Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شرح نهج البلاغة
شرح نهج البلاغة
شرح نهج البلاغة
Ebook664 pages5 hours

شرح نهج البلاغة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لقد تصدى لشرح نهج البلاغة كثيرون من العلماء والفضلاء ذكر العلامة الشيخ حسين جمعة العاملي أنها بلغت 210 شرحا ذكرها مفصلة في كتاب له سمّاه ((شروح نهج البلاغة)) لعل أعظم هذه الشروح وأطولها وأشملها بالعلوم والآداب والمعارف ، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني الذي ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه، المعروف بالراوندي
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateOct 17, 1901
ISBN9786456989748
شرح نهج البلاغة

Related to شرح نهج البلاغة

Related ebooks

Reviews for شرح نهج البلاغة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد

    الغلاف

    شرح نهج البلاغة

    الجزء 3

    ابن أبي الحديد

    656

    لقد تصدى لشرح نهج البلاغة كثيرون من العلماء والفضلاء ذكر العلامة الشيخ حسين جمعة العاملي أنها بلغت 210 شرحا ذكرها مفصلة في كتاب له سمّاه ((شروح نهج البلاغة)) لعل أعظم هذه الشروح وأطولها وأشملها بالعلوم والآداب والمعارف ، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني الذي ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه، المعروف بالراوندي

    ومن خطبة له وقد تقدم مختارها برواية

    ونذكر ما نذكره هنا برواية أخرى لتغاير الروايتين :

    الأصل: ألا وإن الدنيا قد تصرمت وآذنت بانقضاء، وتنكر معروفها وأدبرت حذاء، فهي تحفز بالفناء سكانها، وتحدو بالموت جيرانها، وقد أمر فيها ما كان حلواً، وكدر منها ما كان صفواً، فلم يبق منها إلا سملة كسملة الإداوة، أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمززها الصديان لم ينقع .فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال، ولا يغلبنكم فيها الأمل، ولا يطولن عليكم فيها الأمد. فوالله لو حننتم حنين الوله العجال، ودعوتهم بهديل الحمام، وجأرتم جؤار متبتلي الرهبان، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد ؛التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، او غفران سيئةٍ أحصتها كتبه، وحفظتها رسله لكان قليلاً فيما أرجو لكم من ثوابه، وأخاف عليكم من عقابه .وبالله لو انماثت قلوبكم انمياثاً، وسالت عيونكم - من رغبةٍ إليه أو رهبةٍ منه - دماً، ثم عمرتم في الدنيا - ما الدنيا باقية - ما جزت أعمالكم - ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم - أنعمه عليكم العظام، وهداه إياكم للإيمان .الشرح: تصرمت: انقطعت وفنيت. وآذنت بانقضاء: أعلمت بذلك، آذنته بكذا، أي أعلمته. وتنكر معروفها: جهل منها ما كان معروفاً .والحذاء، السريعة الذهاب، ورحم حذاء: مقطوعة غير موصولة. ومن رواه جذاء بالجيم. أراد منقطعة الدر والخير .وتحفز بالفناء سكانها: تعجلهم وتسوقهم. وأمر الشيء: صار مراً. وكدر الماء، بكسر الدال، ويجوز كدُر بضمها. والمصدر من الأول كدراً، والسمَلة، بفتح الميم: البقية من الماء تبقى في الإناء .والمقلة، بفتح الميم وتسكين القاف: حصاة القسم التي تلقى في الماء ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم، وذلك عند قلة الماء في المفاوز، قال:

    قذفوا سيدهم في ورطةٍ ........ قذفك المقلة وسط المعترك

    والتمزز: تمصص الشراب قليلاً قليلاً. والصديان: العطشان .ولم ينقع: لم يرو، وهذا يمكن أن يكون لازماً، ويمكن أن يكون متعدياً، تقول: نقع الرجل بالماء، أي روي وشفى غليله، ينقع. ونقع الماء الصدي ينقع، أي سكنه .فأزمعوا الرحيل، أي اعزموا عليه، يقال: أزمعت الأمر، ولا يجوز أزمعت على الأمر ؛وأجازه الفراء .قوله: المقدور على أهلها الزوال، أي المكتوب، قال:

    واعلم بأن ذا الجلال قد قدر ........ في الصحف الأولى الذي كان سطر

    أي كتب. وأوله العجال: النوق الوالهة الفاقدة أولادها، الواحدة عجول، والوله: ذهاب العقل وفقد التمييز .وهديل الحمام: صوت نوحه. والجؤار: صوت مرتفع. والمتبتل: المنقطع عن الدنيا. وانماث القلب، أي ذاب، وقوله: ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم، اعتراض في الكلام، وأنعمه، منصوب لأنه مفعول جزت .وفي هذا الكلام تلويح وإشارة إلى مذهب البغداديين من أصحابنا في أن الثواب على فعل الطاعة غير واجب، لأنه شكر النعمة، فلا يقتضي وجوب ثواب آخر، وهو قوله عليه السلام: لو انماثت قلوبكم انماثاً. .. إلى آخر الفصل .وأصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك، بل يقولون: إن الثواب واجب على الحكيم سبحانه، لأنه قد كلفنا ما يشق علينا، وتكليف المشاق كإنزال المشاق، فكما اقتضت الآلام والمشاق النازلة بنا من جهته سبحانه أعواضاً مستحقة عليه تعالى عن إنزالها بنا، كذلك تقتضي التكليفات الشاقة ثواباً مستحقاً عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها، قالوا: فأما ما سلف من نعمه علينا فهو تفضل منه تعالى، ولا يجوز في الحكمة أن يتفضل الحكيم على غيره بأمر من الأمور، ثم يلزمه أفعالاً شاقة ويجعلها بإزاء ذلك التفضل ؛إلا إذا كان في تلك الأمور منافع عائدة على ذلك الحكيم، فكان ما سلف من المنافع جارياً مجرى الأجرة، كمن يدفع درهماً إلى إنسان ليخيط له ثوباً، والبارئ تعالى منزه عن المنافع، ونعمه علينا منزهة أن تجري مجرى الأجرة على تكليفنا المشاق .وأيضاً فقد يتساوى اثنان من الناس في النعم المنعم بها عليهما، ويختلفان في التكاليف فلو كان التكليف لأجل ما مضى من النعم لوجب أن يقدر بحسبها. فإن قيل: فعلى ماذا يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وفيه إشارة إلى مذهب البغداديين ؟قيل: إنه عليه السلام لم يصرح بمذهب البغداديين ؛ولكنه قال: لو عبدتموه بأقصى ما ينتهي الجهد إليه ما وفيتم بشكر أنعمه، وهذا حق غير مختلف فيه، لأن نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشكرها، وإن بالغوا في عبادته والخضوع له والإخلاص في طاعته ؛ولا يقتضي صدق هذه القضية وصحتها صحة مذهب البغداديين في أن الثواب على الله تعالى غير واجب، لأن التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة.

    أشعار في ذم الدنيا:

    فأما ما قاله الناس في ذم الدنيا وغرورها وحوادثها وخطوبها وتنكرها لأهلها، والشكوى منها، والعتاب لها والمواعظة بها، وتصرمها وتقلبها، فكثير ؛من ذلك قول بعضهم :

    هي الدنيا تقول بملء فيها ........ حذار حذار من بطشي وفتكي

    فلا يغرركم حسن ابتسامي ........ فقولي مضحك والفعل مبك

    وقال آخر:

    تنح عن الدنيا ولا تطلبنها ........ ولا تخطبن فتالةً من تناكح

    فليس يفي مرجوها بمخوفها ........ ومكروهها إما تأملت راجح

    لقد قال فيها القائلون فأكثروا ........ وعندي لها وصف لعمرك صالح

    سلاف ، قصاراها ذعاف ، ومركب ........ شهي إذا استلذذته فهو جامح

    وشخص جميل يعجب الناس حسنه ........ ولكن له أفعال سوء قبائح

    وقال أبو الطيب:

    أبداً تسترد ما تهب الدنيا ........ فيا ليت جودها كان بخلا

    وهي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهداً ولا تتمم وصلا

    كل دمع يسيل منها عليها ........ وبفك اليدين عنها تخلى

    شيم الغانيات فيها ولا أد _ ري لذا أنث اسمها الناس أم لا !

    وقال آخر:

    إنما الدنيا عوارٍ ........ والعواري مسترده

    شدة بعد رخاء ........ ورخاء بعد شده

    وقال ابن المظفر المغربي:

    دنياك دار غرورٍ ........ ونعمة مستعاره

    ودار أكلٍ وشربٍ ........ ومكسبٍ وتجاره

    ورأس مالك نفس ........ فخف عليها الخساره

    ولا تبعها بأكلٍ ........ وطيب عرفٍ وشاره

    فإن ملك سليما _ ن لا يفي بشراره

    وقال أبو العتاهية:

    ألا إنما التقوى هي البر والكرم ........ وحبك للدنيا هو الفقر والعدم

    وليس على عبد تقي غضاضة ........ إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم

    وقال أيضاً:

    تعلقت بآمالٍ ........ طوالٍ أي آمال

    وأقبلت على الدنيا ........ ملحاً أي إقبال

    أيا هذا تجهز ل _ فراق الأهل والمال

    فلا بد من الموت ........ على حالٍ من الحال

    وقال أيضاً:

    سكن يبقى له سكن ........ ما بهذا يؤذن الزمن !

    نحن في دارٍ يخبرنا ........ ببلاها ناطق لسن

    دار سوءٍ لم يدم فرج ........ لامرئٍ فيها ولا حزن

    في سبيل الله أنفسنا ........ كلنا بالموت مرتهن

    كل نفسٍ عند موتتها ........ حظها من مالها الكفن

    إن مال المرء ليس له ........ منه إلا ذكره الحسن

    وقال أيضاً:

    ألا إننا كلنا بائد ........ وأي بني آدمٍ خالد !

    وبدؤهم كان من ربهم ........ وكل إلى ربه عائد

    فواعجبا كيف يعصي الإل _ ه أم يجحده الجاحد

    وفي كل شيءٍ له آية ........ تدل على أنه الواجد

    وقال الرضي الموسوي:

    يا آمن الأيام بادر صرفها ........ واعلم بأن الطالبين حثاث

    خذ من ثرائك ما استطعت فإنما ........ شركاؤك الأيام والوراث

    لم يقض حق المال إلا معشر ........ نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا

    تحشو على عيب الغني يد الغنى ........ والفقر عن عيب الفتى بحاث

    المال مال المرء ما بلغت به الشهوات أو دفعت به الأحداث

    ما كان منه فاضلاً عن قوته ........ فليعلمن بأنه ميراث

    ما لي إلى الدنيا الدنية حاجة ........ فليجن ساحر كيدها النفاث

    طلقتها ألفاً لأحسم داءها ........ وطلاق من عزم الطلاق ثلاث

    وثباتها مرهوبة ، وعداتها ........ مكذوبة ، وحبالها أنكاث

    أم المصائب لا تزال تروعنا ........ منها ذكور حوادثٍ وإناث

    إني لأعجب للذين تمسكوا ........ بحبائل الدنيا ، وهن رثاث

    كنزوا الكنوز وأعقلوا شهواتهم ........ فالأرض تشبع والبطون غراث

    أتراهم لم يعلموا أن التقى ........ أزوادنا ، وديارنا الأجداث !

    وقال آخر:

    هذه الدنيا إذا صرفت ........ وجهها لم تنفع الحيل

    وإذا ما أقبلت لعمٍ ........ بصرته كيف يفتعل

    وإذا ما أدبرت لذكي غاب عنه السهل والجبل

    في زمانٍ صار ثعلبه ........ أسداً واستذأب الحمل

    فالذنابى فيه ناصية ........ والنواصي خشع ذلل

    فاصبري يا نفس واحتملي ........ إن نفس الحر تحتمل

    وقال أبو الطيب:

    نعد المشرفية والعوالي ........ وتقتلنا المنون بلا قتال

    ونرتبط السوابق مقرباتٍ ........ وما ينجين من خبب الليالي

    ومن لم يعشق الدنيا قديماً ........ ولكن لا سبيل إلى الوصال !

    نصيبك في حياتك من حبيبٍ ........ نصيبك في منامك من خيال

    رماني الدهر بالأرزاء حتى ........ فؤادي في غشاءٍ من نبال

    فصرت إذا أصابتني سهام ........ تكسرت النصال على النصال

    وهان فما أبالي بالرزايا ........ لأني ما انتفعت بأن أبالي

    يدفن بعضنا بعضاً ويمشي ........ أواخرنا على هام الأوالي

    وكم من عينٍ مقبلة النواحي ........ كحيلٍ في الجنادل والرمال

    ومغضٍ كان لا يغضي لخطبٍ ........ وبالٍ كان يفكر في الهزال

    وقال أبو العتاهية في أرجوزته المشهورة في ذم الدنيا وفيها أنواع مختلفة من الحكمة:

    ما زالت الدنيا لنا دار أذى ........ ممزوجة الصفو بألوان القذى

    الخير والشر بها أزواج ........ لذا نتاجٍ ، ولذا نتاج

    من لك بالمحض وليس محض ........ يخبث بعض ويطيب بعض

    لكل إنسان طبيعتان ........ خير وشر وهما ضدان

    والخير والشر إذا ما عدا ........ بينهما بون بعيد جدا

    إنك لو تستنشق الشحيحا ........ وجدته أنتن شيءٍ ريحا

    حسبك مما تبتغيه القوت ........ ما أكثر القوت لمن يموت !

    الفقر فيما جاوز الكفافا ........ من اتقى الله رجا وخافا

    هي المقادير فلمني أو فذر ........ إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

    لكل ما يؤذي وإن قل ألم ........ ما أطول الليل على من لم ينم !

    ما انتفع المرء بمثل عقله ........ وخير ذخر المرء حسن فعله

    إن الفساد ضده الصلاح ........ ورب جد جره المزاح

    من جعل النمام عيناً هلكا ........ مبلغك الشر كباغيه لكا

    إن الشباب والفراغ والجده ........ مفسدة للمرء أي مفسده

    يغنيك عن كل قبيحٍ تركه ........ قد يوهن الرأي الأصيل شكه

    ما عيش من آفته بقاه ........ نغض عيشاً ناعماً فناه

    يا رب من أسخطنا بجهده ........ قد سرنا الله بغير حمده

    ما تطلع الشمس ولا تغيب ........ إلا لأمرٍ شأنه عجيب

    لكل شيءٍ قدر وجوهر ........ وأوسط وأصغر وأكبر

    وكل شيء لاحق بجوهره ........ أصغره متصل بأكبره

    من لك بالمحض وكل ممتزج ........ وساوس في الصدر منك تعتلج

    عجبت واستغرقني السكوت ........ حتى كأني حائر مبهوت

    إذا قضى الله فكيف أصنع ........ والصمت إن ضاق الكلام أوسع

    وقال أيضاً:

    كل على الدنيا له حرص ........ والحادثات لنا بها قرص

    وكأن من واروه في جدثٍ ........ لم يبد منه لناظرٍ شخص

    يهوى من الدنيا وزيادتها ........ وزيادة الدنيا هي النقص

    ليد المنية في تلطفها ........ عن ذخر كل نفيسةٍ فحص

    وقال أيضاً:

    أبلغ الدهر في مواعظه بل ........ زاد فيهن لي من الإبلاغ

    أي عيشٍ يكون أطيب من ........ عيش كفاف قوتٍ بقدر البلاغ

    غصبتني الأيام أهلي ومالي ........ وشبابي وصحتي وفراغي

    صاحب البغي ليس يسلم منه ........ وعلى نفسه بغى كل باغ

    رب ذي نعمة تعرض منها ........ حائل بينه وبين المساغ

    وقال ابن المعتز:

    حمداً لربي وذماً للزمان فما ........ أقل في هذه الدنيا مسراتي !

    كفت يدي أملي عن كل مطلبٍ ........ وأغلقت بابها من دون حاجاتي

    وله أيضاً:

    ألست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا ........ فذماً له ، لكن للخالق الشكرا

    لقد حبب الموت البقاء الذي أرى ........ فيا حبذا مني لمن سكن القبرا

    وسبحان ربي راضياً بقضائه ........ وكان اتقائي الشر يغري بي الشرا

    وله:

    قل لدنياك قد تمكنت مني ........ فافعلي ما أردت أن تفعلي بي

    واخرقي كيف شئت خرق جهولٍ ........ إن عندي لك اصطبار لبيب

    وقال أبو العلاء المعري:

    والدهر إبرام ونقض وتف _ ريق وجمع ونهار وليل

    لو قال لي صاحبه سمه ........ ما جزت عن ناجية أو بديل

    وقال آخر:

    والدهر لا يبقى على حالةٍ ........ لا بد أن يدبر أو يقبلا

    وقال أبو الطيب:

    فما لي وللدنيا طلابي ونجومها ........ ومسعاي منها في شدوق الأراقم

    وقال آخر:

    لعمرك ما الأيام إلا معارة ........ فما اسطعت من معروفها فتزود

    وقال آخر:

    لعمرك ما الأيام إلا كما ترى ........ رزية مالٍ ، أو فراق حبيب

    الوزير المهلبي:

    ألا موت يباع فأشتريه ........ فهذا العيش ما لا خير فيه

    ألا رحم المهيمن نفس حر ........ تصدق بالممات على أخيه

    وله:

    أشكو إلى الله أحداثاً من الزمن ........ يبرينني مثل بري القدح بالسفن

    لم يبق بالعيش لي إلا مرارته ........ إذا تذوقته ، والحلو منه فني

    لا تحسبن نعماً سرتك صحبتها ........ إلا مفاتيح أبوابٍ من الحزن

    عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

    ألا أيها الدهر الذي قد مللته ........ سألتك إلا ما سللت حياتي

    فقد وجلال الله حببت جاهداً ........ إلي - على كره الممات - مماتي

    وله:

    ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ........ ويسلب ما أعطى ويفسد ما أسدى

    فمن سره ألا يرى ما يسوءه ........ فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا

    البحتري:

    كأن الليالي أغريت حادثاتها ........ بحب الذي نأبى ، وبغض الذي نهوى

    ومن عرف الأيام لم ير خفضها ........ نعيماً ولم يعدد مضرتها بلوى

    أبو بكر الخوارزمي:

    ما أثقل الدهر ........ على من ركبه

    حدثني عنه ........ لسان التجربه

    لا تشكر الدهر ........ لخير سببه

    فإنه لم يتعمد بالهبه

    وإنما أخطأ ........ فيك مذهبه

    كالسيل قد يسقي مكاناً أخربه

    والسم يستشفي به من شربه

    وقال آخر:

    يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهداً ........ والدهر ما عاش في إفساده ساعي

    أخر:

    يغر الفتى مر الليالي سليمةً ........ وهن به عما قليل عواثر

    آخر:

    إذا ما الدهر جر على أناسٍ ........ كلاكله أناخ بآخرينا

    فقل للشامتين بنا أفيقوا ........ سيلقى الشامتون كما لقينا

    آخر:

    قل لمن أنكر حالاً منكره ........ ورأى من دهره ما حيره

    ليس بالمنكر ما أنكرته ........ كل من عاش رأى ما لم يره

    ابن الرومي:

    سكن الزمان وتحت سكنته ........ دفع من الحركات والبطش

    كالأفعوان تراه منبطحاً ........ بالأرض ثم يثور للنهش

    أبو الطيب:

    إنا لفي زمن ترك القبيح به ........ من أكثر الناس إحسان وإجمال

    ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ........ ما فاته ، وفضول العيش أشغال

    وقال آخر:

    جار الزمان علينا في تصرفه ........ وأي حر عليه الدهر لم يجر !

    عندي من الدهر مالو أن أيسره ........ يلقى على الفلك الدوار لم يدر

    آخر:

    هذا الزمان الذي كنا نحاذره ........ فيما يحدث كعب وابن مسعود

    إن دام هذا ولم تعقب له غير ........ لم يبك ميت ، ولم يفرح بمولود

    آخر:

    يا زماناً ألبس الأح _ رار ذلاً ومهانه

    لست عندي بزمانٍ ........ إنما أنت زمانه

    أجنون ما نراه ........ منك يبدو أم مجانه !

    الرضي الموسوي:

    تأبى الليالي أن تديما ........ بؤساً لخلقٍ أو نعيما

    والمرء بالإقبال يب _ لغ وادعاً خطراً جسيما

    فإذا انقضى إقباله ........ رجع الشفيع له خصيما

    وهو الزمان إذا نبا ........ سلب الذي أعطى قديما

    كالريح ترجع عاصفاً ........ من بعد ما بدأت نسيما

    أبو عثمان الخالدي:

    ألفت من حادثات الدهر أكبرها ........ فما أعادي على أحداثها الصغر

    تزيدني قسوة الأيام طيب نثاً ........ كأنني المسك بين الفهر والحجر

    السري الرفاء:

    تنكد هذا الدهر فيما يرومه ........ على أنه فيما نحاذره ندب

    فسير الذي نرجوه سير مقيد ........ وسير الذي نخشى غوائله وثب

    ابن الرومي:

    ألا إن في الدنيا عجائب جمةً ........ وأعجبها ألا يشيب وليدها

    إذا ذل في الدنيا الأعزاء واكتست ........ أذلتها عزاً وساد مسودها

    هناك فلا جادت سماء بصوبها ........ ولا أمرعت أرض ، ولا اخضر عودها

    أرى الناس مخسوفاً بهم غير أنهم ........ على الأرض لم يقلب عليهم صعيدها

    وما الخسف أن يلفى أسافل بلدةٍ ........ أعاليها بل أن يسود عبيدها

    السري الرفاء:

    لنا من الدهر خصم لا نطالبه ........ فما على الدهر لو كفت نوائبه !

    يرتد عنه جريحاً من يسالمه ........ فكيف يسلم منه من يحاربه !

    ولو أمنت الذي تجني أراقمه ........ علي هان الذي تجني عقاربه

    أبو فراس بن حمدان:

    تصفحت أحوال الزمان ولم يكن ........ إلى غير شاكٍ للزمان وصول

    أكل خليلٍ هكذا غير منصفٍ ........ وكل زمانٍ بالكرام بخيل !

    ابن الرومي:

    أرأيت الدهر يرفع كل وغدٍ ........ ويخفض كل ذي شيمٍ شريفه

    كمثل البحر يغرق فيه حي ........ ولا ينفك تطفو فيه جيفه

    أو الميزان يخفض كل وافٍ ........ ويرفع كل ذي زنةٍ خفيفه

    ابن نباتة:

    وأصغر عيبٍ في زمانك أنه ........ به العلم جهل ، والعفاف فسوق

    وكيف يسر الحر فيه بمطلبٍ ........ وما فيه شيء بالسرور حقيق !

    أبو العتاهية:

    لتجذبني يد الدنيا بقوتها ........ إلى المنايا ، وإن نازعتها رسني

    لله دنيا أناسٍ دائبين لها ........ قد ارتعوا في غياض الغي والفتن

    كسائماتٍ رواعٍ تبتغي سمناً ........ وحتفها لو درت في ذلك السمن

    وله أيضاً:

    أنساك محياك المماتا ........ فطلبت في الدنيا الثباتا

    ووثقت بالدنيا وأنت ........ ترى جماعتها شتاتا

    وعزمت ويك على الحيا _ ة وطولها عزماً بتاتا

    يا من رأى أبويه - فيمن قد رأى - كانا فماتا

    هل فيها لك عبرة أم خلت أن لك انفلاتا !

    ومن الذي طلب التفلت من منيته ففاتا !

    كل تصبحه المنية ........ أو تبيته بياتا

    وله:

    أرى الدنيا لمن هي في يديه ........ عذاباً ، كلما كثرت لديه

    تهين المكرمين لها بصغرٍ ........ وتكرم كل من هانت عليه

    إذا استغنيت عن شيءٍ فدعه ........ وخذ ما أنت محتاج إليه

    وله:

    ألم تر ريب الدهر في كل ساعةٍ ........ له عارض فيه المنية تلمع

    أيا باني الدنيا لغيرك تبتني ........ ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع

    أرى المرء وثاباً على كل فرصةٍ ........ وللمرء يوماً لا محالة مصرع

    ينازل ما لا يملك غيره ........ متى تنقضي حاجات من ليس يشبع !

    وأي امرئ في غايةٍ ليس نفسه ........ إلى غايةٍ أخرى سواها تطلع !

    وله:

    سل الأيام عن أممٍ تقضت ........ ستخبرك المعالم والرسوم

    تروم الخلد في دار التفاني ........ وكم قد رام قبلك ما تروم !

    لأمرٍ ما تصرمت الليالي ........ وأمرٍ ما تقلبت النجوم

    تنام ولم تنم عنك المنايا ........ تنبه للمنية يا نؤوم

    إلى ديان يوم الدين نمضي ........ وعند الله تجتمع الخصوم

    حسبنا الله وحده، وصلواته على خيرته من خلقه سيدنا محمد وآله الطاهرين

    الجزء الرابع

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الواحد العدل الحكيم ؛ وصلى الله على رسوله الكريم

    ومنها في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية:

    الأصل : ومن تمام الأضحية استشراف أذنها ، وسلامة عينها ، فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمت ، ولو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المسك .قال الرضي رحمه الله : والمنسك ههنا : المذبح .الشرح : الأضحية : ما يذبح يوم النحر ، وما يجري مجراه أيام التشريق من النعم . واستشراف أذنها : انتصابها وارتفاعها ، أذن شرفاء أي منتصبة .والعضباء : المكسورة القرن . والتي تجر رجلها إلى المنسك ، كناية عن العرجاء ، ويجوز المنسك ، بفتح السين وكسرها .

    رأي الفقهاء في وجوب الأضحية:

    واختلف الفقهاء في وجوب الأضحية ، فقال أبو حنيفة : هي واجبة على المقيمين من أهل الأمصار ، ويعتبر في وجوبها النصاب ، وبه قال مالك والثوري ، إلا أن مالكاً لم يعتبر الإقامة .وقال الشافعي : الأضحية سنة مؤكدة ، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد .واختلفوا في العمياء ؛ هل تجزئ أم لا ؟ فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل يقتضي ذلك ؛ لأنه قال : إذا سلمت العين سلمت الأضحية ، فيقتضي أنه إذا لم تسلم العين لم تسلم الأضحية . ومعنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء إجزائها .وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه قال : تجزئ العمياء .وقال محمد بن النعمان المعروف بالمفيد رضي الله تعالى عنه ، أحد فقهاء الشيعة في كتابه المعروف بالمقنعة : إن الصادق عليه السلام سئل عن الرجل يهدي الهدي أو الأضحية وهي سمينة ، فيصيبها مرض ، أو تفقأ عينها أو تنكسر ، فتبلغ يوم النحر وهي حية ، أتجزئ عنه ؟ فقال : نعم .فأما الأذن ، فقال أحمد : لا يجوز التضحية بمقطوعة الأذن ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقضي ذلك . وقال سائر الفقهاء : تجزئ إلا أنه مكروه .وأما العضباء ، فأكثر الفقهاء على أنها تجزئ ، إلا أنه مكروه ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضي ذلك ، وكذلك الحكم في الجلحاء ، وهي التي لم يخلق لها قرن ، والقصماء : وهي التي انكسر غلاف قرنها ، والشرفاء : وهي التي انثقبت أذنها من الكي ، والخرقاء : وهي التي شقت أذنها طولاً .وقال مالك : إن كانت العضباء يخرج من قرنها دم لم تجزئ .وقال أحمد والنخعي : لا تجوز التضحية بالعضباء .فأما العرجاء التي كنى عنها بقوله : تجر رجلها إلى المنسك ، فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضي أنها تجزئ . وقد نقل أصحاب الشافعي عنه أن الأضحية إذا كانت مريضة مرضاً يسيراً أجزأت .وقال الماوردي من الشافعية في كتابه المعروف بالحاوي : إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقةً أجزأت ، وإن كان ذلك عن مرض لم تجزئ .

    ومن كلام له عليه السلام في ذكر البيعة:

    الأصل : فتداكوا علي تداك الإبل الهيم يوم وردها ، وقد أرسلها راعيها ، وخلعت مثانيها ، حتى ظننت أنهم قاتلي ، أو بعضهم قاتل بعضٍ لدي . وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم ، فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله ، فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب ، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة .الشرح : تداكوا : ازدحموا . والهيم : العطاش . ويوم وردها : يوم شربها الماء . والمثاني : الجبال ، جمع مثناة ومثناة بالفتح والكسر ، وهو الحبل .وجهاد البغاة واجب على الإمام ، إذا وجد أنصاراً ، فإذا أخل بذلك أخل بواجب ، واستحق العقاب .فإن قيل : إنه عليه السلام قال : لم يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون تارك الواجب جاحداً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .قيل : إنه في حكم الجاحد ، لأنه مخالف وعاصٍ ، لا سيما على مذهبنا في أن تارك الواجب يخلد في النار وإن لم يجحد النبوة .

    بيعة علي عليه السلام:

    اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، فالذي عليه أكثر الناس وجمهور أرباب السير أن طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين، ثم تغيرت عزائمهما، وفسدت نياتهما، وغدرا به .وقال الزبيريون، منهم عبد الله بن مصعب، والزبير بن بكار وشيعتهم ومن وافق قولهم من بني تيم بن مرة، أرباب العصبية لطلحة: إنهما بايعا مكرهين، وإن الزبير كان يقول: بايعت واللج على قفي، واللج سيف الأشتر، وقفي لغة هذلية ؛إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الألف ياء، وأدغموا إحدى الياءين في الأخرى، فيقولون: قد وافق ذلك هوي، أي هواي، وهذه عصي، أي عصاي .وذكر صاحب كتاب الأوائل أن الأشتر جاء إلى علي عليه السلام حين قتله عثمان، فقال: قم فبايع الناس، فقد اجتمعوا لك، ورغبوا فيك، والله لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة، فجاء حتى دخل بئر سكن، واجتمع الناس، وحضر طلحة والزبير، لا يشكان أن الأمر شورى، فقال الأشتر: أتنتظرون أحداً! قم يا طلحة فبايع، فتقاعس، فقال: قم يابن الصعبة، وسل سيفه، فقام طلحة يجر رجله ؛حتى بايع فقال قائل: أول من بايعه أشل! لا يتم أمره، ثم لا يتم، قال: قم يا زبير، والله لا ينازع أحداً إلا وضربت قرطه بهذا السيف، فقام الزبير فبايع ؛ثم انثال الناس عليه فبايعوا .وقيل أول من بايعه الأشتر، ألقى خميصةً كانت عليه، واخترط سيفه، وجذب يد علي عليه السلام فبايعه وقال للزبير وطلحة: قوما فبايعا، وإلا كنتما الليلة عند عثمان، فقاما يعثران في ثيابهما لا يرجوان نجاةً، حتى صفقا بأيديهما على يده، ثم قام بعدهما البصريون، وأولهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، فبايعوا، وقال له عبد الرحمن :

    خذها إليك واعلمن أبا حسن ........ أنا نمر الأمر إمرار الرسن

    وقد ذكرنا نحن في شرح الفصل الذي فيه أن الزبير أقر بالبيعة، وادعى الوليجة أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع إلا عن رضا جميع أهل المدينة، أولهم طلحة والزبير، وذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير .وذكر أبو مخنف في كتاب الجمل أن الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينظروا من يولونه أمرهم، حتى غص المسجد بأهله، فاتفق رأي عمار وأبي الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن عجلان وأبي أيوب خالد بن يزيد على إقعاد أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة، وكان أشدهم تهالكاً عليه عمار، فقال لهم: أيها الأنصار، قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه، وأنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم، وإن علياً أولى الناس بهذا الأمر، لفضله وسابقته، فقالوا: رضينا به حينئذ، وقالوا بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار والمهاجرين: أيها الناس، إنا لن نألوكم خيراً وأنفسنا إن شاء الله، وإن علياً من قد علمتم، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه، ولا أولى به. فقال الناس بأجمعهم: قد رضينا، وهو عندنا ما ذكرتم وأفضل. وقاموا كلهم، فأتوا علياً عليه السلام، فاستخرجوه من داره، وسألوه بسط يده، فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على وردها، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً، فلما رأى منهم ما رأى، سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس. وقال: إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر .فنهض الناس معه حتى دخل المسجد، فكان أول من بايعه طلحة. فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي: تخوفت ألا يتم له أمره، لأن أول يد بايعته شلاء، ثم بايعه الزبير، وبايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، وعبد الله بن سلام .فأمر بإحضار عبد الله بن عمر، فقال له: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع جميع الناس، فقال له عليه السلام: فأعطني حميلاً ألا تبرح، قال: ولا أعطيك حميلاً، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، إن هذا قد أمن سوطك وسيفك، فدعني أضرب عنقه، فقال: لست أريد ذلك منه على كره، خلوا سبيله، فلما انصرف قال أمير المؤمنين: لقد كان صغيراً وهو سيء الخلق وهو في كبره أسوأ خلقاً .ثم أتى بسعد بن أبي وقاص، فقال له بايع، فقال: يا أبا الحسن خلني، فإذا لم يبق غيري بايعتك، فوالله لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبداً، فقال: صدق، خلوا سبيله. ثم بعث إلى محمد ابن مسلمة، فلما أتاه قال له: بايع، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني إذا اختلف الناس وصاروا هكذا - وشبك بين أصابعه - أن أخرج بسيفي هذا فأضرب به عرض أحد فإذا تقطع أتيت منزلي، فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية، أو منية قاضية. فقال له عليه السلام: فانطلق إذاً، فكن كما أمرت به .ثم بعث إلى أسامة بن زيد، فلما جاء قال له: بايع، فقال: إني ملاك ولا خلاف مني عليك، وستأتيك بيعتي إذا سكن الناس. فأمره بالانصراف، ولم يبعث إلى أحد غيره .وقيل له: ألا تبعث إلى حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن سلام! فقال: لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا .فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به، لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل، وأنهم لم يتخلفوا عن البيعة، وإنما تخلفوا عن الحرب .وروى شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب الغرر أنهم لما اعتذروا إليه بهذه الأعذار، قال لهم: ما كل مفتون يعاتب، أعندكم شك في بيعتي ؟قالوا: لا، قال: فإذا بايعتم فقد قاتلتم. وأعفاهم من حضور الحرب .فإن قيل: رويتم أنه قال: إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر، ثم رويتم أن جماعة من أعيان المسلمين كرهوا ولم يقف مع كراهتهم .قيل: إنما مراده عليه السلام أنه متى وقع الاختلاف قبل البيعة نفضت يدي عن الأمر ولم أدخل فيه، فأما إذا بويع ثم خالف ناس بعد البيعة، فلا يجوز له أن يرجع عن الأمر ويتركه ؛لأن الإمامة تثبت بالبيعة، وإذا ثبتت لم يجز له تركها .وروى أبو مخنف عن ابن عباس، قال: لما دخل علي عليه السلام المسجد، وجاء الناس خفت أن يتكلم بعض أهل الشنآن لعلي عليه السلام ممن قتل أباه وأخاه، او ذا قربته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيزهد علي في الأمر ويتركه، فكنت أرصد ذلك وأتخوفه، فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلهم راضين مسلمين غير مكرهين .لما بايع الناس علياً عليه السلام، وتخلف عبد الله بن عمر، وكلمه علي عليه السلام في البيعة فامتنع عليه، أتاه في اليوم الثاني، فقال: إني لك ناصح، إن بيعتك لم يرض بها كلهم، فلو نظرت لدينك ورددت الأمر شورى بين المسلمين! فقال علي عليه السلام: ويحك! وهل ما كان عن طلب مني له! ألم يبلغك صنيعهم ؟قم عني يا أحمق، ما أنت وهذا الكلام !فلما خرج أتى علياً في اليوم الثالث آتٍ، فقال: إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك، فأمر بالبعث في أثره، فجاءت أم كلثوم ابنته، فسألته وضرعت إليه فيه، وقالت: يا أمير المؤمنين، إنما خرج إلى مكة ليقيم بها، وإنه ليس بصاحب سلطان ولا هو من رجال هذا الشأن، وطلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره ؛لأنه ابن بعلها. فأجابها وكف عن البعثة إليه، وقال: دعوه وما أراده.

    وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين:

    الأصل: أما قولكم: أكل ذلك كراهية الموت! فوالله ما أبالي ؛دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي .وأما قولكم شكاً في أهل الشام! فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، فهو أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها .الشرح: من رواه: اكل ذلك، بالنصب فمفعول فعل مقدر، أي تفعل كل ذلك، وكراهية منصوب لأنه مفعول له ومن رواه أكل ذلك، بالرفع أجاز في كراهية الرفع والنصب، أما الرفع فإنه يجعل كل مبتدأ، وكراهية خبره، وأما النصب فيجعلها مفعولاً له كما قلنا في الرواية الأولى، ويجعل خبر المبتدأ محذوفاً، وتقديره: أكل هذا مفعول! أو تفعله كراهية للموت! ثم أقسم أنه لا يبالي أتعرض هو للموت حتى يموت، أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرض له .وعشا إلى النار يعشو: استدل عليها ببصر ضعيف، قال :

    متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ........ تجد خير نارٍ عندها خير موقد

    وهذا الكلام استعارة، شبه من عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلاً إلى النار، وذلك لأن بصائر أهل الشام ضعيفة، فهم من الاهتداء بهداه عليه السلام كمن يعشو ببصرٍ ضعيف إلى

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1