Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل
دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل
دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل
Ebook705 pages4 hours

دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

قد لا نختلف على أن عملية التغير (Change) وحركة التاريخ  يرتبطان بعلاقة طردية موجبة  فكما أن التغيير كان على مر الزمان  مدخلا  أساسيا وراء ديمومة تدفق حركة التاريخ إلى الإمام، كذلك كان تدفق هذه الحركة، بالمقابل، مدخلا أساسيا وراء تسارع معدل عملية التغيير.

وعلى الرغم من أن تسارع معدل عملية التغيير قد تباين من موجة حضارية إلى أخرى، خلال دورة تطور الحياة (Life Cycle of Evolution)، إلا أن هذا التباين لا يلغي أن مخرجات هذه العملية، التي كانت لصيقة بكل موجة حضارية، قد افضت إلى عالم يتميز باختلافه، في العموم، عن العالم الذي كان لصيقا بالموجة السابقة عليها. ولهذا تُعد هذه المخرجات بمثابة الفيصل بين ما كان، وبين ما هو كائن، وبين ما قد يكون. ولهذا لم تكن هذه العملية بمعزل عن مخرجات تأثير تلك الافكار الفريدة، والأحداث الكبرى، التي جعلت التاريخ يقترن، عبر الزمان، بمرحلتين: مرحلة ما قبل هذه الافكار أو الاحداث، ومرحلة ما بعدها.

Languageالعربية
PublisherGreen Wave
Release dateJul 2, 2022
ISBN9798201789701
دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل

Related to دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل

Related ebooks

Reviews for دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    دراسات المستقبلات واستشراف مشاهد المستقبل - أ. د. مازن إسماعيل الرمضاني

    المقدمة

    قد لا نختلف على أن عملية التغير (Change) وحركة التاريخ  يرتبطان بعلاقة طردية موجبة  فكما أن التغيير كان على مر الزمان  مدخلا  أساسيا وراء ديمومة تدفق حركة التاريخ إلى الإمام، كذلك كان تدفق هذه الحركة، بالمقابل، مدخلا أساسيا وراء تسارع معدل عملية التغيير.

    وعلى الرغم من أن تسارع معدل عملية التغيير قد تباين من موجة حضارية إلى أخرى، خلال دورة تطور الحياة (Life Cycle of Evolution)، إلا أن هذا التباين لا يلغي أن مخرجات هذه العملية، التي كانت لصيقة بكل موجة حضارية، قد افضت إلى عالم يتميز باختلافه، في العموم، عن العالم الذي كان لصيقا بالموجة السابقة عليها. ولهذا تُعد هذه المخرجات بمثابة الفيصل بين ما كان، وبين ما هو كائن، وبين ما قد يكون. ولهذا لم تكن هذه العملية بمعزل عن مخرجات تأثير تلك الافكار الفريدة، والأحداث الكبرى، التي جعلت التاريخ يقترن، عبر الزمان، بمرحلتين: مرحلة ما قبل هذه الافكار أو الاحداث، ومرحلة ما بعدها.

    ومنذ اقتران العالم بخصائص الموجة الحضارية (أو الثورة الصناعية) الثالثة، أي المعلوماتية بعد منتصف القرن الماضي تقريبا، مرورا ببداية دخوله في الثورة الصناعية الرابعة

    منذ حلول القرن الراهن، والإنسانية تتعايش مع تأثير غير مسبوق لمجموعة متغيرات متعددة ومتنوعة العناوين: علمية، وتكنولوجية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية ...الخ. وقد أفضت مخرجاتها في عالم اليوم إلى أن يكون معدل سرعة التغير، بنوعية الكمي والكيفي، غير مسبوق تاريخيا، ومن ثم إلى أن يقترن بعملية تاريخية فريدة تتميز بتنوع فرصها وتحدياتها، فضلا عن انفتاح نهاياتها على شتى الاحتمالات الإيجابية و/أو السلبية.

    ومما ساعد على ذلك أن التأثير الناجم عن التغيير على صعيد محدد لم يعد يقتصر عليه فحسب، وإنما اضحى يمتد إلى صُعد أخرى مؤثرا فيها وبالعمق. ويكفي أن نتذكر مثلا تأثير المتغير التكنولوجي. فمخرجاته جعلت الحياة تقترن بفرص وتحديات جديدة وغير مسبوقة. وغني عن القول، أن الاثار الناجمة عن تأثير هذا المتغير تختلف من مجتمع إلى أخر، هذا جراء تباين التطور الحضاري للمجتمعات المعاصرة، ومن ثم تباين نوعية استجاباتها لتحدياتها، سلبا أو أيجابا.

    وقد أطلق، أنور عبد الملك على هذه العملية التاريخية تسمية عملية تغيير العالم. وقد كان دقيقا وصائبا. فمخرجات هذه العملية، التي لا يستطيع المرء الافتراض باحتمال تراجع أو حتى تباطؤ معدل تسارع وتيرتها في قادم الزمان، هذا لانتفاء تلك المؤشرات الداعمة لمثل هذا  الافتراض، قد أدت إلى عالم يكاد يستوي والنقيض مع عالم أباءنا، ولا نتكلم بالضرورة عن عالم أجدادنا. فالإنسانية صارت تتعايش مع إنجازات وابتكارات حضارية متنوعة ومتجددة ومتسارعة أضحت مخرجاتها تؤجج، عاطفيا، في المرء مختلف مشاعر وأحاسيس الإعجاب، والرهبة، والذهول .ومع ذلك ادت هذه المخرجات، بالمقابل, إلى أن يكون الإنسان في جل دول عالم اليوم ولاسيما المدرك لإبعاد هذه المخرجات، أكثر نزوعا الى تشوف احتمالات المستقبل، بمعنى مشاهده، من أي زمان مضى.

    وجراء نوعية الفرص والتحديات الناجمة عن هذه الإنجازات والابتكارات، تتكرر الدعوة إلى ضرورة تبني التفكير الإبداعي بعيد المدى، ومن ثم الأخذ برؤية استباقية سبيلا لتأمين التكيف الإيجابي والهادف مع مخرجات عملية تغيير العالم. وبهذا الصدد لنتذكر أن تجارب التاريخ  تؤكد أن ثمة علاقة طردية موجبة  ووطيدة بين التفكير بعيد المدى والنجاح في تحقيق الهدف المنشود ، خصوصا إن توافرت الرؤية  والارادة  لتحقيق المرغوب فيه, سيما  وإن غير ذلك ، أي التفكير قصير المدى، يفضي إلى حصر الاهتمام بالحاضر وبمخرجات تحول دون الارتقاء بالاستجابة الإنسانية إلى مستوى تحديات المستقبل، ومن ثم تحمل الخسائر الباهظة الناجمة عن ذلك.

    إن جدوى الآخذ بالتفكير بعيد المدى تتماهى ايضا مع حقيقة أن المستقبل لا ينغلق على مشهد واحد محتمل، ولا يقبل التنبؤ القاطع بمالاته، وإنما ينفتح على شتى الاحتمالات ويقترن كذلك بالعديد من المشاهد. ويُرد ذلك، وإساسا، إلى أن المستقبل، وكما يؤكد مثلا المستقبلي، نك مونت فورت (Nick Montfort)، غير مكتوب أصلا  لذا تضحى رؤية المستقبل وكأنه امتدادا لنسق الماضي ليست خاطئة فحسب، وإنما مضلٌلة أيضأ  وسنتناول في ادناه، وبشيء من التفصيل، هذه الرؤية

    وتفيد التجربة، إن الإنسان اعتاد، في العموم ،التعامل مع انشغالاته اليومية الاعتيادية انطلاقا  من رؤى و/أو افتراضات محددة وسابقة على هذا  التعامل سبيلا  لتحقيق المنشود من قبله، وهو الآمر، الذي دفع إلى إطلاق تسمية الاستشراف اليومي على هذا  النمط من السلوك

    وعلى الرغم من أن الإنسان عمد، ومنذ ما  قبل الدخول في الموجة الحضارية الزراعية، إلى التفكير في المستقبل وعلى نحو تماهى مع نوعية تطوره الحضاري، إلا أن أنتشار إدراك بعدم قدرة الإنسان على الاستشراف الدقيق لمشاهد المستقبل أدى إلى انصراف شرائح اجتماعية واسعة، هنا  وهناك، ومنها  شرائح عربية ،عن الانشغال به، ومن ثم عدم الاستعداد المسبق لحلوله، والذهاب ،كبديل، أما  إلى الآخذ بأنماط من الانشغال غير العلمي في المستقبل، وأما الانتظار السلبي لحلوله، وثم التصرف على نحوٍ معين، كرد فعل.

    إن الانصراف عن التفكير العلمي في المستقبل وعدم الاستعداد المسبق لحلوله، هو سلوك خاطئ بالضرورة. فعلى الرغم من أن أحد الجوانب المهمة للمستقبل هو إنه زمان لم يحن بعد، ولا تتوافر عنه في الحاضر معرفة كافية، إلا أن هذا الجانب لا يبرر إهمال هذا التفكير. فالاستشراف، الذي ينطلق حتى من معرفة ناقصة عن المستقبل، يبقى انفع وأفضل من عدم القيام به أصلا. فإضافة إلى أن هذا النقص المعرفي لم يحل دون ازدهار التطبيقات العملية للتفكير العلمي في المستقبل خلال العقود السابقة على مستوى العالم، إلا أن تأثيره لم يعد حادا مثلما كان سابقا. فاستمرار عملية إنتاج المعرفة، جراء التوظيف الإبداعي للمقاربات العلمية، أدى إلى غلق جوانب مهمة من عموم فجوة النقص المعرفي، وبضمنها تلك ذات العلاقة بالمستقبل. ولنتذكر أن المعرفة صارت تتضاعف حاليا كل 18 شهرا. ومن المُتوقع أن تتضاعف كل 12 ساعة مستقبلا. 

    ومما يدفع ايضا  إلى جدوى الانشغال في المستقبل، أن مخرجات دينامية عملية تغيير العالم، والمشاهد البديلة الناجمة عن كيفية تطور حركة الحاضر باتجاه المستقبل، قد أفضت ايضا إلى تحول جذري في الرؤية الإنسانية لحركة الزمان. فقبل الموجة الصناعية الاولى، أدى بطيء معدل سرعة التغيير إلى إدراك إنساني للزمان يكاد يقترب ... من النظر إلى ماضي الموجودات ...وحاضرها (وكأنها) كائنات لا تاريخ لها...لآن مستقبلها كحاضرها، وحاضرها كماضيها (لذا كان) ... مستقبلها كامنا كليا في حاضرها. .

    وعلى خلاف ما كان، افضت مخرجات الموجة المعلوماتية خصوصا إلى أن يتبني الإنسان، في العموم، رؤية للزمان تتميز بنسبيتها ومرونتها وارتباطها بسرعة الحركة، ومن ثم لا تستوي، وبكافة المعايير، مع تلك السابقة على هذه الموجة، هذا فضلا عن رؤيته، ايضا، كمتغير ناجم عن الإرادة الإنسانية وتابع لها. إن هذا التحول في رؤية الزمان دفع إلى الاستعانة بمقاربات علمية للتفكير في المستقبل واستشراف مشاهده البديلة، إدراكا لجدواها العلمية وكذلك العملية. لذا، لا غرابة في أن مفكرا عربيا بارزا، كفؤاد زكريا، يُحذر من مغبة عدم الآخذ بالتفكير العلمي في المستقبل، قائلا إن: ... البقاء في المستقبل دون نظرة علمية وأسلوب علمي في التفكير سيكون أمرا مشكوكا فيه.

    ومنذ الآخذ بالتفكير العلمي في المستقبل، وإعداد المؤلفات المنشورة، التي تتناوله و/أو التي تندرج تحت مسمى دراسات المستقبلات أو غيرها، لم تعد تنمو بوتيرة متسارعة فحسب، وإنما صارت تجد، ايضا، استجابة مجتمعية تزداد انتشارا على صعيد العالم. وتُعد هذه الاستجابة الواسعة حصيلة لإدراك مركب، يتأسس على معطيات موضوعية، يُفيد ان تسارع وتيرة عملية تغيير العالم ستفضي، على الأرجح، إلى مستقبل سيكون مختلفا  بمعطياته الإيجابية والسلبية عن تلك، التي تميز بها  زمان ماضي الحاضر و/أو زمان حاضر المستقبل، ومن ثم لابد من البحث عن المعرفة التي تسهل عملية الاستعداد لمشاهد هذا  المستقبل قبل حلوله. وغني عن القول إن دراسات المستقبلات صارت تُقدم هذه المعرفة المطلوبة. ومن هنا جاء هذا الإقبال الواسع عليها.

    وجراء مخرجات تسارع وتيرة عملية تغيير العالم، لم تُعد رؤية المستقبل من خلال عدسة واحدة كافية وقادرة على استشراف مشاهده، وإنما من خلال عدسات متعددة ومتكاملة. ومرد ذلك أن العالم صار، جراء مخرجات هذه العملية، يتحرك، ليس مثلما كان قبل الثورة الصناعية الاولى، على نحوٍ خيطي واضح وممتدٌ عبر الزمان، وإنما أضحى يتحرك على وفق انماط تتميز بخصائص التقلب (Volatile) ، واللايقين Uncertain))، والتعقيد، (Complex) والغموض .(Ambiguous) وقد ذهبت وزارة الدفاع الأمريكية، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، إلى الاستعانة بمختصر، يتشكل من الحروف الاولى لهذه الكلمات الإنكليزية، هو: (VUCA) للتعبير عن هذه الخصائص

    ويجد هذا المختصر انتشارا واسعا على صعد عدة. ومن بينها، مثلا، صعد رجال الاعمال، ووسائل الاتصال، وغير ذلك.

    إن انتقال الإنسان، عبر الزمان، من موجة حضارية إلى أخرى، أدى ايضا إلى انتقال انشغاله في المستقبل، نوعيا، من حال الى حال أخر مختلف. وقد أفضت مخرجات هذا الانشغال، خصوصا بعد تبني التفكير العلمي في المستقبل منذ منتصف القرن الماضي، إلى تحول نوعي على صعيد هذا التفكير وتطبيقاته العملية. فمخرجات هذا التحول ادت مثلا إلى:

    أولا،: تراجع تلك الرؤية، التي صاحبت التفكير الإنساني في المستقبل لقرون، وافادت أن المستقبل ينغلق على مشهد واحد ولا سواه، ومن ثم عمدت إلى التنبؤ به عبر استخدام ادوات ينتمي بعضها إلى عالم ما قبل التفكير العلمي في المستقبل. إن هذا التراجع جاء لصالح الآخذ برؤية مختلفة أخرى اكدت أن المستقبل ينفتح على مشاهد متعددة، ومن ثم راحت إلى استشرافها عبر توظيف مقاربات علمية سبيلا لتحقيق غاية محددة تكمن في صناعة المستقبل المرغوب فيه، والأفضل من الحاضر.

    •ثانيا:، التخلي عن فكرة أن معطيات الحياة ستبقى تتشكل جراء تأثير تلك الاتجاهات (Trends)، التي تتكون في الماضي ومن ثم تمتد إلى الحاضر والمستقبل، لصالح فكرة أخرى مختلفة تدعو إلى التدخل الواعي والإبداعي في معطيات الحاضر، وتوظيف مخرجاته من أجل التمهيد لصناعة المستقبل الافضل والمرغوب فيه. ومن هنا عد الاستعداد المسبق للتعامل مع تحديات ومفاجئات المستقبل، وبضمنه استشراف مشاهده بمثابة الغاية المباشرة لدراسات المستقبلات.

    وغني عن القول إن الاخذ بفكرة صناعة المستقبل لم يكن بمعزلٍ عن التماهي مع سؤال المستقبل، وهو: إلى أين نحن ذاهبون؟ وتجدر الإشارة إلى أن نوعية حضور سؤال المستقبل في البنية الثقافية لأي مجتمع ينطوي على تأثير بالغ الأهمية في تحديد طبيعة موقفه حيال ما هو كائن، وكذلك ما سيكون. فبقدر نوعية تبني هذه البنية لسؤال المستقبل، تتحدد مدى حيوية هذا المجتمع أو ذاك، وقابليته على التطور والتقدم، ورغبته في الإبداع والابتكار، ومن ثم يتحدد استعداده للمستقبل.

    وتؤكد تجارب ثمة دول أسيوية سائرة في طريق النمو، ومثالها الصين، واليابان، والهند، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، إن الاستجابة لمضمون سؤال المستقبل يفضي إلى الارتقاء الحضاري في الحاضر، ومن ثم في المستقبل بالضرورة. فانحياز هذه الدول إلى المستقبل، متفاعلا مع نزوعها العملي إلى تحقيق المستقبل المرغوب فيه من قبلها، جعل حاضرها يتماهى مع بعض ممكنات مستقبلها. ومن المرجح أن يكون مستقبلها غير حاضرها الراهن. لذا يتكرر القول: إن مستقبل العالم، بعد منتصف القرن الحادي والعشرين، سيكون أسيويا، وعلى الأرجح بقيادة صينية. ولنتذكر، بهذا الصدد، تجربة التاريخ. فهذه تؤكد أن صعود ثمة قوى إلى قمة الهرم السياسي الدولي تزامن، عبر الزمان، مع هبوط سواها منه. إن الصعود المستمر لقوى أسيوية إلى قمة هذا الهرم ليس ألا حصيلة لتبنيها التفكير العلمي في المستقبل، والاستعداد له.

    ومن المرجح أن يحظى الاهتمام بسؤال المستقبل، في قادم الزمان، باستجابة عالمية أرحب وأعمق من أي وقت مضى. إن الذي سيفضي إلى ذلك لا يكمن فقط في مخرجات عملية تغيير العالم، وإنما أيضا في الحاح متطلبات الحاجة للتعامل مع حالة اللايقين الناجمة عن التأثيرات العميقة والمعقدة والخطيرة والكامنة في المخرجات المحتملة لتلك التحديات الراهنة والمستقبلية ذات الإبعاد العالمية. ومثالها التغيير المناخي، والهجرات البشرية الواسعة، ومخرجات العولمة، والإرهاب عابر للحدود، وإعادة صياغة الخرائط السياسية والجيوبولتيكية، ناهيك عن مخرجات الثورة الصناعيٌة الرابعة على صُعد العلم والتكنولوجيا ...الخ.

    وقد تناول التقرير الموسوم بتقرير استشراف المستقبل، الصادر عام 2017 عن مؤسسة دبي للمستقبل، مخرجات هذه الثورة، واشار الى 122 توقعا علميا من المحتمل أن يعيش العالم مخرجاتها، سلبا أو إيجابا، خلال الزمان الممتد إلى العقد الخامس من هذا القرن. وتشمل هذه التوقعات الاوضاع المستقبلية لسبعة مجالات حيوية، ابتداءً من الطاقة، والصحة، والتعليم، مرورا بالمياه، والنقل، والتكنولوجيا، وأخيرا الفضاء.

    وفي ضوء المخرجات المحتملة لتلك التحديات الراهنة والمستقبلية ذات الابعاد العالمية، لا  تبالغ المستقبلية الأمريكية، جينفر غدليJennifer M. Gidley) ) عندما  تقول: ... إن معطيات الزمان، الذي نحن فيه، تنطوي على مخرجات مخيفة قد تفضي إلى تهديد الوجود الإنساني بحد ذاته...

    وإلى الشيء  ذاته، يذهب ايضا  المستقبليان الأمريكيان، ريتشارد واتسون واوليفر فريمان Richard Watson & Oliver Freeman)) فهما  يقولان: " إن عالم اليوم، وإن اضحى يتيح الكثير من الفرص، إلا  أن هناك ايضا  الكثير من التهديدات لديمومة بقائنا."  وجراء طبيعة التحديات الراهنة، غني عن القول إن المجتمعات، التي لا تولي تحديات المستقبل الأهمية التي تستحقها، هي تلك التي تأخذ، في العموم، بخاصية الانتظار السلبي للمستقبل، وبالتالي الاستسلام لمعطياته عندما يأتي ويضحى حاضرا. وهي بهذا تتناسى تجربة تاريخية مظلمة تفيد أن الوقوف موقف المتفرج حيال المستقبل ينطوي على دعم عملية تجذر معطيات التخلف والانحطاط والتراجع الحضاري بعنصر مهم مضاف. لذا، وكما يقول هادي نعمان الهيتي، إن المجتمعات التي... عانت من التخلف سيكون عليها أمر الارتقاء (الحضاري) عسيرا، ذلك أن أمر ارتقائها قد تضاعفت متطلباته. .

    ولا نرى أن هذا القول يغالي. فمخرجات واقع التأخر أو التخلف الحضاري لجل دول عالم الجنوب لم تؤد إلى تعطيل تنميتها المستدامة فحسب، وإنما مهدت السبيل أيضا إلى أن يكون مستقبلها امتدادا لتأثير معطيات حاضرها المتأخر أو المتخلف. ومع ذلك لا يعني واقع هذه الدول إنها لا تستطيع تغييره بالمطلق، وإن مستقبلها سيبقى بالضرورة امتدادا لنوعية ماضيها و/أو حاضرها.

    وتنطوي التجربة الماليزية،  وسواها أيضا، على نماذج مهمة تستحق الدراسة والاستفادة. إن جميع هذه النماذج تؤكد على مسألة على قدر عال من الاهمية، هي: أن المجتمعات، التي تأخرت فيها عملية التنمية الشاملة، تستطيع تجاوز أزمتها الحضارية إن كان صناع قراراتها من نمط أولئك الذين كانوا وراء التجارب التنموية الناجحة، هنا وهناك. فتميز هؤلاء إنما يعود إلى توافرهم على نظام عقيدي Belief System)) أتاح لهم تشوف المستقبل، ومن ثم اختيار ذلك المشهد الذي أمن لمجتمعاتهم الارتقاء الحضاري، انطلاقا من رؤية استراتيجية واعية تدعمها إرادة هادفة تتبنى نمط من التخطيط والتنفيذ الإبداعي. وبهذا الصدد، يؤكد المستقبلي الأسترالي، ريتشارد سلوتر Richard Slaughter) (، أن مفتاح النهوض إنما يكمن ... في مدى توافرنا على رؤية دقيقة للمستقبل .

    ويُفيد واقع التوظيف الجغرافي لمقاربات التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، على صعيد العالم، بتباينه نوعيا. ويُرد ذلك إلى اختلاف نوعية استجابات المجتمعات المعاصرة، في عالمي الشمال والجنوب، لسؤال المستقبل متفاعلا مع مخرجات التحديات التي تفرزها عملية تغيير العالم، ومن ثم تباين نوعية أنماط انحيازها إلى المستقبل. ونرى أن مرد ذلك يكمن، وكما تم ذكره، في تأثير الثقافات، التي تتبناها هذه المجتمعات في تحديد نوعية مواقفها من سؤال المستقبل. و لدور الثقافة باعتبارها، كما  يؤكد محمد بريش، "...النسيج الاساس والضروري للبحث العلمي والتنمية بصفتهما  العجلتين الاماميتين والمحركين والموجهتين للتقدم الحضاري." .

    ومع ذلك، لا يعني تأثير المتغير الثقافي، مع أهميته، انه يفضي بالمجتمعات المعاصرة إلى أن تكون أما مجتمعات ذات توجهات ماضوية، أو ذات توجهات مستقبلية، ولا غير. فواقع هذه المجتمعات يؤد إنها استمرت تحتضن شرائح اجتماعية تتباين فيما بينها، ثقافيا وحضاريا. وقد افضى هذا الواقع إلى أن يكون انحياز هذه الشرائح للمستقبل انعكاسا لهذا التباين، وهو الآمر الذي أفضى إلى أن تحتضن المجتمعات المعاصرة شرائح اجتماعية تتميز بانحيازها، وإن بنسب مختلفة، أما إلى الماضي، وأما إلى الحاضر، وأما إلى المستقبل. 

    ومع ذلك، تبقى، جل مكونات المجتمعات المتقدمة وتلك السائرة في طريق النمو في عالمي الشمال والجنوب هي الاكثر انحيازا للمستقبل بالمقارنة مع جل مكونات المجتمعات المتأخرة والمتخلفة في عالم الجنوب. ويجد هذا الواقع تفسيره في نوعية إدراك المجتمعات المتقدمة، وتلك السائرة في طريق التقدم، لتأثير  تحديات عالم يتغير بسرعة، ومن ثم جدوى الارتقاء باستجابتها الحضارية إلى مستوى هذه التحديات وعلى وفق رؤية استباقية واعية تأمينا لمستقبل أفضل من الحاضر.

    وانطلاقا من العلاقة الطردية الموجبة بين الإدراك والفعل، فقد أفضى هذا الإدراك بتلك المجتمعات إلى أن تأخذ، ومنذ منتصف القرن الماضي تقريبا، بنمط من التفكير جعل من توظيف المنهجية العلمية سبيلا لإعادة تشكيل العقل وترشيد الفعل استباقا واستعدادا لمفاجآت المستقبل، واستشراف مشاهدة البديلة. ويسمى هذا النمط من التفكير بالتفكير العلمي في المستقبل أما تطبيقاته العملية فهي تندرج تحت تسميات متعددة. وتُعد تسمية دراسات المستقبلات اكثرها انتشارا. ونحن نتبنى هذه التسمية.

    ويشير واقع هذا التفكير، في المجتمعات المتقدمة وتلك السائرة في طريق التقدم، إنه صار ظاهرة شاملة تأخذ به جل مؤسساتها، العامة والخاصة، وترعاه جمعيات ومراكز علمية متخصصة، وتدعمه دوريات اكاديمية رصينة  وفضلا عن ذلك ادخلته جامعات ذات شهرة عالمية و/أو إقليمية ضمن برامجها التدريسية، سواء على صعيد الدراسات الأولية و/أو العليا، اضافة إلى اتاحة الفرصة للتخصص العلمي فيه والحصول على درجات علمية عليا )ماجستير و/او دكتوراه). ففي عام 2003، مثلا، عمدت أكثر من اربعين جامعة في العالم إلى تقديم مادة دراسية أو أكثر ذات علاقة بهذا التفكير و/أو تطبيقاته العملية، لطلبتها.

    وفضلا عن ذلك، استمر التفكير العلمي في المستقبل موضوعا  تتكرر من اجله  عقد المؤتمرات العالمية. ويعود تاريخ اول هذه المؤتمرات إلى شهر ايلول من عام  1967، والذي  كان في  مدينة وارشو المجرية.

    وأما عن جل دول عالم الجنوب، وخصوصا المتأخرة والمتخلفة منها، فالتفكير العلمي في المستقبل لا يحظى إلا باهتمام بعض نخبها الواعية. إما بقية شرائحها الاجتماعية فهي تأخذ أما برؤى تستمد اصولها من التفكير ما قبل العلمي في المستقبل، أو تتبني ثمة مواقف سلبية و/أو انماط ثقافية تغالي في تمجيد الماضي و/أو تجعل من الانحياز إلى الحاضر أبرز أولوياتها.

    وقدر تعلق الامر بنا، نحن العرب، لا تتماهى أهميتنا حضاريا، وجيو استراتيجيا، واقتصاديا، مع موقفنا الراهن، من التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية. فمخرجات متغيرات عربية مهمة وممتدة عبر الزمان، وذات علاقة بتأثير النسق الثقافي والعلمي والاجتماعي العربي، أدت إلى أن يكون انحياز شرائح اجتماعية عربية واسعة إلى الماضي و/أو إلى الحاضر، أعمق تجذرا من انحيازها إلى المستقبل، ناهيك عن أن عموم موقفنا، نحن العرب، من المستقبل بحد ذاته يكتنفه، وكما يؤكد فؤاد بلمودن ... الكثير من الاضطراب والتوجس وعدم الاكتراث...

    ويرى، هادي نعمان الهيتي، صائبا، أن مرد هذا الموقف العربي السلبي من المستقبل يكمن في أن المستقبل ... لم يدخل (في) الوعي العربي ... وبحصيلة، سبق لخير الدين حسيب، تشخيصها بدقة، هي:... غياب المستقبل عن تصوراتنا... والتنظير (في شأنه) عن إبداعنا.

    إن ما تقدم لم يُود، في العموم، إلى محدودية الانشغال العربي بسؤال المستقبل، مقابل وفرة الكتابات المهمومة أما بسؤال الماضي، أو بسؤال الحاضر، ومن ثم عدم إيلاء التفكير العلمي في المستقبل، وتطبيقاته العملية الاهمية التي يستحقها فحسب، وإنما أيضا إلى تراجع الإنتاج العربي لدراسات مستقبلية رصينة علميا ومجدية عمليا.

    وغني عن القول إن عدم التماهي العربي مع الانتشار العالمي لهذا التفكير وتطبيقاته العملية أفضى إلى عدم إدراك جلنا لغايته الرئيسية وغاياته الفرعية، ومن ثم عطل الآخذ بنمط من التفكير تفضي مخرجاته، بالضرورة، إلى مساعدتنا على إعادة ترتيب واقعنا الراهن من أجل بناء المستقبل الذي نريد، ومن ثم تامين الشروط الضرورية للارتقاء الحضاري.

    وادراكا منه لجدوى بناء بيئة ثقافية عربية تتبنى هذا النمط من التفكير، دعا المستقبلي العربي، محمد بريش، إلى الآخذ بما اسماه باستراتيجية التجنيد. إذ رأى أن مخرجاتها لا تقتصر على ... تجنيد جميع الضمائر الواعية في المجتمع (سبيلا لتحقيق) مستوى حضاري نوعي (فحسب)، وإنما (إلى) تطوير ثقافة تسمح بالانتقال من مجتمع ذي اغلبية صامته إلى مجتمع ذي اغلبية فاعلة، (وإلى) استراتيجية تسمح بالانتقال من مجتمع سلطة جزافية إلى مجتمع سلطة واعية.

    وفي ضوء انتشار ثقافة الانحياز إلى الماضي و/أو الحاضر في وطننا العربي، والتي تقابلها حاجتنا الماسة إلى تبني ثقافة الانحياز إلى المستقبل، لا نها سبيلنا للارتقاء الحضاري، من المفيد التذكير بإمرين مهمين:

    فأما عن الاول، فهو أن الزمان، وإن يُعبر عن حركة اتجاهية ذات ابعاد ثلاثية: ماضي، وحاضر، ومستقبل، إلا أن المستقبل يُعد الاكثر أهمية من سواه. ومرد ذلك لا يكمن في أنه يعبر عن الزمان الذي سياتي حتما فحسب، وإنما لأنه خصوصا الزمان، الذي يستطيع الإنسان، وهو يعيش في الحاضر، التدخل الواعي في عملية اكتشافه وتشكيله على وفق رؤيته الواعية وإرادته الهادفة.  ولنتذكر أن المستقبل كان وسيبقى صناعة بشرية.

    على أن قولنا إن المستقبل يُعد أهم أبعاد حركة الزمان، لا يلغي أهمية الماضي والحاضر. فهذه الاهمية ونوعية تأثيرها، سلبا أو إيجابا، هي التي تحدد طبيعة الموقف الذي يتبناه الانسان حيال المستقبل. وهذا الموقف لا يستطيع بدوره أن يكون بمعزلٍ عن نوعية الإدراك الإنساني لحقائق الماضي ومعطيات الحاضر خصوصا وإن استيعاب المرء لاحد أبعاد الزمان يتطلب، وبالضرورة، تحقيق قدر كاف من الاستيعاب للبعد الذي يسبقه. ولنتذكر أن إدراك كينونة أية ظاهرة يتطلب وضعها في سياقها الزماني الممتد سبيلا لمعرفة كيف كانت، وكيف أضحت، وكيف يمكن أو يحتمل أن تكون مستقبلا؟ إن مخرجات مثل هذا الإدراك هي التي تفضي إلى صوغ العلاقة بين الأزمنة على نحوٍ متوازن وخلاق.

    •  وإما عن الامر الثاني، فهو يتعلق بمسؤوليتنا الاخلاقية حيال أجيال المستقبل: ابنائنا واحفادنا. فهذه المسؤولية لا  تقتصر على حسن رعايتهم، وهم في الحاضر فحسب، وإنما  تمتد لتشمل أيضا  السعي، ضمن رؤية حضارية بعيدة المدى، إلى تأمين مستلزمات مستقبلهم، بحكمة وأبداع، وبضمنه إعدادهم، علميا، ومعرفيا، وحضاريا  ، للعيش في عالم يتغير بسرعة، ومفعم بالتحديات وعدم اليقين، هذا  فضلا  عن تأهيلهم لأداء أدوار هادفة قد تُؤدي تراكمات مخرجاتها  إلى عودتنا

    إن مؤلفنا هذا، الذي يُعبر عن مخرجات اهتمام ذاتي وممتد من حيث الزمان في موضوع دراسات المستقبلات تدعمه أيضا تجربة تدريسية طويلة، يرنو أساسا إلى المشاركة في الجهد الرامي إلى نشر ثقافة الانحياز إلى المستقبل داخل وطننا العربي. فتعريف القارئ العربي بالأبعاد المتعددة لهذا الحقل المعرفي بالغ الاهمية وواسع الانتشار عالميا هو المدخل لنشر هذه الثقافة. كما أنه يرنو ايضا إلى دعم المضامين المعرفية للمؤلفات العربية المماثلة، على محدوديتها، بمؤلف أخر مضاف وأكثر حداثة وتماهيا مع الواقع الراهن للتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية.

    بالإضافة إلى مقدمته وخاتمته، تجمع هيكلية مؤلفنا بين عشرة فصول يسعى كل منها إلى الاجابة عن سؤال رئيسي محدد وما ينجم عنه, ضمنا, من تساؤلات فرعية ، وكالاتي:

     فأما عن الفصل الاول، فهو يتساءل: ما التطور التاريخي لمضامين التفكير الإنساني في المستقبل؟ ومن ثم ذهب إلى استعراض هذا التطور ابتداء من زمان ما قبل الموجة الحضارية الزراعية مرورا بها والموجة الحضارية الصناعية وصولا إلى الموجة الحضارية المعلوماتية, والثورة الصناعية الرابعة الراهنة. لذا تـشكل الانماط، التي تبناها الإنسان، عبر الزمان، للتفكير في المستقبل مضمون هذا الفصل، وهي التفكير: الاسطوري– التوحيدي أولا، والفلسفي ثانيا، والخيالي العلمي ثالثا، والعلمي رابعا.

     وأما عن الفصل الثاني، فهو يتساءل: ما الإشكاليات التي يقترن بها التفكير العلمي في المستقبل؟ ومن ثم يبحث ولاسيما في تلك ذات العلاقة بمفهوم المستقبل بحد ذاته، والتسمية التي تأخذ بها التطبيقات العملية لهذا التفكير، فضلا عن إشكالية التنبؤ/ الاستشراف، ناهيك عن موقع هذا التفكير في البنيان المعرفي الإنساني.

     وأما الفصل الثالث، فهو يتساءل: ما الشروط والمتطلبات الموضوعية والذاتية، التي لابد من توافرها لإنجاز دراسة مستقبلية علمية ومجدية؟ ومن ثم يذهب إلى تناول تفاصيلها.

     وأما الفصل الرابع، فهو يتساءل: ما الذي يقصد بمفهوم المستقبليين؟ ومن ثم يعمد إلى تفسير مدخلات انتشارهم عالميا، ويذهب إلى تصنيفهم.

     وأما الفصل الخامس، فهو يتساءل: ما هي المنطلقات الفكرية، والخصائص الهيكلية للمقاربات المنهجية المستخدمة في دراسات المستقبلات؟ ,ويذهب بعد تحديدها إلى تحليلها.

    •  وأما الفصل السادس، فهو يتساءل: ما هي المقاربات الموضوعية لهذه الدراسات والاكثر انتشارا؟ ويتخذ من المقاربات الاتجاهية، ومقاربة بناء المشاهد نماذجا لدراستها.

     وأما الفصل السابع، فهو يتساءل: ما المقاربات الذاتية لهذه الدراسات والاكثر انتشارا؟ ويتخذ من مقاربة تقنية دلفي، ومقاربة مصفوفة التأثير المتبادل، نماذجا للبحث فيها.

     وأما الفصل الثامن، فهو يتساءل: ما مقاربة نماذج النظم العالمية؟ ويتخذ من تقرير حدود النمو أنموذجا لها, كحالة دراسية.

     وأما الفصل التاسع، فهو يجعل من التكامل المنهجي في دراسات المستقبلات بمثابة سؤاله الاساس، ويتخذ من مقاربة المستقبلات المكتملة أنموذجا له, كحالة دراسية.

    وأخيرا يتناول الفصل العاشر واقع دراسات المستقبلات في ثمة دول، أو مجاميع منها، وعلى امتداد العالم. لذا يتساءل: ما هو واقع هذه الدراسات في الولايات المتحدة الامريكية، وفرنسا وبقية دول اوروبا الغربية والشمالية والشرقية. وكذلك في روسيا الاتحادية؟ والشيء ذاته ينسحب على دول أسيوية كبرى، واخرى سائرة في طريق  النمو, وسواها في دول عالم الجنوب, وبضمنها واقع دراسات المستقبلات في الوطن العربي .

    الفصل الأول

    التطور التاريخي

    للتفكير الإنساني في المستقبل

    01 توطئة:

    التفكير في المستقبل ظاهرة إنسانية قديمة  تعود جذورها التاريخية إلى ما قبل اختراع الكتابة والتدوين ودخول الإنسان في الموجة الحضارية الزراعية قبل نحو عشرة إلاف عام في الاقل.

    وقد تميزت هذه الظاهرة بخاصيتين مهمتين وممتدتين من حيث الزمان: أولهما، استمرارها عابرة للمكان، بمعنى عدم اقتصارها على حيز جغرافي محدد دون سواه. وثانيهما، تجددها. فتعاقب الانتقال من واقع حضاري إلى أخر: من الموجة الزراعية، إلى الصناعية، ومنها إلى المعلوماتية، وبدء الانتقال إلى الموجه (الثورة) الصناعية الرابعة أفضى إلى أن تكون هذه الظاهرة، ومن ثم التفكير الإنساني في المستقبل، انعكاسا للواقع الحضاري السائد في الزمان والمكان، في العموم.

    وجراء هذه العلاقة الطردية الموجبة، تميز تاريخ[1]  التفكير الإنساني في المستقبل بأربعة تحولات كيفية أساسية ومتعاقبة. وقد عبر كل منها عن انتشار نمط محدد من هذا التفكير. فابتداء كان دينيا، بشقيه الأسطوري والتوحيدي، ثم أضحى فلسفيا، ثم أنتقل إلى أن يكون خيالا علميا. وقد انتهى، حاليا، إلى أن يصير علميا. إن انتقال التفكير الإنساني في المستقبل من نمط محدد إلى أخر لا يعني أن النمط اللاحق، والاكثر حداثة، قد ألغى الأنماط السابقة عليه من حيث الزمان. فتاريخ هذا التفكير يفيد أن كافة أنماطه استمرت حاضرة في كل زمان ومكان، وإن بنسب انتشار تباينت من مجتمع إلى أخر. ومثلما ينسحب ما تقدم على تلك المجتمعات المتقدمة وكذلك السائرة في طريق التقدم، فانه ينسحب ايضا، وخصوصا على تلك المتأخرة والمتخلفة في عالمنا المعاصر. 

    فإما عن المجتمعات، التي ينتشر فيها التفكير العلمي في المستقبل، أي المجتمعات المتقدمة وكذلك السائرة في طريق التقدم، فهي لا تخلو ايضا من شرائح اجتماعية استمرت تأخذ باليات التفكير ما قبل العلمي في المستقبل، كقراءة الفنجان والكف والطالع والابراج وغيرها كثير، فضلا عن شرائح اجتماعية استمرت تعيش في الماضي إدراكا منها إنه أفضل من الحاضر والمستقبل. ولنتذكر، بهذا الصدد، غلاة التيار المحافظ، هنا وهناك.

    وإما عن المجتمعات المتأخرة والمتخلفة، التي تنتشر فيها أنماط التفكير ما قبل العلمي في المستقبل، فهي، وإن تعمد عموما إلى تغليب الانحياز إلى الماضي و/أو الحاضر على المستقبل، بيد انها أيضا لا تخلو من شريحة اجتماعية محدودة الإطار تتبنى التفكير العلمي في المستقبل وتعمد إلى تسويقه في مجتمعاتها، إدراكا منها لجدواه العملية والحضارية.

    في أدناه سنتناول التطور التاريخي لظاهرة التفكير الإنساني في المستقبل، هذا  ليس لتلافي النقص المعرفي في جل المؤلفات العربية ذات المضمون المستقبلي، التي أما  لا  تتناوله، أو تتناوله ولكن على نحو مختصر أو بانتقائية،  وكذلك ليس لان فهم الواقع الراهن لموضوع محدد يتطلب معرفة كيفية تطوره عبر الزمان، ومن ثم وضعه في أطاره التاريخي فحسب، وإنما  أيضا، وخصوصا، لان مخرجات الاستكشاف العلمي لحقائق ماضي المستقبل وعلاقتها  بمعطيات مستقبل الحاضر هي التي ترفد الإنسان بتلك المعرفة النوعية التي تجعله اكثر قدرة على استشراف مشاهد المستقبل، واكثر حكمة ودراية خلال عملية اختيار المستقبل الافضل منها. فبدون هذه المعرفة يصبح المستقبل الغامض اصلا اشد غموضا، وتعاملنا مع الجديد، الذي تفضي اليه المرحلة التاريخية الراهنة لتطور العالم، اشد صعوبة.

    1.1 التفكير الديني في المستقبل

    تفيد، مثلا، قصص الملاحم الميثولوجية وكذلك

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1