Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين
الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين
الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين
Ebook786 pages4 hours

الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

نضمّن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية ومَن تبعهم من المخضرمين، ونجتنب أشعار المشاهير لكثرتها في أيدي النَّاس فلا نذكر منها إلاَّ الشيء اليسير ولا نُخليها من غرر ما رويناه للمحدثين، ونذكر أشياء من النظائر إذا وردت، والإجازات إذا عنّت، ونتكلم عن المعاني المخترعة والمتبعة ولا نجمع نظائر البيت في مكان واحد ولا المعنى المسروق في موضع، بل نجعل ذلك في موضع ذكره، وإن كنا نعلم أنك - أدام الله تأييدك - أعلمُ بما نحمله إليك، ونعرضه عليك، منّا.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 14, 1901
ISBN9786831183853
الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين

Related to الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين

Related ebooks

Reviews for الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين - الخالديان

    الغلاف

    الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين

    الخالديان

    380

    نضمّن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية ومَن تبعهم من المخضرمين، ونجتنب أشعار المشاهير لكثرتها في أيدي النَّاس فلا نذكر منها إلاَّ الشيء اليسير ولا نُخليها من غرر ما رويناه للمحدثين، ونذكر أشياء من النظائر إذا وردت، والإجازات إذا عنّت، ونتكلم عن المعاني المخترعة والمتبعة ولا نجمع نظائر البيت في مكان واحد ولا المعنى المسروق في موضع، بل نجعل ذلك في موضع ذكره، وإن كنا نعلم أنك - أدام الله تأييدك - أعلمُ بما نحمله إليك، ونعرضه عليك، منّا.

    الجزء الأول

    بسم الله الرحمن الرحيم

    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

    الحمد لله الواحد بلا كيفية تقع بها الإحاطة، والأزليّ بلا وقت تنسب الصفات إليه، حمداً يورد من جليل نعمه، وجزيل قسمه، مشرباً عذباً ومَسحباً رحباً، وصلى الله على سيدنا محمد ما أورق شجر، وأينع ثمر، وعلى الطاهرين من عترته وسلم تسليما .وبعد فسح الله لنا في مدّتك، ووفقنا لما نؤثره من خدمتك، فإنَّا رأيناك بأشعار المحدثين كلِفاً، وعن القدماء والمخضرمين منحرفاً، وهذان الشريجان هما اللذان فتحا للمحدثين باب المعاني فدخلوه، وأنهجوا لهم طرق الإبداع فسلكوه، أمَا سمعتَ، زاد الله قدرك علوا ورفعةً وسموّاً، قول الشاعر:

    فلو قبل مبكاها بكيتُ صبابةً ........ إليها شفيتُ النَّفس قبلَ التندُّمِ

    ولكن بكتْ قبلي فهيَّج لي البكا ........ بُكاها فقلتُ الفضلُ للمتقدِّمِ

    ومن أمثالهم السائرة: ما ترك الأوَّل للآخر شيئاً، إلاَّ أنَّ أبا تمام لم يرض بهذا المثل حتَّى قال يصف قصيدةً له:

    لا زلت من شكريَ في حلة ........ لابسُها ذو سلب فاخرِ

    يقول من تقرعُ أسماعَه ........ كم ترك الأوَّلُ للآخرِ

    ومن المعنى الأول قول عنترة: 'هل غادر الشعراء من متردّم ؟' أي ما تركوا كلاماً لمتكلّم. فإذا كان عنترة - وهو في الجاهلية الجهلاء، وإمام الفصاحة الفصحاء - يقول مثل هذا القول فما ظنك بهذا العصر وقبله بمائتي سنة ؟فلسنا بقولنا هذا، أيدك الله، نطعن على المحدثين ولا نبخسهم تجويدهم ولطف تدقيقهم وطريف معانيهم وإصابة تشبيههم وصحة استعاراتهم. إلاَّ أنَّا نعلم أن الأوائل من الشعراء رسموا رسوماً تبعها من بعدهم، وعوَّل عليها مَن قفا أثرهم، وقلَّ شعرٌ من أشعارهم يخلو من معانٍ صحيحة، وألفاظ فصيحة، وتشبيهات مصيبة، واستعارات عجيبة، ونحن - أطالَ اللهُ في العزّ بقاءك، وكبت بالذل أعداءك - نضمّن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية ومَن تبعهم من المخضرمين، ونجتنب أشعار المشاهير لكثرتها في أيدي النَّاس فلا نذكر منها إلاَّ الشيء اليسير ولا نُخليها من غرر ما رويناه للمحدثين، ونذكر أشياء من النظائر إذا وردت، والإجازات إذا عنّت، ونتكلم عن المعاني المخترعة والمتبعة ولا نجمع نظائر البيت في مكان واحد ولا المعنى المسروق في موضع، بل نجعل ذلك في موضع ذكره، وإن كنا نعلم أنك - أدام الله تأييدك - أعلمُ بما نحمله إليك، ونعرضه عليك، منّا. ومن أين لنا قرائح تنتج ما لا تزال تُريناه، وتسألنا عنه، من دقيق المعاني وطرائف السرقات. ولقد تأتَّى لك - أيدك الله - في بيتَي أبي تمام والبحتري على غموض المعنى وبُعده في النوعين من دقة النظر ولطيف الفكر ما لا يتوهم أنَّه يطَّرِد لسواك ولا يعنُّ لغيرك، وهو أنك - أيد الله عزّك - قلت لنا: من أين أخذ البحتري قوله:

    رَكِبا القَنا من بعد ما حملا القنا ........ في عسكر متحامل في عسكرِ

    فلم يكن عندنا فيه شيء غير الاستحسان والتقريظ، فعرّفتنا - أيدك الله - أنَّه مأخوذ من قول أبي تمام:

    رعَته الفيافي بعد ما كانَ حِقبة ........ رَعَاها وماءُ الرَّوض ينهلُّ ساكِبُهْ

    ولا نعرف في النظر أدقّ من هذا ولا ألطف إلاَّ أنَّا نوفّي الخدمة حقَّها بما نتكلّفه من الاختيار والكلام على ما ذكرناه، وبالله التوفيق .قال المهلْهِل بن ربيعة:

    بكُرهِ قلوبنا يا آل بكرٍ ........ نُغاديكم بمُرهفةِ النِّصالِ

    لها لونٌ من الهاماتِ جَونٌ ........ وإن كانت تُغادَى بالصّقالِ

    ونبكي حين نذكركم عليكم ........ ونقتلُكُم كأنَّا لا نُبالي

    أبيات المهلهل هذه هي الأصل في هذا المعنى، ومثله قول الحُصَين بن الحُمَام المرّي:

    نفلِّقُ هاماً من رجالٍ أعزَّةٍ ........ علينا وهُم كانوا أعقَّ وأظلَما

    وأخذه بعضهم فقال:

    قوْمي همُ قتلوا أُميمَ أخي ........ فإذا رمَيتُ أصابني سهمِي

    فلئن عفوتُ لأعفوَنْ جَللاً ........ ولئن قتلتُ لأُوهِنَنْ عظمِي

    وأخذه مالك بن مطفوق السعديّ فقال:

    قتلْنا بني الأعمام يوم أوارَة ........ وعزَّ علينا أن نكون كذلِكا

    هُم أحرَجونا يوم ذاك وجرَّدوا ........ علينا سُيوفاً لم يكنَّ بواتِكا

    وأخذه حرب بن مِسعر فقال:

    ولمَّا دعاني لم أُجِبْه لأنَّني ........ خشيتُ عليه وقعةً من مُصمِّم

    فلمَّا أعاد الصَّوت لم أكُ عاجزاً ........ ولا وكِلاً في كلّ دَهْياءَ صَيْلَم

    عطفتْ عليه المُهْر عطفةَ مُحرج ........ صؤولٍ ومن لا يغشِم النَّاسَ يُغشَم

    وأوجرتُهُ لَدْن الكسوب مقوّماً ........ فخرَّ صريعاً لليدَين وللفَم

    وغادرتُهُ والدَّمعُ يجري لقتله ........ وأوداجُهُ تجري على النحر بالدَّمِ

    فأخذا هذا المعنى ديك الجن فقال في جارية كان يحبها فقتلها:

    قمرٌ أنا استخْرجتُهُ من دُجْنة ........ لبليَّتي وجلوتُهُ من خِدرِهِ

    فقتلتُهُ وله عليَّ كرامةٌ ........ ملء الحشا وله الفؤادُ بأسرِهِ

    عهدي به مَيْتاً كأحسنِ نائمٍ ........ والحزنُ ينحرُ عَبرتي في نحرِهِ

    وإلى المعنى الأول نظر أبو تمام في قوله:

    قدِ انْثَنى بالمنايا في أسنَّتِهِ ........ وقد أقامَ حياراكم على اللَّقَمِ

    جذلانُ من ظفر حرَّانُ أن رجعتْ ........ أظفارُهُ منكمُ مخضوبةً بدَمِ

    ومن هذا المعنى أخذ البحتري قوله:

    إذا احْتربَتْ يوماً ففاضت دماؤها ........ تذكَّرتِ القربى ففاضت دموعُها

    بيت البحتري أطرف وأبدع من بيت المهلهل إلاَّ أنَّه أرشده إلى المعنى ودلَّ عليه. ومثله القتَّال الكلابي:

    فلمَّا رأيتُ أنَّه غيرُ منتهٍ ........ أمَلْتُ له كفّي بلَدْن مقوّمِ

    فلمَّا رأيتُ أنَّني قد قتلتهُ ........ ندِمتُ عليه أيَّ ساعة مندَمِ

    ولبعضهم:

    أتتْني آية من أُمّ عمرو ........ فكدتُ أغَصّ بالماء القراحِ

    فما أنسَى رسالتها ولكن ........ ذليلٌ من ينوءُ بلا جناحِ

    قوله: 'ذليلٌ من ينوء بلا جناح' من الأمثال الجياد المختارة .قال الحكم بن عبدل الأسديّ:

    إذا كنتَ جاراً خائفاً ومُحوِّلا ........ لاقيتَ عمرانَ بن ورقاءَ فانْزلِ

    هو الغيث والشَّهر الحرام وضامن ........ لك الدَّهر إن أخنى عليك بكلكلِ

    قال عمرو بن برَّاقة الهَمْداني:

    تقول سُليمى لا تعرّضْ لتَلْفَة ........ وليلُك عن ليل الصَّعاليك نائمُ

    وكيف ينام الليل مَن جُلَّ مالِهِ ........ حُسام كلون الملح أبيضَ صارِمُ

    كذَبتم وبيتِ الله لا تأخذونها ........ مُراغمة ما دام للسَّيف قائمُ

    متى تجمع القلبَ الذكيّ وصارما ........ وأنفاً حمِيّا تجتنبْكَ المظالمُ

    ومَن يطلبِ المال الممنّع بالقنا ........ يعشْ ماجداً أو تخترِمْه الخوارِمُ

    مثله:

    ومن يطلبِ المالَ الممنّع بالقنا ........ يعشْ مُثرِياً أو يُودِ فيما يمارسُ

    إذا جرَّ مولانا علينا جريرةً ........ صبَرنا لها إنَّا كرامٌ دعائمُ

    وننصرُ مولانا ونعلمُ أنَّه ........ كما النَّاسُ مجرومٌ عليه وجارِمُ

    وكنتُ إذا قوم غزوني غزوتُهم ........ فهلْ أنا في ذا يالَ هَمْدان ظالمُ

    قال يزيد خذَّاق العبدي:

    فَلَت عينَها عنِّي سَفاهاً وراقَها ........ فتى دون أضيافِ الشتاءِ شروبُ

    دهينُ القفا يُدني تبيعةَ سيفه ........ وما كلُّ أصحابِ السُّيوفِ نجيبُ

    قوله: 'فتى دون أضيافِ الشتاءِ شروبُ' نهاية في الهجاء، وإنَّما خصَّ بقوله أضياف الشتاء للكِنّ والصلاء وما يضيف في الشتاء من العرب إلاَّ المبرّز في السماحة لكَلَب البرد وصفر البيوت لأنه يريد أن يحصر عياله ويخرج من بيته ماشيته ليتَّسع المكان على ضيفه. وأخرى إن الزاد عندهم في الشتاء قليل وفي الصيف كثير .قال الغطَمَّش الضبّي:

    إنِّي وإن كانَ ابنُ عمِّيَ عاتبا ........ لمقاذِفٌ من دونِهِ وورائِهِ

    ومفيدُه نصري وإن كانَ امرأ ........ متزَحزِحاً في أرضِهِ وسمائِهِ

    وإذا اكْتَسى ثوباً جميلاً لم أقلْ ........ يا ليت أنَّ عليَّ مثلَ ردائِهِ

    قال كِنار بن صُريم الجرميّ:

    أرد الكتيبة مفلولةً ........ وقد تركت ليَ أحسابَها

    ولستُ إذا كنت في جانب ........ أذُمُّ العشيرة مُغتابَها

    قوله: 'وقد تركت لي أحسابَها' معنى جيد، ذكَر أنَّه هزم أعداءه فصارت مفاخرهم له بهزيمته إياهم .وأنشد لبعض الأعراب:

    أرى كلّ أرض دمَّنتها وإن مضت ........ لها حججٌ يزداد طيباً ترابُها

    ألم تعلمنْ يا ربّ أن ربَّ دعوة ........ دعوتُك فيها مُخلصاً لو أُجابُها

    لعمر أبي ليلى لئن هي أصبحتْ ........ بوادي القرى ما ضرَّ غيري اغترابُها

    مثله للبحتري:

    لعمرُ الرسومِ الدارساتِ لقد غدت ........ بريّا سُعاد وهي طيبةُ العرفِ

    مثله للنُّميري:

    تضوَّعَ مِسكاً بطنُ نعمانَ أن مشت ........ به زينبٌ في نسوةٍ عَطراتِ

    مثله لأبي تمام:

    لولا نسيم ترابها لم تُعرفِ

    قوله: يزداد طيباً ترابها مثل قول جميل:

    ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً ........ بأبطحَ فيّاحٍ بأسفله محلُ

    يفوح علينا المسكُ منه وإنّما ........ به المسكُ أن جرَّتْ به ذيلها جمْلُ

    ولبعضهم:

    واستودعتْ نشرها الديارَ فما ........ تزدادُ إلاَّ طيباً على القِدَمِ

    ومن هنا أخذ العباس بن الأحنف قوله:

    جرى السيلُ فاستبكانيّ السيلُ إذ جرى ........ وفاضتْ له من مقلتيَّ غروبُ

    وما ذاك إلاَّ حين خبِّرتُ أنّه ........ يمرُّ بوادٍ أنت منه قريبُ

    يكون أُجاجاً دونكم فإذا انتهى ........ إليكم تلقَّى طيبكم فيطيبُ

    أخذه ابن المعتز فقال:

    فلما انتهى قول السلام وردُّه ........ لفظن حديثاً عطَّرته الملافظُ

    أبو العباس الأعمى:

    ليت شعري أفاح رائحة المس _ ك وما إن إخالُ بالخيف إنْسي

    أنشد ابن الأعرابي:

    على الميْتِ من بطن الجزيرة كلما ........ مررْنا به أو لم نمرَّ سلامي

    وما ذاك إلاَّ أنَّ زينب جرَّرتْ ........ به الذيلَ لم تنزل لدار مُقامِ

    كأنَّ تِجَاراً تحمل الطيبَ عرَّسوا ........ به ثمَّ فضوا ثَمَّ كلَّ خِتامِ

    وهذا كثير في أشعارهم قديماً ومحدثاً. وأحسنُ ما قيل في هذا المعنى قول الشاعر:

    وأنتِ التي حبَّبتِ شغباً إلى بَدى ........ إليَّ وأوطاني بلادٌ سواهُما

    حللتِ بهذا حلّة بعد حلّة ........ بهذا فطاب الواديان كلاهُما

    ومثله لأبي نواس:

    لمن دِمنٌ تزداد حُسنَ رسوم ........ على طول ما أقوتْ وطيبَ نسيمِ

    عبد الله بن ثعلبة الأزدي:

    فلئن عمرتُ لأشفيَ _ نَّ النفسَ من تلك المساعي

    ولأعلمنَّ البطن أ _ نَّ الزادَ ليس بمُستطاعِ

    أما النهارَ فرائيٌّ ........ قومي بمرقبة يفاعِ

    في قَرَّة هلكٍ وشو _ كٍ مثلِ أنياب الأفاعي

    ترد السباعُ معي فتح _ سبني السباعُ من السباعِ

    أخذ أبو تمام هذا المعنى فجوَّده وظرف كلامه بقوله:

    أنقَّ مع السباع الماء حتَّى ........ لَخالته السباعُ مع السِّباعِ

    سُويد بن أبي كاهل:

    ذريني أشب عمِّي براحٍ فإنني ........ أرى الدهرَ فيه فرجة ومضيقُ

    وما أنا إلاَّ كالزمان إذا صحا ........ صحوتُ وإن ماق الزمانُ أموقُ

    هذا مثل قول بعض الطالبيين:

    إذا عقل الدهرُ لم تلقني ........ جهولا وأجهلُ إما جَهِلْ

    وما الحزم إلاَّ لدى نشوةٍ ........ تباكر بالكأس قبل العذَلْ

    أخذ هذا الشاعر معنى هذين البيتين في تفسير هذين .أعرابي:

    فلو كنتُ في الدَّار التي تعرفانها ........ مرِضتُ إذاً ما غاب عنّي معلِّلي

    هنالك لو أنِّي اعتللتُ لعادني ........ عوائدُ من لم يأتِ منهن يُرسلِ

    هذا مثل قول مالك بن الرَّيب:

    وبالرمل منِّي نسوةٌ لو شهدنَني ........ بكين وفدَّين الطبيب المداويا

    ومثل قول جرير أيضاً:

    إن لا يكن لك بالمصرَين باكية ........ فرُبَّ باكية بالرَّملِ معوالِ

    القتَّال الكلابي:

    إذا هبَّتِ الأرواحُ كانَ أحبُّها ........ إليَّ التي من نحو نجدٍ هبوبُها

    وإنِّي ليدعوني إلى طاعة الهوَى ........ كواعبُ أترابٌ مِراض قلوبُها

    كأنَّ الشفاه الحوّ منهن حُمِّلتْ ........ ذرَى بَرَد ينهلّ عنها غروبُها

    بهنَّ من الداء الَّذي أنا عارف ........ وما يعرف الأدواء إلاَّ طبيبُها

    طُرَيح الثقفيّ:

    أصلحتَني بالجود بل أفسدتَني ........ وتركتَني أتسخَّطُ الإحسانا

    من جاد بعدك كانَ جودُك فوقه ........ لا كانَ بعدك كائناً من كانا

    أبو محجن الثقفي:

    نعاهدُ أطرافَ القنا فنَفِي لها ........ إذا لم تُضرَّج من دمٍ أن تُحطَّما

    حرامٌ علينا أن نشيمَ سيوفَنا ........ ولم تروَ من أعناقِ أعدائنا دَمَا

    ومن البيت الأول أخذ بشار قوله:

    إذا أُكرهَ الخطّي فينا وفيهم ........ جرى ماؤه في لامنا وتحطَّما

    وهذا معنى حسن غير متسع في الشعر. والأصل فيه قول الأسعر الجعفي:

    وإذا حملتُ حملت غير مهلِّل ........ وإذا طعنتُ كسرت رمحي أو مضَى

    وأخذه البحتري فجوّد في قوله:

    ألْوَى إذا طعنَ المدجّجَ تلَّهُ لي _ ديه أو نثر القناةَ كُعوبَا

    وردّه في موضع آخر في صفة السيف فقال:

    وكنتَ متى تجمعْ يمينَك تهتِكِ ال _ ضّريبة أو لا تُبق للسيف مضرِبَا

    وأخذه أيضاً المَرْيَميُّ في استعارة فقال:

    إذا غمزا قناةَ البغي قامتْ ........ بأدْنَى الغمزِ أو طارت شظَايا

    أُحَيحة بن الجَلاَح الأوسي:

    وقد علِمتْ سراةُ الأوسِ أنِّي ........ من الفتيانِ أعدلُ لا أميلُ

    وقد أعددتُ للحدثان حِصناً ........ لو أنَّ المرءَ تنفعُهُ العقولُ

    لعمرُ أبيك ما يُغني مكاني ........ من الفتيان زِمّيل كسُولُ

    فهل من كاهل أودِيْ إليه ........ إذا ما كانَ من قدَر نزولُ

    يراهنُني فيرْهَنُني بَنيهِ ........ وأرهنُهُ بنيَّ بما أقولُ

    لما يَدري الفقيرُ متى غناه ........ وما يدري الغنيُّ متى يَعيلُ

    وما تَدري إذا أجمعْتَ أمراً ........ بأيِّ الأرض يُدركك المقيلُ

    وما تَدري إذا أنتجتَ سقبا ........ لأيِّ النَّاس ينتقلُ الفصيلُ

    وما تدري إذا أنتجتَ شَولاً ........ أتلقَح بعد ذلك أم تُحيلُ

    أما قوله: 'بأي الأرض يُدركك المقيلُ' فأخذه من قول الله عزّ وجلّ: (وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ ). وأما قوله: 'وما تدري إذا أنتجت سقباً' البيت قريب من قول الحارث ابن حلزة اليشكري:

    لا تكسَعِ الشَّولَ بأغبارِها ........ إنَّك لا تَدري من الناتِجُ

    مالك بن كعب الأوسيّ:

    مَعاذَ إلهي أن تقولَ حليلتي ........ ألا فرَّ عنِّي مالكُ بنُ أبي كعبِ

    أُقاتلُ حتَّى لا أرى لي مُقاتِلاً ........ وأنجُو إذا غُمَّ الجبانُ من الكربِ

    عليَّ لجاري ما حيِيتُ ذِمامةٌ ........ وأعرف ما حقُّ الرَّفيق على الصَّحبِ

    ولا أُسمعُ الندمانَ شيئاً يُريبُهُ ........ إذا الكأسُ دارت بالمدام على الشَّرْبِ

    وكانَ أبي في المحْلِ يُطعمُ ضيفَه ........ ويُرْوي نَدَاماه ويصبرُ في الحربِ

    ويمنع مولاه ويُدرك تَبْلَه ........ وإن كانَ ذاك التّبل في مطلَب صعبِ

    وإذْ ما منعتُ المالَ منكم لضِنّةٍ ........ فلا يَهْنِني مالي ولا ينمُ لي كسْبي

    وله أيضاً:

    ولا خيرَ في مولَى يظلّ كأنَّه ........ إذا ضِيمَ مولاه أكبَّ على غُنمِ

    حريصٍ على ظلم البَريّ مخالف ........ عن القصدِ مأمونٍ ضعيفٍ عن الظلمِ

    حسود لِذِي القربى كأنَّ ضلوعَه ........ من الغِشّ للأدنينَ ضُمَّت على كَلْمِ

    قريب إذا عضَّتْ به الحربُ عضة ........ وأبعد شيء جانباً منك في السِّلمِ

    فذاك كغثِّ اللَّحمِ ليس بنافع ........ ولا بدَّ يوماً أن يُعَدَّ من اللَّحمِ

    عمرو بن الإطنابة:

    أبَتْ لي عفَّتي وأبَى بلائي ........ وأخْذِي الحمدَ بالثمن الرَّبيحِ

    وإعطائي على المكروه مالِي ........ وإقدامي على البطلِ المُشيحِ

    وقولي كلَّما جشَأتْ وجاشتْ ........ مكانكِ تُحمَدي أو تَسْتَريحي

    لأدفعَ عن مآثِرَ صالحاتٍ ........ وأَحمِي بعدُ عن عِرضٍ صحيحِ

    أما قوله يخاطب نفسه: 'وقولي كلَّما جشَأتْ وجاشتْ' فعليه فيه متعلّق لأنه ذكر نفسه بالجبن، وأنَّها تدعوه إلى الفرار، وأنَّه يقهرها بصبره، وفي الشعر مثل هذا كثير على العيب الَّذي قدمنا ذكره .وله أيضاً:

    ذُلُلٌ ركابي حيث شئتُ مشايعي ........ لٌبِّي أَروعُ قطا المكان الغافلِ

    أظليم ما يُدريك كم من خُلَّةٍ ........ حسنٍ مدامعُها كظبيةِ حابلِ

    قد بتُّ مالِكَها وشاربَ قهوةٍ ........ دِرياقة أَروَيتُ منها واغِلي

    صهباءَ صافيةٍ ترى ما دونها ........ قعرَ الإناءِ تُضيءُ وجهَ الناهِلِ

    إنِّي من القوم الذين إذا انْتَدَوا ........ بَدَأوا بحقِّ اللهِ ثمَّ النائلِ

    المانعين من الخنا جاراتِهم ........ والحاشدين على طعام النازلِ

    والخالطين فقيرَهم بغنيِّهم ........ والباذِلين عطاءهم للسائلِ

    والضاربين الكبشَ يَبْرُق بَيضُه ........ ضربَ المُهَجهَج عن حِياضِ الناهلِ

    قد أخذ في هذه الأبيات أشياء وأُخذ منه أشياء، فما أخَذ قوله: 'ذلل ركابي حيث شئت' البيت، وهذا البيت بأسره لعنترة إلاَّ أنَّا قد وجدنا مثل هذا في أشعارهم أشياء كثيرة، فمن ذلك قول امرئ القيس:

    وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم ........ يقولون لا تهلِكْ أسًى وتجمَّلِ

    ولطرفة بن العبد مثله حرفاً بحرف، إلاَّ أنَّه جعل مكان 'تجمَّل' تجلّدِ' .ومن تصفَّح أشعار العرب رأى من هذا عجائب. وهم يسمونه التوارد وهو عندنا سرقة لا محال. وممَّا أخذه أيضاً قوله: 'قد بتُّ مالكها وشارب قهوة' البيت، وهذا بأسره للبيد، إلاَّ أنهما في عصر واحد، فلا ندري أيّهما أخذ من صاحبه. وأخذ أيضاً قوله: 'صهباء صافية ترى ما دونها قعر الإناء'، وتمام البيت من قول الأعشى:

    تُريكَ القذَى من دونِها وهْيَ دونَه

    إلاَّ أنَّه لم يأتِ بمثل كلام الأعشى ولا قاربه .وأما ما أُخذ منه فقوله: 'والخالطين غنيَّهم بفقيرهم'، والبيت الآخر أخذه منه حسان بن ثابت مصالتة فقال:

    والخالطين غنيّهم بفقيرهم ........ والمنعمين على الفقيرِ المُرمِلِ

    والضاربين الكبشَ يبرُق بَيضُهُ ........ ضرباً يَطيحُ به بنان المَفْصِلِ

    وهذا أقبح ما يكون من الأخذ، وليس هو من التوارد الَّذي يذكرونه لأنَّ ابن الإطنابة من الأوس وحسان من الأنصار، وهما من قبيلة واحدة، وكان ابن الإطنابة أقدم من حسان، فلذلك قلنا أخذَه منه أخذاً .قيس بن الخَطيم:

    إذا المرءُ لم يُفضِلْ ولم يلقَ نجدةً ........ مع القوم فليقعُدْ بصُغرٍ ويبعدِ

    وَذِي شيمةٍ عَسراءَ يكرَه شيمتي ........ فقلتُ له دعْني ونفسَك أرْشِدِ

    فإنِّي لأغنَى الناسِ عن كلِّ واعظ ........ يرى النَّاسَ ضُلاّلا وليس بمُهتدِي

    وله أيضاً:

    كأنَّا وقد أَجلَوا لنا عن نسائِهم ........ أُسودٌ لها في غِيل خفّان أشبُلُ

    كأنَّ رُؤوسَ الدارعين إذا التقتْ ........ كتائبُنا تَتْرَى مع الليل حنظَلُ

    أخذ مروان بن أبي حفصة المصراع الآخر من البيت الأول فقال:

    بنو مَطَر يوم اللقاء كأنَّهم ........ أسود لها في غيل خَفّانَ أشبُلُ

    أبو قيس بن الأسْلَت:

    رَقودُ الضّحى صِفرُ الحشَى منتَهَى المُنَى ........ قَطوفُ الخُطى تمشي الهُوَينا فتُبهَرُ

    خفيضة أعلَى الصَّوتِ ليست بسَلْفَع ........ ولا نَمَّةٍ خرَّاجةٍ حين تظهَرُ

    ويُكرمْنَها جاراتُها فيزرنَها ........ وتعتلُّ عن إتيانهنَّ فتُعذَرُ

    وليس بها أن تَستَهِينَ بجارةٍ ........ ولكنَّها من ذاك تَحْيا وتَحصَرُ

    قيس بن الخطيم:

    وكنتُ امرءاً لا أسمعُ الدَّهرَ سُبَّةً ........ أُسبُّ بها إلاَّ كشفتُ غطاءها

    وكانت شجَى في الحَلْقِ ما لم أثَرْ بها ........ فأُبتُ بنفس قد أُصيب دواؤُها

    وإنِّي لدَى الحربِ العوانِ موكَّل ........ بتَقْديم نفسٍ ما أُريدُ بقاءها

    متَى يأتِ هذا الموتُ لا تُلفَ حاجةٌ ........ لنفسيَ إلاَّ قد قضيتُ قضاءها

    وله أيضاً:

    فما روضةٌ من رياض القَطا ........ كأنَّ المصابيحَ حَوذانُها

    بأحسنَ منها ولا مُزنةٌ ........ دَلوحٌ تكشَّفُ أَدْجانُها

    وعَمرةُ من سَرَواتِ النِّسا _ ءِ تنفَحُ بالمِسكِ أرْدانُها

    عَمرةُ التي ذكرها أُمُّ النعمان بن بشير الأنصاري، وكانت له صحبة. وروى بعضهم أنَّ النعمان بن بشير غاب عن المدينة غيبة طويلة، ثمَّ قدِمها، فقال: أسمعوني من أغانيكم، فجاءوه بمغنِّية فاندفعت تغنِّي:

    أجَدَّ بعَمرة غُنْيانُها ........ أتَهْجُرُ أم شأنُنا شانُها

    وعمرةُ من سروات النِّسا _ ءِ تنفَحُ بالمسك أردانُها

    فأَومى إليها جماعة من حضر المجلس أن تُخفي. وفطن النعمان لذلك، فقال: دعوها فما قالت إلاَّ جميلاً .قيس بن الخطيم:

    إذا جاوز الاثنينِ سِرٌّ فإنَّهُ ........ بِنَثٍّ وتكثيرِ الحديث قمينُ

    سَلى مَن جَليسي في الندِيِّ ومألَفي ........ ومَن هو لي عند الصَّفاءِ خَدِينُ

    وإنْ ضيَّع الإخوانُ سرّاً فإنَّني ........ كتومٌ لأسرارِ العشيرِ أمينُ

    أَعِزّ على الباغي ويغلظُ جانبي ........ وذو القَصد أحْلَوْلِي له وأَلينُ

    سُوَيْد بن صامت الأنصاري:

    وقد علمتْ سراةُ الأوسِ أنِّي ........ إذا ما الحربُ تَحتدِمُ احْتِداما

    أَحوطُ دِمارَهم وأَعفُّ عنهم ........ إذا لم يشْدُدِ الورِعُ الحِزامَا

    وأغشَى هامةَ البطل المُذَكِّي ........ جُرازاً صارماً عَصْباً حُساما

    إذا ما البِيض يومَ الرَّوع أبدَتْ ........ محاسنَها وأبرزَتِ الخِداما

    أتَتْني مالك بليوثِ غابٍ ........ ضراغمَ لا يرون القتلَ ذَامَا

    معاقِلُهم صوارمٌ مرهفاتٌ ........ يُساقون الكماةَ بها السِّمامَا

    ومردية صبرتُ النَّفسَ منها ........ على مكروهها كيْ لا أُلامَا

    لأكشفَ كُربةً وأُفيدَ غنماً ........ وأمنعَ ضيمَ جاري أن يُضامَا

    قيس بن الخطيم:

    تبدَّتْ لنا كالشمسِ تحتَ غمامةٍ ........ بدَا حاجبٌ منها وضنَّت بحاجبِ

    ولم أرَها إلاَّ ثلاثاً على مِنًى ........ وعهدي بها عذراءُ ذاتُ ذوائبِ

    فتلك التي كادتْ ونحنُ على مِنًى ........ تحُلُّ بنا لولا نجاءُ الركائبِ

    قال الحاتميّ: أخذ هذا المعنى أخذاً خفيّاً من امرئ القيس في قوله: 'قيد الأوابد' وهو قوله: 'نجاء الركائبِ'.

    ومثلكِ قد أصبَيتُ ليست بكَنَّة ........ ولا جارةٍ ولا حليلةِ صاحبِ

    أرِبتُ بدفع الحربِ حتَّى رأيتُها ........ على الدَّفع لا تزدادُ غيرَ تقاربِ

    ولمَّا رأيتُ الحربَ شَبَّ أُوارُها ........ لبِستُ مع البردَين ثوبَ المحاربِ

    وكنت امرأ لا أبعثُ الحربَ ظالماً ........ فلمَّا أبَوْا أشعلتُها كلَّ جانبِ

    إذا ما مرَرْنا كانَ أسوَأ فَرِّنا ........ صدودَ الخدود وازْوِرارَ المناكبِ

    صدودَ الخدودِ والقنا متشاجِرٌ ........ ولا تبرحُ الأقدامُ عند التضاربِ

    يُعَرَّين بِيضاً حين نلقَى عدوَّنا ........ ويُغْمَدنَ حُمراً ناحِلاتِ المضاربِ

    فإن غبتُ لم أُغفَل وإن كنت شاهداً ........ تجدني شديداً في الكريهة جانبي

    قوله: 'وإن غبت لم أغفل' ضد قول جرير:

    ويُقضَى الأمرُ حين تغيب تَيم ........ ولا يُستأذَنون وهم شهودُ

    أخذ قوله بشار: 'تبدت لنا كالشَّمس' البيت، في قوله:

    قامت تَصَدَّى إذ رأتْني وحدي ........ كالشَّمس بين الزِّبْرِجِ المُنقدِّ

    ضنَّتْ بخدٍّ وجلَتْ عن خدّ ........ ثمَّ انثنَتْ كالنفَس المرتَدِّ

    وما قصَّر بشار في هذا المعنى، بل جوَّده وزاد .وقوله: 'فتلك التي كادت ونحن على منًى' البيت، يريد: أنا نظرنا إليها ونحن سائرون، فلولا أن الإبل، لما شُغلنا بالنظر إليها، سارت ونحن لا نعلم لكُنَّا قد نزلنا. وفيه قول آخر، وهو أنَّا كنا محرمين فكدنا، بنظرنا إليها إن نحلَّ فيفسد إحرامنا. وشبيه بهذا قول الشاعر:

    وتستوقفُ الركْبَ العِجَال بطَرفها ........ فما أحدٌ يمضي من القوم أو تمضِي

    وقال آخر:

    أغرَتْ بموضع أخمصَيها طرفَها ........ تحثو التراب بنظرة المسترعَفِ

    أخذَت بألحاظِ الركاب فلَعْلَعَتْ ........ متقدّماً منهم على متخلّفِ

    وقوله: 'ومثلك قد أصبيتُ' البيت: معنى جيد في الحفاظ، وقد أخذه بعض المحدثين فقال:

    قالت وقلتُ تحرَّجي وصِلِي ........ حبلَ امرئٍ بوصالكم صبِّ

    واصِلْ إذن بَعلي فقلتُ لها ........ الغدرُ شيء ليس من شَعْبي

    ثِنتان لا أصْبُو لوصلِهما ........ عِرسُ الخليل وجارةُ الجنبِ

    أمَّا الصَّديق فلستُ خائنَه ........ والجارُ أوصاني به ربِّي

    هذا جيد، إلاَّ أنَّ الأول أجود، لأنه جمع ما احتاج إليه من الكنة والجارة وامرأة الصاحب في بيت واحد، وهذا أتى بالجارة وامرأة الصاحب في أبيات ولم يذكر الكنة، وهذا المعنى كثير في أشعارهم قديماً ومحدثاً .وقوله: 'لما رأيت الحرب شبَّ أوارُها' البيت، أراد بالبردَين الشجاعة والشباب، ويجوز أن يكون أراد بهما ثوبيه. فأمَّا قوله: 'ثوب المحارب' فهو الدرع لا محالة، ثمَّ قال في ذكر الفرار ما لم يقله أحد، جودة وحسن لفظ وصحة معنى. وقوله في ذكر السيوف: 'ناحلات المضارب' شبيه بقول النابغة:

    ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ........ بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ

    قوله: 'إذا ما فرَرْنا' والبيت الَّذي بعده مأخوذ من قول الأعشى في يوم ذي قار:

    ما في الخدودِ صدودٌ عن وجوههم ........ ولا عن الطَّعن في الَّلبَّات منحرَفُ

    وقال عبد الله بن رواحة في جواب قيس بن الخطيم عن شعره هذا الشعر:

    إذا غُيِّرت أحسابُ قوم وجدتَنا ........ إلى مشْعَرٍ فيها كرامُ الضرائبِ

    قوله: 'إذا غيّرت' البيت، أي أن يشِحُّوا بعد الجود لما صاروا إليه من الشدَّة والجهد في سنة قد تقدم ذكرها في الشعر.

    نُدافعُ عن أحسابِنا بتلادِنا ........ لمُفْتَقِر أو سائل الحقِّ واجبِ

    وأعمَى هدَتْه للسَّبيل حُلُومُنا ........ وخصمٍ أقَمنا بعدَ تَلْجيج شاغبِ

    ومُعتركٍ ضَنكٍ ترى القومَ وسطَه ........ مشَينا له مشيَ الجِمالِ المَصاعبِ

    أخذ قوله: 'مشينا له' من النابغة في قوله:

    إذا نزلوا عنهنَّ للضَّرب أَرْقَلوا ........ إلى الموتِ إرقالَ الجِمال المَصاعبِ

    وقال رفاعة بن خالد الواقفي من الأنصار:

    لا مهاذير في النَّديِّ ولا ينْ _ فكُّ فيه لهم ندى وسماحُ

    منهم الذائدُ الكتيبة بالسَّيْ _ فِ كما يكشفُ السَّحابَ الرياحُ

    فيهم للمُلايِنِينَ أناةٌ ........ وطِماحٌ إذا يُراد الطِّماحُ

    ومداريكُ للذُّحول مَبا _ ذيلُ إذا قلَّ في السِّنين اللّقَاحُ

    الرواية: القلاح .وقال قيس بن رفاعة:

    إن نُصبحِ اليومَ قد خفَّتْ مجالسُنا ........ والموتُ أمرٌ لهذا النَّاس مكتوبُ

    فقد غَنِينا وفينا سامِرٌ غَرِدٌ ........ وصارخٌ كأَتِيِّ السَّيلِ مرهوبُ

    وقال نَهيك بن أُساف:

    لعمري لقد أكرمتُ ندبة وابنَها ........ ولكن عِرقَ السوءِ في المرءِ غالبُه

    فلسنا وإن قلتِ السَّفاهةَ والخنا ........ بأوَّل من يَثْروه يوماً أقاربُه

    ولو قلتِ بالمعروف أنبأتِ أنَّنا ........ إذا الكبشُ لاحتْ في الصَّباح كواكبُه

    نطاعنُهُ حتَّى نُصرَّعَ حولَه ........ ونمشي إلى أبطالِهِ فنضاربُه

    وقال قيس بن رفاعة:

    وخيلٍ بعضُها حربٌ لبعض ........ بحرِّ طرادها أُصُلاً صَليتُ

    وفتيانٍ أطاعوا اللهوَ عندي ........ فآبوا حامدين وما خَزيتُ

    ولم أَعْتِمْ حلال القوم هَمِّي ........ أُعدِّدُ بالأصابع ما رُزيتُ

    متى ما يأتِ يومي لا تجدْني ........ بمالي حين أبذلُهُ شَقيتُ

    ولا بموفِّرٍ شيئاً عليه ........ من الحقّ الملطّ إذا اجْتُديتُ

    وقال القتَّال الكلابي:

    لقد ولدتْ عوفَ الطعان ومالكا ........ وعمرو العُلى والحارث المتنَجّبَا

    رجالٌ بأيديها دماءٌ ونائلٌ ........ يكادُ على الأعداءِ أنْ يتَحلّبَا

    ومن هذا أخذ البحتري قوله:

    وصاعقة في كفّه ينكفي بها ........ على أرؤس الأبطالِ خمس سحائبِ

    يكاد النَّدَى منها يفيض على العِدى ........ مع السَّيف في ثِنيَيْ قنا وقواضبِ

    والبحتري وإن كان أخذ المعنى وأتى به في بيتين، فقد جوَّد وأحسن، وفاقَ على وِفاق الأول بما أبدع في المعنى الأول وزاد، لأنه صيّر السيف صاعقةً، فيجوز أن يكون أراد حديدة من صاعقة، على ما يحكي بعض النَّاس في الصواعق، ويجوز أن يكون شبَّه السيف بالصاعقة لحدَّته، وأنَّه يتلف ما مرَّ به، ثمَّ ذكر أنَّه ينكفي به على أرؤس الأبطال خمس سحائب، يعني أصابع الممدوح. ومن النادر في هذا البيت أنَّه صيَّر السحائب مع الصاعقة، إذ كانا من جنس واحد. وتقول الفلاسفة: إنَّ الصواعق تكون مع السحائب الصَّيفيَّة دون الأمطار المطبقة في الشتاء. وممَّا يقوي هذا القول قول لبيد يرثي أخاه أَرْبَد وقد أحرقته الصاعقة:

    أخشَى على أربدَ الحُتوفَ ولا ........ أرهبُ نَوْءَ السِّماكِ والأسدِ

    وهذان الكوكبان من منازل القمر، مطلعهما في آخر الرَّبيع وأول الصيف. وهذا هو الحذق في الشعر وأخذ معانيه، ومَن أخذ المعنى هذا الأخذ فهو أحقُّ به ممَّن ابتدعه. وقد شرحنا أمر المعاني شرحاً شافياً في رسالتنا التي ذكرنا فيها شعر أبي نواس، فلذلك لم نشرح ههنا إلاَّ اليسير. وبعد وقبل فقد سبق البحتري جميع الشعراء في هذا المعنى حُسناً وملاحة وصحة وفصاحة .وكان القتَّال الكلابي أحد فُتَّاك العرب، وهو ممَّن كان يطرده قومه لكثرة جناياته، فروي أنَّه سلك في بعض الأودية، وكان مسلكاً ضيّقاً، فبينا هو فيه إذا هو بأسد مفترش ذراعيه على الطريق، ولم يعلم حتَّى هجم عليه، فخشي أن يرجع فيبادره، فلم يجد مقدماً إلاَّ بقتله. فانتضى سيفه وحمل على الأسد فقتله وقال:

    أتتكَ المنايا من بلادٍ بعيدة ........ بمنخرِق السّربال عَبْلِ المناكبِ

    أخي العرف والإنكار يعلوكَ وقعةً ........ بأبيضَ سقَّاطٍ وراءَ الضَّرائبِ

    هذا البيت في صفة السيف نهاية في الجودة. ولولا كثرة ما ذكر به السيف واتّساعه في أيدي النَّاس لأثبتنا منه ههنا بقطعة صالحة إلاَّ أنَّه مشهور كثير فلذلك تركنا ذكره .وللقتَّال أيضاً يهجو قوماً ويذكر أنَّ لهم عدداً وسلاحاً ولكنَّهم لا يثبتون في الحرب لمن قاتلهم بل ينهزمون ولا يثبتون:

    أفي كلّ يوم لا تزال كتيبةٌ ........ عقيلية يَهفُو عليكم عقابُها

    وأنتم عديد في حديد وشَفْرة ........ وغابِ رماح يكْسِفُ الشَّمس غابُها

    فما الشَّرُّ كلّ الشرّ لا خيرَ بعده ........ على النَّاس إلاَّ أن تَذِلَّ رِقابُها

    وقال أيضاً:

    ويَبيتُ يَسْتَحيي الأمورَ وبطنُه ........ طَيّانُ طَيَّ البرد يحسبُ جائعا

    من غير ما عُدْمٍ ولكن شيمة ........ إنَّ الكرامَ هم الكرامُ طبائعا

    وقال حُميد بن ثور الهلالي ووجّه صاحبين له إلى عشيقته فأوصاهما وصيَّة ما فوقها زيادة، وعرَّفهما من التلطّف والحيَل أموراً ما أتى أحد بمثلها ولا قارب وهو:

    خليليَّ إنِّي مُشتكٍ ما أَصابَني ........ لتَسْتَثْبِتا ما قدْ لقيتُ وتعَلمَا

    أَمنتُكما إنَّ الأمانةَ من يخنْ ........ بها يحتملْ يوماً من اللهِ مأثَما

    فلا تُفشيا سرّاً ولا تخذُلا أخاً ........ أبَثَّكما منه الحديثَ المكتّما

    لتتَّخذا لي باركَ اللهُ فيكما ........ إلى آلِ ليلى العامريَّةِ سُلَّما

    وقُولا إذا وافيتُما أرضَ عامر ........ وجاوزتُما الحيَّين نَهدا وخَثعما

    نَزِيعانِ من جَرم بن رَبّانَ أنَّهم ........ أبَوْا أن يُريقوا في الهَزاهِزِ محجَما

    وسِيرا على نِضوَيكما وتقصَّدا ........ ولا تحمِلا إلاَّ زِنادا وأسهُما

    وإن كانَ ليلاً فالْوِيا نسبَيْكما ........ وإن خفتُما أن تُعرفا فتلَثَّما

    وزاداً قليلاً خَفِّفاهُ عليكما ........ ولا تُبدِيا سرّاً لقومٍ فيُعلَما

    وقولا خرجْنا تاجرَين فأبطأَتْ ........ ركابٌ تركناها بتَثْليثَ قُوَّما

    ومُدَّا لهم في السَّومِ حتَّى تمكّنا ........ ولا تسْتَلِجَّا صفقَ بيع فتُلزَما

    فإن أنتُما اطْمَأنَنْتُما وأمِنتُما ........ واخليْتُما ما شئتُما فتكلّما

    وقولا لها ما تأمُرينَ بصاحب ........ لنا قد تركتِ القلبَ منه مُتيَّما

    أبيني لنا أما رَحَلْنا مطِيَّنا ........ إليكِ فلم نبلُغْكِ إلاَّ تجشُّما

    فجاءَا ولمَّا يقضِيَا ليَ حاجة ........ إليها ولمَّا يجْعَلا الأمرَ مُبرَما

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1