Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

التفسير الوسيط للواحدي
التفسير الوسيط للواحدي
التفسير الوسيط للواحدي
Ebook1,221 pages7 hours

التفسير الوسيط للواحدي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

فإنَّ القرآنَ الكريمَ كلامُ الله -تعالى- ومعجزتُه العظيمة التي أعجزَ بها كلَّ لبيبٍ فصيح بليغ، ولقد تسابقَ العلماء على مدار تاريخ الأمّة في نيل شرَف تفسير كتاب الله -تعالى- وبيان معانيه، ووضَعُوا علومًا كثيرة تتعلق بكتاب الله -تعالى-.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateApr 12, 1901
ISBN9786458485866
التفسير الوسيط للواحدي

Read more from الواحدي

Related to التفسير الوسيط للواحدي

Related ebooks

Related categories

Reviews for التفسير الوسيط للواحدي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    التفسير الوسيط للواحدي - الواحدي

    الغلاف

    التفسير الوسيط للواحدي

    الجزء 6

    الواحدي

    468

    فإنَّ القرآنَ الكريمَ كلامُ الله -تعالى- ومعجزتُه العظيمة التي أعجزَ بها كلَّ لبيبٍ فصيح بليغ، ولقد تسابقَ العلماء على مدار تاريخ الأمّة في نيل شرَف تفسير كتاب الله -تعالى- وبيان معانيه، ووضَعُوا علومًا كثيرة تتعلق بكتاب الله -تعالى-.

    تفسير سورة حم الدخان

    مكية، وهي خمسون وتسع آيات.

    828 - أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَقْبُرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ» .

    بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2} إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ {3} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ {4} أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ {5} رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {6}} [الدخان: 1-6] {حم {1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ {2}} [الدخان: 1-2] قال ابن عباس: يريد القرآن، وما أنزل فيه من البيان، والحلال والحرام.

    {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] يعني: ليلة القدر، قال مقاتل: كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي، على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر.

    وقد ذكرنا بيان هذا عند قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185] .

    وقوله: فيها في تلك الليلة المباركة، يفرق يفصل ويبين، من قولهم: فرقت الشيء أفرقه فرقًا، {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] والأمر الحكيم: المحكم، يعني: أمر السنة إلى مثلها من العام القابل.

    قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر، ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق، والآجال، حتى الحجاج يقال: يحج فلا، ويحج فلان.

    وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى.

    {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 5] قال الزجاج: أمرًا نصب ب يفرق بمنزلة فرقًا، لأن أمرًا بمعنى: فرقًا.

    والمعنى أنا نأمر ببيان ذلك، ونسخه من اللوح المحفوظ، {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 5] محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام.

    {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 6] قال ابن عباس: رأفة مني بخلقي، ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل.

    نصبه على أنه مفعول له على تقدير للرحمة، وقال الزجاج: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] للرحمة.

    {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [الدخان: 6] لمن دعاه، العليم بخلقه.

    {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ {7} لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ {8} بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ {9}} [الدخان: 7-9] .

    {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الدخان: 7] بالرفع على قوله: هو السميع العليم رب السموات، وبالخفض على البدل من ربك في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 6]، وما بينهما من الخلق والهواء، {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان: 7] بذلك، وهو أنه لا إله غيره.

    بل هم يعني: الكفار، في شك من هذا القرآن، يلعبون يهزءون به، لاهين عنه، وقال ابن عباس: في ضلال يتمادون.

    {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ {10} يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ {12} أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ {13} ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ {14} إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ {15} يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ {16}} [الدخان: 10-16] .

    فارتقب فانتظر يا محمد، {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على قومه لما كذبوه، فقال: «اللهم سبعًا كسنين يوسف» .

    فأجديت الأرض، فأصابت قريشًا المجاعة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان.

    829 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ العفار، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا سُفْيَانُ، نا الْأَعْمَشُ وَمَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الْإِسْلامِ فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ»، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَقَوْمُكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ".

    {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ {12} أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ {13} ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ {14} إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ {15} يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ {16}} قوله: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] إلى قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فكشف عنهم، ثم عادوا إلى الكفر، فذلك قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] وذلك يوم بدر.

    رواه البخاري، عن محمد بن كثير.

    قوله: يغشى الناس، من صفة قوله: بدخان، والناس هم أهل مكة، وهم الذين يقولون: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ {11} رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} [الدخان: 11-12] الجوع والدخان، إنا مؤمنون بمحمد، والقرآن.

    قال الله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} [الدخان: 13] التذكر والاتعاظ، يقول: كيف يتذكرون ويتعظون، وحالهم أنه {قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان: 13] ظاهر الصدق، والدلالة.

    {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الدخان: 14] أعرضوا عنه، ولم يقبلوا قوله، وقالوا معلم أي: هو معلم، يعلمه بشر، مجنون بادعائه النبوة.

    قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} [الدخان: 15] يعني: عذاب الجوع، قليلًا أي: زمانا يسيرا، قال مقاتل: يعني: إلى يوم بدر.

    {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] في كفركم، وتكذيبكم.

    {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] أي: واذكر لهم ذلك اليوم، يعني: يوم بدر، وهذا قول الأكثرين، قالوا: لما كشف عنهم الجوع، عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم بيوم بدر.

    وقال الحسن: البطشة الكبرى يوم القيامة.

    وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة.

    ومعنى البطش: الأخذ بشدة، إنا منتقمون منهم ذلك اليوم.

    {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ {17} أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {18} وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ {19} وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ {20} وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ {21}} [الدخان: 17-21] .

    {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} [الدخان: 17] بلونا قبل هؤلاء، قوم فرعون بإرسال موسى إليهم، وهو قوله: {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17] على ربه، وقال مقاتل: حسن الخلق.

    {أَنْ أَدُّوا} [الدخان: 18] بأن أدوا، {إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان: 18] هذا من وقول موسى لفرعون وقومه، يقول: أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير، فإنهم أحرار.

    كما قال: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105]، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18] على الرسالة.

    {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان: 19] لا تتجبروا عليه، بترك طاعته، {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 19] بحجة بينة، تدل على صدقي.

    فلما قال هذا، توعدوه بالقتل، فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] تقتلون.

    {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} [الدخان: 21] لم تصدقوني، فاعتزلون فاتركوني، لا معي ولا علي، وقال ابن عباس: فاعتزلوا أذاي.

    {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ {22} فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ {23} وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ {24} كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ {29}} [الدخان: 22-29] .

    فكفروا ولم يؤمنوا {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ} [الدخان: 22] بأن هؤلاء، قوم مجرمون قال الكلبي، ومقاتل: مشركون، لا يؤمنون.

    فأجاب الله دعاه، وأمره أن يسري، وهو قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا} [الدخان: 23] يعني: من آمن به من بني إسرائيل، إنكم متبعون يتبعكم فرعون وقومه، أعلمه الله أنهم يتبعونهم، إذا سروا ليلًا لطلبهم.

    ثم يكون ذلك سببًا لغرقهم {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] أي: ساكنًا، والرهو: مشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوًا فهو راه، ويقال لكل شيء ساكن، لا يتحرك: راه.

    قال مجاهد: رهوًا ساكنًا كما هو، أي: كهيئته بعد أن ضربه.

    يقول: لا تأمره يرجع، اتركه حتى يدخله آل فرعون وجنوده.

    وقال قتادة: لما قطع موسى البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] أي: كما هو.

    ونحو هذا قال مقاتل.

    والمعنى: اترك البحر راهيًا، أي: ساكنًا على حاله، فسمي بالمصدر، أو يكون المعنى: ذا رهو، فحذف المضاف، وقال ابن عباس: اتركه طريقًا.

    والرهو يكون بمعنى الفرجة بين الشيئين، قال الأصمعي: ونظر أعرابي إلى فالج، قال: سبحان الله رهو بين سنامين! ويكون المعنى على هذا: ذا رهو، أي: ذا فرجة، يعني: الطريق الذي أظهره فيما بين الماء، قوله: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24] أخبر الله موسى أنه يغرقهم، ليطمئن قلبه في ترك البحر كما جاوزه.

    ثم ذكر ما تركوا بمصر من عقارهم، ومساكنهم، فقال: كم تركوا يعني: بعد الغرق، من جنات والآية مفسرة في {[الشعراء.

    ونعمة وعيش لين رغد،] كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [سورة الدخان: 27] مفسر فيما تقدم.

    كذلك قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني.

    {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 28] صيرناها إليهم، وأعطيناهم إياها، كما قال في الشعراء: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] .

    {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] .

    830 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كوثر، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلا وَلَهُ بَابَانِ بَابٌ يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ بَكَيَا عَلَيْهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] .

    وفي غير هذه الرواية، أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا تبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم كلام طيب، ولا عمل صالح، فيفقدهم، ويبكي عليهم، وهذا قول جماعة المفسرين، قالوا: لم تبك عليهم مصاعد أعمالهم من السماء، ولا مواضع سجودهم من الأرض.

    وقال مجاهد: ما مات مؤمن، إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا.

    {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة، ولا لغيرها.

    {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ {30} مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ {31} وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {32} وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ {33}} [الدخان: 30-33] .

    {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان: 30] يعني: قتل الأبناء، واستخدام النساء، والتعب في العمل.

    {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 31] كان جبارًا عاصيًا من المشركين، والعالي في الإحسان صفة مدح، والعالي في الإساءة صفة ذم.

    ولقد اخترناهم يعني: بني إسرائيل، على علم علمه الله فيهم، على العالمين على عالمي زمانهم.

    {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} [الدخان: 33] يعني: فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، والنعم التي أنعمها عليهم، وهو قوله: {مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33] أي: نعمة ظاهرة.

    ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، فقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ {34} إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ {35} فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {36} أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ {37}} [الدخان: 34-37] .

    {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ {34} إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى} [الدخان: 34-35] ما الموتة إلا موتة نموتها في الدنيا، ثم لا بعث بعدها، وهو قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35] بمبعوثين.

    {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} [الدخان: 36] أي: ابعثوهم لنا، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان: 36] في البعث بعد الموت.

    ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية، فقال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] أي: ليسوا خيرًا منهم، يعني: أقوى وأشد وأكثر، قالت عائشة رضي الله عنها: «وكان تبع رجلًا صالحًا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه، ولم يذمه» .

    قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ {38} مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {39} إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ {40} يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {41} إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {42}} [الدخان: 38-42] .

    {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] قال مقاتل: لم نخلقهما عابثين لغير شيء.

    {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الدخان: 39] أي: للحق، يعني: الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ولكن أكثرهم يعني: المشركين، لا يعلمون.

    قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [الدخان: 40] يعني: يوم يفصل الرحمن بين العباد، ميقاتهم ميعادهم، أجمعين يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون.

    ثم نعت ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41] لا ينفع قريب قريبًا، ولا يدفع عنه شيئًا، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41] لا يمنعون من عذاب الله.

    {إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان: 42] يريد: المؤمنين، فإنه يشفع بعضهم في بعض، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} [الدخان: 42] في انتقامه من أعدائه، الرحيم بالمؤمنين.

    قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ {43} طَعَامُ الأَثِيمِ {44} كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ {45} كَغَلْيِ الْحَمِيمِ {46} خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ {47} ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ {48} ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ {49} إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ {50}} [الدخان: 43-50] .

    {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43] تقدم تفسيره.

    طعام الأثيم ذي الإثم، وهو أبو جهل، لعنه الله.

    كالمهل وهو دردي الزيت، وعكر القطران، وقد تقدم تفسيره، {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 45] يعني: بطون الكفار، وقرئ بالتاء لتأنيث الشجرة، ومن قرأ بالياء حمله على الطعام، واختار أبو عبيد الياء، قال: لأن المهل مذكر، وهو الذي يلي الفعل، فصار أولى به، للتذكير وللقرب.

    قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل، لأن المهل إنما ذكر للتشبيه به في الذوب.

    ألا ترى أن المهل لا يغلي في البطون، إنما يغلي ما شبه به، وهو قوله: كغلي الحميم يعني: الماء الحار إذا اشتد غليانه؟ خذوه أي: يقال للزبانية: خذوه، يعني: الأثيم، فاعتلوه العتل: القود بالعنف، يقال: عتله يعتله ويعتله، إذا جره بالعنف، وذهب به إلى مكروه، قال مقاتل، ومجاهد: ادفعوه على وجهه.

    {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان: 47] وسطه، كقوله تعالى: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] .

    {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ} [الدخان: 48] قال مقاتل: إن خازن النار يضربه على رأسه، فيثقب رأسه عن دماغه، ثم يصب فيه ماء حميمًا قد انتهى حره.

    ويقول له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وذلك أنه كان يقول: أنا أعز أهل هذا الوادي، وأكرمهم.

    فيقول له الملك: ذق العذاب، أيها المتعزز المتكرم في زعمك، وفيما كنت تقوله.

    وقرأ الكسائي أنك بفتح الألف، على تأويل: ذق العذاب بأنك، أو لأنك، قال الفراء: أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا.

    ويقول لهم الخازن: إن هذا العذاب، {مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50] تشكون في الدنيا، وتكذبون به.

    ثم ذكر مستقر المتقين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ {51} فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {52} يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ {53} كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ {54} يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ {55} لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {56} فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {57}} [الدخان: 51-57] .

    {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث، والمقام: المجلس كقوله: ومقام كريم، وقرئ بضم الميم، يراد به: موضع الإقامة، ومعنى القراءتين واحد.

    وما بعد هذا مفسر فيما تقدم إلى قوله: كذلك أي: الأمر كما وصفنا، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أي: قرناهم بهن، وليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال: زوجته بامرأة.

    وقال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجًا بهن، كما يزوج النعل بالنعل، أي: جعلناهم اثنين اثنين.

    ونحو هذا، قال الأخفش: جعلناهم أزواجًا بالحور.

    وهن البيض الوجوه، وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها.

    والعين جمع عيناء، وهي: العظيمة العينين.

    {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55] من التخم، والأسقام، والأوجاع.

    {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] أي: سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا، وهذا قول الفراء، والزجاج، وقالا: إلا بمعنى سوى.

    كقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: سوى ما قد سلف، وقال ابن قتيبة: إنما استثنى الموتة الأولى، وهي في الدنيا، من موت في الجنة، لأن السعداء حين يموتون، يصيرون بلطف الله وقدرته، إلى أسباب من الجنة، يلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، ويفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة، لاتصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إياها.

    وقوله: {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 57] أي: فعل الله ذلك بهم فضلًا منه.

    {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {58} فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ {59}} [الدخان: 58-59] .

    {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58] هونا القرآن على لسانك، لعلهم يتذكرون لكي يتعظوا، فيؤمنوا به.

    فارتقب فانتظر بهم العذاب، إنهم مرتقبون منتظرون هلاكك.

    تفسير سورة حم الجاثية

    مكية، وهي ثلاثون وسبع آيات.

    831 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَزَايِمِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الجاثية سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَسَكَّنَ رَوْعَتَهُ عِنْدَ الْحِسَابِ» .

    بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ {3} وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {4} وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {5} تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ {6}} [الجاثية: 1-6] .

    حم مبتدأ، وخبره: تنزيل الكتاب.

    ثم أخبر لما يدل على قدرته، فقال: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] قال مقاتل: إن في خلق، السموات والأرض وهما خلقان عظيمان، لآيات للمؤمنين.

    قال الزجاج: ويدل على أن المعنى في خلق السموات والارض، قوله: وفي خلقكم.

    قال ابن عباس، ومقاتل: وفي خلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانًا.

    {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} [الجاثية: 4] وما يفرق في الأرض من جميع ما خلق، على اختلاف ذلك في الخلق والصور، والمشي، آية على توحيد من خلقها، وقدرته، لقوم يوقنون أنه لا إله غيره، وقرأ حمزة آيات، وكذلك تصريف الرياح آية بالكسر، وهي في موضع نصب، نسقًا على قوله: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ} [الجاثية: 3] على معنى: وإن في خلقكم آيات، ومن رفع فقال الفراء: الرفع على الاستثناف بعد إن تقول العرب: إن لي عليك مالا، وعلى أخيك مال.

    ينصبون الثاني ويرفعونه، والآية التي بعدها ظاهرة وقد تقدم تفسيرها.

    {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [الجاثية: 6] قال ابن عباس: يريد هذا الذي قصصنا عليك من آيات الله نقصها.

    {عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 6] بعد كتاب الله تعالى، وآياته يؤمنون إن لم يؤمنوا بهذا، ومن قرأ بالتاء فعلى تأويل قل لهم يا محمد: فبأي حديث تؤمنون.

    {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {8} وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ {9} مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {10} هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ {11}} [الجاثية: 7-11] .

    {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] كذاب صاحب إثم، يعني: النضر بن الحارث، والآية الثانية مفسرة في {[لقمان.

    ] وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا} [سورة الجاثية: 9] قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئًا.

    {اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 9] رد الكلام إلى معنى: كل في قوله: {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] .

    فلذلك جمع {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] قال ابن عباس: يريد أمامهم جهنم.

    يعني: أنهم في الدنيا، ولهم في الآخرة النار يردونها، ويدخلونها، {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} [الجاثية: 10] من الأموال، شيئًا ولا ما عبدوا من دون الله من الآلهة.

    هذا هدى هذا القرآن بيان من الضلالة، والذين كفروا به، {لَهُمْ عَذَابٌ مَنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية: 11] بالرفع على نعت العذاب، وبالكسر على نعت الرجز، والرجز: معناه: العذاب، كقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59] .

    {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {12} وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {13}} [الجاثية: 12-13] .

    وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [الجاثية: 13] من شمس وقمر، ونجوم ومطر، وثلج وبرد، وماء، {وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجاثية: 13] من دابة، وشجر، ونبات، وثمار، وأنهار ومعنى تسخيره لها هو: أنه خلقها لانتفاعنا بها، فهو مسخر لنا، من حيث إنا ننتفع به على الوجه الذي نريده، وقوله تعالى: جميعًا منه قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه لكم.

    وقال في رواية عكرمة: منه النور، ومنه الشمس، ومنه القمر.

    وقال الزجاج: كل ذلك تفضل منه، وإحسان.

    ويحسن الوقف على قوله: جميعًا ثم يقول: منه أي: ذلك التسخير منه لا من غيره، فهو فضله وإحسانه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] في صنع الله وإحسانه، فيوحدونه.

    {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {15}} [الجاثية: 14-15] قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14] الآية نزلت في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: شتمه رجل بمكة، فهم أن يبطش به عمر، فأمره الله بالعفو، والتجاوز.

    والمعنى: قل للذين آمنوا: اغفروا، ولكنه شبهه بالشرط والجزاء، كقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] وقد مر، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه.

    وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وقوله: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] أي: ليجزي الله الكفار بما عملوا من السيئات، كأنه قال: لا تكافئوهم أنتم، لنكافئهم نحن.

    ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم، والمشركين وأعمالهم، بقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [الجاثية: 15] الآية.

    {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {16} وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {17}} [الجاثية: 16-17] {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [الجاثية: 16] التوراة، والحكم الفهم في الكتاب، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الجاثية: 16] يعني: المن والسلوى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16] تقدم تفسيره.

    قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله، ولا أحب إليه منهم.

    {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية: 17] يعني: العلم بمبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما بين لهم من أمره، فما اختلفوا إلى آخر الآية مفسر في مواضع.

    {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {18} إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ {19}} [الجاثية: 18-19] ثم جعلناك يا محمد، {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية: 18] على دين وملة، ومنهاج وطريقة، يعني: بعد موسى وقومه، {فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] توحيد الله، يعني: كفار قريش، قالوا له: ارجع إلى دين آبائك، فهم كانوا أفضل منك.

    ثم ذكر أن اتباعهم لا ينفعه، ولا يدفعون عنه شيئًا، فقال: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19] لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئًا لو اتبعتهم، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية: 19] يعني: المشركين، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] يعني: المؤمنين، الذين اتقوا الشرك.

    {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {20} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {21} وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {22}} [الجاثية: 20-22] هذا يعني: هذا القرآن، بصائر للناس فسرناها في آخر {[الأعراف.

    قوله:] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [سورة الجاثية: 21] الآية نزلت حين قال كفار مكة للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة من الخير، مثل ما تعطون من الآجر.

    والمعنى: بل أحسب، وهو استفهام إنكار الذين عملوا الشرك، واكتسبوا الآثام، أن نجعلهم في الآخرة كالمؤمنين في الدرجة والثواب، وهو قوله: كالذين آمنوا أي: بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقرآن، وعملوا الصالحات الطاعات من الصلاة والزكاة، وتم الكلام، ثم قال: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] وارتفع سواء بأنه خبر ابتداء مقدم، تقديره: محياهم ومماتهم سواء، والضمير فيهما يعود إلى القبيلين، المؤمنين والكافرين، يقول: المؤمن مؤمن محياه مؤمن مماته، والكافر كافر محياه ومماته.

    والمعنى: أن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه، يريد: أن محيا القبيلين ومماتهم سواء، ومن قرأ سواء نصبًا جعله مفعولًا ثانيًا، على تقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، يعني: أحسبوا أن حياتهم ومماتهم، كحياة المؤمنين وموتهم؟ كلا، فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين، والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وقد ميز الله بين الفريقين: فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في النار، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] بئس ما يقضون، حين يرون أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين.

    أخبرنا أبو نصر المهرجاني، أنا أبو عبد الله بن بطة، أنا أبو القاسم ابن بنت منيع، نا علي بن الجعد، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت أبا الضحى، عن مسروق، قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كرب، أن يصبح يقرأ آية من القرآن يركع بها، ويسجد، ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] الآية، ثم ذكر أنه خلق السموات والأرض، للحق والجزاء {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22] كيلا يظن الكافر أنه لا يجزى بكفره، وأنه يستوي مع المؤمن، وهو قوله: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الجاثية: 22] الآية.

    قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {23} وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ {24} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {25} قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {26} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ {27}} [الجاثية: 23-27] .

    {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه، رمى به وعبد الآخر، فهو يعبد ما تهواه نفسه.

    وقال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئًا إلا ركبه.

    وهو قول عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا هوي شيئًا هو لله سخط اتبعه.

    وهذا كما يقال: الهوى إله يعبد من دون الله، يعني: أن ذا الهوى يترك أمر الله وطاعته لهواه.

    832 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْخَصِيبِ بْنِ جَحْدَرٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَوًى»

    وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] قال سعيد بن جبير: على علمه فيه.

    قال الزجاج: أي: على ما سبق في علمه، أنه ضال قبل أن يخلقه.

    {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} [الجاثية: 23] طبع عليه، فلم يسمع الهدى، وعلى قلبه فلم يعقل الهدى، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] يعني: ظلمة، فهو لا يبصر الهدى، وليس يبقي للقدرية مع هذا البيان في منع الكافر عن الإيمان عذر ولا حيلة، ثم أكد ذلك بقوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] أي: من بعد إضلال الله، أي: من يهديه بعد أن أضله الله؟ أفلا تذكرون فتعرفوا قدرته على ما يشاء.

    وقالوا يعني: منكري البعث، ما هي ما الحياة، {إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ما هم فيه من الحياة، نموت ونحيا قال مقاتل: نموت نحن، ويحيا آخرون ممن يأتون بعدنا.

    وهو قول المفسرين.

    وقال الزجاج: المعنى: نحيا ونموت والواو للاجتماع.

    {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] إلا طول العمر، واختلاف الليل والنهار، قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} [الجاثية: 24] الذي قالوه، من علم أي: لم يقولوه عن علم علموه، قالوه ضلالًا شاكين، وهو قوله: {إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] .

    وما بعد هذا ظاهر التفسير، سابق فيما تقدم، إلى قوله: يخسر المبطلون يعني: المكذبين الكافرين، الذين هم أصحاب الأباطيل، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم بأن يصيروا إلى النار.

    قوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {28} هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {29} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ {30} وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ {31}} [الجاثية: 28-31] .

    {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] جالسة على الركب عند الحساب، كما يجثي بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، قال سلمان الفارسي: إن في يوم القيامة ساعة هي عشر سنين، يخر الناس فيها جثاء على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام ينادي: نفسي، لا أسالك إلا نفسي.

    وقوله تعالى: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28] يعني: إلى كتاب أعمالها، ويقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28] .

    هذا كتابنا يعني: ديوان الحفظة، ينطق يشهد، عليكم بالحق أي: يبينه بيانًا شافيًا، حتى كأنه ناطق، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي: بكتبها، وإثباتها عليكم، وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، تستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه.

    قالوا: والاستنساخ لا يكون إلا من أصل هو أن يستنسخ كتاب من كتاب.

    ثم ذكر الفريقين من المؤمنين والكافرين، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الجاثية: 30] الآية ظاهرة.

    {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الجاثية: 31] فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] يعني: آيات القرآن، فاستكبرتم عن الإيمان بها، {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية: 31] متكبرين، كافرين.

    {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ {32} وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {33} وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {34} ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {35}} [الجاثية: 32-35] .

    وإذا قيل لكم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 32] بالبعث، حق كائن، {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} [الجاثية: 32] والقيامة آتية، كائنة بغير شك، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} [الجاثية: 32] أنكرتموها، {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا} [الجاثية: 32] أي: ما نعلم ذلك إلا حدسًا وتوهما، {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] ما نستيقن كونها.

    {وَبَدَا لَهُمْ} [الجاثية: 33] في الآخرة، {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية: 33] في الدنيا.

    وقيل لهم: اليوم ننساكم نترككم في النار، {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] كما تركتم الإيمان والعمل، للقاء هذا اليوم.

    ذلكم الذي فعلنا بكم، {بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الجاثية: 35] القرآن، هزوا مهزوءًا به، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية: 35] حتى قلتم: إنه لا بعث ولا حساب، {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] من النار، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأن ذلك اليوم لا يقبل فيه منهم عذر، ولا توبة.

    ثم ذكر عظمته، فقال: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {36} وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {37}} [الجاثية: 36-37] .

    {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] .

    {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} [الجاثية: 37] العظمة والجبروت، {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية: 37] .

    833 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيدَانَ الْبَجَلِيُّ، نا كُرَيْبٌ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «الْكِبْرَيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ».

    تفسير سورة حم الأحقاف

    مكية، وهي ثلاثون وخمس آيات.

    834 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا الْمَدَايِنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدِدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» .

    بسم الله الرحمن الرحيم {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2} مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ {3}} [الأحقاف: 1-3] .

    {حم {1} تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2}} [الجاثية: 1-2] ذكرنا نظم هذه الآية في {[الجاثية.

    ] مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [سورة الأحقاف: 3] قال ابن عباس: لم يخلقهما باطلا لغير شيء، ما خلقناهما إلا للثواب والعقاب.

    وأجل مسمى يعني: يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض، وهذا إشارة إلى فنائهما وانقضاء أمدهما، ذكر أن الكفار أعرضوا عن الإيمان، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3] أي: خوفوا به في القرآن من البعث، والحساب والجزاء معرضون.

    قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {4} وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ {6}} [الأحقاف: 4-6] .

    {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأحقاف: 4] مفسر في {[فاطر، إلى قوله:] ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [سورة الأحقاف: 4] من قبل القرآن، فيه برهان ما تدعون من عبادة الأصنام، أو أثارة أي: بقية، من علم يقال: ناقة ذات أثارة، أي: بقية من شحم.

    قال ابن قتيبة: أي: بقية من علم عن الأولين.

    وقال الفراء، والمبرد: يعني: ما يؤثر من علم من كتب الأولين.

    وهو معنى قول المفسرين.

    وقال عطاء: يريد: أو شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وقال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء.

    {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4] أن لله شريكًا.

    ثم ذكر ضلالتهم، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] يعني: الأصنام لا تجيب عابديها إلى شيء يسألونه، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] يعني: أبدًا ما دامت الدنيا، {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] لأنها جماد لا تسمع.

    ثم إذا قامت القيامة، صارت الآلهة أعداء لمن عبدها في الدنيا، وهو قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف: 6] وهذا كقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وذلك أنهم يتبرءون من عابديهم، كقوله: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] .

    ثم ذكر أنهم يسمون القرآن سحرًا، فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ {7} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {8} قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ {9} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {10}} [الأحقاف: 7-10] .

    {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الأحقاف: 7] الآية.

    ويقولون: إن محمدًا أتى به من قبل نفسه، وهو قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [الأحقاف: 8] .

    فقال الله: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف: 8] لا تقدرون على أن تردوا عني عذابه، أي: فكيف أفتري على الله من أجلكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عقابي عني، إن افتريت عليه شيئًا؟ هو أي: الله، {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} [الأحقاف: 8] بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه من التكذيب به، والقول فيه بأنه سحر، وكهانة، {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف: 8] أن القرآن جاء من عند الله، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8] في تأخير العذاب عنكم، حين لا يعجل عليكم بالعقوبة، وقال الزجاج: هذا دعاء لهم من الله إلى التوبة، معناه: أن من أتى من الكبائر بمثل ما أوتيتم به، من الافتراء على الله وعليّ، ثم تاب، فالله غفور له رحيم به.

    قوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ما أنا بأول رسول، قد بعث قبلي كثير من الرسل، والبدع والبديع من كل شيء: المبتدأ، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] أيتركني بمكة، أو يخرجني منها، ويخرجكم؟ وقال الحسن: لا أدري أأموت أم أقتل؟ ولا أدري أيها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم أي شيء يفعل بكم، مما فعل بالأمم المكذبة؟ وهذا إنما هو في الدنيا، فأما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه في النار، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع من عندي شيئًا، {وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9] أنذركم العذاب، وأبين لكم الشرائع.

    قل أرأيتم معناها: أخبروني، أي: ماذا تقولون؟ إن كان القرآن، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] هو أنزله، وكفرتم أنتم أيها المشركون، {بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأحقاف: 10] يعني: عبد الله بن سلام، كان شاهدًا على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نبوته، على مثله المثل صلة، معناه: عليه، أي: على أنه من عند الله، فآمن يعني: الشاهد، واستكبرتم أنتم عن الإيمان به، وجواب قوله: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] محذوف على تقدير: أليس قد ظلمتم.

    ويدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] وقال الحسن: جوابه: فمن أضل منكم؟ كما قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52] الآية، وقال أبو علي الفارسي: تقديره أتأمنون عقوبة الله.

    ومعنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان، أن نمدهم في ضلالتهم، ونحرمهم الهداية.

    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11} وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ {12}} [الأحقاف: 11-12] .

    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأحقاف: 11] يعني: المشركين، للذين آمنوا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {لَوْ كَانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11] لو كان ما جاء به محمد خيرًا، {مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] نظم الكلام يوجب أن يكون ما سبقتمونا إليه، ولكنه على ترك المخاطبة.

    أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الحافظ، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ، أنا أبو العباس الهروي، نا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كانت زنيرة امرأة ضعيفة البصر، فلما أسلمت كان الأشراف من مشركي قريش يستهزئون بها، ويقولون: والله لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله فيها وفي أمثالها هذه الآية.

    {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11] لم يصيبوا الهداية بالقرآن، فسيقولون: إنه كذب، وهو قوله: {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] أي: أساطير الأولين.

    ومن قبله قبل القرآن، كتاب موسى يعني: التوراة، إمامًا يقتدى به، ورحمة من الله للمؤمنين به، من قبل القرآن، قال الزجاج: إمامًا منسوب على الحال.

    وتقدير الكلام: وتقدمه كتاب موسى إمامًا، وفي الكلام محذوف به يتم المعنى، وتقديره: فلم يهتدوا به، ودل عليه قوله في الآية الأولى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11]، وذلك أن المشركين لم يهتدوا بالتوراة، فيتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، ويعرفوا منها صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 12] أي: للكتب التي قبله، لسانًا عربيًا منصوب على الحال، المعنى: مصدقًا لما بين يديه عربيًا، وذكر اللسان توكيدًا، كما تقول: جاءني زيد رجلًا صالحًا، فيذكر رجلًا توكيدًا، لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: مشركي مكة، ومن قرأ بالياء أسند الفعل إلى الكتاب، وبشرى وهو بشرى، يعني: الكتاب للمحسنين الموحدين، يقول: الكتاب لهم بشرى بالجنة.

    قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {13} أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {14}} [الأحقاف: 13-14] .

    {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] تقدم تفسيره.

    قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {16}} [الأحقاف: 15-16] .

    {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15] تقدم تفسيره في {[العنكبوت، وقرئ ههنا إحسانًا والمعنى: أمرناه بالإحسان إليهما، كقوله: وبالوالدين إحسانًا، ثم ذكر ما قاسته الأم في حمل الولد، ووضعه، فقال:] حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [سورة الأحقاف: 15] يعني: حين أثقلت، وثقل عليها الولد، ووضعته كرهًا قال ابن عباس: يريد شدة الطلق.

    {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] يريد: أن مدة حمله إلى أن فصل من الرضاع، كانت هذا القدر، روى عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعته واحدًا وعشرين شهرًا، وإذا حملته ستة أشهر، أرضعته أربعة وعشرين شهرًا.

    وقال

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1