Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
Ebook891 pages5 hours

نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب في الادب والشعر والنوادر واللطائف والغرائب، تناول فيه المؤلف شعراء وكتاب ومؤلفين وعرض محاسنهم ومقتطفات في اشعارهم كذلك تعرض الى نوادر بلغاء الروم ونوادر ادباء حلب وظرائف ظرفاء العراق وغير ذلك الكثير
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 15, 1903
ISBN9786384845499
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Read more from المحبي

Related to نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Related ebooks

Reviews for نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة - المحبي

    الغلاف

    نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

    الجزء 1

    المحبي

    1111

    كتاب في الادب والشعر والنوادر واللطائف والغرائب، تناول فيه المؤلف شعراء وكتاب ومؤلفين وعرض محاسنهم ومقتطفات في اشعارهم كذلك تعرض الى نوادر بلغاء الروم ونوادر ادباء حلب وظرائف ظرفاء العراق وغير ذلك الكثير

    في ذكر محاسن شعراء دمشق الشام ونواحيها

    لا زالت طيبة العرار والبشام

    وهي كما علمت من عهد أن دخلتها العرب، موطن كل أدب، لك فيه الأرب. وقد أنجبت في كل وقتٍ وأوان، بقادةٍ كل كلمةٍ منهم بديوان. حتى أرانا الله بقاياهم، وأطلعنا على خبايا زواياهم .فهم أئمة الفضل المتوجون بتيجان اللطافة والملاحة، وهم مطمح أنظار الأمل، فما غيرهم قيد العيون اللماحة .بهم تفضل أهل البلاد، وتصعد إلى أفق الثريا، وبهم يمس بستان الفكر بعد ظمائه ريًّا .فلا غرو أن قام بهم شعار الأدب وثبت، وغرس في قلوبهم شجر المحبة فسقي ذلك الغرس بمائها فنبت. وكللت حياض طروسهم الزاهية بجواهر كلامهم وكمالهم، وزينت بعقيان الدر من منطقهم المترجم عن حقائق أحوالهم وأقوالهم .فمنهم:

    أبو بكر بن منصور العمري

    قدمت هذا الشيخ رعايةً لاسمه، مع أني أعلم أن له القيام على حد الأدب ورسمه. فهو الذي خاض في لججه أتم الخوض، وتفنن في أقسامه تفنن الأزهار في سرحة الروض .إن نشط لمغازلة الغزلان فموصوف بظرف أبي عبادة، أو انتسب لنسيب قدود الغانيات فأين منه ابن ميادة. وإن انتدب لوصف الحميا والكاس، أنسى ذكر خمريات أبي نواس. وإن رثى عم مراثي أبي تمام، وأملى نياحة الفرخ على الحمام .فهو أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس، واصلح إذ جد وهزل من ابن حجاج وابن عبد القدوس. له فكرة في النظم صافية، ما عوقت له قط قافية. فإذا أملى من نظمه قطعةً واختالها من روض الجنان مقتطعة، لم ينته له إسراع، ولم يجف له في يده براع .

    وليس بتزويق اللسان وصوغه ........ ولكنه ما خالط اللحم والدما

    وقد حلب الدهر أشطره، وملأ كتاب عمره أسطره. وحادث أحداثه، وبذ كهوله وأحداثه .وأخبرني والدي، قال: رأيته ولحيته أنقى من الفضة، وأيام حياته قاربت أن تصير منفضة. ومع أن السنين لاكت قواه، لم يزل مع الركب اليمانين هواه .ومضى زمنٌ وأدباء الشام به يحتفلون، ويحكم بينهم فيما هم مختلفون. وبلغني أنه كان يحضر السوق، وهو من كسب يمينه على جانبٍ من الوثوق عاملاً بالأثر: 'لو كنت تاجراً لاتجرت بالطيب إن فاتني ربحه ما فاتني ريحه' .فانظر إلى ما ساقه كساد سوقه، وضيعة حقوقه. على أن له في سوقه الفضلاء أسوة، وكأنه استعار منهم لأشعاره كسوة .هاتان الفقرتان للباخرزي، احتجتهما، ففي هذا المحل أدرجتهما .قال: وهم ؛نصر بن أحمد الخبزرزي، وأبو الفرج الوأواء الدمشقي، والسري الرفاء الموصلي .قلت: وهم الذين إذا تليت آياتهم المنسوقة، كان من تقدمهم من الأدباء عندهم سوقة .أما نصر، فكان يصنع خبز الأرز بالبصرة وتجتمع الأدباء بحانوته .وأما أبو الفرج فقد كان يسعى بالفواكه رائحاً وغادياً، ويتغنى عليها منادياً .وأما السري، فقد كان يطرز الخلق، ويرفأ الخرق ويصف تلك العبرة، ويزعم أنه يسترزق الإبرة .وكيف ما كان فالحرفة لا تخلو من حرفة، والصنعة لا تنجو من صرعة، والبضاعة لا تسلم من إضاعة، والمتاع ليس لأهله به استمتاع .وأخبرت أنه كان سموحاً بما ملك، متخلياً عن الإمساك أيةً سلك. يضم يديه على النقدين، فلا يمسي إلا وهو منها صفر اليدين. وقضى عمره في بلهنيةٍ هنيةٍ، أغصان عيشها ما زالت جنية. لم يغادره بؤس، ولم يكدره يومٌ عبوس. بين رياضٍ مهزات نبتها ريانة، وغياضٍ أساجيع أطيارها مرنانة .وقد وقفت من أشعاره الغضة التحف، ما به ديباجة كتاب اللطائف والبدائع تحف. فأوردت منه ما يهز له الشيخ عطف غلام، ولا يدرى أسحرٌ هو أم كلام .فمنه قوله:

    لو تم لي في الحب سعدي ........ يا حب ما أخلفت وعدي

    لكن مقادير القضا _ ء كأنها حكمت ببعدي

    أو حظُّ كلِّ متيمٍ ........ من حظه يرمَى بطرد

    يا غائباً في القلب من ........ نيران فقدك أيَّ وقدِ

    ما كنت أدري قبل بع _ دك أن سهم جفاك يُردي

    صدِيَت لرؤيتك العيو _ ن علام ترميها بصدِّ

    يا سيدي إن كان لي ........ ذنبٌ فقل أخطأت عبدي

    ما خنت عهدك في المحب _ ة كيف حتى خنت عهدي

    كلا ولا أفشيت سرَّ ........ هواك والأسرار عندي

    ولهي بحبِّك لم يزل ........ ولهي ووجدي فيك وجدي

    أرضى بأن أفنَى وتب _ قى أنت يا مولاي بعدي

    أخفيت حبك في الفؤا _ د فخطه دمعي بخدِّي

    وعدا على جسمي النحو _ لُ فعاد للأسقام يُعدي

    محن الهوى جمعت عليَّ ........ فلست أحصيها بِعَدِّ

    فالسُّقم يشهد والدمو _ ع بوحدتي في العشق وحدي

    يا بدر سل عني السُّها ........ إن السُّها أدرى بسهدي

    وابعث رسول الطيف يس _ مع ما أعيد له وأبدي

    آهاً على زمنٍ مضى ........ لو كان قولي آه يجدي

    أيام وصلٍ منك لم ........ تقطع ولم توصل بردِّ

    والشمل يجمعنا على ........ حبٍّ يودُّ بصدق ودِّ

    وأضمُّ منك معاطفاً ........ بردت جوى وجدي ببردِ

    وتميل إذ تهوي إلى ........ نحوي وجيدك فوق زندي

    وتقول عجباً هل يرى ........ مثلي وأهل الحسن جندي

    والشمس والبدر المني _ ر سناه جاريتي وعبدي

    والغصن يقصف قدُّه ........ إن قاس قامته بقدِّي

    ومنحتني منك الوصا _ ل تبرعاً وهجرت صدي

    فجعلت وجهك حضرتي ........ وحديث راح لماكَ وردي

    وعلمت لما بان رو _ ضُ الوجه أن الخدِّ وردي

    وشهدت لما ذقت طع _ م الريق أن الثغر شهدي

    والفرق يشرق صبحه ........ في ليل فرعٍ منه جعد

    فأطعت فيك صبابتي ........ وعصيت لوَّامي وزهدي

    وقضيت أوطاري وقد ........ غفل الرقيب فنلت قصدي

    والخصر أتهمني بأني ........ بتُّ في أكناف نجدِ

    والردف زاد وقد تكف _ ل منةً منه برفدي

    أحبب بتلك ليالياً ........ قد أشرقت ببدور سعدي

    فسقا معاهد للصبا ........ صوب العهاد بكلِّ عهدِ

    وسرت بها روح الصَّبا ........ سحراً فأوحيت ميت بعدي

    وقوله من قصيدة مستهلها:

    إن خلعنا على العذار العذارا ........ لم يكن ذاك في المحبة عارا

    منها:

    بأبي من جآذر التُّرك ظبياً ........ ترك الأُسدَ في هواه أُسارى

    بابليُّ اللِّحاظ منها ترى النَّا _ س سكارى وما هم بسكارى

    قمرٌ فوق بانةٍ يتجلى ........ لا خسوفاً يخشى ولا إهصارا

    تخذ الطَّرف منهلاً عند مس _ راه ولكن تبوأ القلب دارا

    قد علمنا أن القدود غصونٌ ........ فلماذا أقلت الأقمارا

    وعهدنا البدور في الليل تسري ........ كيف حتَّى غدت تسير نهارا

    وعجبنا لوجنةٍ تشبه النا _ ر ضراماً وتنبت الجلَّنارا

    يا لها وجنةٌ حكت جنة الحس _ ن ومنها الفؤاد آنس نارا

    ومنها:

    قدِّم الرَّاح يا نديمي لعلِّي ........ أعقر الهم إن شربت العقارا

    وأجِل كاساتها عليَّ وزمزم ........ باسم من صير العقول حيارى

    قهوةٌ مثل دمعة العين في الكا _ س صفاءً فالليل زاد اعتكارا

    وأدرها إذا النجوم تجلت ........ وشهدنا من زهرها الأنوارا

    وكأنَّ السماء روضة حسنٍ ........ أطلعت في مقامنا أزهارا

    والثُّريا كأنها في الدُّجى غي _ دٌ تلَّفعن بالشُّعور عذارا

    وكأن الهلال يحكي وقد لا _ ح من الغرب زورقاً أو سوارا

    فاسقني من يديك حتَّى ترى الفج _ ر عن الصُّبح قد أماط الإزارا

    وصل الليل بالنهار فإن ال _ عيش أهناه ما يكون جهارا

    في رياضٍ حكى بها الزَّهر والور _ د النَّضيران فضَّةً ونُضارا

    وكأن الأقاح فيها ثغورٌ ........ عن غوالي الجُمان تبدي افترارا

    وحكى النَّهر مَعصماً وسواراً ........ يتلوَّى وأرقماً سيَّارا

    فاترع الكأس لا عدمتك صرفاً ........ فعلى الصِّرف نصرف الأعمارا

    ثم زد ما استطعت حتى تراني ........ قد خلعت الوقار والبيقارا

    واعتقد أنها حرامٌ ووزرٌ ........ لا توافق يهودها والنَّصارى

    واسأل العفو فالكريم رحيمٌ ........ قابل التوب يغفر الأوزارا

    وله في الغزل:

    سيِّدي مذ غبت عن نظري ........ لم أفق من خمرة الكدر

    أحسب الصُّبح العشا أبداً ........ فنهاري أوَّل السَّحر

    لم تمل روحي إلى وطنٍ ........ لا ولا قلبي إلى وَطَرِ

    سل نجوم الأفق عن قلقي ........ فعسى تنبيك بالخبر

    لا وعينٍ فيك راقدةٍ ........ لم تذق عيني سوى السَّهرِ

    أيُّها البدر الذي حجبوا ........ نوره الوضَّاحَ عن بصري

    لو ترى حالي بكيت على ........ قلبي المسجون في سقَرِ

    كدت أخفى من ضنَى جسدي ........ عن عيون الجنِّ والبشر

    للشعراء في وصف نحول العشاق مبالغات غالبها محمولٌ على الإغراق، ومن أبلغها قول أبي بكر الخالدي:

    مهدَّدٌ خانه التفريق في أمله ........ أضناه سيِّده ظلماً بمرتحله

    فرقَّ حتى لو أنَّ الدَّهر قاد له ........ حيناً لما أبصرته مقلتا أجله

    وأعجب منه قول أبي الطيب:

    ولو قلمٌ ألقيت في شقِّ رأسه ........ من السُّقم ما غيَّرت من خطِّ كاتب

    وغريب قول التمار الواسطي:

    قد كان لي فيما مضى خاتمٌّ ........ واليوم لو شئت تمنطقت به

    وذبت حتى صرت لو زجَّ بي ........ في مقلة النَّائم لم ينتبه

    وقول المظفر بن كيغلغ:

    عبدك أمرضته فعده ........ أتلفته إن لم تكن ترده

    ذاب فلو فتَّشت عليه ........ كفَّك في الفرش لم تجده

    وقول أبي الفضل بن العميد:

    لو أنَّ ما أبقيت من جسدي قذًّى ........ في العين لم يمنع من الإغفاء

    وللعمري:

    يا من يفوِّق لحظه ........ سهماً بسحر الهدب راشَهْ

    أفديك ما ريمُ الصَّري _ مِ فذاك ينسب للوحاشَهْ

    يرعى من الأرض الحشي _ ش وأنت مرعاك الحشاشَهْ

    أجاد في التنظير، وأربى على قول الآخر:

    يرعى القلوب وترتعي ال _ غزلان بروقه وشيحه

    والبروقة: شجيرة تخضر إذا رأت السحاب ؛وذلك قولهم: 'أشكر من بروقة' .وعلى هذا المعنى حمل قول أبي الطيب:

    أغِذاءُ ذا الرَّشاءِ الأغنِّ الشِّيحُ

    بعد قوله:

    جللاً كما بي فَليكُ التَّبريحُ

    يقول: ليكن تبريح الهوى عظيماً مثل ما حل بي، أتظنون أن من فعل بي يغتذي الشِّيحَ ؛ما غذاؤه إلا قلوب العشاق! وبه يتناسب شطرا البيت .وله غلام بحنكه طابعٌ تمَّت به محاسنه، وكأنما هاروت ساكنه:

    غصن بانٍ بدر دجًى ........ يتجلَّى من أعالي فلكه

    قد حمى برد اللَّمى من ثغره ........ طابع الحسن الذي في حنكه

    نصبت ألحاظه لي شركاً ........ جلَّ من أوقعني في شركه

    قوله: قد حمى إلخ يحتمل أن حمايته من جهة أنه كالخاتم، ختم به على برد اللَّمى، ويحتمل أن يكون حماه لكونه كالحفرة في طريق من يريد رشف لماه، فيخاف من الوقوع ؛وهذا تخيُّلٌ حسن .وأحسن منه قولي:

    وطابعه جبٌّ يُرَى ألف يوسفٍ ........ به واقعاً من قبل رشفة ريقه

    والطابع كالخاتم: في الأصل ما يطبع به، ولم أر إطلاقه على النقرة المعهودة، وإنما اسمها في اللغة: نونَة .قال ابن الأثير في نهايته: وفي حديث عثمان رضي الله عنه، أنه رأى صبيَّاً مليحاً، فقال: دسموا نونته ؛كي لا تصيبه العين. أي سودوها، وهي النقرة التي تكون في الذقن .وقد استعمل صاحبنا الأديب البارع إبراهيم بن محمد السفرجلاني النُّونة، وأجاد في تشبيهها جداً، من أبيات أنشدنيها من لفظه، وبيت النُّونة منها قوله:

    وإن أشبه التُّفَّاح خدِّيَ حمرةً ........ فلي نونةٌ تحكي مناط عروقه

    والأبيات هي هذه:

    بروحي ساقٍ قد جلا تحت فرعه ........ جبيناً كبدر التِّمِّ عند شروقه

    سقاني بنجلاويه كأساً من الهوى ........ فأسكرني أضعاف سكر رحيقه

    وقال افترع بِكرَ المعاني تغزُّلاً ........ فلي منظرٌ يهديك نحو طريقه

    فوجهي مثل الرَّوض إذ باكر الحيا ........ جَنيَّ أقاحيه وغضَّ شقيقه

    وإن أشبه التفاح. ... إلخ .ثم أنشدني المذكور معنًّى اخترعه في تسويدها، وذلك قوله:

    خافوا من العين ترميه بنظرتها ........ فقلت ميلوا إلى تسويد نونته

    قالوا نسوِّدها بالطِّيب قلت لهم ........ الطِّيب من غيره أحرى بجونته

    وكنت أظن أن وصف الطابع ليس بالموجود في شعر المتقدمين، حتى رأيته في شعر فخر الدولة أبي المعالي، من شعراء الخريدة، حيث قال في غلام اسمه يوسف:

    أيا قمراً جار في حسنه ........ على عاشقيه ولم ينصفِ

    سمعنا بيوسف في جبِّه ........ ولم نسمع الجبَّ في يوسفِ

    ثم رأيت الخفاجي ذكر في كتابه شفاء الغليل: جبُّ يوسف مولَّد، معناه نقرة الذقن. وأنشد البيتين .ثم قال: ويقال له خاتم الحسن .وأما النقرة التي تكون في الخدين عند التبسم، فقد استعملها كشاجم في أبياته المشهورة، وهي:

    هذا الذي سجد القضيب لقدِّه ........ صنمٌ لعابد فتنةٍ لاهوت

    في ناظريه إذا تبسَّم ضاحكاً ........ سحرٌ وجوهر خدِّه ياقوت

    حفر التبسُّم فيهما جُبَّين في ........ ذيَّاك هاروتٌّ وذا ماروت

    وأما اسمها فقد رأيت المقري ذكر في تاريخه ناقلاً عن ابن عليم، أنه قال في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبة :أغربت جاريةٌ لمجاهد العامري، أهداها إلى عباد - قلت: وهي العبادية، وكانت كاتبةً شاعرة - على علماء إشبيلية، بالنُّقرة التي تظهر في أذقان بعض الأحداث، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك، فأما التي في الذقن فهي النونة، وأما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة، فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منهما واحدة .وللعمري في دخان التبغ:

    مذ أحرقت نار الصَّبابة مهجتي ........ وأتى العذول يسلُّ عضب لسانه

    بادرت بالغليون تمويهاً له ........ وسترت عنه دخانها بدخانه

    ومثله للحرفوشي:

    لعمرك لم أهو الدُّخان ولم أمل ........ إليه لألقى نشأةً وتطرُّبا

    ولكنني أخفي به عن مجالسي ........ دخان فؤادٍ بالغرام تلهَّبا

    وقريبٌ منه قول الفتح بن النحاس:

    وأرى التَّولُّع بالدُّخان وشربه ........ عوناً لكامن لوعة الأحشاء

    فأديم ذلك خوف إظهار العدى ........ فأشيبه بتنفُّس الصعداء

    وله في تشبيه الثلج:

    انظر إلى الروض الأريض وحسنه ........ وموائس الأغصان مثل الخرَّدِ

    والثلج فوق الصُّفر من أوراقه ........ شبَّهته تشبيه غير مفنَّدِ

    ببرادةٍ من فضَّةٍ مبثوثةٍ ........ فوق الصَّحائف من نضار العسجدِ

    ولي في هذا المعنى من مقصورة:

    والثَّلج كالقطن أجاد ندفه ........ قوس السَّحاب فوق حلَّة الرُّبى

    كأنَّه برادة الأفلاك من ........ كثرة دورها بقبَّة السَّما

    وله في وصف جواد:

    ربَّ طرفٍ من العتاق كريمٍ ........ يسبق البرق حالة الإيماض

    لو جرى والجنوب في الجوِّ تسري ........ علَّم الرِّيح كيف قطع الأراضي

    أو سرى مع دعاء آصَفَ بالعر _ ش لكان البشير بالأغراض

    وله مثله:

    طرفٌّ يفوت الطَّرف في لمحاته ........ سبقاً ويهزأ بالظَّليم النَّافر

    بالبرق يظفر إن أراد لحاقه ........ والبرق ليس إذا أراد بظافر

    وكأنه آلى ولم يك حانثاً ........ أن لا يمسَّ الأرض منه بحافر

    وهذا من قول خلف الأحمر في صفة جواد:

    وكأنما جهدت قوائمه ........ أن لا تمسَّ الأرض أربعة

    وزاد عليه شمس الدولة بن عبدان في قوله:

    أبت الحوافر أن يمسَّ بها الثَّرى ........ فكأنَّه في جريه ومتعلِّق

    وهذا الباب مما بالغت فيه الشعراء كل المبالغة، فمن ذلك قول ابن نباتة السعدي:

    لا تعلق الألحاظ من أعطافه ........ إلا إذا كفكفت من غلوائه

    وقول ابن حمديس الصقلي:

    يجري فلمع البرق في آثاره ........ من كثرة الكبوات غير مفيق

    ويكاد يخرج سرعةً من ظلِّه ........ لو كان يرغب في فراق رفيق

    وقد جمع ابن حجاج في مرثية فرس له فأوعى، ودعا فرسان البلاغة فأجابته طوعاً، حيث قال:

    قال له البرق وقالت له الرِّ _ يح جميعاً وهما ما هما

    أأنت تجري معنا قال لا ........ إن شئت أضحكتكما منكما

    هذا ارتداد الطَّرف قد فتُّه ........ إلى المدى سبقاً فمن أنتما

    وقلت على أسلوبهم في المقصورة:

    وفدفدٍ طويته بضامرٍ ........ يسابق البرق ويسبق القضا

    يقبض رامي سهمه عنانه ........ خشية أن يصيبه من القفا

    وأجرى جواد كان للعرب أعوج، الذي يضرب به المثل، وهو فحل كريم، كان لبني هلال بن عامر، وأنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه ؟فقال: ضللت في باديةٍ وأنا راكبه، فرأيت سرباً من القطا يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه، حتى توافينا الماء دفعة واحدة .وهذا أغرب شيءٍ يكون ؛فإن القطا شديدة الطيران، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير الماء. وأغرب من ذلك قوله: كنت أغض من لجامه، ولولا ذلك كان يسبق القطا، وهذه مبالغة عظيمة .وإنما قيل له أعوج ؛لأنه كان صغيراً، وقد جاءتهم غارة فهربوا منها، وطرحوه في خرج، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره، فاعوج ظهره من ذلك، فقيل له: أعوج .وللعمري، ويخرج منه اسم نعمان:

    لله ما عاينت من روضةٍ ........ غنَّاء قد قرَّت بها عيني

    حوتان لم يختلفا صورةً ........ حفَّا بماءٍ سال من عيني

    وله في اسم كريم:

    أهواه حلو الدلال ألمى ........ قد لذَّ في عشقه العناء

    ريقته للرحيق تعزى ........ وكم بها للظما دواء

    وله في اسم ولي الدين:

    ليالٍ بُعَيْد التنائي دنت ........ ولانت ولي عزَّ إصلاحها

    وعين العدى سكِّرت بالعمى ........ وعزَّ ضياها ومفتاحها

    ونقل له عن باقي، شاعر الروم، ومميزها بين السادة القروم. أنه نظم أبياتاً تغزل فيها بصبي صبيح، كما هو تهوى الأنفس مليٌّ مليح. فلما وعاها الغلام استبدعها، واستحفظها خزانة لبه واستودعها. وبلغ باقي، أنه قال: قبلتها، ولو ظفرت برجل قائلها قبلتها .فقال باقي: إن كان نوى جميلاً لأجلي، فليقبل فمي لأنني به نظمتها، لا برجلي .فنظم العمري هذه المقالة في قوله:

    قال لمَّا وصفته ببديع ال _ حسن ظبيٌ يجلُّ عن وصف مثلي

    مكِّن العبد أن يقبِّل رِجلاً ........ لك كَيْما يجيز فضلاً بفضل

    قلت أنصف فدتك روحي فإني ........ بفمي قد نظمته لا برِجلي

    ومن هذا قول بعضهم:

    شافه كفِّي رَشَأٌ ........ بقبلةٍ ما شفت

    فقلت إذ قبَّلها ........ يا ليت كفِّي شفتي

    وللشاب مظريف:

    ومقبِّلٍ كفِّي وددت بأنه ........ أومى إلى شفتيَّ بالتَّقبيل

    ولأبي منصور عبد العزيز بن طلحة بن لؤلؤ:

    سألته قبلةً فبادر بالتَّق _ بيل مستبشراً إلى قدمي

    فقلت مولاي لو أردت بها ........ سرور قلبي جعلتها بفمي

    فقال كلا للعبد منزلةٌ ........ لزومها من حراسة النِّعم

    إبراهيم بن محمد الأكرمي الصالحي

    شاعر الزمان، وشمامة الندمان. ومن إليه يصبو القلب ويحن، وبتذكره ينثني غصن البراعة ويرجحن. ففي أوصافه مشمٌّ للروح عبق، ولطف يروق به كأسه المصطبح والمغتبق. فروض وده غضٌّ، وعرضه الطاهر لا ينال منه ولا يغض .ومدامة طبعه لم يهنها عصار، وشفوف فكره لم يحتمل منة قصار. مع ماله من أخلاقٍ أقطعها الروض أنفاسه، وشيمٍ ينافس فيها رغبةً ونفاسة .وأدبٍ دار به رحيق البيان المعتق، وملأ الأكمام بزهر كمامه المفتق. ينشر منه ما هو أزكى من النشر في خلال النواسم، بل أحلى من الريق يترقرق من خلال المباسم .ومضى عليه زمن يستفيد به العيش رغدا، ويستنجز اليوم ما يوعد به غدا. بين روض من خلقه خلق، ونسيم عرفه بشمائله علق .جلاليب نشوته صفاق، وأردية شموله وصباه رقاق. لا ينتعش إلا بغرة رقراق الشباب الغرير، ولا يولع إلا بطرة الظل فوق وجه الغدير .فهنالك بين الغصن والصبا، والقطر وزهر الربى. ولَّد آدابه التي هي عبارة عنها، وأطلع أشعاره التي يستعار الحسن منها .وقد جمع شعره في ديوان سماه مقام إبراهيم، في الشعر النظيم. أكثره روضيات يغض عنها وشي الخميلة، وغزليات يتستر عندها نقش الغانية الجميلة. وخمريات صيغت مداماً فهي للمسامع مشروبة، وحكميات أبياتها أمثالٌ في الدنيا مضروبة .وها أنا أورد منها ما يفوح نفسه، حتى كأن الحبيب يتنفسه. ويعبق روحه، حتى كأن فوح الزهر فوحه .قال في ديباجته: هذه نبذة من شعرٍ سمح به الخاطر على جموده، وتوقد به الفكر على خموده. وإن كنت في زمنٍ العاقل فيه خليقٌ بالصَّمت وإن أداه إلى المقت .ذهب جلُّ الناس، وأين الزِّعنفة من الرأس .لا يجاز فيه شاعرٌ، ولا يكرم أديبٌ ماهر .غير أن حبَّ الأدب في الطِّباع، وهو داعٍ إلى الاتِّباع .اتِّباعهم في التراكيب والبِنا، لا في الإجادة لعدم الغنا .ذهبت الإفادةُ، فكيف بالإجادة .ولعمري من لا يجيد في عصرنا معذور، وذنبه فيما أتاه مغفور .إذ أُرتِج باب البواعث والَّدواعي، بانقراض أهل الكرم والمساعي .جوائز الأُمرا، إجادة الشُّعرا .ولذلك قلت بغير امْتِرا :

    قالوا أجاد البحتريُّ ........ كما أجاد أبو نواس

    فأجبت كانوا في أنا _ سٍ هم ولسنا في أُناسِ

    وإذا نظرت فما أجا _ د سوى المواهب في القياس

    ومما جردته من ديوانه قوله من مقصورة مطلعها:

    حيِّي الحيا معهدنا باللِّوى ........ حيث هوى النَّفس وغيُّ الصِّبا

    وجاده كلُّ هَطولٍ سرت ........ تحدو به في الأفق ريح الصِّبا

    ليلته حتى بدا صبحها ........ فأقلعت ديمته فانجلى

    وقد أشاع الخصب في أرضه ........ فأصبحت تزهو بزهر الرُّبى

    ومدَّ فيها حبراً وُشِّيت ........ بالنَّبتِ قد كلِّل منها النَّدى

    وغادر الغدران في ربعها ........ تغصُّ بالعذب النَّمير الرَّوا

    ولا جفا نجداً ولا حاجراً ........ كلُّ هزيم الودق هامى الحيا

    منازلاً واهاً لأيَّامها ........ كانت مظنَّات الصِّبا والهوى

    حيث الأماني طوع آمالنا ........ والسَّعد عبدٌ طائعٌ والمنى

    لله أيامٌ تقضَّت لنا ........ بين ذرى الجزع وسفح اللوى

    ما كان أهنأ عيشها ليته ........ دام وليت العمر فيه انقضى

    مرَّت كنجمٍ قد هوى ساقطاً ........ لم يعتلقه الطَّرف حتى اختفى

    يا هل معيدٌ لي عيشاً بها ........ هيهات لا يرجع شيءٌ مضى

    ليت ليالينا وأيامنا ........ كانت لليلات ألالٍ فدا

    ويلاه من سرعة تفريقنا ........ وشَتِّ شمل الحيِّ بعد النَّوى

    وآه من وقفة تشييعهم ........ وقد شرقنا كلُّنا بالبكا

    وسارت العيس بأحداجهم ........ واستودعوا فيها بدور الدُّجى

    من كلِّ هيفاء إذا ما بدت ........ تختال أذرت بغصون النَّقا

    خافقة القرطين رُعبوبةٍ ........ رادِ الوشاحين أناةِ الخُطى

    رخيمة الدَّلِّ إذا ما بدت ........ تسحر باللَّحظ عقول النُّهى

    ما ظبية البان على حسنها ........ إذا تبَّدى جيدها والطُّلا

    وظبيِ إنسٍ زارني طارقاً ........ والبدر لا يبديه إلا الدُّجى

    بات يعاطي الرَّاح من ثغره ........ ممزوجةً بالعسل المجتنى

    أشتمُّ من ريحان أصداغه ........ وأجتني باللَّحظ ورد الحيا

    وأجتلي غصن قوامٍ له ........ أهيَف يحكي بانة المنحنى

    لهفي على عيش التَّصابي ويا ........ آهة قلبي لزمان الصِّبا

    حيث الشَّباب الرَّوق يُغري بنا ........ حفل الظِّبا الغرِّ وسرب المها

    كانت عروس الدَّهر أيامنا ........ طارت بها العنقاء نحو السَّما

    ومن ربيعياته قوله:

    انظر إلى فصل الربي _ ع كأنَّه فصل الشَّباب

    والزَّهر مثل خلائق ال _ أصحاب من زهر الصِّحاب

    وغصون بانات اللِّوى ........ كمعاطف الهيف الرِّطاب

    والورد أشبه بالخدو _ د من الشِّفاه على الشَّراب

    أوَ ما ترى حدق الحدا _ ئق كيف تغمز للتَّصابي

    وأصابع المنثور مس _ رعةً تشير إلى الرِّقاب

    وأكفَّ أوراق الغصو _ ن تظلُّ تدعو بالمتاب

    فاعكف على روضاته ........ فالورد دان إلى الذَّهاب

    متمتِّعاً بنعيمه ........ من قبل بينٍ وانتياب

    فجميع ما فوق التُّرا _ ب من التُّراب إلى التُّراب

    ومن خمرياته قوله:

    ونديمٍ نبَّهت ليلاً فهبَّا ........ وهو سكراً يميل شرقاً وغربا

    قال لبيك قلت هات اسقنيها ........ فتردَّى وقال طوعاً وحبَّا

    فسقاني ثلاثةً وتحسَّى ........ بعض كأسٍ فردَّها وأكبَّا

    قلت أفديك من نديمٍ مطيعٍ ........ لو رأى طاقةً بها ما تأبَّى

    ثم بن وسَّدته وعدت إلى الشُّر _ ب وحيداً فما استلذَّيت شربا

    إن طيب المدام بين النَّدامى ........ وسرور النُّدمان فيمن أحبَّا

    لو رأوا لذَّةً بدون شريبٍ ........ لم يُسَمُّوا فيها ندامى وشِربا

    وله أيضاً:

    بحياتي يا بدر أو بحياتك ........ لا تقل لا يا قبح لا من لغاتك

    قم بنا نغنم الوصال وروحي ........ في سبيل الهوى وفي مرضاتك

    قم فلا غير كون شكٍّ يقيناً ........ من صفاتي بين الورى وصفاتك

    يا فَدَتك النُّفوس فيما التَّواني ........ ما ترى البسط عزَّ في أوقاتك

    هاتها بكرة النَّهار فطيب الرَّ _ اح قبل الضُّحى وقبل صلاتك

    ثم هجِّد بنا نقيل قليلاً ........ عند غمز الصَّهباء عود قناتك

    ثم عد للشَّراب تفديك نفسي ........ واسقنيها واشرب معي بحياتك

    إن كلَّ الحياة كأسٌ مدارٌ ........ ونديمٌ وشادنٌ من سقاتك

    فاغتنم فرصة الزَّمان فقد قي ........ ل أخو اللَّذَّة الجسور الفاتك

    لا تؤخِّر يوماً غداة سرورٍ ........ لعشيٍّ وفته قبل فواتك

    إنَّما هذه الحياة كحلمٍ ........ طارقٍ تستلذُّه في سباتك

    وله من قصيدة مطلعها:

    يا ليت شعري والمنى بعد ........ ما حال سكَّانك يا نجد

    وكيف دعدٌ بعد أيَّامنا ........ تبقى لنا دون النِّسا دعد

    هل أخفرت من عهدنا في الهوى ........ بعد النَّوى أم عهدها العهد

    لا غرو أن قد غيَّرتها النَّوى ........ فربَّما غيَّرك البعد

    لله يا نجد الظِّباء التي ........ قيَّدها فيك لنا الودُّ

    حيث الهوى الرَّيق لنا خادمٌ ........ لم يأل جهداً والمنى عبد

    وربعك الرَّحب لنا جنَّةٌ ........ لو أنها دام بها الخلد

    والنَّبت جمٌّ ترتعيه حمًى ........ والماء لا مستكدرٌ رغد

    في غمرة القصف لريق الصِّبا ........ نروح في العيش كما نغدوا

    حيِّي الحيا ذاك الزمان الذي ........ مرَّ به من عيشنا الرَّغد

    أيَّام أسعى ومها حاجرٍ ........ يلفُّني من وصلها برد

    لا راقبٌ عيناً ولا مفكرٌ ........ في الوصل أن يعقبه الصَّدُّ

    في فتيةٍ مثل نجوم الدُّجى ........ كأنهم قد نظموا عقدُ

    من كل ظبيٍ قضفٌ قدُّه ........ لا البان يحكيه ولا الرَّندُ

    جذلان راوي الرِّدف ظامي الحشا ........ يضيع ما بينهما النَّدُّ

    يزهي على ريم الفلا جيده ........ ويزدهي بدر السَّما الخدُّ

    واهاً له من زمنٍ سالفٍ ........ وألف آهٍ لك يا نجد

    ومنزلٍ أخلق من نسجه ........ كرُّ السَّوافي فيه والشَّدُّ

    عهدي به برداً قشيب السَّدى ........ فارتدَّ وهو الرَّيطة الجرد

    محت يد الأنواء آياته ........ إلا بقايا أسطرٍ تبدو

    أعجم من معربه شكله ........ إن حال عقلاً قبله بعد

    حتَّى اضلاَّ فيه علمي به ........ إذ بدِّلت من هضبه الوهد

    وقفت عِيسي فيه مستعبراً ........ أقول آهاً تَعِسَ البعد

    إلى هنا بعد ليالٍ خلت ........ معدودةٍ قد بلغ الحدُّ

    هب أن سكانك قد أجفلت ........ عنك فأين الغور والنجد

    لم يبق إلا طللٌ شاخصٌ ........ كالوشم محَّى جُلَّه الرَّند

    وله:

    هاتها تفديك روحي قهوةً ........ أدركت عاداً وأيَّام لُبد

    واسقني واشرب ولا تذكر لنا ........ خبر النَّاس ولا سعر البلد

    إن للعالم ربًّا إن يشأ ........ صلح العالم أو شاء فسد

    وله:

    اسقنيها قبل ارتفاع النَّهار ........ إنَّ طيب المدام في الإبكارِ

    هي بكرٌ فاشرب ويومك بكرٌ ........ لم تشبه الأنام بالأكدارِ

    الصَّبوح الصبوحَ في جدِّه الي ........ وم فإنَّ الصَّبوح روح العقارِ

    يا فَدَتك النفوس وهي قليلٌ ........ من نديم سهل الطِّباع مدارِ

    هاتها ضحوة النَّهار شمولاً ........ مثل شمس النَّهار وسط النَّهارِ

    قهوةً مثل مقلة الدِّيك صهبا _ ءَ كنار الكليم ليست بنارِ

    ذات عصرٍ أدناه عهد أنو ........ شروان ليست بمزَّةٍ مُصطارِ

    لطَّفتها كرُّ السنين فلم تب _ قِ سوى لمحةٍ من الأنوارِ

    فتراءت كالشَّمس غبَّ سماءٍ ........ تجتلى بين حمرةٍ واصفرارِ

    لست تخشى من لطفها بعد سكرٍ ........ من صداعٍ بادٍ ولا من خمارِ

    في رياضٍ تزهي بباكورِ وردٍ ........ وأقاح وسوسنٍ وبهارِ

    ذات أرضٍ موشيةٍ بربيعٍ ........ ذهَّبت وشيها يد الأزهارِ

    يستفيق المخمور إن مرَّ فيها ........ من هواءٍ صافٍ وماءٍ جارِ

    هذا مأخوذ من قول الوأواء الدمشقي:

    سقى الله ليلاً إذ زار طيفه ........ فأفنيته حتى الصَّباح عناقا

    بطيب نسيمٍ فيه يستجلب الكرى ........ فلو رقد المخمور فيه أفاقا

    وفي الثاني ما يوهم التناقض :والوأواء أخذه من قول الفتح بن خاقان، في وصف جاريةٍ له، وهو ما نقل ابن حمدون، قال: كان الفتح بن خاقان يأنس بي، فقال لي مرة: شعرت يا أبا عبد الله أني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة، فلم أتمالك أن قبلتها، فوجدت فيما بين شفتيها هواءً لو رقد المخمور فيه لصحا .ومنه في الغزل قول شرف الدين القابوسي:

    قابلني ليلة قبَّلته ........ ظبيٌّ من الشمس غدا أملحا

    طيب نسيم بين أسنانه ........ لو رقد المخمور فيه صحا

    تتمة الأبيات:

    قم بنا يا نديم يفديك مالي ........ من تلادٍ وطارفٍ وعقارِ

    نقطع الدهر كلَّ يومٍ بزقٍّ ........ وغزالٍ ساقٍ وكأسٍ مدارِ

    آن طيب الزَّمان واعتدل الجوُّ ........ وصار الضُّحاء كالأسحارِ

    وأتاك الرَّبيع يضحك عجباً ........ وهو من نسج نوره في إزارِ

    يا نديمي أفديك فيما التَّواني ........ ما ترى البسط ابن اللَّيالي القصارِ

    فاسقنيها واشرب على زهرة الرَّو _ ضِ وسجع القمري وشدو الهزارِ

    وتغنَّم صفو الزَّمان وروق ال _ عمر من قبل ضيعة الأعمارِ

    لا تبالي إذا سكرت بوزرٍ ........ إن مولاك غافر الأوزارِ

    وله من قصيدة مطلعها:

    نقض الجرح وكان اندملا ........ وامتلا القلب وقد كان خلا

    عاده داء الهوى من بعد ما ........ راح وقد أفرق عنه وسلا

    ماله تزعجه زفرته ........ كلَّما استاف صباً أو شمألا

    وإذا شام بروقاً لمعت ........ غلب الدَّمع الحيا فانهملا

    ومتى أبصر بدراً طالعاً ........ ظنَّه عنه الذي قد أفلا

    عاش في أرغد عيش برهةً ........ مستريحاً راق حالاً وحلا

    ليس يدري الهمَّ حتى أن رأى ........ ليته لم ير تلك المقلا

    فعلت فيه بطرفٍ لو رمى ........ حجراً صلداً به لانفعلا

    كيف لا يجرح قلبي طرفه ........ وإذا السَّيف تحرَّى قتلا

    والذي يصبو لأحداق المها ........ لم يمت إلا بها منجدلا

    لائم الصَّبِّ على الحب الذي ........ سيف لحظيه يبيح الأجلا

    خلِّ عنك اللوم بالله فقد ........ سبق السَّيف إليه العذلا

    ويح قلبي من هوى ذي صلفٍ ........ ظالم في حكمه لو عدلا

    ما له حمَّله ما لم يطق ........ أتراه ظنَّ قلبي جبلا

    قال يستطرد بي ما حاله ........ صار للعشَّاق فينا مثلا

    أيُّها المعرض لا عن زلَّةٍ ........ أدلالاً كان ذا أم مللا

    بأبي الرِّيم الذي من طرفه ........ سرق الظَّبي الكحيل الكحلا

    غصن البان الذي في قدِّه ........ سلب الليِّن القنا والأسلا

    يا خليليَّ بلا أمرٍ سلا ........ عن فؤادي بعده ما فعلا

    أمقيمٌ بعده يصحبه ........ أم دعاه للردى فامتثلا

    وله من أخرى مطلعها:

    درَّ لها خلف الغمام هاطلاً ........ فجادها من رامةٍ منازلا

    منازلاً كان المنى منادماً ........ فيها وصرف الدَّهر عنها غافلا

    نسبح في غمرته ولم نكن ........ نزايل الرَّوضات والخمائلا

    لا نستفيق من خمار لذَّةٍ ........ نتبع أبكار الهوى الأصائلا

    جنان أنسٍ فارقتها عنوةً ........ نفوسنا واجدةً ثواكلا

    واهاً لها وآهةً لو بقيت ........ أو دام ربع اللَّهو منها آهلا

    ومنها:

    كان الشباب الرَّوق فيها وبها ........ قضَّيت أيَّام الصِّبا الأوائلا

    حيث الحمى مسرح أسراب المها ........ وحيث كنت مرحاً مغازلا

    كلَّ غزالٍ آنسٍ لحاظه ........ للعاشقين لم تزل قواتلا

    تصمي إذا ما قصدت بأسهمٍ ........ نصالها لا تخطئ المقاتلا

    قضيب بانٍ قضفٌ على نقاً ........ فوقها ترقب بدراً كاملا

    ما بانة الجزع على نظرتها ........ إذا ثنى منه قواماً عادلا

    ومن غزلياته قوله:

    مهلاً فقد أسرعت في مقتلي ........ إن كان لا بد فلا تعجلِ

    أنجزت إتلافي بلا علَّةٍ ........ الله في حمل دمي المثقلِ

    لم تبق لي فيك سوى مهجةٍ ........ بالله في استدراكها أجملِ

    إن كنت لا بدَّ جوًى قاتلي ........ فاستخر الله ولا تفعلِ

    رفقاً بما أبقيت من مدنفٍ ........ ليس له دونك من معقلِ

    يكاد من رقَّته جسمه ........ يسيل من مدمعه المسبلِ

    ما لك في إتلافه طائلٌ ........ فارعَ له عهداً ولا تهملِ

    كم من قتيلٍ في سبيل الهوى ........ مثلي بلا ذنبٍ جنى فابتلي

    أول مقتول جوًى لم أكن ........ قاتله جارَ ولم يعدلِ

    يا مانعي الصَّبر وطيب الكرى ........ عن حالتي بعدك لا تسألِ

    قد صرت من عشقك حيران لا ........ أعلم ماذا بي ولم أجهلِ

    أغصُّ من دمعي حفاظاً لما ........ فارقته من ريقك السلسلِ

    ومنها:

    أفديك بالنَّفس وما دونها ........ ما قيمة الأرواح أن تقبلِ

    يا غصناً مال إلى طبعه ........ من دلَّ جفنيك على مقتلي

    ورامياً أعجب من أنَّه ........ أصاب في الرَّمي ولم يمهلِ

    رمى فأصمى مهجتي سهمه

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1