة، وتبيان الدور الفعال للعلاقة المندمجة والمتشابكة والمعقدة للبنى الذاتية والموضوعية في توليد الممارسات الرقمية والإحساس في الموقع والمكانة التي يشغلها في فضاء الحقل، من خلال توظيف للمنهجية والأطر المفاهيمية البورديوية مع إعطائها نفساً أوسع وأعمق، ومن ثمة فإن هذه الدراسة في مضمونها الواسع تسعى وراء كشف وتفكيك آليات الهيمنة والنفوذ والسلطة ومختلف أشكال العنف التعسفي الحاصلة بداخل الحقل، والكشف عن أشكال ومظاهر التبادلات والسيطرة التي تتم فيه.

    تستهدف الدراسة بشكل رئيسي تبيان قيمة النظرية البورديوية ونهجها الانعكاسي في دراسة ما بات يطلق عليه علم الاجتماع الرقمي Sociology of Digital، لفهم ما يحدث على مِنصَّات التواصل الاجتماعي، لاسيما بأن نظرية الحقل قد تكون مفيدة بشكلٍ خاصٍّ لفهم العلاقات والتفاعلات وأشكال الممارسات والاستعدادات للفاعلين الشبكيين النشطين على مِنصَّات التواصل الاجتماعي، وباختصار إنها رؤية علمية تجريبية طموحة تسعى نحو تحديث المنظور السيوسيولوجي البورديوي نحو آفاق مستقبلية تتجاوز أطروحات ما بعد الحداثة، لتحاول تفسير ممارسات وعلاقات وتفاعلات الفاعلين بداخل الغلاف المعلوماتي (الإنفوسفيرInfosphere) والمنطق الصراعي لتلك البنية العلائقية في إطار حقل التواصل الاجتماعي، ومدى انعكاساتها على الفضاء الاجتماعي الواقعي.

    منهجية الدراسة

    دراستنا تتمركز في إطار دراسات علم الاجتماع الرقمي، أي البحث في الظواهر والممارسات الاجتماعية التي تنتج عن استخدامات الفاعلين المختلفة في الفضاء السايبيري عبر موارد التكنولوجيا من الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ووسائل التواصل المختلفة، (ومنها دراسات الفجوة أو التفاوت الرقمي Digital Inequality Research ومسبباته وتأثيراته وأنماط التأثر والتأثير، لكن من منظور النظرية البورديوية التي كان لها تأثير واضحاً في مجالات عدة، ومن بينها تكنولوجيات الإتصالات الرقمية، والذي بات يسمى بشكل متزايد علم الاجتماع الرقمي Digital Sociology"³¹، فالنهج البورديوي أصبح يطرق أبواباً ومجالات جديدة في مختلف الأبحاث والدراسات المعاصرة.

    تتخذ الدراسة مِنصَّات التواصل الاجتماعي كموضوع للدراسة الإمبريقية في إطار النظرية البورديوية باعتبارها حقلاً، لكننا في هذا المجال سوف نقوم بمحاولة توسيع نطاق النظرية البورديوية في ظل مرحلة ثورية رقمية وتقنية تفرض ذاتها، وتعيد قراءة العديد من النظريات أو المفاهيم التي انبثقت عن مرحلة ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية، لهذا تستهدف الدراسة محاولة استكشاف مِنصَّات التواصل الاجتماعي باعتبارها حقلاً يمتلك تاريخه واستقلاليته ورهاناته ومنطقه وقواعده الخاصة، وبالتالي إنها محاولة لدراسة علاقات القوة من الهيمنة والنفوذ والسيطرة القائمة بداخل هذا الحقل، باعتباره فضاءً افتراضياً علائقياً تدور بداخله في توسط افتراضي - تقني، صراعات (علاقات قوة). إنه فضاء سلطة وسيطرة وتفاضل في المواقع والمواضع بين الفاعلين في الحقل الذين يتوزعون في الحقل بناء على التوزيع المتفاوت لأشكال رأس المال ( كمياً ونوعياً)، لهذا فإن الفاعلين في الحقل ينخرطون في صراع للاستحواذ على القيمة من الموارد أو رأس المال، إما من أجل المحافظة على مواقعهم أو تغييرها وتحسينها ضمن استراتيجيات معينة.

    تتخذ الدراسة النظرية البورديوية كأساس منهجي باعتبارها العدسة أو النظارات التي من خلالها يمكن تفسير الممارسات في العالم الاجتماعي الافتراضي، وبرغم ذلك يتطلب الأمر عدم الاكتفاء بإدراك سطحي وتقديسي أعمى للتصورات الأساس التي ورَّثنا إياها بورديو..³²، فالعديد من الإرهاصات والتحولات والتغييرات باتت تضغط على الإرث البورديوي التقليدي حول نظرية الفعل والممارسة سواء على المستوى المنهجي أو الموضوعي، لهذا سوف تتبع الدراسة رؤية ذات منظور واسع للنظرية البورديوية تتجاوز نهج ما بعد الحداثة إلى نهج مستقبلي (بعد ما بعد الحداثة أو الما بعد الحداثية)، فالعالم يشهد تحولات جذرية وأساسية في نطاق ثورة رقمية وتقنية تكنولوجية هائلة ومتسارعة، مرحلة تطورت خلالها أشكال الإنتاج وإعادة الإنتاج، ومختلف العلاقات الاجتماعية البينية والتفاعلات الرمزية والنظم الاجتماعية، إنه واقع بات يفرض ذاته بقوة على الجميع، حيث تشارك فيه تلك الثورة الرقمية والتكنولوجية بفعالية في تشكيل الحقول الاجتماعية وصراعاته، وعليه تساهم في بناء الواقع الاجتماعي، في الوقت الذي ترتبط فيه بدينامية وقوة سلطوية خاصة به اشتغالاً وسيطرة رمزية، مما يطرح تساؤلات عميقة حول البنية والفعل وبين البنى الذاتية والموضوعية من قبيل علاقة الفرد بالتكنولوجيا وتفسير الممارسات الرقمية والسلطة ورأس المال. تلك التساؤلات والتحولات الثورية في مجتمعاتنا الحالية جعلت العديد من النظريات الاجتماعية والمفاهيم المتوارثة تتصدع وتتعرض لانتقادات عدة، مما يتطلب البدء في عملية إعادة قراءتها وتأويلها بصورة ملحة.

    يوفر نهج بورديو بشكل عام طرقاً جديدة لبحث الممارسة الرقمية، باعتبار أن تطبيق الأدوات المفاهيمية البورديوية في هذا السياق هو الافتراض بأن بعض مبادئ الممارسة الاجتماعية تبقى ثابتة في مواجهة الاختلاف المادي، ومن ثمة فإن نهج البورديوية في الدراسات الحديثة في مجال علم الاجتماع الرقمي، سيحتفظ بالممارسة الاجتماعية كإطار مرجعي رئيسي بدلاً من التركيز على حداثة الإنترنت كنقطة انطلاق لها³³، بذلك تسعى الدراسة في الأساس إلى محاولة تجنب التعامل مع التكنولوجيا على أنها حالة خاصة من الناحية النظرية، وبالتالي التعرف على انعكاسات (استمرار) الهياكل أو البنى الاجتماعية في أنماط التفاعل على مِنصَّات التواصل الاجتماعي، بمعنى آخر، إنها محاولة للبحث في مِنصَّات التواصل الاجتماعي كما لو كانت ذات أهمية اجتماعية"³⁴.

    تستند الدراسة على النظرية البورديوية كمرتكز أساسي، بحيث يتم توسيع نطاقها ناحية الفضاء الافتراضي وممارسات الفاعلين فيه، عملية تحليلية لممارسات وسلوكيات للأفراد والجماعات بداخل هذا الحقل الافتراضي ودراسة أشكال الرساميل وقواعد واستراتيجيات اللعبة، والمكافآت أو العوائد المتوخاة، وأشكال الإنتاج وإعادة الإنتاج، باعتبار أن دراسة الحقول بناء على النظرية البورديوية يجب أن تكون دائماً ذات طابع تجريبي، لهذا فالدراسة لا تبتغي إبراز المفاهيم البورديوية – فحسب – بل إنها تبتغي الفهم والإطار المتعمق لفهم حقل التواصل الاجتماعي بوصفه حقلاً للإنتاج الثقافي، حقل بات يؤثر بشكل جلي على الفضاء الواقعي وحقوله من خلال امتلاكه لرأس مال استثنائي متعالٍ، بافتراض انبثاق كيان (ميتا اجتماعي social-meta)، بات يضغط على الدولة الوطنية في هذا المجال.

    تستعين الدراسة بمعجم المفاهيم البورديوي لتفسير معظم التفاعلات والممارسات الرقمية في حقل التواصل الاجتماعي، وفي هذا الإطار يستدعي التنويه بمجموعة من النقاط الأساسية، حتى لا تزيغ وتفقد من قيمتها ومقاصدها وركائزها الأساسية، ومن ثمة تتحول إلى شيء آخر، لهذا ارتأينا الإبقاء على العديد من المفاهيم والتصورات البورديوية دون السعي إلى مقابلتها باللغة العربية وفي مقدمتها مصطلح الهابيتوس أو الآبيتوس Habitus وذلك لأنها ذات حمولة فكرية قائمة بذاتها على امتداد تاريخ من التطور داخل مدارس الفلسفة وعلم الاجتماع وتياراتها³⁵، فإغراء البحث عن مرادف لها أو ترجمتها إلى اللغة العربية قد يفقدها قيمتها ومقاصدها، وقد يجرُّنا إلى فقدان البوصلة من خلال تلك العملية من الإسقاطات أو المقولات والمقابلات الذهنية اللغوية.

    كان علينا منذ البداية ضرورة النَّظر في الطرق التي يمكن فيها تطبيق المفاهيم البورديوية من قبيل الحقل ورأس المال والهابيتوس في هذه الدراسة الإمبريقية، وخاصة في ظل الطبيعة الخاصة لهذا الفضاء الافتراضي الذي يمثل الفاعلون فيه المنتجين والمستهلكين في نفس الوقت، وحالة التوسُّط الحاصلة بين (الآلة/ والإنسان) أو(الكائن/ والذات) التي تؤثِّر في مجمل الممارسات وأشكال الاستعدادات والتصورات، لهذا يرشدنا أنطونيو د. ستيفانو Antonio Di Stefano بأنه علينا أن نتذكر بأنه في بيئات التواصل الاجتماعي، المواقع لم تعد تعمل كما وصفها بورديو في المقام الأول، أو على الأقل موقف تعمل في ظل ظروف مختلفة بالمقارنة مع ما دعا إليه في الأصل، علاوة على ذلك، يشير بأن حقل التواصل الاجتماعي ليس نظاماً مؤسسياً لهذا قد يواجه المرء صعوبات نظرية وتجريبية كثيرة، إذا ما عمل على تقسيم الإنتاج والاستهلاك تماماً في سياق التحليل، لهذا فإنه وليس من المستغرب أو لا عجب أن ظهرت اقتراحات من قبيل برودوساج produsage وبروسومر presume (مصطلحات تقنية وإعلامية بمعنى الإنتاج والاستخدام في ذات الوقت) في المناقشات الأخيرة حول هذا الموضوع، والتي تؤكد على الطبيعة المختلطة للممارسات عبر الإنترنت التي من خلالها المستخدم هو في الوقت نفسه المنتج والمستهلك، أو الكاتب والقارئ³⁶". كما نجد في هذا المجال، بأن مِنصَّات التواصل الاجتماعي طوَّرت من الشكل التقليدي من رأس المال الاجتماعي ورأس المال الثقافي - وفق الرؤية البورديوية - وطرق واستراتيجيات تصريفها واستثمارها اجتماعياً، وأسهمت بصورة عملية في بروز اختلافات في عمليات الإنتاج الثقافي والمتداخلين فيه، في وقت بات فيه الفاعلون في حقل التواصل الاجتماعي بوصفه حقلاً للإنتاج الثقافي منتجين ومستهلكين في ذات الوقت ومتجاوزين للمهيمنين ومحتكري التأويل الشرعي والعديد من الوسطاء الثقافيين التقليديين.

    لقد حاولنا قدر المستطاع الالتزام بالأسس أو المرتكزات الأساسية في النظرية البورديوية مع محاولة إعطاء تلك المفاهيم والنظرية بشكل عام نَفَساً أو عمقاً أوسع لتتواءم مع بنية الفضاء الافتراضي، ومن ثمة يتضح بأن هنالك بعض المفاهيم والتعاريف في النظرية البورديوية قد تتطلب ضبطاً مفاهيمياً وإجرائياً أو إعادة تأويل، لتتماشى مع خصوصية الفضاء الافتراضي وممارسات فاعليه، ففي حين يعد الفضاء الاجتماعي في تصور بورديو بأنه لا يملك حقيقة في ذاته، بقدر لأنه فضاء مواقع وتوزيعات للحقول ورساميل وفاعلون، فكل موقع يطابق ويحدد مجموع خصائص (رأس المال) والقدرات العملية (الهابيتوس) وذلك من قبل مكانه داخل بنية متصلة بالشبكة...³⁷، علينا أن نبين بأن نقطة أساسية يشير إليها آندرياس شميتز Andreas Schmitzفي هذا الموضوع من حيث إن الفضاء الاجتماعي في النظرية البورديوية بوصفه فضاء يجب أن تتم إعادة ترجمته بوصفه شكلَ ترتيبٍ توزيعيٍ محدد من العوامل والخصائص لا يقتصر على الفضاء المادي، بمعنى العالم المادي غير متصل بالشبكة العنكبوتية³⁸، لهذا فإن الفضاء الافتراضي أو السيبراني الذي نقوم بدراسته حول فضاء وسيط بين التقنية والفاعل الاجتماعي، إنه ساحة مفتوحة أو فضاء علاقات قوة من مواقع وتوزيعات لحقول ورساميل وفاعلين اجتماعيين شبكيين (متصلين بالشبكة) يمتلكون هويات افتراضية، أي مجموعة واسعة من الاستعدادات والتصورات والرؤى والأذواق مرتبة في هذا الفضاء من خلال أبعاد كثيرة سواء على مستوى الحقول وأنواع رأس المال.

    في حين إننا في التعريف الاجرائي لحقل التواصل الاجتماعي الذي نقصده في إطار توسيع النظرية البورديوية هو المجال أو الميدان المشيَّد علائقياً بصورة افتراضية من خلال توسُّط تقني، وتتوالد بداخله علاقات قوة وصراعات ومعان، حيث تتركز هذه الصفات في مِنصَّات التواصل الاجتماعي القادرة على خلق القيمة من خلال العمليات التواصلية والتفاعلية الافتراضية، والتي تمنح فرصة للفاعلين المرتبطين بها للارتقاء والاستثمار في فائض القيمة من تلك العملية للحصول على منافع ومصالح متوخاة سواء عوائد (مادية، أو رمزية)، أي أنه فضاء يتكون من عدة فضاءات مصغرة أو ميكروكوسمات افتراضية، يتصف بكونه بنية علائقية يحمل في ثناياه الصراع والتنافس بين فاعليه الشبكيين (المرتبطين بالشبكة)، وذلك من أجل امتلاك القوة (السلطة) والهيمنة، والتعبير عن الحقل وتمثيله، وإنتاج أشكال من التمايز والتصنيفات واحتكار منافعه.

    أما في مجال دراسة علاقة القوة فإن الأمر يتطلب بالضرورة، كما توضح ريتشندا هيرزيغ Richenda Herzig اتباع نهج منهجي استكشافي يبني تعريفه للسلطة ليعكس المشهد الفريد للصراعات المحلية، فمن الناحية العملية يتم ذلك من خلال طرح بعض الأسئلة المفتوحة من خلال استكشاف مصالح المستخدمين في اختيار الانخراط مع بيئة معينة على الإنترنت، والنظر في طبيعة المهارات والموارد التي يتم نشرها استراتيجياً ضمن هذه البيئة، والقيمة النسبية التي تتراكم في سياقات مختلفة، وتبين ريتشندا هيرزيغ بأن تلك الأسئلة يمكن أن تكشف عن أشكال غير متوقعة من القوة والديناميات التي تنظم علاقاتها المتبادلة، كما تسلط الضوء أيضاً على مخططات التصنيف التي يحملها المستخدمون والنظام الرمزي الذي يفرضونه على الفضاءات الإلكترونية³⁹.

    تجبرنا الثورة الرقمية والتكنولوجية على إعادة التفكير بشكل منهجي في الأطروحات البورديوية حول بعض المفاهيم من قبيل رأس المال النوعي، وطرق توليد ونقل رأس المال الثقافي في الفضاء الافتراضي، والكيفية التي يتم من خلالها توليد رأس المال النوعي من خارج حقله، باعتبار أن مِنصَّات التواصل الاجتماعي أسهمت في تغيير قواعد اللعبة، وطرق بناء القوة والنفوذ والهيمنة في مختلف الحقول الاجتماعية، بحيث صنع حقل التواصل الاجتماعي أبواباً خلفية للنبلاء أو المؤثرين الجدد للولوج إلى الحقول الاجتماعية في العالم أو الفضاء الواقعي، كما شيَّدَتْ مجالاً أو فضاء افتراضياً واسعاً لإعادة إنتاج الأسماء المكرسة (المهيمنون التقليديون) من خلال عمليات تسويقية للممارسات والسلوكيات الخاصة بهم، تجعلهم مرئيين بشكل أوسع وأكثر انفتاحاً وقرباً وتواصلاً مع الآخر.

    كما إننا في إطار توسيع أطر النظرية البورديوية، سوف نقوم بمناقشة قضية علاقة الدولة بالحقل والتحديات والمتغيرات الحاصلة فيها، لا سيما مع بروز قوة وتأثير مِنصَّات التواصل الاجتماعي على الواقع الاجتماعي وتداخلها مع جل الحقول الاجتماعية في العالم الواقعي، لهذا ارتأينا أن نفهم قوة تلك المِنصَّات كشكل من أشكال رأس المال الفوقي أو الميتاكبيتال meta-capital التي تمارس من خلالها شركات التواصل الاجتماعي قوة وسلطة مؤثرة على أشكال السلطة الأخرى. ويمتدُّ أثرها للعديد من الحقول الاجتماعية في الفضاء الاجتماعي الواقعي، ومن ثم تجاوز الشكل النظري للميتاكبيتال أو رأس المال الفوقي في النظرية البورديوية والمتمركزة حول الدولة وسيطرتها وانتشارها على مجمل الفضاء الاجتماعي وحقوله المختلفة، فقد بات هنالك منافس حقيقي للدولة الوطنية في مجال الاحتكار المتزايد للنفوذ والسلطة ولمواقع الهيبة الاجتماعية، باعتبار أن قوة الدولة باتت تزاحمها القوة التأثيرية لمِنصَّات التواصل الاجتماعي، ذلك الفضاء للإنتاج الافتراضي المعاصر الذي بات يضم في جوانبه السلطة والقوة، وبات جزءاً لا يتجزأ بشكل متزايد من فضائنا الاجتماعي.

    سوف تتبع الدراسة مسارات النهج البورديوي في دراسة الحقل، حيث

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1