Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري: علم اللغة
علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري: علم اللغة
علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري: علم اللغة
Ebook878 pages6 hours

علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري: علم اللغة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

نعوم تشومسكي هو واحد من المفكرين الأكثر تأثيرا في عصرنا، ولكن وجهات نظره غالبا ما يساء فهمها. في هذه السلسلة غير المنشورة سابقا من المقابلات، يناقش تشومسكي أفكاره الرمزية والمهمة حول اللغة والطبيعة البشرية والسياسة. في حوار مع جيمس ماكجيلفراي، أستاذ الفلسفة في جامعة ماكغيل، تشومسكي يأخذ مجموعة واسعة من المواضيع - طبيعة اللغة، وفلسفات اللغة والعقل والأخلاق والعالمية والعلوم والحس السليم، وتطور اللغة. تعليق مكجيلفراي واسعة النطاق
Languageالعربية
PublisherObeikan
Release dateJan 1, 2021
ISBN9786035039826
علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري: علم اللغة

Related to علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري

Related ebooks

Reviews for علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    علم اللغة - مقابلات مع جيمس ماغيلفري - نعوم تشومسكي

    Original Title

    The Science of Language Interviews with James McGilvray

    Authors:

    Noam Chomsky James McGilvray

    Copyright © Noam Chomsky and James McGilvray 2012

    ISBN-10: 1107602408 ISBN-13: 978-1107602403

    All rights reserved. Authorized translation from the English language edition

    First Published by CAMBRIDGE UNIVERSITY PRESS, The Edinburgh Building,

    Cambridge CB2 8RU (U.K.)

    حقوق الطبعة العربية محفوظة للعبيكان بالتعاقد مع كامبريدج ينيفيرستي بريس. الولايات المتحدة.

    1436 – 2015

    شركة العبيكان للتعليم، 1437هـ

    فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر

    تشومسكي، نعوم

    علم اللغة، مقابلات مع جيمس ماك غيلفراي/نعوم تشومسكي، إبراهيم يحيى شهابي – الرياض 1437ه

    علم اللغة. 2. الذاكرة. أ. الشهابي، ابراهيم يحيى (مترجم) ب. علم العنوان

    ديوي: 401 رقم الايداع: 1437/8822

    الطبعة العربية الأولى 1439ه - 2018م.

    نشر وتوزيع

    المملكة العربية السعودية-الرياض طريق الملك فهد-مقابل برج المملكة

    هاتف: 4808654 11 966+، فاكس: 4808095 11 966+

    ص.ب: 67622 الرياض 11517

    www.obeikanretail.com

    جميع الحقوق محفوظة. ولا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو نقله في أي شكل أو واسطة، سواء أكانت إلكترونية

    أو ميكانيكيـــة، بما في ذلك التصوير بالنسخ (فوتوكوبي)، أو التسجيل، أو التخزين والاسترجاع، دون إذن خطي من الناشر.

    المقدمة

    في حين أن هذا الكتاب سيكون ذا أهمية للمختصين، فهو أيضًا موجّه للمستمعين والقراء عمومًا، وربما يبدو العنوان مثبطًا، أو مخيفًا، بيد أن إسهامات الأستاذ تشومسكي في المقابلات يمكن أن يفهمها الجميع، وحيث إن القراء يريدون معلومات إضافية أو مساعدة على فهم سبب تبني تشومسكي آراء غير عادية، فقد قدَّمت توضيحات واسعة، ومع ذلك، ربما يظل بعضهم يسأل: لماذا ينبغي أن يهتموا بعلم اللغة أساسًا، وبآراء تشومسكي في علم اللغة بوجه خاص؟

    في مسلسل حديث لقناة PBS (يناير 2010م) اسمه (الشرارة الإنسانية The Human Spark)، بطولة ألن ألدا Alan Alda جرى استكشاف مسألة كون الإنسان الحديث مميزًا. بالنتيجة، لا بد من وجود مخلوقات تتصف بالصفات البشرية، خلال مئات آلاف السنين، ولكن الكائنات البشرية بدأت بإظهار مقدرتها المعرفية الشهيرة التي تميزنا عن الشمبانزي وغيره من القرود الأعلى مرتبة فقط منذ نحو خمسين ألفًا إلى مئة ألف سنة خلت. نحن نشكل مجموعات غير متماثلة لا تتضمن اتصالًا مباشرًا، أو معرفة مباشرة مع الآخرين، فلدينا علم ورياضيات، ونسعى إلى تفسيرات مطلقة، وأحيانًا على هيئة دين، ونفكر في الأشياء زمنيًّا ومكانيًّا، وننتج خيالًا وإبداعًا. ونحن ننظم، ونخطط للمستقبل بطرق تتجاوز أي شيء تستطيع القيام به أي مخلوقات أخرى، ونتأمل، ونرسم، ونستخدم أشكالًا أخرى من الإعلام الفني، وننتج الموسيقى ونستمتع بها، ونرى علاقات بين أحداث متمايزة، ونسعى إلى الحصول على تفسيرات موثوقة، وتنتج سياسات جيدة، وهكذا. والنتيجة التي توصل إليها مسلسل PBS هي أن إنتاج اللغة هو بالتأكيد من بين أهم العوامل التي تفسر كيف توافرت لدينا هذه القدرات الشهيرة.

    لهذه النتيجة معنى قائم على أسس مستقلة، إذ لا يمكن للمرء أن يتأمل في أمور بعيدة وقريبة، ويفكر فيها ما لم يكن لديه طريقة لتركيب عدد غير محدود من الأفكار المعقدة التي يستطيع فصلها عن الظروف القائمة واستخدامها لتشمل الأزمنة والظروف العشوائية، فاللغة تمنح المرء هذه المقدرة، إذ لا يستطيع المرء أن ينشئ، وينظم مشروعات تتضمن تعاونًا بين الأفراد ما لم يكن لديه وسيلة للتخطيط الجيد للمستقبل، والاستعداد للطوارئ، ولتحديد أدوار معينة، فاللغة تزودك بذلك، فلن يستطيع المرء أن يقوم بعلم من دون البحث عن تفسيرات أساسية واستخدام الرياضيات ووسائل تحديد الكميات بدقة، فهناك سبب وجيه للاعتقاد أن اللغة تقدم لك -على الأقل- مقدرة لعدّ الأشياء ومقاييسها، وما إلى ذلك، وربما تكون الموسيقى مستقلة عن اللغة، فليس ذلك واضحًا. ومع ذلك، من الواضح أنه لا الموسيقى ولا أي شكل آخر من أشكال الفن يمكن أن يقدم لنا الفوائد المعرفية كلها التي تقدمها اللغة، وأن يجعل هذه المنافع متوافرة لدى البشر كافة، الذين يطورون اللغة أساسًا، فإن اللغة هي الطريقة الثابتة للإفصاح عما يعبر عنه العمل الفني، وإنها الوسيلة التعبيرية الأولية - المبتكرة.

    لذلك، فمن الأسباب التي تدعونا إلى الاهتمام بعلم اللغة أنه ينبئنا بطبيعة اللغات، وبما تعطينا هذه اللغات، ولكن ليست لغات المخلوقات الأخرى، وينبئنا بما يفسر ظهور اللغة وبدايات مقدراتنا المعرفية الملحوظة.

    ومن المهم، بوجه خاص، أن نفهم آراء تشومسكي في هذه المسائل؛ ليس لأنه هو الذي ابتكر فعليًّا علم اللغة الحديث بنفسه، وأثر منذئذ في أعمال كثير من الأفراد الذين أدخلوا باستمرار مزيدًا من التحسينات على هذا العلم، فحسب، بل أيضًا، بسبب ما اكتشفه هو وزملاؤه من أمور تتعلق باللغة -وخصوصًا ما اكتشفوه في السنوات الأخيرة- وتداعيات هذه المكتشفات في مجال الموضوعات ذات الأهمية الواسعة، الموضوعات التي يتبناها تشومسكي في عمله السياسي الشهير، وفي أعماله الفلسفية المهمة على الرغم من أنها أقل شهرة من عمله السياسي. ويرى تشومسكي أن علم اللغة علم طبيعي موضوعي يتعامل مع اللغة بوصفها نظامًا ذا أساس بيولوجي تطور عند الفرد، ثم انتقل جينيًّا إلى سلالته، وإن التطور الذي يصفه تشومسكي -المختلف تمامًا عن قصص التطور التدريجي المألوفة المتعلقة بتطور الأنظمة المعقدة- يوضح بطريقة سلسة كيف نشأت اللغة، وهناك تداعيات مهمة لحقيقة أن اللغة (موضوع طبيعي) وأنها نشأت بفضل نوع من التطور الذي يصفه تشومسكي.

    ومن تداعيات فكرة نشوء اللغة بصورة تطورية، أنها جعلتنا نوعًا من المخلوقات مميّزًا عن سواه، وربما تفسر لنا -بذاتها- ما هو الإنساني في الطبيعة البشرية فإذا كان الأمر كذلك، فهناك تعليل طبيعي وليس دينيًّا، ولا تأمليًّا يعلل تميّزنا وأصول هذا التميّز وإذا كان الأمر كذلك، وبافتراض أن الحاجات الأساسية للمخلوق تعتمد على طبيعته، فإننا سوف نتمكن من اكتشاف أسس طبيعية للآراء المتعلقة بالحياة الجيدة لهذا النوع من المخلوقات. لقد جرى التطرق إلى هذا الموضوع إلى حد ما في البحث، ولكن بصورة تجريبية فقط، مهما كان منظور الأساس العلمي للحياة الجيدة مغريًا: فإن تشومسكي العالم يريد (كما يريد أي عالم) وجود نظرية جيدة لطبيعة الإنسان قبل أن يرغب في تأكيد التزاماته، وليست النظرية موجودة، ومع ذلك، فإن ماهية الحياة الجيدة للكائنات البشرية تُعدّ مهمة جدًّا، بحيث تستدعي البحث، وتتطلب، على الأقل، إجابات تجريبية.

    جوهر هذا الكتاب هو مخطوطة لأربع جلسات مقابلة/ وبحث حظيت بها عام 2004م مع تشومسكي، ولقد حالفني الحظ في يناير من عام 2009م فأجريت مقابلة متابعة حول كمالية الملكة اللغوية، وهو موضوع بارز في برنامج الحد الأدنى Minimalist Program لتشومسكي، وإن الأجزاء ذات الصلة بمخطوطة مقابلة عام 2009م قد وضعت في الأمكنة المناسبة في مخطوطة جلسات عام 2004م.

    لا تحتاج إسهامات تشومسكي إلى تحرير كثير، كحذف الأحاديث التي جرت قبل المقابلات وبعدها، بوجه عام، وإزالة بعض البدايات غير الصحيحة ووضع المراجع، وليست هناك إشارة إلى تلك التغييرات، بل أضفت بعض العبارات والكلمات بين حاصرتين مربعتين، حيث بدا لي أن تعليقاته تحتاج إلى بعض التوضيح؛ ليفهمها القارئ العام، وأما مخطوطة أسئلتي الموجهة إلى تشومسكي، وإسهاماتي في البحث فتتطلب مزيدًا من التحرير، ولم أشر إلى التغييرات التي أجريتها عليها.

    كانت جلسات المقابلات غير رسمية، وهي أشبه بنقاش بين صديقين يتفقان على صفقة كبيرة ويريدان استكشاف مضامين ما صار يعرف بـ (اللسانيات البيولوجية)، أكثر مما هي جلسات رسمية، وبسبب ذلك كان النقاش يقفز أحيانًا من موضوع إلى موضوع آخر، ويعيد طرح موضوعات في قرائن مختلفة. لمساعدة القراء الذين لم يألفوا، أو من هم أقل ألفة بمثل هذه القضايا، ويفضلون استمرارًا أكبر وتنظيمًا أكثر، قمت بإعادة ترتيب بعض أجزاء المخطوطة، وقدمت جزأين ينظمان البحث في موضوعات كبرى، وهي علم اللغة والعقل، ودراسة الطبيعة البشرية، وتابعنا في كل منهما خيوط حوار متنوعة متماسكة، ونظم كل خيط فيها في فصل ذي عنوان خاص به، وحذفت بعض الأمور المتكررة، ولكن بعضها لم يحذف، وكان إبقاء هذا التكرار (الاستدعاء الذاتي) يُعلَّل بأنه يضع موضوعًا سبق بحثه في سياق جديد، حيث نستطيع استكشاف صلته بقضية مختلفة.

    حاولت كذلك أن أقدم نوعًا آخر من العون، إذ من المحتمل أن يأتي القراء إلى هذا النص وهم يحملون افتراضات مختلفة حول اللغة ودراستها، ودرجات متنوعة من الخلفيات في علم اللسانيات وفي فهم تشومسكي للعقل البشري وفي محاولة مني لأساعد القراء الذين يحتاجون إلى بعض الإرشاد، وهم يقرؤون وضعت في صلب متن النص مؤشرات عدة مثل [C] تشير إلى أن هناك تحليلات وتعليقات في جزء منفصل في الكتاب، ويدل على هذه المؤشرات برقم الصفحة التي وردت فيها في النص، أما عندما تكون هذه التحليلات موسعة، فإني أضعها في الملحقات تحت عناوين تشير إلى القضايا المطروحة. وحاولت خلال هذا العمل، أن أقوم بتعليقات وتحليلات مفيدة قدر الإمكان للمدى الواسع من افتراضات الذين يقرؤون هذا الكتاب وخلفياتهم، وقد راجع الأستاذ تشومسكي النص المحرر والمعلق عليه، وأبدى بعض الاقتراحات، فأدت هذه الاقتراحات إلى تغييرات وتحسينات، وأنا ممتن لذلك كله، وبصورة خاصة للاقتراحات التي أدت إلى تحسينات في تحليلاتي وملحقاتي، أما الأخطاء التي ما زالت موجودة فأنا وحدي المسؤول عنها.

    أنا ممتن كذلك جدًّا للنقاشات والمراسلات المتبادلة حول الموضوعات ذات الصلة التي جرت مع آخرين كثر عبر سنوات عدة، ومن بين هؤلاء بول بيتروسكي Paul Pietroski، وتيرجي لوندال Terje Lohndal، وسو دوير Sue Dwyer، وجون ميخائيل John Mikhail، وجرجس ري Georges Ray، وأنا ماريا ديشويلو Anna Maria diSciullo، وسيدريك بوإكس Cedric Boeckx، وروب ستيننتون Rob Stainton، وديفيد بارنرDavid Barner، ومارك بيكر Mark Baker، وسام إيبشتاين Sam Epstein، ونوربيرت هورنشتاين Norbert Hornstein، وليلا غليتمان Lila Gleitman، ولورا بيتيتو Laura Petitto، وولفرام هينزن Wolfram Hinzen، وماتياس ماهلمان Matthias Mahlmann، وليسا ترافيس Lisa Travis، وكثيرون غيرهم، إضافة إلى عدد كبير من الطلبة لا يمكن ذكرهم مهما رغبت في ذكرهم، فأنا مدين لهم جميعًا، وأشكرهم كلهم.

    وأشكر كذلك جاكلين فرينش Jacqueline French لقراءتها وتحريرها النص بعناية وإجراء كثير من التصحيحات، ولقد ثبت أنه عمل مرهق نوعًا ما، وأود أن أشكر كذلك الدعم المالي الجزئي الذي قدمه مجلس كندا للبحوث العلمية الاجتماعية والإنسانية لإعداد هذا الكتاب.

    إن مدى الموضوعات التي تم التعرض لها في البحث واسع، بحيث يشمل الطبيعة الإنسانية، والأخلاقية، والشمولية، والعلم والمفهوم العام، وطبيعة اللغة ودراستها، وتطور آراء تشومسكي بشأنها ومع ذلك، فإن ما يسود البحث هو الموضوعات المتعلقة بعلم اللغة والعقل وتداعياتها في مجال نظريات طبيعة الإنسان وبعض المضامين الاجتماعية. لقد أجريت مقابلات عام 2004م بعد وقت قصير من تقديم تشومسكي لورقة عرفت بورقة (العوامل الثلاثة) في الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية للسانيات عام 2004م (النسخة المنشورة موجودة في الاستقصاء اللغوي Linguistic Inquiry؛ انظر: Chomsky 2005a)، وتركزت أقسام مهمة من البحث على الموضوعات المهمة في تلك الورقة، وكنت قد قرأت مسودة هذه الورقة قبل المقابلة، وربما يرغب القراء في قراءة الورقة، وأقترح أيضًا قراءة مارك هاوزر Marc Hauser، وتيكيوميه فيتش Tecumieh Fitch، وورقة تشومسكي حول ملكة اللغة وتطورها في العلم (Hauser, Chomsky & Fitch 2002). ربما يجد بعضهم البحث التقني الأخير للورقة مثبطًا، ولكن الأجزاء الأولى من الورقة متوافرة للمستمعين الراغبين في قراءتها بعناية، وعلى أي حال، ركز بحثنا على قضايا جرى بحثها في تلك الأجزاء التي يمكن الحصول عليها، وعلى خلفية هذه الأجزاء ومضامينها، وتجنبت مناقشاتنا القضايا التقنية، إلا إذا كانت ضرورية لتوضيح آراء تشومسكي التي ما زالت غير مألوفة وقابلة للجدل حول اللغة والعقل ودراسة اللغة، وبعض مضامين هذه الآراء لفهم الطبيعة البشرية وتداعياتها للسياسة.

    إن ملاحظات تشومسكي تظل في متناول القرّاء العاديين مع بقائها ذات أهمية للمختصين، ما خلا استثناءات طارئة في أثناء بحث القضية التقنية، وحاولت أن أجعل إسهاماتي متيسرة للجميع أيضًا، بهدف جعلها مفهومة للطلبة الجامعيين غير المختصين. ربما يتساءل القراء عن سبب مقارنتي آراء تشومسكي بآراء الفلاسفة، وليس بآراء اللغويين أو (مع افتراض التأكيد الحالي على علم اللغة البيولوجي) بآراء البيولوجيين؟ السبب الأولي هو أن تشومسكي نفسه يفعل ذلك، وأنه لا يتعاطف كثيرًا مع ما يجري في فلسفة العقل وفلسفة اللغة المعاصرتين، وأن مجرد الإشارة إلى كيف أصبح ناقدًا وسبب ذلك، يعطينا نظرة ثاقبة في آرائه وفي كيفية تعليلها، وأن ذلك يربط عمله في اللسانيات ودراسة العقل البشري بموضوعات فلسفية أكثر عمومية وبموضوعات ذات صلة وأهمية بالمعرفة الخلفية لكل فرد.

    يصف تشومسكي نفسه بأنه عقلاني، ويربط آراءه بتراث طويل في الفلسفة وعلم النفس (بوصفها دراسة للعقل) التي تشمل العلماء الفلاسفة، والفلاسفة أمثال ديكارت، وأفلاطونيي كمبردج في إنجلترا (Descartes, the Cambridge Platonists)، وبعض الرومانسيين (ويلهيلم فون همبولدت Wilhelm Von Humboldt، وأ. دبليو شليغل A. W. Schlegel من بين آخرين غيرهما). يتألف المذهب العقلي كما يفهمه تشومسكي من مجموعة اقتراحات -إجرائية أو إستراتيجية أو منهجية- لدراسة العقل البشري، واللغة بوجه خاص، لم يجرِ اختيار المنهجية عشوائيًّا، فقد تم تبنيها لأن العقلانيين يعتقدون أنها تقدم أفضل طريقة للتقدم في بناء العلم الطبيعي للعقل واللغة؛ ذلك العلم الذي هو علم طبيعي كالفيزياء والكيمياء على الرغم من أنه يختلف عنهما في مادة موضوعاتهما.

    يحاول العقلانيون في دراستهم للغة والعقل أن يأخذوا مأخذ الجد مجموعتين مهمتين من الملاحظات المتعلقة باللغة واستخدامها، وبكيفية تطور اللغة والقدرات العقلية البشرية في الرضيع والطفل، وإحدى هاتين المجموعتين تعرف بملاحظات (ضعف المثير) وتنطبق على المجالات المعرفية كلها كالبصر والسمع، والإدراك الوجهي وإدراك الموضوع، وما إلى ذلك. أما المجموعة الأخرى، وهي (المظهر الإبداعي لاستخدام اللغة) فهي خاصة باللغة تحديدًا. إن ملاحظات (ضعف المثير) المتعلقة باللغة هي بوجه خاص ما يلي: الأطفال يطورون اللغة بصورة آلية، بقليل من التدريب أو من دون تدريب أبدًا، في ظروف تكون البيانات فيها محدودة أو فاسدة على الأغلب، وتناغمًا مع البرنامج نفسه لدى البشر كافة بغض النظر عن الذكاء العام أو دخول المدارس. وبسبب هذه الحقائق يفترض العقلانيون أنه من المعقول الاعتقاد أن بنية العقل البشري و(مضمونه) ثابت وفطري. ومنذ نحو قرن ونصف، توصل العقلانيون، مع تزايد الدليل على الكوابح الجينية والفيزيائية والكيميائية والحسابية التقديرية التي تؤثر في تطور الأحياء ونموها، جنبًا إلى جنب مع تحسين طرق تأثير هذه الكوابح في النمو العضوي، إلى الافتراض أن أفضل طريقة لفهم كيفية تطور العقل هي الافتراض أن أجزاء العقل المتنوعة، أو (أعضاءه) تنمو أو تتطور وفق برامج مثبتة بالجين البشري وبكوابح أخرى على التطور والنمو. أي إنهم توصلوا إلى أن أفضل طريقة لفهم الرأي العقلاني التقليدي أن القدرات العقلية البشرية تتطور وتنمو في ظروف ضعف المثير، وهي الافتراض أن هذه القدرات فطرية، وتنمو بالأشكال التي تظهر فيها بسبب الكوابح الحسابية والبيولوجية والنفسية على تطورها، وهذا يفسر سبب إدراج دراسة العقلانيين التقليديين للغة ونموها تحت عنوان (علم اللسانيات البيولوجية).

    وفيما يخص الجانب الإبداعي لملاحظات استخدام اللغة يبدو أن استخدام اللغة البشرية لا يكون له سابقة عرضية (يمكن أن يفكر المرء في شيء أو يقول شيئًا بغض النظر عن الظروف الواقعة خارج الجسم أو الرأس)، وأن استخدام اللغة يسفر عن عدد كبير غير محدود من المنظومات المفاهيمية المعقدة (تلك التي يعبر عنها بالجمل) مع اعتبار أي بيئة، ومع ذلك تكون الجمل الناتجة في مناسبة معينة ملائمة لتلك الظروف (ذلك الخطاب أو غير ذلك) التي (يتحدثون) إليها. وقد افترض العقلانيون التقليديون أن هذه الملاحظات تدل على وجوب رؤية الإنسان حرًّا في تفكيره وتأملاته، وتصرفاته، والعقلانيون الحاليون يوافقون على ذلك، ولكنهم، بسبب اعتقادهم أن اللغات تفهم بصورة أفضل بوصفها أنظمة حسابية تقديرية مجسدة كأعضاء بيولوجية في العقل/ الدماغ، لا بد أن يحاولوا أيضًا، أن يفهموا كيف يقوم نظام مقدر سلفًا في الرأس بدور إنتاج مثل هذا الاستخدام الإبداعي بوضوح من قِبل الناس، فإنهم يفعلون ذلك بناءً على الافتراض أن جوهر النظام اللغوي هو (جزيئي)¹ يعمل تلقائيًّا تقريبًا، ومع ذلك يستطيع توليد عدد كبير غير محدود من الطرق المنشأة للكلام والتفكير والفهم. وهذا هو أصل مرونة القوى المعرفية البشرية: إذ يستطيع العقل البشري أن يجمع أي عدد من المواد المفاهيمية المبنية جيدًا بأشكال منشأة يتمايز كل منها عن الأخرى تمايزًا واضحًا، وإلى جانب هذه الافتراضات المتعلقة بمقدرة النظام الحاسوبي التقديري، وما يقدمه لمستخدميه، يعتقد العقلانيون المعاصرون أن الطرق التي استخدمتها المصادر البشرية استخدامًا فريدًا لم يحددها النظام الحاسوبي، وتُعدّ نتائج هذه الافتراضات مهمة؛ لأنه بفضلها، يمكن الاعتقاد أن البشر أحرار حقًّا في الطرق التي يستخدمون اللغة بموجبها، ويمكن الاعتقاد أيضًا أنه إذا ما أراد امرؤ علمًا طبيعيًّا للغة، فإن الطريقة الوحيدة لذلك هي التركيز على طبيعة العضو اللغوي للشخص، ونموه، وعملياته، وليس على الاستخدامات التي تظهر في تصرفاته وسلوكياته اللغوية. وبسبب ذلك، يُعدّ علم اللغة علم نظام داخلي فطري: والعقلانيون هم من أنصار الذاتية الفطرية. وباختصار، إذن، يُعدّ العقلانيون اليوم، كالعقلانيين في الماضي، علماء عقل ولغة فطريين وذاتيين على حد سواء في افتراضاتهم المتعلقة بكيفية التقدم بهذا العلم، وذلك لأنهم يأخذون ضعف الملاحظات، وإبداعيتها مأخذ الجد.

    ويتغاير المذهب العقلاني مع المذهب التجريبي، الذي يلزم نفسه بتقليص الالتزامات بالذاتية الفطرية إلى الحد الأدنى -أو على الأقل، بالفطرية النوعية اللغوية- في دراسة اللغة والطاقات المعرفية الأعلى ذات الصلة، ويرى بدلًا من ذلك، أن الكثير من البنية المعرفية و(مضمون) العقل البشري ينجم أساسًا عن (الخبرة) وعن نوع من آلية (التعلم) المعمّمة. التجريبيون مناهضون لتبني نظرية الأصالة النظرية، وملتزمون باحتواء العالم والعلاقات فيه في دراسة العقل، وهم، خلافًا للعقلانيين، يؤمنون بأن علم اللغة يجب أن يكون علم سلوك لغوي، وعلمًا يبين كيف ينتمي العقل للعالم الموجود خارج الرأس، وإن دراساتهم ومنهجهم في دراسة العقل، التي يتبنونها تهيمن على البحوث الحالية في علم النفس، والفلسفة وعلوم المعرفة: ذات الصلة، فهم يرون أن اللغة ابتكار بشري، ومؤسسة يُستمال إليها الصغار بإخضاعهم إلى إجراءات تدريبية، بحيث يتبنون قواعد استخدامها التي يمارسها مجتمع المتكلمين، ويفترضون أن دراسة اللغة يجب أن تسير وفق افتراضات مناهضة للفطرية المتأصلة في الدماغ، وللمذهب القائل: إن الدماغ لا يعمل فقط بما هو في داخله، بل بما يحدث خارج الدماغ.

    من الواضح أن الافتراضات المختلفة التي يتبناها العقلانيون والتجريبيون تؤدي إلى تكريس البحث لموضوعات مختلفة جدًّا، ويتبنون آراء مختلفة تمامًا فيما يخص التعامل مع اللغة بوصفها (موضوعًا طبيعيًّا) بتعبير تشومسكي، وإنني أبحث العقلانية والتجريبية بشيء من التفصيل في الملحق الثالث، وللاطلاع على تفاصيل أكثر انظر: (اللسانيات الديكارتية Cartesian Linguistics) لتشومسكي (خصوصًا الطبعة الثالثة التي أصدرتها كمبردج عام 2009م والتي تتضمن مقدمة حول موضوع كتبته أنا)، وانظر كذلك: الفصل الذي كتبه نوربيرت هورنشتاين Norbert Hornstein في (دليل كمبردج لتشومسكي The Cambridge Companion to Chomsky, 2005). على القرّاء أن ينتبهوا إلى أن التجريبية لا تتطلب (التجريب) أكثر مما تتطلب العقلانية اللاتجريب، إذ يهدف العقلانيون إلى ألا يكونوا أقل من الكيميائيين والبيولوجيين في مجال التجارب. والواقع أن تشومسكي قد ألح منذ زمن طويل على أن المنهج الوحيد الملائم لتطوير نظرية لغوية هو ذلك الذي يستخدم في علم الكيمياء وعلم الفيزياء، إذ إن دراسة اللغة تختلف عن المحاولات العلمية الطبيعية الأخرى فقط في الموضوع والتقنيات التجريبية، ولقد تبين أن هذا المنهج هو الطريقة المناسبة بفضل نجاحه، وتقدمه في الكفاءة التوضيحية والوصفية، وفي البيان الرسمي والواضح، وفي البساطة، والموضوعية والتوافق مع العلوم الأخرى (مع البيولوجيا بصورة مبدئية)، وللاطلاع على شيء من البحث انظر: McGilvray (الذي سيأتي لاحقًا).

    الجزء1

    علم اللغة والعقل

    الفصل 1 اللغة، والوظيفة، والتواصل: اللغة واستخدامها

    جيمس ماغيلفري: سأبدأ بسؤال يتعلق بطبيعة اللغة ووظائفها.

    من الواضح أن اللغة مركزية للطبيعة البشرية: ربما تكون هي الشيء الوحيد الذي يجعلنا مميزين عن غيرنا من المخلوقات، وإنك تعتقد أن اللغة ذات بنية بيولوجية وفطرية - متأصلة في الجينات بطريقة تجعلها تظهر آليًّا في أثناء النمو الطبيعي للطفل، وإنك ترى أن اللغة أداة معرفية مفيدة تقوم بأدوار عدة منحت البشر مزايا معرفية فائقة، وبالمقارنة مع المخلوقات الأخرى. ولكنك تقاوم فكرة أن اللغة تطورت لأنها حسّنت مقدرة البشر على التواصل، بل أكثر من ذلك أنت ضد الفكرة التي مفادها أن اللغة هي نوع من أنواع الابتكار الاجتماعي، ونمط اجتماعي نظمناه نحن ليساعدنا على تلبية حاجاتنا، وانتقلت إلى الصغار عن طريق التدريب أو التلقين الاجتماعي، فهل لك أن تشرح لنا سبب تمسكك بهذه الآراء؟

    نعوم تشومسكي: دعنا نبدأ أولًا بمفهوم الوظيفة، فإنه ليس مفهومًا بيولوجيًّا أو نفسيًّا واضحًا. لذلك، إن سألتك، مثلًا: ما مهمة الهيكل العظمي؟ وأجبت: «الهيكل العظمي يبقي المرء قائمًا، ويحفظه من السقوط على الأرض»، ذلك جواب صحيح، ولكن ذلك ينطبق أيضًا على وظيفته في اختزان الكالسيوم أو في إنتاج خلايا الدم، أو ليعمل أي شيء مما يقوم به. والواقع، لماذا العمود الفقري؟ لماذا اخترت العمود الفقري؟ إننا نحاول النظر إلى نظام أعضاء الجسم من وجهة نظر معينة لكي نبني فهمًا كاملًا له بفضل فهم مكوناته، بيد أن تلك المكونات تفعل كل شيء، ومهمتها تعتمد على ما تهتم به أنت، وإن الطريقة المرتجلة المعتادة التي يحدد الناس بموجبها وظيفة معينة لنظام ما، هي الطريقة التي يستخدم بها عادة، أو بفضل الاستخدام (الجوهري) الغالب عليه، وهكذا، فيما يخص مثال العمود الفقري، فإن عضوًا آخر في الجسم يمكن أن يختزن الكالسيوم، وتظل الحاجة إلى العمود الفقري قائمة لكي يحفظ الجسم متماسكًا، فهذه هي إذن وظيفته [C].

    لنعد الآن إلى اللغة، فما استخدامها المميّز؟ ربما يكون 99. 9% من استخدامها فطري داخل الدماغ، وإنك لا تستطيع قضاء دقيقة من غير أن تتحدث إلى نفسك، وإن الرغبة في ألا يكلم المرء نفسه عمل غير معقول، ولا يصدق، وإننا لا نحدث أنفسنا بجمل، فمن الواضح أن هناك لغة موجودة في رؤوسنا، ولكن على هيئة رقع وشظايا متوازية، وهكذا. لذلك إذا ما نظرت إلى اللغة بالطريقة التي ينظر علماء البيولوجيا بموجبها إلى الأعضاء الأخرى للجسم أو إلى الأنظمة الفرعية فيها -فلا بد أن تأخذ في الحسبان الوظائف كلها في حديثك لنفسك- فما الذي تصل إليه؟ ماذا تفعل عندما تتحدث إلى نفسك؟ إنك تعذب نفسك معظم الوقت (ضحك). وهكذا، ربما تظن أنك تخدع، أو أنك تسأل نفسك: لماذا يعاملني هذا الشخص هكذا؟ أو ربما يخطر لك أي شيء آخر. لذلك، ربما تقول: إن وظيفة اللغة هي تعذيبك، والآن يبدو جليًّا أن ذلك ليس خطيرًا.

    الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن اللغة تستخدم للتواصل بين البشر، ولكن كل ما تفعله يستخدم للتواصل -تصفيف شعرك، وتكلفك وتأنقك، ومشيتك، وما إلى ذلك، وهكذا- من المؤكد أن اللغة تستخدم أيضًا للتواصل.

    الواقع أن هناك جزءًا ضئيلًا من اللغة له صلة بما هو خارج الدماغ؛ أي بما يخرج من فمك، مثلًا، أو من يديك إن كنت تستخدم الإشارة، ومع هذا، حتى ذلك الجزء لا يستخدم غالبًا للتواصل بالمعنى المستقل لمصطلح (التواصل) إن كنت تعني بالتواصل أي شكل من التفاعل، يكون ذلك صحيحًا، فإن ذلك الشكل يستخدم للتواصل. ومع ذلك، فإن كنت تريد لمفهوم التواصل أن يعني شيئًا ما، فلنقل: إن إيصال المعلومات أو ما شابهها، الجزء الصغير جدًّا من المظاهر الخارجية للغة يستخدم للتواصل. وهكذا، فإن كنت في حفل، فإن حديثًا كثيرًا يدور فيه، ولكن كمية التواصل الجارية ضئيلة جدًّا، فالناس يمزحون ويمرحون، أو يتكلمون مع أصدقائهم، أو يقومون بأي شيء آخر، وهكذا فإن الكتلة الغامرة من اللغة داخلية، وما هو خارجي إنما هو جزء ضئيل مما يستخدم في التواصل (وما يستخدم في التواصل بالمعنى الجاد هو جزء أصغر من ذلك، أيضًا)، ولأن الوظائف تحدد عادة بصورة غير رسمية، فالقول: إن وظيفة اللغة هي التواصل لا يعني كثيرًا.

    وهناك موضوع مهم ينبغي طرحه يومًا ما هو أن كلامنا الداخلي الذاتي أشبه بشظايا من كلام خارجي أعيد إدخاله إلى العقل، وأن (الكلام الداخلي) الحقيقي عصي على الاستبطان والكشف، بيد أن هذه الأسئلة تفتح أبوابًا كثيرة، تكاد تكون مُوارَبة.

    حسنًا، دعنا ننظر إلى اللغة من زاوية التطور، فهناك أنظمة تواصل بين الحيوانات، فلكل حيوان، حتى النمل، نظام تواصل، وهناك دراسات مقارنة مهمة لهذه الأنظمة. ولنأخذ مثالًا كتاب مارك هاوزر Marc Hauser حول تطور التواصل، فلا علاقة كبيرة له، في الواقع، بالتطور، وإنما هو دراسة مقارنة للأنواع المختلفة من أنظمة التواصل بين الحيوانات، وتبدو فعلًا أنها أنظمة تواصل، فلدى كل حيوان عدد من أساليب الدلالة على الأشياء للآخرين من جنسه، ونفسر بعضها بأنها تعني (النسور قادمة، فاهربوا!) فإن أنعمت النظر فيها تجدها تمامًا: كحفيف أوراق الشجر، وما يصدر عن فم أي مخلوق، وبعضها للدلالة على وجود الحيوان: «إنني هنا!» وبعضها نداءات للتزاوج، ولكنها ليست كثيرة.

    وهناك نوع من تصنيف صيحات الحيوانات، أما اللغة البشرية فلم تتلاءم مع التصنيف، بأي معنى من المعاني، كما أعتقد، ومهما كانت تلك الأشياء، فمن الواضح أنها شيفرة، ولا علاقة لها باللغة البشرية، فليس ذلك غريبًا، فأقرب أقربائنا إلينا الذين ما زالوا على هذه البسيطة قد قضوا نحو عشرة ملايين سنة في التطور؛ لذلك لا يتوقع المرء أن يجد ما يشبه اللغة البشرية، فللحيوانات أنظمة تواصل، ولكن ليس لغة، فمن أين أتت اللغة البشرية؟ بقدر ما نعلم من سجل المستحاثات، فإن كائنات حية ذات أجهزة نفسية عليا كانت موجودة في جزء صغير من إفريقيا منذ مئات آلاف السنين، ونعلم الآن أن تاريخ اللغة البشرية يعود إلى نحو ستين ألف سنة خلت، وليس قبل ذلك، والطريقة التي تعرف بموجبها ذلك هي الهجرة الجماعية من إفريقيا، ويمكنك الآن تتبع العلامات الجينية، فهناك إجماع بشأنها، وبدأت الهجرة الجماعية من إفريقيا منذ ذلك الزمن، ثم تسارعت في زمن تطوري، ومن الأماكن التي ذهبوا إليها المحيط الهادي - الجزء الجنوبي من القارة الأوروبية الآسيوية Eurasia، وانتهوا إلى غينيا الجديدة، وأستراليا، وهكذا، حيث يوجد الآن من نسميهم (البدائيين) الذين يتطابقون معنا في كل شيء، في النيات والغايات، وليس لديهم أي فرق معرفي، ولو صادف أن جاؤوا لأصبحوا شعبًا منا، وسوف يتكلمون الإنجليزية، ولو كنا نحن هناك، فإننا نتكلم لغتهم، وبقدر ما يعلم أي شخص، لا يوجد أي فرق واضح عبر الأجناس ذات الصلة باللغة - والواقع، ذات الصلة بالخصائص الأخرى، فالفروق الجينية بين البشر ضئيلة جدًّا، مقارنة مع الأجناس الأخرى، وإننا نعيرها اهتمامًا كبيرًا، وليس هذا غريبًا. لذلك كانت اللغة موجودة هناك مدة من الزمن ربما تكون قبل ستين ألف سنة، بشكلها الحديث الحالي، من دون تغييرات كثيرة. حسنًا، كم من الزمن قبل ذلك؟ إننا ننظر من هنا إلى سجل المستحاثات، فلا نجد في واقع الأمر أي دلالة على وجودها هناك، والواقع أنه لا تكاد توجد أي آثار لوجود نظام رموز معقد قبل ستين ألف سنة - مئة ألف سنة، ويبدو أنه لم يتغير شيء كثير على مدى مئات الآلاف من السنين، ومن ثم حدث فجأة انفجار هائل، وبدأ الحصول على فن رمزي ودلالات تعكس الأحداث الفلكية والظواهر الجوية والبنى الاجتماعية المعقدة، منذ نحو مئات آلاف السنين، إذ حدث انفجار طاقة مبتكرة في لحظة زمن تطوري - ربما قبل عشرة آلاف سنة أو ما يقارب ذلك، وهو زمن لا يُعدّ طويلًا.

    لذلك لا يبدو وجود أي دلالة على وجود اللغة قبل ذلك، وإن اللغة بقيت على حالها منذئذ، ويبدو -إذا ما أُخذ الزمن في الحسبان- أنه حدثت (قفزة كبيرة) بصورة مفاجئة، ويبدو أن تعديلًا ما قد حدث، فأعاد تنظيم الدماغ قليلًا، ومعرفتنا بعلم الأعصاب قليلة، ولكني لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن أن يكون غير ذلك. لهذا فإن تغييرًا جينيًّا ما قد حصل، فأدى إلى إعادة تنظيم الشبكة الدماغية، وذلك أوجد هذه المقدرة البشرية، ورافق ذلك سلسلة كاملة من الخيارات [C] متوافرة لدى البشر ضمن نظرية العقل، وهي نظرية تتعلق بالعقل تأتي في المرتبة الثانية، وهكذا أنت تعلم أن شخصًا ما يحاول أن يجعلك تفكر فيما يريد شخص آخر أن يفكر فيه، ومن الصعب جدًّا أن يتصور المرء كيف يمكن أن يحدث هذا من دون اللغة، فعلى الأقل لا نستطيع التفكير في أي طريقة للقيام بها من دون اللغة، وغالبية ذلك هو التفكير والتخطيط والتفسير، وما إلى ذلك، وكله داخلي فطري.

    تحدث التحولات المهمة في الشخص، وليس في المجموعة، ونحن نعلم أن هذه التحولات كانت ضمن مجموعات صغيرة جدًّا - مجموعة قليلة من الكائنات الحية في زاوية من زوايا إفريقيا، على ما يبدو، إذ حدثت تحولات ضمن تلك المجموعة في مكان ما أدت إلى القفزة الكبيرة، وكان لا بد أن تحدث في شخص واحد، وشيء ما حدث في شخص نقله إلى ذريته، ويبدو أن ذلك حصل خلال مدة قصيرة، (ذلك التحول) هيمن على المجموعة. ولذلك لا بد أنه كان لها بعض الميزات الاصطفائية، ولكن لا بد أنه حدث ذلك في وقت قصير ضمن مجموعة صغيرة (متوالدة) فما هي؟ إن أبسط افتراض -وليس لدينا سبب للشك فيه- هو أن ما حدث هو ما حصلنا عليه، وهو الاندماج Merge، ولقد حصلت على عملية تمكنك من أن تأخذ الموضوعات الذهنية (أو المفاهيم من أي نوع) مبنية جاهزة، بحيث تشكل منها موضوعات ذهنية أكبر، وهذا هو (الاندماج)، وما إن تحقق ذلك حتى يغدو لديك أنواع لا حدود لها من التعابير المبنية هرميًّا (ومن الأفكار، أيضًا).

    لدينا الآن أنظمة حس-حركية (عندما ظهر الاندماج) ربما استُخدمت بصورة هامشية أساسًا. والواقع أن فكرة (التعبير عنها) جعلها موجهة إلى الخارج قد حصل بعد ذلك، ولدينا أنظمة فكرية من نوع ما، ومع ذلك، ربما كان ذلك بدائيًّا - ربما صورنا الأشياء بطريقة ما، أو بشكل ما. ومهما كانت تلك الطرق، فإنها لا تشبه الأنظمة الحيوانية لأسباب كنا قد بحثناها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولكنها كانت موجودة، وما إن تحصل على تقنية التركيب هذه وعلى أنواع لا حدود لها من التعابير المبنية هرميًّا للاستفادة من هذه الأشياء (أنظمة الفكر هذه) أو (كما يسميها تشومسكي: الأنظمة المفاهيمية - المتعمدة conceptual-Intentional systems)، حتى تغدو فجأة قادرًا على التفكير والتخطيط والتفسير بطريقة لا يقدر عليها أحد آخر، وإن كان لدى ذريتك تلك المقدرة أيضًا، فإنهم يحصلون على ميزات اصطفائية، وإذا ما حاولت الفكرة في مكان ما، على الخط نفسه، الانتقال إلى الخارج (فكر) بأي شكل من الأشكال، فإنها تعطي ميزات أكثر. وهكذا، من المفهوم أن هذه هي الحال، وبقدر ما يتعلق الأمر بتطور اللغة، وسبب استمرارنا باستخدام اللغة مبدئيًّا للتفكير (ضمن) أنفسنا هو أن هذه هي الطريقة التي بدأت بها. والخلاصة، أن ستين ألفًا أو سبعين ألف سنة (وربما مئة ألف) لا يُعدّ زمنًا كبيرًا من وجهة النظر التطورية؛ إنها في الحقيقة مجرد (لحظة). لذلك، فما زلنا كما كنا في إفريقيا عندما حدث التغيّر المفاجئ [C]. هذا ما يتعلق بالأمر بقدر ما نعلم.

    وهناك، الآن نظريات أكثر تعقيدًا، ولكن ليس لأي منها أي تعليل، فمثلًا هناك نظرية عامة تقول: إن تحولًا ما قد حصل، فجعل بالإمكان تركيب جمل من كلمتين، وذلك منح الذاكرة ميزة؛ لأنك بعد ذلك تستطيع حذف هذا الكم الكبير من المفردات من الذاكرة، وهذه ميزة اصطفائية. ثم حصل شيء ما، فصار لدينا جمل من ثلاث كلمات، وبعد ذلك حصلت سلسلة من التحولات وصلت إلى خمس، وأخيرًا، وصلت إلى (الاندماج)؛ لأنه وصل إلى اللانهاية (وذلك منح عقولنا طريقة لجمع عدد محدود من البنود المفرداتية في مصفوفة لا محدودة من التراكيب) ويمكن أن يكون (الاندماج) هو الخطوة الأولى، وربما لا يكون له علاقة بالتجسيد الخارجي. والواقع أنه من الصعب تصور كيفية حدوث ذلك، طالما أنه حدث في شخص، وليس في مجموعة أو قبيلة، فإذن لا بد من وجود شيء منح ذلك الشخص ميزة أسفرت عن ميزات لذريته أو ذريتها.

    جيمس ماغيلفري: صار لديهم فكر، وقد قلت، أحيانًا، ضمن هذا المسار، أو اقترحت -لست متأكدًا من الكلمة الصحيحة التي أستخدمها-: إن (الاندماج) قد ترافق مع الأعداد الطبيعية، وظهرت خلفًا لها وظيفة معينة، والاندماج في الحالة المحدودة، حيث يقوم بمجرد ربط عنصر بذاته ربما يؤدي بصورة فعالة إلى الوظيفة الوريثة.

    نعوم تشومسكي: هذه مسألة قديمة، وكان ألفريد راسل ولاس Alfred Russell Wallace قلقًا بشأنها، ولقد تبين له أن الإمكانات الرياضية لم تتطور بفضل الاصطفاء الطبيعي، فذلك مستحيل؛ لأنه ما من شخص إلا ويمتلك هذه الإمكانات، ولكن ما من أحد استخدمها أبدًا، ما عدا قلة قليلة جدًّا من الناس في الزمن الحديث. ومن الواضح أن هذه الطاقات قد تطورت بطريقة أخرى، والتوقع الطبيعي هو أن تكون فرعًا من شيء آخر، وأنها فرع -ربما كبقية ما يعرف بالطاقات العقلية البشرية (أو العقل) - لشيء ما كاللغة.

    صادف أن هناك الآن طرقًا بسيطة جدًّا للحصول على الرياضيات من (الاندماج)، ولنأخذ مفهوم (الاندماج) الذي مفاده ببساطة أن نأخذ شيئين، وندمجهما لننشئ مجموعة مؤلفة منهما، فهذا هو الشكل الأبسط من الاندماج. لنفرض أنك قيدت الاندماج، وأخذت شيئًا واحدًا، ولنطلق عليه اسم (صفر) وتدمجه، فإنك تحصل على مجموعة تتضمن الصفر، وتفعل الأمر نفسه ثانية، فإنك تحصل على مجموعة تحوي المجموعة المحتوية على الصفر، وهذه هي الوظيفة الوريثة. وتُعدّ التفاصيل أكثر تعقيدًا، ولكنها مباشرة نوعًا ما، والواقع أن هناك طريقتين أخريين يمكنك أن تحصل على الاندماج بموجبهما، ولكن ذلك تعقيد زهيد من الاندماج يقيده، ويقول: عندما تضع كل شيء بهذه الطريقة، فإن ذلك يعطيك رياضيات، فعندما تحصل على الوظيفة الوريثة، فإن البقية تأتي [C].

    وهناك آراء ضد هذا الرأي، فقد ألف بريان بتروورث Brian Butterworth عام م2000 كتابًا حول هذا الموضوع ضمّنه آراءً كثيرة ضد الاعتقاد أن الإمكانات اللغوية ذات صلة بالإمكانات الحسابية، وليس من الواضح ماذا يعني الدليل، فالدليل جزئيًّا هو عمليات تفكيك، ويمكن أن تصاب بعلة في وظيفة عصبية تفقد بسببها مقدرة من قدراتك، ولكنك تحتفظ بالأخرى. مع ذلك لا يعني ذلك شيئًا؛ لأنه لا يفرق بين الكفاءة والأداء، وربما تكون العلل العصبية ذات صلة باستخدام المقدرة. مثلًا، نقول: هناك عمليات تفكيك في قراءة لغة ما، ولكن ما من أحد يعتقد وجود جزء خاص للقراءة في الدماغ، فإنها مجرد طريقة لاستخدام اللغة في القراءة، ويمكن أن تتضرر تلك الطريقة، ولكن اللغة تبقى حيث هي، ويمكن أن يكون الأمر نفسه فيما يخص علم الحساب، والأمر نفسه فيما يتعلق بالأنواع الأخرى من عمليات التفكيك التي جرى الحديث عنها، وربما يكون صحيحًا وجود جميع أنواع الطرق لتفسيرها. الواقع أنه ربما يتبين أنه مهما كانت اللغة، فإنها موزعة في أجزاء مختلفة من الدماغ، وربما تنسخ، بحيث يمكنك نسخ جزء والاحتفاظ به، والتخلص من البقية، وهناك احتمالات كثيرة جدًّا، بحيث لا يشير الدليل إلى كثير منها، وهكذا فإن ما تركنا له هو التأمل، ولكن عندما لا يتوافر لديك أدلة كافية، فإنك تأخذ بأبسط توضيح أو تفسير، وأبسط تفسير يتوافق مع الأدلة التي نمتلكها كلها، هو أن ذلك يُعدّ فرعًا من اللغة اشتق بفضل فرض قيود معينة على (الاندماج).

    والواقع أن هناك قيودًا معينة أخرى أكثر حداثة، ولنأخذ مثلًا ما يعرف بـ (اللغات الرسمية)، لنقل: الرياضيات، أو أنظمة البرمجة، أو غيرها، وإنها نوع شبيه باللغة الطبيعية، ولكنها حديثة جدًّا وواعية لذاتها جدًّا، بحيث نعلم أنها ليست في الواقع شبيهة بالموضوع البيولوجي؛ اللغة البشرية.

    فلنلاحظ كيف أنها فعلًا ليست شبيهة باللغة البشرية، ولنأخذ (الاندماج) (المبدأ الحسابي التقديري الأساس لكل اللغات الطبيعية)، وبالمفهوم المنطقي، إذا أخذت شيئين، وليكونا X و Y وتكوّن منهما مجموعة ({X, Y}), يكون لدينا احتمالان. أحدهما هو أن X متمايز عن Y، والاحتمال الآخر هو أنهما ليسا متمايزين. فإذا كان كل شيء ينشأ بفضل الاندماج، فإن الطريقة الوحيدة لجعل X غير متمايز عن Y هي أن يكون أحدهما داخل الآخر، ولنفرض أن X هو داخل Y فإن كان X داخل Y وتدمجه، فإنك تحصل على مجموعة يكون فيها Y = [. . . X. . . ] ومن ثم {X,Y}. ومن الناحية العملية، فإن الاندماج الداخلي (X,Y)={X,Y}={X, [. . . X. . . ]}. وهذا هو تحويل، وهكذا فإن النوعين المحتملين من الإنتاج يأخذان، في واقع الأمر، شيئين ويضعانهما معًا، أو يأخذان شيئًا وقطعة منه، ويلصقانها بطرفه، وذلك هو (الانزياح) أو (الحركة) وهو من خصائص اللغة الطبيعية الموجودة في المكان كله. كنت أعتقد دائمًا (إلى زمن قريب) أن الانزياح نوع من النقص الغريب في اللغة، مقارنة مع الاندماج أو التسلسل، ولكن ذلك كان خطأ، وبوصفه اندماجًا داخليًّا، فإنه يحدث آليًّا، ما لم تعقه، ولهذا تستخدم اللغة ذلك الابتكار لجميع الأنواع، فإنه يحدث (تطوعًا) لقاء لا شيء. وبافتراض ذلك، يمكنك أن تطرح السؤال الآتي: «كيف يستخدم هذان النوعان من الاندماج؟»، وهنا تنظر إلى السطح البيني الدلالي ذي الصلة بالمعنى؛ أي السطح البيني الدلالي الطبيعي، فهناك فروق هائلة، إذ يستخدم الاندماج الخارجي، أساسًا، ليوفر لك بنية الجملة الاسمية ذات الصلة بالفعل. وأما الاندماج الداخلي فيستخدم أساسًا ليوفر لك معلومات ذات صلة بالخطاب، كالبؤرة، والموضوع، والمعلومات الجديدة، وكل ما له علاقة بوضع الخطاب [C]. فليس ذلك كاملًا، ولكنه وثيق بما يكفي ليكون حقيقيًّا، وإن استطعنا تحديده أو فهمه جيدًا، ربما نجده كاملًا.

    لنفرض الآن أنك تخترع لغة رسمية، ليس لها خصائص ذات صلة بالخطاب؛ لذلك، فإنك تستخدم فقط الاندماج الخارجي، وتضع قيدًا على الأنظمة - كيلا تستخدم الاندماج الداخلي، ومن ثم تحصل عمليًّا على بنية حوار فاعلة، والآن من المهم أن ندرك أنه إذا كانت هذه الأنظمة تعطينا خصائص مجهرية كاشفة، فإنها تفعل ذلك بطرق خاصة تشبه اللغة الطبيعية. وهكذا، إن كنت تعلم، مثلًا، المنطق الكمي لطلبة الجامعة، فإن أسهل طريقة لذلك هي استخدام (نظرية الكم) القياسية - أي تضع المتحولات خارجًا، وتستخدم الأقواس، وهكذا. ونحن نعلم جيدًا وجود طرق أخرى لعمل ذلك - المنطق من دون متحولات، (1930; Curry & Feys 1958).

    لهذا المنطق الخصائص الصحيحة كلها، ولكنّ تعليمه صعب جدًّا، ويمكنك أن تتعلمه، بعد أن تكون قد تعلمته بالرموز العادية، ولا أعتقد أن أحدًا قد حاول، وأعتقد أنه من الصعب جدًّا تعليم نموذج كري Curry بطريقة أخرى تظهر في النهاية أنك قادر على تعليمه بهذه الطريقة الأخرى، ولكن لماذا؟ والخلاصة أنها كلها متساوية منطقيًّا، وأشك أن يكون السبب هو أن للطريقة القياسية خصائص عدة من خصائص اللغة الطبيعية، ففي اللغة الطبيعية، تستخدم الخصائص البينية التوضيحية، وتقوم بذلك بفضل الاندماج الداخلي، وليس للغات الرسمية اندماج داخلي، ولكنها تملك ما يُفسَّر بأنه (مجال). وهكذا تستخدم النظام نفسه الذي تستخدمه في اللغة الطبيعية: إذ تضعه خارجًا مع المتحولات المقيدة، وهكذا.

    هناك أمور تنجم عن امتلاك نظام مع نظام الاندماج في داخلك، وربما ينطبق الأمر نفسه على الموسيقا، وأمور أخرى كثيرة، ولقد حصلنا على هذه المقدرة التي هيأت لنا خيارات فائقة للتخطيط، والتفسير، والفكر، وما إلى ذلك. وتبدأ هذه المقدرة بالتأثير في أي شيء آخر، وإنك تحصل على هذه الثورة الثقافية الكبيرة التي تعود جذورها إلى ما قبل ستة آلاف أو سبعة آلاف سنة، والأمر يظل هو نفسه حيثما يوجد الإنسان، وربما لا يكون لدى البشر في أستراليا علم حساب، ولا يوجد في ورلبيري Warlpiri مثلًا، علم حساب، ولكن لديهم أنظمة معقدة شبيهة لها، كما يقول كين هيل Ken Hale، وكثير من خصائص أنظمة الرياضيات، إذ يبدو أن الاندماج في العقل يعمل على مسائل رسمية مهمة: إن لم يكن لديك نظام حساب، ويكون لديك أنظمة معقدة شبيهة به.

    جيمس ماغيلفري: هذا يوحي بأن احتمال إنشاء العلوم الطبيعية جاء، على الأقل، مع عملية الاندماج.

    نعوم تشومسكي: نعم، هو كذلك، إذ بدأت على الفور، فقد بدأ الناس يجدونها في تلك المدة - ولدينا هنا أدلة مستحاثية وأثرية على تسجيل أحداث طبيعية مثل الدورات القمرية، وما شابهها، وبدأ الناس يلاحظون ما يجري في العالم، ويحاولون تفسيره، ثم دخلت هذه العملية في إطار الاحتفالات، وما شابهها، وسارت على ذلك الدرب زمنًا طويلًا.

    إن ما نسميه علمًا (أي ينبغي أخذ العلم الطبيعي مع النظريات الرسمية الواضحة والافتراضات التي تصفها مأخذ الجد أو ينبغي الاعتقاد أنها (واقعية)) هو في الواقع حديث جدًّا، وضيق للغاية. لقد قضى غاليليو Galileo وقتًا عصيبًا، وهو يحاول إقناع مموليه -الأرستقراطيين- بأن دراسة أي شيء كتدحرج الكرة على سطح مائل أملس،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1