Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ثقوب في القلوب
ثقوب في القلوب
ثقوب في القلوب
Ebook708 pages5 hours

ثقوب في القلوب

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الثقوب قد تبدو كلمةً بسيطة لا نلقي لها بالًا ولكن إذا ما اخترقت حياتنا حينها ندرك أنه من الصعب تجاهلها فأثرها لا ينسى فهو شق وخرق نافذ من جانب لآخر، ودائمًا ينتج عنه تغير الأوضاع عن سابق عهدها، فالثقوب قد تخترق الكثير من الكيانات والمجتمعات الحصينة والقوية على حين غفلة فيصيبها الوهن والضعف وهي تظن أنها ما زالت تنعم بقوتها، ولا تدرك أن الثقوب بدأت تنخر في أوصالها وتخترقها ببطءٍ غير ملموس، وكلما تضاعف التوغل كلما زاد الوهن في هذه الكيانات وتمكَّنت الثقوب من إحكام سيطرتها على كل المفاصل التي اعتبرت عصية على الاختراق. ومما لا شك فيه أن الوهن والضعف ومن ثم الاختراق هو نتيجة حتمية لعدم التآزر والتماسك بين عناصر تلك الكيانات مما يفقَدَها قوَّتها وصلابتها وبالتالي يصبح من السهل تفكيكها والقضاء عليها. وإذا ما نظرنا للمجتمعات من حولنا نجد أن الثقوب المقيتة تتفشى بين أفرادها بشكلِ أو بآخر فهي قادرة على اختراق قلوب البشر ونسيجهم الاجتماعي فتثقب أواصر المودة والرحمة والقربى والصداقة والجيرة التي تجمع بين أفراد المجتمع، فتضعف عزيمتهم وقوتهم وتحيل ما كان يربطهم من رباط وشيج إلى علاقات هشة ركيكة قابلة للزوال والتلاشي، وتختلف المصادر التي أدت لوجود هذه الثقوب فمنها مصدره الغرور والتعالي على الآخرين، أو التفاخر بالأموال والمكانة الاجتماعية، وأخرى مصدرها التفاخر باللون والهيئة، وقد يكون للعادات والتقاليد التي لا تمتُّ للدين بصلة دورًا كبيرًا في تغذية هذه الثقوب وبالتالي تفشي ظاهرة التنمر الاجتماعي الذي يفتك بالقلوب. وهذا ما ستتناوله أحداث رواية ثقوب في القلوب حيث ستتطرق لمجتمع يقع في بلادٍ يمكن تشبيهها بالفسيفساء لكونها تضمُ أعدادًا كبيرة من الأفراد الذين ينتمون لأصول وأعراق وثقافات شتى، بعضهم وفدوا للبلاد من دولٍ قريبة فاستقروا وتعايشوا مع أهل هذه البلاد، ولهم عادات وتقاليد متشابهة وأخرى مختلفة عن عادات أهل البلد الأصليين، ورغم التباين والتنوع الثقافي الذي ساد في المجتمع، إلا أنهم استطاعوا التعايش والانسجام وتأثروا بطباع أهل البلد وشكّلوا معهم مجتمعًا متماسكًا حيث نجحت المودة والرحمة أن تجمع بين قلوب سكان الحي وأن تسبغ عليهم جوٌّ من الطمأنينة والاستقرار، وسادت بينهم حالة من التناغم والانسجام والتآخي لسنواتٍ طويلة. وعلى الرغم من علاقات المودة والرحمة والصداقة التي نشأت بينهم إلا أن الأمر لم يخلُ من ظهور بعض المناوشات وحالات التنمُّر التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، خاصة إذا ما اقترب أحدٌ من عرين العادات والتقاليد التي تربوا ونشؤوا عليها، فبرز التنمُّر فيما بينهم نتيجة سعي بعضهم للاستقواء على الآخرين بالقوة والسلطة والمكانة الاجتماعية أو المادية، أو الجسدية، أو التفاخر بالعرق أو الجنس، أو اللون، فثمة أمور لم يتمكن البعض من تجاوزها أو التغاضي عنها فهي موروثات ترسَّخت في العقول والقلوب وتم تداولها عبر أجيالٍ طويلة وإن كان بعضها لا يمُتُّ للدين بصلة، ولم يقتصر هذا التصرف على فئة أو طبقة اجتماعية دون أخرى، ولكنه طال أيضًا الأفراد الذين ينتمون لأعراق وثقافات مختلفة فبرز التنمر اللفظي، أو البدني أو، أو العاطفي، ونشر الشائعات والفضائح.. كل هذه السلوكيات العدوانية كانت بمثابة الشرارة التي جلبت معها الآلام وعمقت الهوة بين البعض منهم. فهل سيتمكن أبطال هذه الرواية من تجاوز تنمُّر الماضي ويصفحوا عن الثقوب المؤلمة التي أدمت قلوبهم ليحظوا بحياة أكثر سعادة؟ هذا ما ستتعرفون عليه عند قراءتكم لأحداث رواية ثقوب في القلوب.
Languageالعربية
Release dateFeb 28, 2022
ISBN9789948831853
ثقوب في القلوب
Author

د. نجاة سلطان

حاصلة على درجة دكتوراه الفلسفة في الإدارة العامة في موضوع "أثر الصراع التنظيمي على صُنْع القرارات الاستراتيجية" مِن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة. حاصلة على درجة ماجستير في الإدارة العامة في موضوع "الضغوط الإدارية وأثرها على اتخاذ القرارات الإدارية" مِن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة. حاصلة على بكالوريوس الإدارة العامة من جامعة الإمارات. محاضر في معهد التنمية الإدارية في دولة الإمارات العربية المتحدة. عضو فريق هيئة إعداد المجلة الدولية للعلوم الإدارية (الإصدار العربي). مدير البحوث والاستشارات – معهد التنمية الإدارية في دولة الإمارات العربية المتحدة. رئيس قسم القبول والتسجيل – معهد التنمية الإدارية في دولة الإمارات العربية المتحدة. تَهوَى الرسم والمطالعة وكتابة القصص والروايات. المؤلفات: رواية بعنوان (سرقة من نوع آخر).

Related to ثقوب في القلوب

Related ebooks

Reviews for ثقوب في القلوب

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ثقوب في القلوب - د. نجاة سلطان

    ثقوب في القلوب

    د. نجاة سلطان

    Austin Macauley Publishers

    ثقوب في القلوب

    الإهــداء

    حقوق النشر©

    شكر وتقدير

    المقدمة

    (1)

    (2)

    (3)

    (4)

    (5)

    (6)

    (7)

    (8)

    (9)

    (10)

    (11)

    (12)

    (13)

    (14)

    (15)

    (16)

    (17)

    (18)

    (19)

    (20)

    (21)

    (22)

    (23)

    (24)

    (25)

    (26)

    (27)

    (28)

    (29)

    (30)

    (31)

    (32)

    (33)

    (34)

    (35)

    (36)

    (37)

    (38)

    (39)

    (40)

    (41)

    (42)

    (43)

    (43)

    (44)

    (45)

    (46)

    (47)

    (48)

    (49)

    (50)

    (51)

    (52)

    (53)

    (54)

    (55)

    د. نجاة سلطان

    الإهــداء

    أهدي هذه الرواية إلى أمي الغالية أمد الله في عمرها التي اتخذت من الصفح سبيلًا للحب.

    كما أهدي روايتي إلى أبي رحمة الله عليه الذي أحب الجميع على اختلاف طبقاتهم وأصولهم ودياناتهم وجنسياتهم فمنحوه حبًا لمسته في تأثرهم بفراقه

    بعد وافته ودعائهم له دومًا بالرحمة.

    حقوق النشر©

    د. نجاة سلطان 2022

    تمتلك د. نجاة سلطان الحق كمؤلفة لهذا العمل، وفقًا للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأي وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948831846 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948831853 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب:MC-10-01-0403333

    التصنيف العمري:E

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن المجلس الوطني للإعلام.

    الطبعة الأولى 2022

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    شكر وتقدير

    أشكر وأقدر وأثني على كل من شد من أزري وساندني ودعمني بالعبارات والمشاعر الصادقة التي دفعتني لموصلة الكتابة فكلما فترت همتي تذكرت تشجيعكم لي وأخص بالشكر أختي ورفيقة دربي سميرة التي ساندتني منذ بدأت بكتابة هذه الرواية، والشكر موصول لجميع أفراد أسرتي الأعزاء وصديقاتي العزيزات وكل من قرأ روايتي الأولى فشجعني وكان سببًا في مواصلتي للكتابة.

    ولا يفوتني شكر جميع أفراد أسرة دار نشر أوستن ماكولي الذين لم يألوا جهداً بمساعدتي لإنجاز هذا العمل الذي أتمنى أن ينال إعجابكم.

    المقدمة

    الثقوب قد تبدو كلمةً بسيطة لا نلقي لها بالًا ولكن إذا ما اخترقت حياتنا حينها ندرك أنه من الصعب تجاهلها فأثرها لا ينسى فهو شق وخرق نافذ من جانب لآخر، ودائمًا ينتج عنه تغير الأوضاع عن سابق عهدها، فالثقوب قد تخترق الكثير من الكيانات والمجتمعات الحصينة والقوية على حين غفلة فيصيبها الوهن والضعف وهي تظن أنها ما زالت تنعم بقوتها، ولا تدرك أن الثقوب بدأت تنخر في أوصالها وتخترقها ببطءٍ غير ملموس، وكلما تضاعف التوغل كلما زاد الوهن في هذه الكيانات وتمكَّنت الثقوب من إحكام سيطرتها على كل المفاصل التي اعتبرت عصية على الاختراق. ومما لا شك فيه أن الوهن والضعف ومن ثم الاختراق هو نتيجة حتمية لعدم التآزر والتماسك بين عناصر تلك الكيانات مما يفقَدَها قوَّتها وصلابتها وبالتالي يصبح من السهل تفكيكها والقضاء عليها.

    وإذا ما نظرنا للمجتمعات من حولنا نجد أن الثقوب المقيتة تتفشى بين أفرادها بشكلِ أو بآخر فهي قادرة على اختراق قلوب البشر ونسيجهم الاجتماعي فتثقب أواصر المودة والرحمة والقربى والصداقة والجيرة التي تجمع بين أفراد المجتمع، فتضعف عزيمتهم وقوتهم وتحيل ما كان يربطهم من رباط وشيج إلى علاقات هشة ركيكة قابلة للزوال والتلاشي، وتختلف المصادر التي أدت لوجود هذه الثقوب فمنها مصدره الغرور والتعالي على الآخرين، أو التفاخر بالأموال والمكانة الاجتماعية، وأخرى مصدرها التفاخر باللون والهيئة، وقد يكون للعادات والتقاليد التي لا تمتُّ للدين بصلة دورًا كبيرًا في تغذية هذه الثقوب وبالتالي تفشي ظاهرة التنمر الاجتماعي الذي يفتك بالقلوب.

    وهذا ما ستتناوله أحداث رواية ثقوب في القلوب حيث ستتطرق لمجتمع يقع في بلادٍ يمكن تشبيهها بالفسيفساء لكونها تضمُ أعدادًا كبيرة من الأفراد الذين ينتمون لأصول وأعراق وثقافات شتى، بعضهم وفدوا للبلاد من دولٍ قريبة فاستقروا وتعايشوا مع أهل هذه البلاد، ولهم عادات وتقاليد متشابهة وأخرى مختلفة عن عادات أهل البلد الأصليين، ورغم التباين والتنوع الثقافي الذي ساد في المجتمع، إلا أنهم استطاعوا التعايش والانسجام وتأثروا بطباع أهل البلد وشكّلوا معهم مجتمعًا متماسكًا حيث نجحت المودة والرحمة أن تجمع بين قلوب سكان الحي وأن تسبغ عليهم جوٌّ من الطمأنينة والاستقرار، وسادت بينهم حالة من التناغم والانسجام والتآخي لسنواتٍ طويلة.

    وعلى الرغم من علاقات المودة والرحمة والصداقة التي نشأت بينهم إلا أن الأمر لم يخلُ من ظهور بعض المناوشات وحالات التنمُّر التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، خاصة إذا ما اقترب أحدٌ من عرين العادات والتقاليد التي تربوا ونشؤوا عليها، فبرز التنمُّر فيما بينهم نتيجة سعي بعضهم للاستقواء على الآخرين بالقوة والسلطة والمكانة الاجتماعية أو المادية، أو الجسدية، أو التفاخر بالعرق أو الجنس، أو اللون، فثمة أمور لم يتمكن البعض من تجاوزها أو التغاضي عنها فهي موروثات ترسَّخت في العقول والقلوب وتم تداولها عبر أجيالٍ طويلة وإن كان بعضها لا يمُتُّ للدين بصلة، ولم يقتصر هذا التصرف على فئة أو طبقة اجتماعية دون أخرى، ولكنه طال أيضًا الأفراد الذين ينتمون لأعراق وثقافات مختلفة فبرز التنمر اللفظي، أو البدني أو، أو العاطفي، ونشر الشائعات والفضائح.. كل هذه السلوكيات العدوانية كانت بمثابة الشرارة التي جلبت معها الآلام وعمقت الهوة بين البعض منهم.

    فهل سيتمكن أبطال هذه الرواية من تجاوز تنمُّر الماضي ويصفحوا عن الثقوب المؤلمة التي أدمت قلوبهم ليحظوا بحياة أكثر سعادة؟ هذا ما ستتعرفون عليه عند قراءتكم لأحداث رواية ثقوب في القلوب.

    آسرتي هل تذكُرين ذاك الطريق

    جَمعَ الأحبة والأقارب والصديق

    يومًا لعبنا ها هنا بلا رقيب كان

    الوفاءُ دِثارُنا أخٌ وأختٌ ورفيق

    كُنا طيورًا مخلصة نرنو البقاء

    بأرضنا بمحبةٍ لا نبتغي التحليق

    (1)

    سكون الفجر في حي السدرة يخترقه في كل يوم صوت أذان الفجر من على منبر مسجد النور، ويُرفعه الشيخ سعد هاشم الذي عُرف بهدوئه وعذوبة صوته عند رفعه للأذان في كل الأوقات، ويزداد جمال صوته مع سُبات الفجر الذي يضفي على المكان سكينةً تَسبي قلوب قاطني الحي الذي يفوح منه شذى الألفة وعبق المحبة، وكلما ارتفع صوت الأذان ارتفع معه في منزل جابر عبد الرحمن صوت قرعٍ على باب غرفة أبنائه سالم وجاسم المتدثرين بغطاءٍ وثير ويغطان في سُبات ٍعميق، ففصل الشتاء البارد يضاعف رغبتهما في النوم قبل أن يقتحم غرفتهما والدهما، ليشد عنهما الغطاء فتُفتح أعينهما على الفور، وكعادته في كل يوم يكرر كلمة واحدة وهي: الصلاة.. الصلاة ثم يغادر الغرفة، وفي الجانب الآخر من المنزل يدٌ نحيلة تواصل قرعها الحنون على باب غرفة البنات، إنها يدُ آمنة زوجة جابر عبد الرحمن يأتي صوتها حاملاً عبارة دارين لطيفة هيا إلى الصلاة يا بنات، ترددها على مسامعهما في كل فجر فتنهضان وتجلسان على أسرتهما محاولتين التغلب على النعاس الذي يراودهما عن نفسيهما ويدعوهما لمعاودة النوم، لكن ما إن تباغتهما والدتهن من جديد بقرعاتٍ متتاليات أعنف من سابقاتها حتى يفر النوم من أعينهما وتنهضان على الفور لأداء الصلاة، بينما تواصل أختهما الصغرى مها نومها فهي لم تتجاوز الأربع سنوات.

    السيد جابر عبد الرحمن وعائلته يقيمون في حي السدرة منذ سنواتٍ طويلة وتجمعهم مع جيران الحي أواصر القربى والصداقة وحسن الجوار وأصبحوا منسجمين في علاقات اجتماعية يومية تربطهم بمختلف مناحي الحياة، بدءًا من سماعهم لأذان الفجر حيث يسارع البعض منهم بالنهوض من النوم، بينما البعض الآخر ما زال في سريره يتلكأ في النهوض، ولكن ما إن تصل لمسامعهم عبارة (الصلاةُ خيرٌ من النوم) المصاحِبَة لأذان الفجر حتى تصبح كفيلة بجعل كل من تسوِّل له نفسه بمواصلة النوم يهبُ مسرعًا للمسجد، الآباء وبرفقتهم أبناؤهم، وأحيانًا يسبق الأبناء آباءهم للمسجد، فالكل يتسابق لأداء الفريضة في الصفوف الأمامية، بينما تصلي النساء والفتيات في المنازل، وبعد الانتهاء من أداء صلاة الفجر، وعندما ينبلج ضوء الصبح ويدنو من إماطة لثام الليل الذي أرخى سدوله على حي السدرة حينها يدبُّ النشاط والحيوية في ذلك الحي القابع في الهدوء.

    وما إن يفرغ المصلون من أداء صلاتهم حتى يُعرِّج البعض منهم على المخبز الإيراني المحاذي للمسجد والذي يفوح من فرنه في كل صباح عبير الخبز الساخن الخارج للتو من بين لهيب النار التي تقلَّبَ على جمرها حتى تربَّعتْ على سطحه الأبيض فقاعات بارزة ذات لونٍ مائل للبني تشي بأنه قد أصبح ناضجًا وآن له الخروج لتتلقفه أيدي المنتظرين، فشذى رائحة الخبز المنبعثة من الفرن تُزكم أنوف المارة، وتدفع بهم للمسارعة لأخذ حصتهم من الخبز الطازج، وعلى الرغم من كون معظم الأهالي في تلك الفترة يقومون بعمل الخبز في الأفران المنزلية إلا أن الخبز من فرن الحي تبقى له نكهة خاصة ويخدم شريحة كبيرة من القاطنين الذين اعتادوا على تناول هذا النوع من الخبز، فطوابير المنتظرين أمام الفرن تشي بلذته خاصة عندما يكون ساخنًا، وعائلة جابر عبد الرحمن أوكلت المهمة الصباحية لجلب الخبز للابن الأصغر جاسم فما إن يفرغ من صلاة الفجر حتى يسرع للوقوف في طابور المخبز قبل أن يبدأ الزحام.

    في كل صباح يتحلَّق أفراد عائلة جابر حول مائدة الطعام لتناول وجبة الإفطار التي لا تخلو من البيض والزبدة وجبن الكرافت الذي يحبه جاسم ومربى المشمش الذي تحبه دارين بينما تحب لطيفة القشطة، بالإضافة للخبر الساخن، فهذا الوقت يعتبر من أجمل الأوقات وأكثرها متعة لجميع أفراد الأسرة حيث يبدؤون يومهم بالضحك وتبادل الأحاديث والمناقشات، وبعد الإفطار حالهم كحال جميع أهالي حي السدرة يتوجهون كلٌ لشأنه، الآباء ينطلقون لأعمالهم مع إشراقة الصباح الباكر تاركين ربَّات البيوت يقمن على إدارة دفة كافة الأعمال المنزلية، أما الأبناء والبنات فيتوجهون لمدارسهم على شكل مجموعات وفرادى في انتظار وصول الحافلات المدرسية، الأولاد ينتظرون في مجموعات والبنات ينتظرن في مجموعات أخرى وجميعهم يرتدون الزي المدرسي ذا الألوان والتصاميم المختلفة كلٌ حسب مرحلته الدراسية والجميع متساوون على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، يدرسون في نفس المدارس الحكومية، ويتوجه بعض الطلبة والطالبات لمدارسهم سيرًا على الأقدام نظرًا لتواجد مدارس قريبة من الأحياء السكنية التي يقطنونها، ومنظرهم في كل صباح وهم ذاهبون لمدارسهم يُضفي على الحي المزيد من البهجة والحيوية في الصباح الباكر، وكذلك في وقت الظهيرة عند عودتهم من المدارس وهم يسيرون أفواجًا كالفراش المبثوث، وحين تشتد حرارة الجو يلفح لهيب الشمس تلك الوجوه المرهقة فيشوبها شيءٌ من الحمرة وتخالطها قطرات العرق التي تتناثر على سطح الجباه الغضة فتسفر عن أوجه المعاناة المتعددة التي يتكبدها الطلبة والطالبات والمتمثلة في ثقل الحقيبة المدرسية التي تنوء أكتافهم النحيلة عن حملها، ويتصدى كلٌ منهم على طريقته للهيب الشمس، فالبعض يضع كتابًا أو حقيبته فوق رأسه والبعض يستخدم المظلة، والبعض يسير تحت لهيبها ولا يبالي.

    وفي ظل الأجواء الماطرة الوضع يُصبح أكثرُ سوءًا ففي كثير من الأحيان لم تُفلح أعتى مظلات المطر أن تصمد طويلًا أمام الأمطار الغزيرة، لتجنبهم أخذ نصيبهم من وابل المطر المنهمر كالسيل، وتفسح خطواتهم المتعثِّرة المجال أمام أحذيتهم لتغوص في الوحل الذي يتلقونه كالحمم البركانية المتطايرة تقذفهم به كل خطوة تنغمس فيها أقدامهم في الطين كلما تقدموا في السير على الطرقات التي تجمَّعت بها بركٌ ضحلة من مياه الأمطار الراكدة والمختلطة بالوحل الذي يلطخ زيهم المدرسي ببقع متفرقة ذات لون بني داكن، فحضور طابور الصباح بزيٍّ ملطخ بالوحل لن يخلو بالتأكيد من سخرية وتعليقات بعض الزملاء، ورغم تلك المناوشات والتعليقات في طابور الصباح، إلا أن القلوب متآلفة ومتراحمة، وما هذه الأجواء المباغتة في فصل الشتاء سوى فرصةٍ للضحك والتسلية خاصة أثناء عودتهم من المدرسة، فالوضع يكون أخف وطأةً عنه مع بداية اليوم المدرسي.

    وكعادتهم في كل يوم يخرج أبناء جابر عبد الرحمن الثلاثة متوجهين لمدارسهم سيرًا على الأقدام: سالم في الحادية عشرة من العمر له بشرة بيضاء وبُنْيَةٌ قوية وملامح حادة تنمُّ عن ذكاء وصرامة، له عينان عسليتان وشعرٌ بني داكن كثيف، على عكس أخيه جاسم في العاشرة من العمر؛ فهو ذو بنية نحيلة وبشرة حنطية وعينين سوداوتين وشعرٍ أسودَ مموجٍ وملامحه رقيقة، يميل للمرح في كل تصرفاته، وترافقهم أختهم دارين في الثامنة من عمرها لها بشرة البيضاء وعينان ذواتا لون كستنائي مائل للخضرة حباهما الله برموشٍ غزيرة، وشفتاها الحمراوتان مكتنزتان بلون الكرز، ووجنتها البيضاء مشرَّبة بشيء من الحمرة، وتزيد من جمالها غمازتان تخترقان تلكما الوجنتين الغضتين كلما تكلَّمت أو ابتسمت، أما شعرها فهو كثيف وطويل ذو ألوان متداخلة تتخلله خصلات ذوات لون بني فاتح وغامق، وكلما سارت تحت أشعة الشمس تضفي على خصلاته لونًا كالسلاسل الذهبية. والدتها دأبت على تصفيف شعرها على شكل ضفيرتين معقوفتين عند ذهابها للمدرسة لكيلا يلفت الأنظار لها، أما أختهم لطيفة فكانت في السادسة من العمر، ذات بشرة حنطية وعينين عسليتين واسعتين، ولها شعر متوسِّط الطول تتخلله بعض التموجات، تحبُّ ربطه على شكل ذيل حصان، كانت تنتقل لمدرستها عبر الحافلة المدرسية لأنها لا تدرس في نفس المدرسة مع أختها دارين.

    هؤلاء الأخوة يتوجهون لمدارسهم القريبة من منطقتهم فهناك مدرستان فيهما مراحل دراسية مختلفة، واحدة للذكور تسمى مدرسة عمر المختار المشتركة للبنين وأخرى للبنات تسمى مدرسة خولة بنت الأزور المشتركة للبنات. الكثير من أبناء الحي يدرسون في هاتين المدرستين لقربهما من منازلهم، إلا أنهم يحتاجون لبعض الوقت سيرًا على الأقدام للوصول لمدارسهم، ويكون المشي مسليًا عند مرافقة الأصدقاء وأبناء وبنات الحي، لذا يعرِّج أبناء جابر في كل صباح قبل ذهابهم للمدرسة على منزل ناصر العمران جارهم الذي لديه ابنٌ وحيد اسمه أحمد تجمع بينهم صداقة كما تجمع بين والداتهم صداقة وثيقة، وما إن يتوقفوا أمام منزل صديقهم أحمد حتى يمسك سالم كعادته بحلقة الباب الحديدية المثبتة على الباب وهي نصف الدائرية يُقرع بها على الباب الخشبي، وبعد دقائق يُفتح الباب ويطل صبي في العاشرة من عمره ذو بشرة سوداء وشعرٍ مجعَّد (أكرت)، نحيل البنية له عينان واسعتان داكنتا السواد، بيضاوي الوجه، طبعه يميل للهدوء بل هو أقرب للجدية في كل تصرفاته، وهذا ما جعله أكثر رزانة عن أقرانه في الحي، وهو في نفس عمر جاسم لكنه أطول منه بقليل، في كل صباح يخرج لأصدقائه حاملًا حقيبته المدرسية الثقيلة على كتفه النحيل، وكعادتها بعد ثوانٍ تطل عليهم والدته وقد غطت رأسها بوشاح ينسدل لمنتصف جسدها فتلقي عليهم التحية وتتحدث معهم من خلف الباب النصف المفتوح كعادتها في كل يوم وتوصي سالمًا – على اعتبار أنه أكبرهم – بابنها أحمدَ خيرًا، فهو ابنها الوحيد وهم يعتبرونه أخًا لهم، نشؤوا معه منذ نعومة أظفارهم، وأختهم دارين يُحِبُّ أحمد اللعب معها ويكتنفها بعطفه وحنانه، وهي تُدرك أنها تحظى باهتمام أحمد، ففي طريقهم للمدرسة كثيرًا ما كان أحمد يحمل عنها حقيبة المدرسة خاصة عندما تشعر بالإرهاق من حرارة الجو فتزداد وجنتها احمرارًا، وعندما اشتكت لإخوتها من ألمٍ في قدمها وعدم قدرتها على متابعة السير بسبب ضيق حذائها لم يعيروها أي اهتمام، وطلب منها سالم خلع حذائها والسير حافية فهي ترتدي جوربًا، ولكن أحمد ما إن سمع شكواها حتى أسرع للعمال الذين يعملون في بناء أحد المنازل وطلب منهم أن يُعيروه العربة ذات العجلة الهوائية التي تستخدم لنقل احتياجات البناء لها مقبضان طويلان وعجلة واحدة وادَّعى أن معهم فتاة مريضة وعليهم نقلها على وجه السرعة، وترك معهم حقيبته المدرسية كضمان لحين إرجاعه العربة، وأجلس دارين في العربة ومعها حقيبتها وأخذ يدفعها بيديه النحيلتين ويتوسَّل لساقِه أن تحثُّ الخطى حتى يتمكن من إنجاز المهمة وسط ضحك أخيها جاسم واستغراب واعتراض سالم، وفي هذه الأثناء سارع جاسم بإخراج آلة التصوير التي أصبحت لا تفارق حقيبته منذ أن أهداه إياها والده، فهو يصور كل المواقف التي تصادفه ويوثِّقها بدقة عبر عدسة آلة التصوير، فالتقط بعض اللقطات الطريفة لدارين وهي تجلس كالأميرة في العربة بينما أحمد يدفع العربة بجسده النحيل، والتقط صورة له وهو منهك يتوقف لمسح العرق الذي كسى جبينه وبدأ يتصبب على وجهه بكم قميصه، ولكنه واصل دفع العربة وسار بها لمسافة ليست بالقصيرة، وفجأة صادفهم جارهم راشد كان في نفس سن سالم لكنه متعجرف وحاد الطباع، وكان برفقته مجموعة من أصدقائه فتوقف وهو ينظر لدارين وأحمد المنهك ينظر لهم ويدفع بالعربة فقال راشد لدارين: مبارك يا دارين، أصبح لديك خادم يحملك عن الأرض، وأخذ يسخر من أحمد بعباراتٍ جارحة بينما تسمَّر أحمد يراقب نظرات وابتسامات دارين، مما دفع بسالم للتدخل واحتدم الشجار فيما بينهم دفاعًا عن أحمد الذي طلب من سالم التوقف عن الشجار وأن يتركه وشأنه وأن كل ما قاله لا يضيره، فتوقف سالم وقد بدا عليه الغضب الشديد فطلب من دارين النزول من العربة وأن تنتعل حذاءها وتحمل حقيبتها، وطلب من أحمد أن يعيد العربة لعمال البناء ويستعيد حقيبته.

    واستمر أحمد بتعاطفه مع دارين؛ ففي فصل الشتاء عندما يفاجئهم المطر بهطوله كان يخلع سترته ليغطي دارين بها عندما تشتكي من البرد خوفًا من أن يبللها المطر فتمرض، وكثيرًا ما كان تصرفه هذا يُغضب إخوتها سالم وجاسم بسبب تدليله لها، فهم على علم بأن أختهم دارين تتمادى في استغلال طيبة أحمد، لكنه لم يكن يبالي بغضبهما ويكرر أنه يتمنى لو رزقه الله بأخ أو أخت فهو وحيد ليس لديه أخوه أو أخوات وهم بمثابة إخوته؛ لذا لم يكن يصغي لهما ولم يتوقف عن مساعدتها.

    وفي أحد الأيام أحسَّ سالم بالحرج عندما لم يجد الإجابة على سؤال والدة أحمد حين فتحت الباب ووجدت المطر قد بلل ملابس ابنها بغزارة ولم تسعفه سترته ليتدثر بها أو حتى مظلة المطر لتقيه هذا البلل فاستفسرت من سالم:

    - بُنيَّ سالم، لِمَ تركتَ أخاك أحمدَ يخلعُ سترته وأنت تعلم أنه يعاني من الربو وأخشى عليه من المرض؟

    سالم: خالتي أنا أردت...

    قاطعه أحمد قائلًا: أمي أنتِ تعلمين بمدى حبي للمطر، وما خلعي للسترة إلا لرغبتي في الاستمتاع بأجواء الشتاء، الذي فاجأنا بهطوله ولم يتسنَّ لي أخذ المظلة معي.

    تبادلُ النظرات بين الأصدقاء كانت بمثابة الرسول الذي فرض على الجميع الصمت، إلا نظرة كان يختلسها أحمد أثناء مراقبته لدارين التي كانت تتمطى محاولةً التواري خلف أخيها جاسم تسترق النظرات من خلف كتفه خوفًا من أن تدرك والدته أنها السبب فيما أصاب ملابسه من بلل، فهي على الدوام تحذِّره وتكرر إن تصرفه هذا قد يعرضه لوعكة صحية بسبب بنيته النحيلة ومعاناته من الربو.

    وفي صباح اليوم التالي بعد أن فرغ المصلون من صلاة الفجر وقف جاسم قبل أن يتوجه للمخبز أمام والده وهو محرج ومتردد فبادر والده بسؤاله:

    - ماذا هناك يا جاسم، لِمَ أنت متسمِّر في مكانك ولم تذهب لإحضار الخبز؟

    صمت جاسم لبرهة ثم قال: أبي أريد منك بعض الدراهم فأنا أرغب بشراء خبز لصديقي أحمد لأني بالأمس أعطيته خبزةً فاستلذَّ بطعمها فأردتُّ أن أعرِّج على منزلهم بالخبز ليتناوله مع الإفطار.

    أخرج والده الدراهم وقال: فقط هذا كل ما تريده؟ أحمد يستحق كل الخير خذ الخبز له.

    شكر جاسم والده بابتسامة وانطلق مسرعًا نحو المخبز، وفي الطريق عرج على منزل صديقه أحمد وقرع عدة قرعات كانت كافية لفتح الباب وأتى صوت والد أحمد قائلًا: أهلًا بُنيَّ جاسم، كيف حالك؟

    جاسم: أنا بخير يا عمِّي، لقد أحضرت لأحمد خبزًا ساخنًا من الفرن فبالأمس أعطيته خبزه استلذَّ بطعمها لذلك أردت أن يتذوق الخبز وهو ساخن.

    نظر له والد أحمد بحنان ثم قال: أخوك أحمد مريض اليوم، لقد أُصيب بالحمى بسبب البرد الذي بلل ملابسه بالأمس وكما تعلم جسمه ضعيف ويعاني من الربو فلم يستطع النوم البارحة فذهبنا به للمستشفى، وقبل ساعة عدنا حيث وصف له الطبيب الدواء ومنحه إجازة ليمكث خلالها في المنزل لمدة ثلاثة أيام.

    أطرق جاسم رأسه للأرض ولاحظ والد أحمد الوجوم الظاهر على وجهه والخبز يكاد يتداعى من بين يده فسارع بالقول: أعطني هذا الخبز فهو فرصة لنجعل أحمد يأكل بعض الخبز مع الحليب فهو لم يأكل شيئًا منذ الأمس وبما أنك أحضرت الكثير من الخبز سنتناوله معه أنا وخالتك مريم شكرًا يا جاسم وبلغ تحياتي للأهل.

    أنا القمر

    إن كنت تطمح نور ضوئي

    فانتظر

    حولي النجوم لعلها

    ترضى بأن تُبادلكَ النَّظر.

    (2)

    كموجات البحر الهادر التي تجرُّ بعضها بعضًا بلا توقُّف مضت الأيام زاخرة بذكريات الماضي تطويها السنون لتحلَّ بدلًا عنها أيامٌ اكتست بحلةٍ جديدة لا مكان فيها لخِرق الماضي البالية التي لم تعد تناسب الكثيرين، فالجميع غيرتهم السنون وغيرت كل ما كان راسخًا في العقول والقلوب من مشاعرٍ وذكريات، وها هي دارين الطفلة الصغيرة أصبحت فتاةً يافعة بلغت السابعة عشرة من عمرها، وأصبح والدها دائم القلق والتوجس على دُرَّتِه المكنونة التي اشتهرت في الحي بجمالها الأخَّاذ، وهذا ما جعلها تتباهى بجمالها فكانت تُطلق العنان لشعرها الكثيف المنسدل على كتفها واستطاعت إقناع والدتها بأخذها للصالون النسائي لتقصير أطراف شعرها على شكل متدرج، وبما أنها مدللة والدتها كان لها ما طلبت، واستمرت خصلات شعرها الكثيف تزين جبينها فتزيد من جمالها.

    دارين منذ صغرها استحوذت على اهتمام الجارات في الحي، لذا كن دائمات السعي لطلب يدها كمن يخضن سباقًا وعليهن أن يدركن الفوز، فدارين في ذلك الوقت لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها إلا أن جمالها الطاغي جعلها محط إعجاب الكثير من الراغبات بخطبتها لأبنائهن أو لأقاربهن، ولكن والدها يعتبرها كالدُّرَّة الثمينة ويأبى تسليمها لعالم الزواج والأمومة وهي ما زالت في سنٍ لا تؤهلها سوى لمواصلة اللعب والدراسة، فأنَّا له أن يحجب ضوء الشمس وعبير الحرية عن تلك الزهرة اليافعة وهي بالكاد تتفتح على أغصان الحياة؟

    في معظم الأحيان يرافق الجمال الطاغي توأم يتقاسم معه نفس المشيمة يسمى الغرور، هذا التوأم البغيض جعل من دارين شخصية متعالية على الآخرين ذات طباعٍ سيئة، وابتعدت عنها الصديقات ولم يعد معها سوى عدد محدود ممن استطعن مواصلة صداقتهن معها وأقربهن كانت جارتها وصديقة طفولتها سارة، وما زاد من غرور دارين نظرات شباب الحي لها وهمساتهم ببعض كلمات الإعجاب مما جعلها تدرك أنها محط أنظار الشباب فالجميع يتمنون لو تصبح دارين زوجةً لهم، لذا لا يغيب ذكر اسم دارين عن مجلس غيث خليفة، حيث يجتمع في مجلسه بعض شباب الحي؛ فهذا المكان يُعتَبر المتنفَّس لهم يقضون فيه معظم وقت فراغهم خلال أيام الأسبوع، ففيه يتسامرون ويتبادلون أطراف الحديث في مواضيع متنوعة، وأحيانًا يلعبون الورق، والنرد، والشطرنج، والدومينو، ومع نهاية الأسبوع يستمِرُّ السهر لساعاتٍ متأخرة من الليل، يستمعون فيها لمقطوعة موسيقية شيِّقة يعزفها لهم غانم الأخ الأصغر لغيث على أنغام الكمان الذي يمسك به ويضعه على كتفه كأمٍّ ترفق بصغيرها وباليد الأخرى يمسك بقوسٍ يتمايل به ذهابًا وإيابًا مُربتًا بحنان على أوتاره المستسلمة له بانسجام تام يُسفر عنه نغماتٍ تُشنِّف الآذان وتُطرِب المستمعين ويلف المكان شجنٌ حالم، ولكن ما يجلب جوًا آخر من البهجة إذا ما عزف غيث على العود وصاحبه غناؤه بصوته الشجي الذي يذكرهم بماضي الآباء والأجداد، ويزيد من طرب المستمعين الذين يشاركونه بالتصفيق وترديد بعض المقاطع الغنائية.

    وفي بعض الأيام يفاجئهم غيث بمقالبه المضحكة فيغرس المرح والضحك في المكان.

    ومن بين رواد مجلس غيث أحمد ناصر صديق طفولته، الذي يتميز بالطباع الهادئة بل هو أقرب للجدية في كل تصرفاته، وهذا ما جعله أكثر رزانة من أقرانه في الحي، فمجلس صديقه غيث يعتبره عرينه الآمن الذي يجد فيه متعته خاصة إذا ما التقى بشباب الحي، فيتبادل معهم أطراف الحديث، ولكن يبقى غيث هو الأقرب إلى نفسه من بين الجميع ومحطَّ أسراره، نشئا وتربيا سويًا كإخوة وكثيرًا ما ينجح غيث برسم الابتسامة على ثغر صديقه أحمد نظرًا لخفة ظله وشخصيته المرحة التي جذبت الجميع من حوله، فمثلًا غيث لا يُضيره تعليقات أصدقائه على طريقة تصفيفه لشعره الناعم الكثيف الذي يذكِّرهم بنجوم السينما الهندية، بل على العكس كان يشاركهم بإطلاق النكات على نفسه مشبهًا نفسه بأسماء بعض ممثلي السينما الهندية، ويتقبَّل تعليقاتهم بمرح وبصدرٍ رحب، فغيث اكتسب ملامحه من والدته ذات الأصول الهندية.

    وعادةً ما يتبادل ضيوف غيث الأحاديث بمواضيع مختلفة، ولا يغيب عن أحاديثهم ذكر فتيات الحي، ولكن أحمد يتجنَّب الخوض في مثل هذه الأحاديث والمناقشات والجدال الذي لا طائل من ورائه، وعندما يأتي الحديث عن بنات الحي وبالتحديد ذكر اسم دارين والتغزل بها وبجمالها كان يلزم أحمد دائمًا الصمت وينأى بنفسه عن الخوض في مثل هذه المواضيع احترامًا لبنات الحي، وعلى الرغم من احترامه لجميع بنات الحي الذي يقطنه إلا أن البنات كن يتجنبنه على الدوام، ربما يعود سبب ذلك لشخصيته المتحفظة التي وقفت حائلًا دون إعجاب الفتيات به، كما إنه يفتقر لوسامة فارس الأحلام التي تطمح لها معظم الفتيات.

    ولكن أحمد لم يكن يعنيه أبدًا إعراض الفتيات عنه فجُلُّ اهتمامه متَّجه نحو صديقة طفولته دارين، ويضايقه كثيرًا تغزُّل الشباب بها ووصفهم لجمالها ولطولها ورشاقتها وشعرها وطريقة مشيتها وبشرتها البيضاء الصافية وملامحها الفاتنة، فحال أحمد كمن يدس شعوره في غمدٍ ليحفظه عن العيون، ولكن خنجر الشوق يخترق قلبه ويقطع أوصاله فلا يقوى على تركه منتظرًا في العتمة التي تحجب عنه متعة الإفصاح عن مشاعره التي يكنها لدارين التي ما غابت عن تفكيره منذ أيام الطفولة، فيتذكر لعبهم سويًا مع إخوتها سالم وجاسم ويذكر جيدًا كيف تلفت انتباهه الغمازتان اللتان كانتا تخترقان وجنتيها كلما ضحكت أو تكلمت، ولم يكن يعلم حينها أنهن غمازتان فكان يسألها: ماذا أصاب وجنتك يا دارين؟.

    فترد عليه بعفوية: لا شيء، أمي تقول أنّ هذه تُسمى غمازة، خلقني الله بها، وتسأله بعفوية الأطفال: أحمد هل أنت غاضب من الله لأنه جعل لونك أسود؟.

    فيرد عليها: لا أنا لا أغضب من الله، لأن أبي قال ليس المهم لون الإنسان لكن المهم أن يكون قلبه أبيض ومؤدبًا فيحبه الله والناس، وأنا أحب لوني الذي خلقني الله عليه.

    براءة الطفولة انقضت وذانك الطفلان أصبحا راشِدَين وعادات البلد لم تسمح لهما بالتحدث سويًا واللقاء كما هو الوضع في الأيام السالفة، ورغم مضي السنين إلا أن حب دارين في قلب أحمد لم يمضِ بعيدًا مع ما جرفته الأيام من ذكريات، فكيف يمضي حبٌّ ما زال فتيله مشتعلًا في قلبه وملك عليه كيانه، وكان غيث صديق أحمد المخلص يعلم بمدى حبه لدارين فلم يتوقف عن الإلحاح عليه ومحاولة إقناعه بضرورة مفاتحتها والتصريح بمشاعره وما يكنه لها من حب، لكن تردد أحمد لم يُعِنه على تخطي حاجز الخجل، وكلما مضت الأيام أحكمت مشاعر الحب قبضتها على قلبه، والليالي الطويلة التي يبثها لوعة الحب والوجد لم تسعفه بحلٍ يهوِّن عليه حالة التردد وتدفعه لأخذ زمام المبادرة، فجلُّ ما يخشاه إعراض دارين عن حبه ولديه من الشكوك ما يدعم قناعته، فهو لا يتمتع بالمواصفات التي تتمناها أيُّ فتاة بزوجها، فكيف بفتاة في مثل جمال دارين أن تتخذ من أحمد حبيبًا لها، ولكن أحمد يُدرك أنه يملك ما يفتقر إليه غيره من المنافسين ليكون مؤهلًا لنيل قلبها، فهم تجمعهم صداقة عائلية، وهو صديق طفولتها، كما أنه يمتلك اسم عائلته العريقة والثرية ذائعة الصيت والسمعة، فوالده السيد ناصر العمران صاحب ثروة طائلة آلت إليه بالوراثة، وأحمد هو وريثه الوحيد، ولكنه ظلَّ دائم التردد يطرح على نفسه كل يوم نفس السؤال وهو: كيف سأتمكن من كسب قلب دارين؟

    مساء هذا اليوم وقف أحمد خلف نافذة غرفته التي تسلل لها شعاع غروب الشمس الذي بدأ يطوي شراعه يؤذن بالمغيب، تاركًا بقايا نورٍ خافت ما زال يُلقي بظلاله على أرجاء الحي، كان أحمد يترقب عبر النافذة خروج دارين كعادتها في بعض أيام الأسبوع قاصدةً منزل صديقتها وجارتها سارة حيث اعتادتا على المذاكرة سويًا وتبادل الزيارات المسائية، فهي المتنفس الوحيد لهما بعد الانتهاء من أداء الواجبات المدرسية، لكن خروج دارين المتكرر مساءً لمنزل جارتها سارة يُقلق والدها كثيرًا، وقد أبدا لزوجته اعتراضه وتخوفه من خروج ابنته المتكرر مساءً لزيارة جارتها وصديقتها سارة، لكن زوجته أقنعته بأنهما تتبادلان الزيارات للدراسة فهما في السنة النهائية وتحتاجان لمعدِّل عالٍ لكي تتمكنا من دخول الجامعة، لذا عليهما الدراسة سويًا، واستطاعت إقناعه أكثر عندما أخبرته بأن جميع إخوة سارة متزوجون ولا يسكنون معهم، كما أن الحي آمن، وهي لا تتأخر في العودة للمنزل، لذا شعر والدها ببعض الاطمئنان.

    مضى الوقت وأحمد يقف خلف ستارة نافذة غرفته لكنه أزاحها بسرعة عندما رأى دارين تخرج من منزلها تسير كالفراشة تتمايل بخطواتها الرشيقة وسط هدوء الحي وخلو الطريق من المارة مما حفزه على الخروج من منزله مسرعًا، وسار يحث الخطي في إثرها فلقد قرر أخذ زمام المبادرة للتصريح بما يكنه من مشاعر ولن يُفرط بالفرصة التي أصبحت مواتية، فتبعها وعندما تأكد من خلو الطريق من المارة اقترب منها قائلًا: السلام عليكم دارين.

    وقفت دارين ونظرت له باندهاش وردت وهي تلتفت حولها: وعليكم السلام أحمد ماذا هناك؟

    ارتبك أحمد لكنه بادر قائلًا: هل يمكنني مفاتحتك بموضوع؟

    استغربت دارين من تصرفه فكيف يمكنه

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1