Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الناصر صلاح الدين الأيوبي: نظرة الغرب لبطل الشرق
الناصر صلاح الدين الأيوبي: نظرة الغرب لبطل الشرق
الناصر صلاح الدين الأيوبي: نظرة الغرب لبطل الشرق
Ebook777 pages7 hours

الناصر صلاح الدين الأيوبي: نظرة الغرب لبطل الشرق

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

هذا الكتاب يبرز نبذة مختصرة عن حياة القائد صلاح الدين الأيوبي.  أردتُ أن أُظهِر رؤية الغرب لصفات ومميِّزات وعيوب هذه الشخصية الأسطورية المسلمة مِن خلال ترجمة مصادر إنجليزية وفرنسية عديدة، وكذلك استشارة مصادر عربية فيما يتعلَّق ببعض التفاصيل التاريخية والدينية، وبذلك تتعدَّد زوايا قراءة تاريخه. أبهرني إظهارهم للحقيقة بدون مبالغة، وتقييمهم ونقدهم البَنَّاء، فإذا كان هذا رأي الغرب (الصليبيِّين) فيه، فما بالك بحقيقة شخصيَّته مِن وجهة نظر معاصِريه؟ توجد مساحات لَم يسلَّط عليها الضوء في سيرته الذاتية، نعلم الكثير عن إنجازاته، ونعلم القليل عن شخصيَّته، مثله مثل غيره مِن حُكَّام العصور الوسطى. الفصول الثلاثة الأخيرة مِن الكتاب تتناول ما نستطيع أن نتعلَّمه مِن هذه الشخصيَّة، وكيف يمكننا الاستفادة مِن أخلاقه وأفعاله.. أرجو مِن الله أن تتمتَّعوا وتستفيدوا مِن هذا العمل.
Languageالعربية
Release dateSep 29, 2023
ISBN9789948786306
الناصر صلاح الدين الأيوبي: نظرة الغرب لبطل الشرق
Author

د.مجدي عز الدين حنفي

د. مجدي عز الدين حنفي. - استشاري الجراحة بإنجلترا. - بكالوريوس طب وجراحة.. كلية الطب - جامعة الأزهر (تقدير امتياز مع مرتبة الشرف). - زميل الكليات الملكية للجراحين بالمملكة المتحدة. - مؤلف كتاب "كيف خلقَنا الله سبحانه وتعالى"، مكتبة الأنجلو المصرية 2006.

Related to الناصر صلاح الدين الأيوبي

Related ebooks

Related categories

Reviews for الناصر صلاح الدين الأيوبي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الناصر صلاح الدين الأيوبي - د.مجدي عز الدين حنفي

    الناصر صلاح الدين الأيوبي: نظرة الغرب لبطل الشرق

    د.مجدي عز الدين حنفي

    Austin Macauley Publishers

    الناصر صلاح الدين الأيوبي: نظرة الغرب لبطل الشرق

    د.مجدي عز الدين حنفي

    الإهداء

    حقوق النشر©

    شكر وتقدير

    ملحوظة

    مقدِّمة

    الفصل الأول: الإخوة الأعداء

    الفصل الثاني: عماد الدين زنكي

    الفصل الثالث: الحملة الصليبية الثانية

    الفصل الرابع :نور الدين محمود زنكي

    مصادر القصة

    الفصل الخامس: دمشق

    الفصل السادس: نشأة صلاح الدين الأيوبي

    الفصل السابع: الصراع على مصر

    الفصل الثامن: غزو مصر

    الفصل التاسع: وزير مصر

    الفصل العاشر: هجوم الفرنج والبيزنطيين على مصر

    الفصل الحادي عشر: نهاية الفاطميِّين

    الفصل الثاني عشر: تدهوُر العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين

    الفصل الثالث عشر: وفاة نور الدين محمود

    الفصل الرابع عشر: الحشَّاشون

    الفصل الخامس عشر: فترة سلام ما قبل الحرب

    الفصل السادس عشر: هزيمة ونصر

    الفصل السابع عشر: حصن مخاضة بيت الأحزان (معقل داود)

    الفصل الثامن عشر: صلاح الدين ومصر والنيل

    الفصل التاسع عشر: صلاح الدين وشمال الشام

    الفصل العشرون: خطة الشيطان أرناط

    الفصل الحادي والعشرون: بداية الختام

    الفصل الثاني والعشرون: حطين

    الفصل الثالث والعشرون: تحرير فلسطين

    الفصل الرابع والعشرون: القدس

    الفصل الخامس والعشرون: حصار صور

    الفصل السادس والعشرون: حصار عكا

    الفصل السابع والعشرون: الحملة الصليبية الثالثة

    الفصل الثامن والعشرون: بربروسا

    الفصل التاسع والعشرون: ريتشارد قلب الأسد

    الفصل الثلاثون: ريتشارد وفيليب

    الفصل الحادي والثلاثون: انتصار الفرنج

    الفصل الثاني والثلاثون: نهاية الحملة الصليبية الثالثة

    الفصل الثالث والثلاثون: الطريق إلى القدس

    الفصل الرابع والثلاثون: فشل الفرنج

    الفصل الخامس والثلاثون: يافا

    الفصل السادس والثلاثون: نهاية ريتشارد

    الفصل السابع والثلاثون: الراحة

    الفصل الثامن والثلاثون: دروس نتعلمها

    الفصل التاسع والثلاثون: مواصفات عبقري

    الفصل الأربعون: دروس في الإدارة

    عائلة صلاح الدين الأيوبي

    الشخصيات الرئيسةالمسلمون في مصر والشام

    الصليبيون

    تواريخ الأحداث

    المراجع العربية

    المراجع الأجنبية

    المؤلف

    د.مجدي عز الدين حنفي

    د. مجدي عز الدين حنفي.

    استشاري الجراحة بإنجلترا.

    بكالوريوس طب وجراحة.. كلية الطب - جامعة الأزهر (تقدير امتياز مع مرتبة الشرف).

    زميل الكليات الملكية للجراحين بالمملكة المتحدة.

    مؤلف كتاب كيف خلقَنا الله سبحانه وتعالى، مكتبة الأنجلو المصرية 2006.

    الإهداء

    إهداء لوالدي العزيز رحمه الله، ووالدتي أسعدها الله، وزوجتي د. سمية، وبناتي.

    حقوق النشر©

    د. مجدي عز الدين حنفي 2023

    يمتلك د. مجدي عز الدين حنفي الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقًا للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأي وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقًا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948786290 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948786306 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب:MC-10-01-5955612

    التصنيف العمريE :

    الطبعة الأولى 2023

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    شكر وتقدير

    شكر خاص لأختي سمر، وأخي زوجتي الأستاذ أحمد الأزهري على مساعدتي في المراجعة والتصحيح.

    ملحوظة

    يعترِض الإخوة المسيحيُّون على تسمية الحملات بوَصف الصليبيَّة حيث إنَّ هذا يعني المسيحيَّة؛ ولا يفرّق بين كَون الصليبيِّين مسيحيين غربيين فرنجة، أو شرقيين عرب.. الشرقيون حاربوا على مرِّ الزَّمان للدفاع عن الأرض المقدَّسة، وعن أوطانهم بجانب المسلمين، فبالتالي يجب التفريق بينهم والغُزاة مِن الغرب، وهم يُفضِّلون لفظ الفرنجة بدل من الصليبيِّين، أنا أشارِكهم في هذا الرأي والإحساس، لكن عندما يُذكر التاريخ يجب أن يقيَّد كما كان، وتبقى المسمِّيات كما كانت، حتى لو كانت خاطئة.

    (انظر خطبة الجمعة الأولى بالقدس).

    مِن أشهر مقولات عماد الدين الأصفهاني:

    إنِّي رأيتُ أنَّه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يُسْتَحسن، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا مِن أعظَم العِبر، وهو دليلٌ على استيلاء النَّقص على جملة البشر.s

    مقدِّمة

    لماذا ينال صلاح الدين الأيوبي منزلة خاصة واحترامًا لا نِزاع عليه مِن قِبَل الشرق والغرب معًا حتَّى بعد مرور أكثر مِن 800 عامٍ على وفاته؟

    قد تكون الإجابة سهلة، فقد قهَر الصليبيِّين، واسترجع القدس (ثالث المدن المقدَّسة للمسلمين) بعد احتلالها لأكثر مِن مائة عام.

    مع أهميَّة هذا الإنجاز للمسلمين عامةً والعرب خاصةً، لا بد مِن وجود أشياء أخرى عظيمة أدَّت لهذا الإعجاب الذي يندر حدوث مثله.

    مثلًا: كان لسيف الدين قطز والظاهر بيبرس الفضل في الانتصار على الفرنج بدمياط والمنصورة، وأَسر الملك لويس التاسع، ثمَّ حقَّقا أكبر انتصار في تاريخ العرب وربَّما العالم الغربي كلِّه في عين جالوت ضد المغول والتتار.

    استمرَّت إنجازات بيبرس والمنصور قلاوون وابنه مِن بعده – الأشرف خليل – باستكمال تحرير كلِّ مدن فلسطين ولبنان وسوريا مِن الصليبيِّين، وطردهم مِن أراضي العرب بلا عودة، لكن لَم ينَل أيٌّ منهم شهرة الناصر صلاح الدين الأيوبي.

    ما سرُّ هذه الشخصية التاريخية الأسطورية؟ ما الذي جعله ينفرد بهذا الاحترام والتقدير؟ لماذا استُخدِمَت ذِكراه كقدوة لكثير مِن الرؤساء والملوك والزعماء؟

    لا يمكن أن يكون تحرير القدس وحده (مع عِظَم قَدر الإنجاز) هو السبب الوحيد لهذه العظمة، لا بدَّ مِن وجود أسباب أخرى، أسباب قوية أدّت إلى تكوُّن صورة البطل العظيم في عيون أنصاره وأعدائه على السَّواء، فجعلَتهم يتجاوزون أخطاءَه ومخالفاته.

    في الثامن مِن نوفمبر عام ١٨٩٨ استقبل ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق زائرًا فوق العادة، زائرًا يختلف عن السائحين والمعجبين التقليديِّين، وهو الإمبراطور ولهلم الثاني (أو في المصادر العربية غليوم الثاني) قيصر ألمانيا.

    كان الإمبراطور في جولة سياسية لإسطنبول ثمَّ فلسطين وسوريا، المراد منها توطيد العلاقات بين ألمانيا وسلطان الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني، وكان يصحب الإمبراطور زوجته فيكتوريا أغسطس.

    وبعد جولة في الجامع الأموي، توجَّه الفوج الإمبراطوري لضريح صلاح الدين الملتصق بالجانب الشمالي للجامع، ترى بالداخل ضريحَين، أحدهما مصنوع مِن الخشب الذي أصابه الوهن (يبدو أنَّه الضريح الأصلي، حيث نُقِلَ بجانب الضريح الرخامي الجديد)، والآخَر مِن الرخام، حيث تمَّ تجديد الأخير بواسطة السلطان عبد الحميد قبل الزيارة، والعجيب أنَّه لا توجد نقوش تدوِّن اسم صلاح الدين أو تاريخ وفاته على أي مِن الضريحين)¹.

    قامت الإمبراطورة بوضع إكليل مِن البرونز على الضريح الرخامي، بينما وقف الإمبراطور صامتًا لمدَّة ليست بالقصيرة، ثمَّ رفع ذراعيه لأعلى.

    ترجمَتِ الصحافة المحلية هذه الحركة على أنَّها دعاء بالمغفرة، ويقال إنَّ لورانس أخذ الإكليل البرونزي لإنجلترا، حيث إنَّه معروض حاليًّا في المتحف الحربي الإمبراطوري بلندن.

    وفي المساء أثناء حفل عَشاء احتفالًا بهذه الزيارة، وقف الإمبراطور وقال:

    لن أنسى أنَّني الآن في مدينة عاش فيها يومًا ما أمير سجَّل التاريخ اسمه، هذا البطل الشجاع الذي استطاع بنُبل أخلاقه، وعلوِّ صفاته، وتفانيه وإخلاصه لدينه، أن يصبح نموذجًا للبطولة حتَّى عند أعدائه، إنَّه السلطان العظيم صلاح الدين بن أيوب.²

    كيف أصبح لصلاح الدين هذا الاهتمام والجاذبية عند شعوب تختلف تمامًا عن بعضها حتَّى بعد مرور أكثر مِن ٧٠٠ سنة – في ذلك الوقت – على وفاته؟

    تسبَّب صلاح الدين في جروح عميقة للأوروبيين باسترجاعه القدس مِن يد الصليبيين وهزيمتهم، فأصبح في نظرهم مغتصِبًا للأرض وقاتلًا بلا ضمير، لكن صورته تغيَّرَت وأصبح نموذجًا للحاكم العادل النبيل الذي يتَّسِم بالرَّحمة والعطف والتسامح والخُلُق الكريم، وهذا تناقض عجيب!

    مثال على هذا الإعجاب في كتاب مِن شاعر القصر الألماني والتر فون در فوجلوايد عندما وجَّه نقدًا لسيِّده ملك ألمانيا فيليب السوابي سنة ١٢٠٨.²

    "سيِّدي الملك فيليب، كثير مِن المعجبين بك يلاحظون أنَّكَ لا تحب أن تنفق المال، إذا منحتَ ألف جنيه بإرادتك خير مِن أن ترغمك الظروف على أن تنفق ثلاثين ألف جنيه.

    إنَّ العطاء يزيد مِن إحساس الناس بالاحترام والشرف تجاهك، تذكَّر ما قاله صلاح الدين الكريم: إنَّ أيدي الملوك يجب أن يكون بها ثقوب، فبهذه الطريقة يُخشَى جانبهم ويُحترَمون، خسارة واحدة محمودة إذا أدَّت إلى مكسبين".

    لَم يذكر الشاعر ديانة صلاح الدين منعًا للإحراج.. والمراد مِن هذا المَثل أنَّ سيرة السلطان كانت تؤخذ كمثال يُحتذى به في الغرب، وهذا دليل على مكانته المرموقة بالوسط السياسي في العالم الغربي منذ العصور الوسطى وإلى الآن.

    أمَّا في العالم العربي فقد سُمِّي الطريق السريع الذي يقطع قطاع غزة مِن الشمال للجنوب طريق صلاح الدين، وفي دمشق أمام القلعة يوجد تمثال كبير لصلاح الدين يمتطي جواده شاهرًا سيفه، ويحيط بالجواد حُرَّاس شاهرون السيوف والرماح، خلف الحصان تمثالان لرجلَين يتضاءل حجمهما بالنسبة لصلاح الدين، وهما الملك جي دي لوزينيون ممسكًا كيس نقود رمز فِديَته، وريجينالد دي شاتيلون (أرناط) ينظر إلى الأرض، (انظر الصور).

    يوجد تمثال آخَر للسلطان في بغداد على الجانب الشرقي لنهر دجلة، على هضبة أمام القصر الرئاسي.

    لَم يكُن كلُّ العرب يتَّفقون على هذه الأوصاف لصلاح الدين، فالشيعة مثلًا كانوا يسمُّونه خراب الدين؛ حيث يعتقدون أنَّ السلطان قام بإزالة الدولة الفاطمية مِن مصر بعد ٢٠٠ سنة مِن حكمها، فلَم تقُم للشيعة خلافة ببلد عربي حتَى وقت قريب، مع أنَّ السبب في هذا يرجع لنور الدين زنكي الذي كان صلاح الدين واليًا تابعًا له منفِّذًا لأوامره ٢.


    - https://internetpoem.com/walther-von-der-vogelweide/comments/Kzada↩︎

    - Anne- Marie Edde. SALADIN. Paris 2008. Translated by Jane Marie Todd, from French to English, Harvard University Press, USA, 2014↩︎

    الفصل الأول

    الإخوة الأعداء

    فتح المسلمون القدس في عهد ثاني الخلفاء الراشدين، أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام ٦٣٨ ميلادية، بعد ستِّ سنوات فقط مِن وفاة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم (٦٣٢م).

    بدأَتِ الخلافات تقسِّم المسلمين قبل وأثناء وبعد وفاة رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بصعود سهم الدولة الأموية بقيادة معاوية بن أبي سفيان وتغيير عاصمة الإسلام مِن المدينة المنورة إلى دمشق، في نفس الوقت بدأ ظهور فكر التشيُّع الذي كان يدعو إلى وجوب توريث الخلافة الإسلامية بين أولادِ وأحفادِ عليٍّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمرور الوقت أصبح الخلاف بين السُّنة والشيعة ملحوظًا، ثمَّ اتَّخَذ موقفًا عدائيًّا.

    تفكُّك العالَم الإسلامي: ¹

    في عام ٧٥٠ ميلادية قامت ثورة دامية أدَّت إلى نهاية الدولة الأموية وبزوغ الدولة العباسية التي نقلَت عاصمة الخلافة الإسلامية إلى بغداد.

    صاحب ذلك انتقال محور واهتمام الحكم مِن الشام ومصر والمغرب العربي بما فيه الأندلس إلى العراق وفارس، وأدَّى ذلك إلى استقلال مسلمي المغرب والأندلس والانفصال عن الدولة العباسية، ونتج عن ذلك ظهور الدولة الفاطمية الشيعية، ورفضهم الخضوع لحكم الخليفة العباسي، ثم قاموا بغزو مصر (المعز لدين الله الفاطمي وجوهر الصقلي) والقدس ودمشق وجزء كبير مِن الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وأنشؤوا عاصمتهم الجديدة: القاهرة.

    عند بداية تكوُّن فكرة الحملات الصليبية في أوروبا، كان العالم الإسلامي منشقًّا لقسمَين، كل قسم غير قادر على تحمُّل مسؤولية توحيد المسلمين والتصدِّي لأي هجوم خارجي وحماية القدس، ومع زيادة العداء بين السُنَّة في بغداد والشيعة في القاهرة بدأ يظهر ضعف وعدم قدرة كلٍّ مِن الخليفتَين العباسي والفاطمي على التحكم في أمور البلاد، حيث أصبح واضحًا أنَّ القوة الحقيقية وزمام الأمور تكمن في أيدي الوزير في القاهرة والسلطان في بغداد، نائبَي كلٍّ مِن الخليفتَين.

    في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، رحَّب الخليفة العباسي بعنصر جديد إلى بلاط الخلافة، وهُم الأتراك السلاجقة.. كانوا قبائل مِن الأتراك هاجروا مِن جبال الأناضول لتعرُّضهم لموجة انخفاض كبير في درجة الحرارة استمرَّت عدَّة سنوات، فاضطُرُّوا للزحف جنوبًا، وفي طريقهم أطاحوا بفتات المذهب الشيعي في فارس، وعلى هذا الأساس قدَّموا أنفسهم للخليفة كقوَّة هدفها حماية المذهب السُّنِّي، ووعدوا بمساعدته على دحر الدولة الفاطمية.

    أنعَم الخليفة على كلِّ أمير منهم بلقب سلطان، (هذا يعني أنَّ كلَّ ما يفعلونه له مساندة كاملة مِن الخليفة).²

    قام السلاجقة بفتح الشام وفلسطين، وأصبح لهم إمبراطورية عظمى مركزها العراق وفارس، وضمُّوا تحت سيطرتهم شعوبًا وقبائل كثيرة ذات لغات وديانات مختلفة يعيشون معًا بسلام، بالإضافة لعرب الجزيرة العربية ومَن اختلط بهم، ممَّا جعل اللغة العربية هي السائدة بين كلِّ هؤلاء.

    كانت هناك ديانات أخرى غير الإسلام، منها اليهودية، والمجوسية، وبالأخَصِّ المسيحية بمذاهبها المختلفة، كلُّ هؤلاء كانوا يتكلَّمون لغاتهم الأصلية (السريانية، أرمينية، قبطية ويونانية) بالإضافة للعربية، كذلك كان الفرس والأكراد يتكلَّمون ويكتبون العربية والفارسية والتركية، وبالتالي كان على عائلة صلاح الدين التكيُّف مع كلِّ هذه الشعوب واللغات والعادات المختلفة، فارسي، كردي، عربي وتركي، وانطبع هذا على أسماء عائلة صلاح الدين، فارسي للأخوَين الكبار (شاهنشاه وتركنشاه)، عربي لصلاح الدين والعادل³ (يوسف ومحمد)، وتركي (توغطيجين وبوري).

    كانت القيادة السياسية قبل وصول السلاجقة تعتمد على هيمنة الحاكم الواحد حسب العادة الإسلامية الفارسية القديمة، لكنَّ السلاجقة جلبوا معهم العادات التركية الخاصة بهم، وهي أنَّ الحكم للعائلة، وبالتَّالي تقسَّم الدولة لدويلات وتوزَّع على أفراد العائلة، الكلُّ يخضع لسلطة الخليفة، لكنهم في الحقيقة مستقِلُّون، هذا النظام أدَّى إلى تقسيم وتفكُّك وتفرُّق وخلافات بين أفراد العائلة وخلافات أخرى بينهم وبين الخليفة.

    سادت الخلافات على توريث الحكم لكلِّ ولاية أو دويلة، وزادت الطموحات المنفردة، وأدَّى كلُّ ذلك إلى الانقسام والضعف، فحين وصل الصليبيون وجدوا هذا الانقسام في الدولة الإسلامية، فلَم يجدوا صعوبة في احتلال الشرق وإقامة دويلات في القدس واللاذقية وطرابلس ومقاطعة الرُّها (شمال سوريا وجنوب تركيا حاليًّا).

    على سبيل المثال وليس الحصر: في عام ١١٣٦ م كانت السلطنة السلجوقية مقسَّمة بين حاكمَين: {سانجار (١١١٨ - ١١٥٧م) في الشرق وخاصةً فارس، وابن شقيقه مسعود (١١٣٤ - ١١٥٢م) في الغرب وخاصةً العراق}.

    كان مسعود قد استحوَذ على الحكم بعد صراع مع أخيه، واستمرَّ في صراعات متواصلة مع عدَّة أمراء ومع الخليفة نفسه الذي اتُّهِم أكثر مِن مرة بالتآمر ضد السلاجقة.

    وفي عام ١١٣٥ نظَّم الخليفة حملة عسكرية ضد مسعود انتهَت بهزيمة الخليفة ووقوعه أسيرًا وسجنه، ثمَّ ما لبث مسعود أن أقال مَن كان له الحق في الخلافة بعد ذلك ليعيِّن أخًا آخَر للخليفة أكثر تفهُّمًا.

    لَم تكن الشام أحسن حالًا مِن العراق، فكانت المدينتان الرئيستان دمشق وحلب تتنازعان على توسيع حدود رقعة الحكم، كلٌّ على حساب الأخرى.

    الخلاصة أنَّ خلال ثلاثين عامًا بين (١١١٤ - ١١٤٦م) كانت نهاية الأمراء التسعة الذين حكموا حلب كالآتي: اغتيال خمسة، استسلام اثنين، استشهاد واحد في معركة حربية، ووفاة الأخير بأسباب طبيعية.

    لَم تسلم مصر مِن هذا المناخ السياسي العنيف، ففي فترة حكم الخليفة الفاطمي الأمير (١١٠١ - ١١٣٠م) تمَّ اغتيال الوزير القوي الأفضل بواسطة المجموعة الشيعية الملقَّبة بالنيزاريين أو الباطنيِّين والمعروفين بــ الحشَّاشين، فقد ظهرَت تلك المجموعة في مصر نتيجة الصراعات على الخلافة الفاطمية عام ١٠٩٤، ثمَّ انتشرَت إلى فارس والشام، كان مِن الممكن استخدامهم لاغتيال الخصوم دون معرفة هويَّة القاتل، حيث إنَّها ستُنسَب للحشاشين.

    اغتِيل الوزير الجديد الذي تولَّى بعد الأفضل، وتبعَه الخليفة نفسه عام ١١٣٠م، الكلُّ بواسطة الحشاشين، واستمرَّ الحال على هذا المنوال حتَّى إنَّه بين سنتي ١١٥٣و ١١٦٤م (عام دخول صلاح الدين لمصر)، تمَّ اغتيال أربعة مِن الوزراء الخمسة الذين تولَّوا الحكم تباعًا، وهرب الخامس إلى فلسطين حيث اغتاله الفرنج⁴.

    ما سبب انتشار الاغتيالات كوسيلة للسلطة في الشرق الأوسط في بداية القرن الثاني عشر؟ ما الأحقِّيات التي كان يستند عليها كلُّ مَن كان يطالِب بالحكم؟

    موقف الخليفتَين العباسي والفاطمي كان مختلفًا، حيث كان كلٌّ منهما يستند على نَسبه لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن ذلك لَم يكن متاحًا للوزراء والسلاطين الحكَّام، فكان لا يمكن لأي مِن هؤلاء حتَّى الحلم بالحصول على الخلافة باغتيال الخليفة، لكن كانت هناك طرق عديدة يستطيع مِن خلالها الوزير أو السلطان أو الأمير الوصول للحكم خاصَّةً إذا كان الخليفة ضعيفًا، وذلك بقَتل أو خلع الخليفة وتعيين مكانه أي مِن أولاده أو فرد ضعيف مِن العائلة يمكن التحكُّم فيه بسهولة.

    حدث هذا في الخلافة الأموية، ثمَّ العباسية، حتَّى السلاجقة أنفسهم، وأدَّى تقسيم الدولة لدويلات يحكم كلًّا منها أمير أو سلطان طوال عمره، ويورث الحكم لعائلته، فكان مِن الطبيعي أن ينحاز ولاء هذا الحاكم لحماية حكمه واستقلال مقاطعته عن ولائه للخليفة، وسادت المشاحنات والتفرُّق، وضعفَتِ الأمَّة.

    سبب آخَر هو تكوين الجيوش الإسلامية، كان معظمهم مِن العبيد والمرتزقة، وكان حلمهم صعود السلَّم الاجتماعي، أي الوصول لرتبة وزير أو لمنصب في قصر الخليفة، كان ذلك يعتمد على قدرتهم في استخدام السلاح وبراعتهم فيه، وكانت مكافأتهم إقطاعًا (قطعة أرض يحصل منها على دخل مستمرٍّ في مقابل توفير قوة عسكرية تتناسب مع حجم هذا الدخل)، وقد أدَّى هذا النظام إلى زيادة سلطتهم المادية والإدارية والسياسية على جزءٍ كبير مِن الدولة، وتبعَ ذلك إهمالهم لبناء قاعدة لقيام حكم موَحَّد.

    كان وقتهم مخصَّصًا للدفاع عن مقاطعتهم، أو الهجوم للأخذ بالثأر، أو الاستيلاء على مقاطعة مجاوِرة، وأصبح العنف قانون الدولة حتَّى خرج عن نطاق السيطرة.


    John Man, SALADIN. DA Capo Press, New York 2016. P. 6-7↩︎

    4- تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، بيروت، لبنان، 2002م، ص 15-53.↩︎

    Anne- Marie Edde. SALADIN. Paris 2008. Translated by Jane Marie Todd, from French to English, Harvard University Press, USA, 2014. P 15.↩︎

    Anne- Marie Edde. SALADIN. Paris 2008. Translated by Jane Marie Todd, from French to English, Harvard University Press, USA, 2014. P 18.↩︎

    الفصل الثاني

    عماد الدين زنكي

    آق - سونقور، كان مِن الضبَّاط المفضَّلين للحاكم مالك شاه، أحد أشهَر الحكام السلاجقة.

    كان محبوبًا ومخلصًا في عمله، فاعتمد عليه في كثير من الأمور، وهو ما جعله ينال ثقته، فزادت منزلته¹، وأدَّى ذلك لزيادة أعدائه، فدفَع نتيجة إخلاصه باغتياله عام ١٠٩٤ م، وقد ترَك ولدًا عمره عشر سنوات، هو عماد الدين زنكي.

    لَم ينسَ الحكَّام فضل أبيه، فتولَّوا رعاية زنكي، وأشرفوا على تعليمه وتدريبه، وكان حاكم بلاد ما بين النهرين (الجزيرة في العراق والشام) كوردوجا العظيم يصطحب زنكي للمعارك، ويوصي جنوده بحمايته، وكان عماد الدين يظلُّ معهم حتَّى ينتصروا. وظَلَّ يحظَى بهذه الرعاية إلى أن اشتدَّ عوده، وطالت قامته، وأصبحَت له عيون ثاقبة وشخصية عسكرية ملتزِمة².

    توالى على الموصل خَمسة حكَّام متتالون كلٌّ بَعد الآخَر يعتني بزنكي ويزيده حبًّا وعطاءً، حتَّى بلغ الثامنة والثلاثين، فتعلَّمَ بخلاف العسكرية أمور القصور السياسية مِن دسائس وكيفية نشر الجواسيس.

    في إحدى الغزوات على طبرية كان منضمًّا للجنود، ونجحوا في طرد كتيبة مِن الفرسان الصليبيين، ثمَّ تابعهم زنكي وهم يفرُّون مِن باب المدينة شاهرًا سيفه. ونظر خلفه لِلَحظة، فوجد أنَّ جنوده توقَّفوا عن الملاحقة، وأنَّه أصبح وحيدًا يلاحق العدو، انتظَر قليلًا كي يلحق به جنوده، ولكنَّهم لَم يفعلوا وتركوه وحيدًا مع العدو المنسحِب، فاضطُرَّ للرجوع، وقد انتشرَت هذه القصة بسرعة، واكتسَب مِن يومها لقب الشَّامي.

    أظهر عماد الدين زنكي تفوُّقًا عسكريًّا ظاهرًا فيما يلي مِن أحداث، وتمَّ تعيينه واليًا على واسط والبصرة في عام ١١٢٤ م³.

    أراد عرب جنوب العراق (ساكِنو المستنقعات التي يصبُّ فيها كلٌّ مِن دجلة

    والفرات) استرجاع سيطرتهم على تلك الأراضي الخصبة شمالًا، ولكن فشلَت كلُّ محاولاتهم بسبب عماد الدين زنكي.

    في الأول مِن مارس عام ١١٢٣م قامت معركة بين العرب والخليفة، كان يقود العرب دبيس بن صدقة مِن قبيلة أسد، فزحف بجيشه يحتلُّ مدنًا في اتِّجاه بغداد، لَم يكن الخليفة العباسي المسترشِد متقاعسًا، فقد جمع حُرَّاسه الأتراك، وزحف يقود جيشه وهو يرتدي عباءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعِمامة سوداء، وعبَر الجيش النهر، والتَقَى بوالي الموصل البرصقي، وعماد الدين زنكي والي البصرة، وقاضي القضاة، ورئيس العلماء، ومجموعة مِن النبلاء، وبمجرَّد نزوله مِن على الفَرس خَرَّ الجميع ساجدين يقبِّلون الأرض، ثمَّ استقبلَهم الخليفة المسترشد في خيمته كلٌّ على حِدة، يتعهَّدون له بالطاعة والولاء.

    التقى الجيشان عند التقاء النهرين، كان الجيش العربي يتكوَّن مِن عشرة آلاف فارس واثني عشر ألفًا مِن المشاة، أمَّا الخليفة ومَن معه فكان جيشهم يتكوَّن مِن ثمانية آلاف فارس وأقَل مِن خمسة آلاف مِن المشاة.

    تمركز الخليفة في الخلف مِن وسط الجيش ليرى كل شيء، وكان أمامه شيخان كلٌّ منهما يُمسك بمصحف مفتوح، يرتِّلان القرآن تباعًا.

    كان عماد الدين زنكي يقود الجناح الأيسر، بدأَتِ المعركة بهجمتين بارعتين للجيش العربي، وكادت جنود الخليفة أن تفرَّ هربًا، إلَّا إنَّ زنكي هجم عليهم مِن الجانب الأيسر، وبمساعدة البرصقي نجحا في دفع جيش العرب إلى النهر.

    انتهَتِ المعركة بانتصار الخليفة، وتمَّ قتل الأسرى جميعهم، وهرب دبيس⁴، وكانت مكافأة زنكي زواجه مِن أرملة السلطان كوندوغلي، وتنصيبه واليًا على الموصل وبلاد ما بين النهرين (الجزيرة).

    كان لزنكي أسلوب خاص في الحكم، فقد كَوَّن شبكة مِن المفتِّشين، ونشرَهم في أنحاء البلاد تراسله بالأخبار، وعَيَّن شبكة أخرى مِن الجواسيس تراقبهم وتؤكِّد له صحة كلام المفتِّشين.

    كانت له عيون في كل مكان، حتَّى قصور الأمراء والسلطان.. كان هناك عدد مِن المراسلين يأتون بأخبار مكتوبة مِن كلِّ جهة كلَّ يوم، حتَّى تفاصيل ما يفعله السلطان طوال اليوم⁵.

    لَم يكن عماد الدين زنكي مهمِلًا أو ليِّنا في التعامل مع موظَّفيه⁶، ويُحكَى أنَّه فاجأ المراكبي الخاص به نائمًا بدلًا مِن أن يكون متيقِّظًا ينتظر سيِّده، فوجئ المراكبي بزنكي واقفًا أمامه، فخَرَّ ميِّتًا في الحال.

    كان خَدَمه وعبيده يشتكون مِن معاملته الخشنة لهم، ولهم الحق في ذلك، فمع شراسة طباعه كان لا يَقبل أن يعامل أحد قوَّاده النَّاس بتلك المعاملة.. كان يقول: لا يجب أن يكون هناك أكثر مِن طاغٍ واحد في نفس الزمن وفي نفس البلد.

    قيل إنَّه في إحدى الغزوات علمَ أنَّ أحدًا مِن أكفأ قادته قد طَرد عائلة يهودية مِن بَيتهم إلى الخلاء البارد كي يستخدم البيت كمسكن للعسكر، فذهب لهذا القائد، ووقف أمامه، ونظر إليه نظرة واحدة مِن دون كلام، خرج بعدها القائد والعسكر، ونصَبوا خيمة في العراء، وأمضَوا ليلتهم تحت المطر، ورجعَتِ العائلة لبيتها.

    كان عماد الدين زنكي يكافئ العمل الحسن والطاعة، أمَّا إهانة وظلم الناس فكانت غير مسموح بها مطلقًا، وخاصّةً النِّساء اللائي كان لهنَّ وضع ومعاملة راقية؛ فلَم يحصلن على احترام وتقدير في عهد أي حاكم مثلما حصلنَ عليه في عهد زنكي.

    كانت زوجات المقاتلين في حمايته الخاصة، وقد بلغَه ذات مرَّة أنَّ أحد الولاة تعرَّضَ لامرأة، فعاقَبه بقَلع عينه وقَطع عضوه الذَّكري.

    كتبَت مراجع غربية كيف ارتكب عماد الدين زنكي جرائم، وصوَّرَته بصورة بشعة، حتَّى إنَّ الصليبيِّين كانوا يُطلِقون عليه زنكي الدموي.

    يقولون إنَّه كان يزيل فروة رأس الأعداء المهمِّين، ويشنق فقط الأقَلَّ أهميَّة، وعندما ينفي ضبَّاطه المقصِّرين كان يذكِّرهم بقوَّته وجبروته بخَصي أولادهم، وإذا هرب أحد جنوده كان يأمر أن يُشَقَّ زميلان له مِن الوسط.

    كان يشرب الخمر، وكانت تصرُّفاته أحيانًا لا تُذكَر مِن قسوتها⁷، ومع ذلك كانت له حكمة عظيمة، حيث كان يفرِّق مخزون الأموال بين القلاع وفي أنحاء البلاد، ولا يجعلها كلها في مكان واحد، ويقول: إذا كانت كل الأموال في مكان وأنا بآخَر، وحدَثَ حادث، لن أنتفع بها، وضاعَت، أمَّا إذا كانت متفرِّقة رجعَت إلى بعضها.

    كان ردُّ فِعل تلك السياسة في الحكم انتشار السلام، والطمأنينة، والرخاء، وزيادة في إنتاج المحاصيل الزراعية، وفي البناء والتعمير.

    كان عماد الدين زنكي شخصية فريدة، صارمًا وحازمًا، وقائدًا يعشق النظام والضبط والربط، ويعرف كيف يكتسب ثقة واحترام جنوده، مع ذلك كان يكره الرفاهية، فعندما يدخل مدينة كان يترك قصورها، ويقيم في خيمة خارج أسوارها.

    زاد طموح عماد الدين زنكي في غرب الشام ودمشق، ولتحقيق هذا الطموح كان يجب عليه التصدي لعائقَين: الصليبيين، وأمراء مقاطعات مختلفة، كان أكثرهم نشاطًا وقوَّة حاكم ديار بكر، ويُدعَى داود الذي أصبح لا بدَّ مِن التعامل معه قبل أن يفكر زنكي في سوريا؛ لذا اتَّجَهَت أوَّل حملاته إلى جزيرة ابن عمر التي كانت تهدد الموصل.

    عبَر عماد الدين زنكي بجيشه نهر دجلة، مجموعة عَومًا وأخرى بمراكب، عاونهم سكان المدينة حتَى دخلوها في الوقت المناسب؛ ففي اليوم التالي حدث فيضان وأصبح مِن المستحيل عبور النهر، ثمَّ زحف الجيش إلى نصيبين (على حدود تركيا وسوريا)، وحاز عليها بلعبة ماكرة، فقد أمسك بواحد مِن الحمام الزاجل للعدو، وقام عماد الدين زنكي بتغيير الرسالة المبعوثة، ونتج عن هذا استسلام فوري لمدينة نصيبين وهروب داود⁸.

    تبقى خطر مدن شمال الفرات التي كانت ملك الصليبيين، وكانت محميَّة بأكثر جنودهم شراسة، وعلى رأسهم جوسيلين دي كورتني؛ لذا فضَّل زنكي التفاوض للهدنة، وحصل عليها بالفعل، وخلَت له الساحة للتعامل مع سوريا.

    وصلَته رسالة مِن حلب طالبة الحماية مِن خطر الصليبيين، فعبَر بجيشه نهر الفرات، ووصل حلب، حيث استُقبِل بالترحاب، وبعد سَنة في حلب زحف إلى قلعة الأتارب على مسيرة يوم غربًا، فقد كانت دائمًا مصدر إزعاج لحلب لموقعها وتفوُّق جنودها.

    قام عماد الدين زنكي بحصار القلعة، وقاوم دفاعاتها، بعثَتِ القلعة استغاثة لملك القدس بولدوين، فزحف بجيش كبير مِن الفرسان والمشاة الأمراء والأعلام والصلبان لملاقاة عماد الدين زنكي، فاقترَح مستشارو زنكي الانسحاب لحلب، لكنَّه أبَى وزحف لاستقبال جيش الصليبيين.

    بدأَت معركة حامية، تقدَّم زنكي وجنوده وهو يصيح في أعدائه ذوقوا طعم جهنم⁹.

    انهزَم الصليبيون هزيمة منكرة، واستطاع القليل منهم الهروب لسرد القصة.

    عاد عماد الدين زنكي لقلعة الأتارب التي استسلمَت، ثمَّ عاد إلى الموصل ليداوي جراح جنوده، وقد أصبح له صيت عالٍ وشهرة مدوِّية للشجاعة والإقدام والبسالة.

    قضى زنكي أربع سنوات يرعَى أحوال البلاد؛ فقد بدأَتِ الحالة السياسية في الغليان بعد وفاة السلطان، ودخلَ العراق فترة تطاحُن بين السلاجقة والخليفة والسلاجقة فيما بينهم.

    في عام ١١٣٢م طلب مسعود مِن زنكي التدخُّل العسكري في معارك بين مسعود وأخيه بهروز، هُزِم عماد الدين زنكي، وفر مجروحًا إلى تكريت حيث نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين) عمدة تكريت، الذي تولَّى العناية به، ورتَّب له وجنوده مراكب تُبحِر بهم شمالًا للموصل، ولَم ينسَ زنكي هذا الفضل طوال عمره¹⁰.

    ظنَّ الخليفة أنَّ الفرصة سانحة لاسترداد الموصل مِن زنكي، فزحف إليها بجيشه، وحاصر المدينة، ولكنَّ زنكي استطاع أن يحاصر جيش الخليفة، حيث أصبح الخليفة وأعوانه محاصَرين بين سور المدينة وجيش زنكي، فاستسلم الخليفة، وفضَّل الرحيل.

    قام عماد الدين زنكي بعدَّة محاولات فاشلة للحصول على دمشق، ولَم يستطِع الاستفادة مِن الصراع السياسي وانهيار الحكم فيها، ومع هذا استطاع الحصول على حمص بالزواج مِن أمِّ أمير دمشق.

    وبعد عام فتَح بعلبك، وولَّى الحكم فيها لنجم الدين أيوب والد صلاح الدين، وفي عام ١١٣٧ م أطاح بجيش الفرنج في موقعة مونتفيراند¹¹، وأخذ مدنًا وقلاعًا مِن محافظة اللاذقية، وبعدها بعام دافع ببسالة عن الشام ضد هجوم رهيب مِن الإمبراطور البيزنطي جون كومينوس، فقد خرج الإمبراطور من القسطنطينية بمائة ألف محارب، فنزل على أنطاكية، فصالحه صاحبها بالمال، ثمَّ انضمَّ له جيش مِن الصليبيين الروم المقيمين في الشرق، وتحالف معهم حاكم دمشق المسلم معِين الدين أنر.

    أمام هذا التجمُّع فضَّل زنكي الرجوع للموصل ليعيد حساباته، ولتجهيز ما يلزم، وزحف الإمبراطور فقهرَ مدنًا متتالية، مثل بيزا، وكفر تاب، ثمَّ حاصر شيزر، ففي أبريل ١١٣٨ م وصلَت لعماد الدين زنكي استغاثة مِن شيزر، فاتَّجَه بجيشه غربًا، وكان يعلم أنَّ قوَّته لا تكافئ قوَّة العدو، فلجأ لأساليب أخرى، منها هجمات لجنوده يتبعها فِرار سريع لاستنزاف العدو، ونشر شائعات بقرب وصول إمدادات، ودفع رشاوى كثيرة، كلُّ هذا أدَّى إلى إحباط عزيمة الإمبراطور، إضافة إلى غفلة ولا مبالاة أمراء الروم، فبعد أربعة وعشرين يومًا مِن الحصار انسحَب كلب الروم تاركًا معدَّاته، ومنها ثمانية عشر منجنيقًا استحوَذ عليها زنكي، وانتهَت مغامرة الإمبراطور بالفشل¹².

    ازدادت قوَّة التحالف بين دمشق والصليبيين، حيث وافق أنر على دفع مبلغ عشرين ألف قطعة ذهب سنويًّا لملك القدس، والتنازل له عن بانياس لو استطاع أخْذها مِن زنكي وطرْده مِن الشام، لكن زنكي وفَّر عليهم التعب، ورجع بجنوده للموصل، تاركًا بعلبكَّ لنجم الدين أيوب والد صلاح الدين.

    المصدر: www.britannica.com

    كانت مدينة الرُّها (إيدسا) مِن أوَّل المدن المهمَّة التي وقعَت تحت احتلال الحملة الصليبية الأولى، كانت أهمِّيتها للمسلمين هو موقعها في شمال الجزيرة (المنطقة بين نهرَي دجلة والفرات)، وللمسيحيِّين كونها أول مدينة تعتنق الديانة المسيحية تحت حكم الملك أجبار، كان بها قبرَا اثنَين مِن الحواريِّين.. توماس وثاديوس، وكان معظم أهلها مِن الأرمن.

    في عام ١١٤٤م اتَّجَه زنكي في حملة شرقًا لنَهر دجلة، وانتهَز هذه الفرصة الكونت جوسلين الثاني حاكم الرُّها، فتركها واتَّجَه نحو الغرب، وأبلَغ جهاز المخابرات هذه المعلومة لزنكي الذي استدار بجيشه في اتجاه الرُّها، فحاصرها وضربها بالمجانيق، وتمَّ هدم جزءٍ مِن سُورها، ودخل الجيش واستولى عليها في ٢٣ ديسمبر ١١٤٤م، فقتل كل الرجال، وأخذوا النساء والأطفال سبايا فيما عدا المسيحيِّين الشرقيِّين الذين حصلوا على السلام في بيوتهم، وأطلق سراح ألف وخمسمائة مِن الأسرى المسلمين.

    الكنائس الغربية دُمِّرَت وبُنِيَت مساجد بدلًا منها، لكن تمَّ استثناء الكنائس الشرقية أما النعوش الفضية للملك أبجار والحواري ثاديوس فقد تم الاستيلاء عليها.

    بدأ زنكي بترميم الأسوار التي دُمِّرَت وإصلاح كلِّ ما تلف في الحرب كي تكون المدينة مقبولة للعيش وقادرة على الدفاع عن نفسها.

    كانت الموقعة كارثة للصليبيين، ونصرًا عظيمًا للخليفة في بغداد الذي أنعَم على زنكي بكثير مِن الألقاب زين الإسلام، الأمير المنتصر، عون المؤمنين¹³.

    تُعَدُّ هذه السَّنة بداية حلم تحرير القدس والشرق مِن الغزو الصليبي، بدأ الشعراء حملة دِعائِيَّة موسَّعة للحثِّ على التعاون مع زنكي لتحقيق هذا الحلم، خاصةً بعد حصوله على هذه الشرعية مِن الخليفة في بغداد.

    وُصِفَت موقعة الرُّها بــ غزوة الغزوات، استسلمَتِ المدن المجاوِرة تباعًا، وتحرَّر نهر الفرات مِن بغي الكفَّار، ظهَر الحقُّ وزهق الباطل، وظلَّ هذا النصر مصدر حديث للعالم الشرقي والغربي معًا.

    يقال إنَّ الملك روجر ملك صقلية كان يعاير شيخًا مسلمًا بعدما تمكَّنَت جيوشه مِن هزيمة الشرقيين في صقلية، فيقول له: أين كان نبيُّكم ليدافع عنكم؟ فردَّ الشيخ: كان يعاون في فتح الرُّها.

    ضجَّ الحاضرون بالضحك، ثمَّ توقَّفوا بعد ملاحظة استياء الملك.

    استمرَّ عماد الدين زنكي في إدارة شؤون الأراضي المكتسبة. كان عمره ٦٢ عامًا، وكان مليئًا بالنَّشاط والحيوية.

    وفي ١٤ سبتمبر ١١٤٦م أثناء معركة عند قلعة جعبر على ضفاف الفرات، تسلَّل في الليل ثلاثة مِن عبيده الخَدم إلى الخيمة وهو نائم بغية سرقة بعض الطعام والشراب، أفاق زنكي من الصوت، فسبَّهم ونهرَهم، ورجَع إلى النوم، خاف العبيد ممَّا سيحدث لهم في الغد، فاجتمعوا عليه وطعنوه بسيفه.

    كانت الضربة القاتلة بواسطة أحد عبيده (ياروكتاش)، وهرب العبيد الذين كانوا يعيشون ويأكلون مِن خيره.

    انشغل أبناؤه بتقسيم الميراث وإرضاء ولي العهد، وأُصيب الجيش بحالة مِن الشلل والبؤس، وتناثروا في حزن واستسلام، تركوا الرجل الذي أطعمهم وقادهم في كل هذه المعارك والانتصارات وحيدًا في خيمته¹⁴.

    ولَم ينتبه للواجب إلا مجموعة مِن الغرباء الذين تعاملوا مع رفاته، فحملوه على سفينة إلى الرقَّة، ودفنوه بها، وبَعد مُضِيّ سنين رفع نور الدين محمود قبَّة فوق ضريحه.

    فرح الصليبيون لرحيل عماد الدين زنكي، لكنَّه ترك عملًا لَم يستطِع أيٌّ منهم القضاء عليه.

    وخلَف

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1