Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
Ebook927 pages5 hours

نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب في الادب والشعر والنوادر واللطائف والغرائب، تناول فيه المؤلف شعراء وكتاب ومؤلفين وعرض محاسنهم ومقتطفات في اشعارهم كذلك تعرض الى نوادر بلغاء الروم ونوادر ادباء حلب وظرائف ظرفاء العراق وغير ذلك الكثير
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 15, 1903
ISBN9786348974159
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Read more from المحبي

Related to نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Related ebooks

Reviews for نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة - المحبي

    الغلاف

    نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

    الجزء 2

    المحبي

    1111

    كتاب في الادب والشعر والنوادر واللطائف والغرائب، تناول فيه المؤلف شعراء وكتاب ومؤلفين وعرض محاسنهم ومقتطفات في اشعارهم كذلك تعرض الى نوادر بلغاء الروم ونوادر ادباء حلب وظرائف ظرفاء العراق وغير ذلك الكثير

    بيت المحبي

    بيت أبي وجدي، ومنبت عرق محتدى ومجدي .ارتضعت دره واغتذيت، وإلى فضله انتسبت واعتزيت .والمجد ما افتخرت به العرب من القدم .

    وإنِّي من العرب الأقْدمين ........ وقد مات من قبْل خَلْقِي الكَرَمْ

    وفي كرَم العِرْق بالمَنْبِت الطيِّب، عَوْن على أثْمار تروّتْ بالعارض الصيب .فأنا إذا افتخرت هزتني أريحية الطرب، ونافست بآباء تملكني عند ذكرهم حمية العرب.

    أولئك آبائي فجْئني بمثلِهمْ ........ إذا جمعتْنا يا جريرُ المَجامِعُ

    فأول من سكن منهم الشام، وشام من بارق إقبالها ما شام:

    القاضي محب الدين

    فضاهى بغزارة علومه أنهارها ، وأخجل بمنثوره ومنظومه أزهارها .بماذا أصفه وأحليه ، وأي منقبة من الجلالة أوليهوأطراف القلم بنعوته لا تحيط ، حتى ينزح بمناقير العصافير البحر المحيط .إمام أئمة الفنون ، المستخرج من بحار البلاغة درها المكنون .فكان بالشام علمها الذي يهتدي به المهتدى ، ومقتفاها الذي يقتدي به المقتدى .فتدانت به القلوب المتباعدة ، وتلاقت الآمال المتواعدة .فما ولدت أرحام الأرض من حفال الأزهار والنبات ، التي أرضعتها الخضراء بدر أخلاف الأمطار وهي في حجر الصبا وحضانة النسمات .ألطف من شمائله التي عطرت أردان الصبا ، وأعادت للقلب نشوة الصبا فصبا .ولم يزل يحلى الليالي العواطل ، وتدين لسقيه السحب الهواطل .ويبدع في آثاره صدورا وأعجازا ، ويطلع رسائله مملوءةً بلاغة وإعجازا .حتى رداه الردى ، وعداه الحمام من ذلك المدى .فأنار الله مثواه ، وجعل الجنة مأواه .فخلفه ثلاثة فتيان ألف المجد بينهم ، فإن قلت أين الحسن فانظر أيهم .فالأوسط من مرض الشعر في عافية ، لكنه قعد على طريق القافية .وأما الكبير ، وهو :

    عبد اللطيف

    فعظيم الأرومة، ورونق المزية المرومة .أنبت خطيها وشيجه، وقوم أغصانها تخريجه .يفترع الهضاب ببعد همة، ويصيب الأغراض بمسدد سهمه .أصيل الرأي والحجزم، مليُّ التدبير والعزم .ضاعف الله لهة نعما يتقبلها، ما زال يوفى على ماضيها مستقبلها .بهمة ترى الدنيا هبات مقسومة، ونقطة من نقط الدائرة موهومة .وفكرٍ يغرف منبحر، وعنده يصغر عمرو بن بحر .فوصفه واسع المجال، ومثله قليلٌ في الرجال .أسس وبنى، وعطف أعنة المدح وثنى .وله أشعار كما اتسقت اللآلي، وسفرت وجوه حسان عن ضوئها المتلالي .أتيت منهال بما تكتب بدائعه على الأحداق، وتتنافس كلمه الأطواق في الأعناق .فمنه قوله من قصيدة مستهلها :

    هي الدار حيَّ عهدَها مدمعِي الجارِي ........ عفَتْ غير سُحْمٍ ماثلاتٍ وأحْجارِ

    رسومٌ مَحاها كلُّ سافٍ وهاطلٍ ........ فهُنَّ كجسمي أو غوامضِ أسرارِي

    أقمْنا حَيارَي سائرين فلم نجدْ ........ مُجِيباً سوى دمعٍ مع البَيْنِ مِدْرارِ

    ولا عجبٌ لو أصبح الدمعُ حائراً ........ كقلبِك في تلك المعاهد يا جارِي

    معاهدُ لا أدري أمِن طِيبِ تُربْها ........ نسيمُ الصبَّاحيَّتْ أم العنْبَرُ الدَّارِي

    وقفْنا بها حتى لِطُول وُقوفنا ........ تخيَّلتُ أنَّا قد خُلِقْنا من الدَّارِ

    أذَلْنا مَصُونات الدموع برَبْعها ........ ولمَّا نَجِدْ من سَكْبنا الدمعَ من زَارِ

    خلَتْ بعد ما كانت مَناخاً لراكبٍ ........ ومَلعَبَ أتْرابٍ ومَجْمعَ سُمَّارِ

    ومَرْتعَ غزْلانٍ ترى الصِّيد صَيْدَها ........ فقُل في غزالٍ يْصرعُ الأسَدَ الضارِي

    وعصرِ تَصاب قد فُجعتُ بفَقْدِه ........ وماضي شبابٍ رحتُ من حَلْيِه عارِي

    لِئن قصُرتْ أيامُه فلَشدّ ما ........ تولَّت وأبْقت طولَ بَثِّ وتَذْكارِ

    ألا في أمانِ الله عصرٌ لفَقْدِه ........ من العيش والَّلذاتِ قلَّمتُ أظفْارِي

    وقلتُ لِداعِي الغيِّ نَكِّبْ فطالَما ........ لغير رِضَى الرحمن أشْغلتُ أفكارِي

    وقوله، من قصيدة أخرى، يمتدح بها أستاذه محمد بن محمد بن إلياس، المعروف بابن جوي، مفتي السلطنة:

    عوَّضتَ معروفاً عن الياَسِ ........ يا خادماً باب ابن إلْياِس

    فاصْغَ لما أشرحُ من حالةٍ ........ أسمُو بها ما بين أجناسِي

    خدمتُ مفتى العصر وهْو الحَيَا ........ فلم يدَع بِرِّى وإيناسِي

    وصرتُ في خدمتِه ناعماً ........ في نعمةٍ تُسدَى بلا باِس

    لا اعرف الهمَّ ولا أشتِكي ........ خَطْباُ بَلَى قلبي بوَسْواِس

    فسَيْبُه سيلٌ إذا رُمتَه ........ ومجدُه كالشامخ الراسِي

    إن كسَر الدهرُ فؤادَ امْرئٍ ........ تراه بالجَبْرِ هو الآسِي

    إن رُمْتَ تدْري بالنَّدَى سَحَّةُ ........ فصَوْبُه مَعْ مَرِّ أنفاسِي

    أما ترى رِقَّةَ مدْحي له ........ تُغْنيك عن دَنٍّ وعن طاِس

    قد أمر الفتحُ بأمرِ عُلًى ........ أجبْتُه طوعاً على راسِي

    قل لبنِي الدنيَا ألا هكذا ........ فليصنْعِ الناسُ مع الناِس

    البيت الأخير مضمن، من ثلاثة أبيات للفتح بن أبي حصينة .ولها قصة، وذلك ما ذكر أنه امتدح نصر بن صالح بحلب، فقال له: تمن .فقال له: أتمنى أن أكون أميراً بحلب .فجعله أميراً، وخوطب بالأمير وقربه نصر، وصار يحضر في مجلسه في جمل الأمراء .ثم وهبه أرضاً بحلب، قبلي حمام الواساني، فعمرها دارا، وزخرفها، وقرنصها، وأتم بناءها، وكمل زخارفها، ونقش على دائر الدرابزين قوله:

    دارٌ بنيْناها وعشْنا بها ........ في نعمةٍ من آلِ مِرْداسِ

    قومٌ مَحَوْا بُؤْسي ولم يتركوا ........ علىَّ للأيام من باِس

    قل لبني الدنيا ألا هكذا ........ فليصْنع الناسُ مع الناسِ

    فلما انتهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح .فما أكل الطعام، ورأى الدار، وحسنها، وحسن بنائها ونقوشها، وقرأ الأبيات ؛فقال: يا أمير المؤنين، كم خسرت على هذه ؟فقال: والله يا مولانا ما للملوك علم، بل هذا الرجل ولى عمارتها .فلما حضر المعمار، قال له: كم لحقكم غرامة على هذا البناء ؟فقال له المعمار: غرمنا عليها ألفي دينار مصرية .فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية، وثوب أطلس، وعمامةً مذهبةً، وحصاناً أبلق، بطوق ذهب، وسرج ذهب، ودفع ذلك إلى الأمير الفتح، وقال له:

    قُلْ لبني الدنيا ألا هكذا ........ فليصْنع الناس مع الناس

    وقد ضمن هذا البيت القاضي شهاب الدين بن حجر، في مدح البدر الدماميني، فأحسن جدا حيث قال:

    نسيتُ أن أمدح بدرَ العُلَى ........ فلم يدعْ بِرِّى وإيناسِي

    قُل لبني الدنيا ألا هكذا ........ فلْيصنعِ الناسُ مع الناسِ

    وله يصف منتزها في الروم، بالقرب من أق بابا:

    حللت بالرُّوم دَوْحا هاج أشْجاني ........ حَنَى علىَّ بخيْراتٍ وإحسانِ

    حوَى مع الأُنْس ما يُسلِى اللبيبَ به ........ عن ادِّكارِ شَآمٍ أو خُراسانِ

    مَجامرُ الزَّهر في أرجائه نفَحْت ........ والوُرْق قد صدَحتْ فيه بأفْنانِ

    أشجارُه بسَقتْ أغصانُه ات َّسقتْ ........ خِيامَ ظِلٍّ ولكن ذاتُ أفْنانِ

    والسَّرْوُ تخْتال في أزْهَى ملابسها ........ كأنها الغِيدُ في قَدٍّ ومَيلانِ

    ُتمِليها الريحُ إذْ تثَنْى معاَطَفها ........ فتنهبُ الُّلبَّ من أحشاءِ وَلْهانِ

    وقد رأى بَصَرِى من حسنِ رَوْنقِه ........ أضْعافَ ما وصَفُوا في شِعب بَوَّانِ

    فدَام يسْقيه في الأسْحار فَيْضُ نَدَى ........ وصَوْبُ غيثٍ غزيرِ الهطْلِ هَتَّانِ

    أخوه محب الله

    هذا أصغرهم الذي أنار الحلك، والسعد الأكبر بين كواكب هذا الفلك .وهو جدي الذي وصل خيره إلي، وفرض الله تعالى حقه على .فأنا القائم بآثاره، وأحمد الله على ما خصني به من إيثاره .صاحب النسب الوضاح، المتقلد تلك المفاخر والأوضاح .بنور وجهه على خيط الظلام بخيطه، ومحاسنٍ مجدٍ بهرن بما كسينه من حبر المديح وريطه .أهله الله لعظيم ما استوفاه، وهيأ له الاستقلال بما استكفاه .فأطلق عنان الاعتنا، وتفنن في غرائب الاقتنا .فلم تضق له ساحة، ولا قصرت له راحة .والمجد يرشفه رضابه، والشرف يرقيه هضابه .في حوزة محوطة، وسعادة بالأماني منوطة .وبه الكفاية في الخطب إذا عم، والملم إذا ألم .إلا أنه لم تطل مدته، ولم تتوسع في متصرفاتها عدته .فقبض في سن الكهولة، واسوحشت لفقده المنازل المأهولة .فالله يحله في فسيح الرضوان ورحبه، ويجعل الرحمات المتواليات من حزبه وصحبه .وله نظم أثير، ودرٌ نثير .أثبت منها ما أحكم نسقاً ورصفا، وتناهى في الحسن تحليةً ووصفا .فمن ذلك وقله :

    أفْديك يا مَن حاز قلبي ........ مُستأثراً بجميعِ لُبِّي

    قُل لي بحقِّ أبيك مَن ........ أغْراك في تَلَفِي وسَلْبِي

    هل كان من ذنبٍ فإنِّي ........ تائبٌ منه لربِّي

    أو عن دَلالٍ فالذي ........ تخْتارُه حظُّ المحبِّ

    وله:

    في سبيلِ الغرامِ قلبي مُعَنىَّ ........ أثْخنَتْه نُجْلُ العيونِ جِراحَا

    قيَّدتْه فليس يرجو خَلاصاً ........ مِن هواها ولا يرُوم برَاحَا

    يشْتكى حُرْقة التَّباعُد حتى ........ علَّم الوُرْق في الرِّياض النُّواحَا

    وإذا ما أراد كَتْمَ هَواه ........ زادَه دَمْعُ ناظِريْه افْتضاحَا

    وقوله:

    تظنُّ العِدى والظَّنُّ مُرْدٍ ومتْلفُ ........ بأَنّيَ أخْشَى من عظيمٍ وأفْرَقُ

    وهيهات بل عفْو وحِلم وعفَّةٌ ........ وما كنْت من شيءٍ سوى العارِ أُشفِقُ

    ويبْغون أن أُعْطِي قِياداً ودونه ........ تسيلُ دماءٌ من رجال وتُهْرَقُ

    وكتب لبعض أحبابه :لو وصفت أشواقي لأعربت عن حصر، ماء البيان في إحصائه حصر، وطول الباع في البراعة عند استقصائه قصر .ولتكلفت ما ليس في الوسع والطاقة، ولاعترفت مع الوجد والغنى في البلاغة بالعدم والفاقة .ولأقررت مع القدرة بالعجز، ولنبا غرب عضبي وإن كان لدن المهز .ولست أشرح وجداً لا يشرح، وحنيناً مبرحاً لا يبرح .ولا أصف دمعا يكف ولا يقف، ولا مقلةً تجافت عن الكرى ولا تجف .ولا أعرب عن شوق بنار الصبابة يتلهب، وقلبٍ على فراش الضنى يتقلب .وكيف لي بعد ما لا يعد، وقد غلب الوجد .وغاض الجلد، وقاض الكمد .وخلب الخلب وسلب، وتغلب الوجد على القلب فغلب .وجفا الجفن الكرى فما كرّ، وخانه الصبر فما ثبت ولا استقرّ .ولو أغرقت في البيان لخضت في غماره، وغرقت في تياره، وعثرت في مضماره وكبوت ونبوت، وضللت وزللت .لكني حين عجزت أوجزت، ولما قصرت اقتصرت .فأضربت عن ضروبه، وأعرضت عن عروضه .واكتفيت عن ذكر كله، بإبداء بعضه .وأشفقت على الكتاب من الاحتراق، إذا درجته على نيران الأشواق، وطويته على لواقح الفراق.

    محمد بن عبد اللطيف الشهير بالخلوتي

    هذا الفرع نتيجة ذلك الأصل، فلهذا هو في حدة الذكاء أمضى من النصل .تحقق بالعلم الحديث والقديم، وتصرف في طريقه الواضح القويم .وزهد زهد ابن أدهم، ورغب عن أن يقبض على درهم .فتنازعته الحظوة بين الأماني والأمان، ولم تدع له أيامه مقترحاً على الزمان .وكان له أخ أكبر منه، إلا أنه في ناحية، ولا أرى ذاك إلا الشمس المنكسفة وهذا الشمس الضاحية .وله في المحاضرة محاسن غلبت على الأقمار التمائم، فهي زهر لها المحاسن بروج وزهرات لها القلوب كمائم .فأين حل فالمحل به أنيس، وهو إذا فارقه عليه حبيس .وله شعر أزهى من الزهر، وأبهى من الحباب على النهر .فمنه قوله :

    ذا ربعُ دَعْدٍ بالأجارِع فارْبَعِ ........ إن كنت مَن يرعى حقوقَ الأرْبُعِ

    لي مقلةٌ تسقِى الطلولَ ومَسْمَعٌ ........ يدعو حمائمَهنَّ قُولِي أسمعِ

    فأنا المُجيبُ لهنَّ عن شجْنٍ وهُنَّ ........ سَجعْن عن طربٍ وفَرْطِ توجُّعِ

    ما الصادحُ الجَذْلانُ مثل النَّادبِ الْ _ وَلْهانِ ذا دَاعٍ وذلك مُدَّعِ

    ولقد حبسْتُ على الديار ركائبي ........ والركبُ بين مُودِّعٍ ومُودَّعِ

    وكلاهما يرضى بأن يقْضِى أسىً ........ ويكونَ غيرَ مُشيِّع ومُشيَّعِ

    فلكم جَرعْنا الوجدَ مُرّاً طعُمه ........ لما تَزايلْنا غداةَ الأجْرعِ

    هي وقفةٌ في الدار لا بَلَّتْ صَدَى ........ قلبي ولا أرقْيتُ فيها أدْمُعِي

    ماذا الذي يُجْديك نَدْبُ معاهدٍ ........ أسَدتْ بها هُوج الرياح الأرْبَعِ

    سكانُها نقضوا العهودَ وضيَّعوا ........ يا حافظاً للعهد غيرَ مُضيِّعِ

    فاشْمَخْ بأنْفِكَ عن أُناسٍ خلَّفوا ........ ما أوْعدوك وحبلَ وُدِّهمُ دعِ

    واشكرْ لأغْربةٍ نعَبْن بِبَيْنهِم ........ من أسودٍ يدعو الزَّيالَ وأبْقعِ

    واصدِف عن البرْق اللَّمُوع بأرضهمْ ........ وارقُدْ قريرَ الجَفْنِ غيرَ مُروَّعِ

    من شاقه ريحُ الشَّمالِ فإنني ........ لم أُعْطه وجهاً ولم أتطلَّعِ

    لاساعَد الرحمنُ قلباً ذاكراً ........ أيامَ مَن خان العهودَ ولا رُعِى

    الناسُ بين مُجاهرٍ لك في الأذى ........ ومُوارِبٍ تْغلى ضمائُره فَعِ

    أغفلتَ رأيَهم ورُمْتَ رشادَهم ........ أنت الملومُ فذُقْ أذاهم واجْرَعِ

    قابلتَ جهلَهم بحِلْمٍ واسعٍ ........ قل للفَوادحِ عند ذلك توسَّعِي

    الفَتْكُ عينُ الرأيِ في تدْبيرهم ........ لو لم تكنْ لله لم تتورَّعِ

    خُلِقوا من الشرِّ الصريحِ وصُوِّرا ........ شَرَّ الورى سكنوا بشرِّ الموضعِ

    ما للزمانِ جرى على عاداتِه ........ في رِفعةِ الأدْنى وخفضِ الأرْفعِ

    وبنُوه قد جُبِلوا على أفعالِه ........ فالحر بْينهم بحالٍ أشنعِ

    دهرٌ قضى أن لا يطيبَ لماجدٍ ........ قُل للَّيالي ما بدا لكِ فاصْنعِي

    فاعْرِض عن الدهرِ الخؤونِ وأهلِه ........ وافْرَغْ إلى ربِّ البرايا وارْجعِ

    وقوله من أخرى، كتب بها إلى محمد الكريمي:

    نراجع إلى الفضلِ أهلَ الكلامْ ........ ونأخذُ عن كلِّ حَبْرٍ هُمامْ

    ونسألُ مِن ساحِة الأكرمين ........ ونخضعُ للمجد لا للأنامْ

    فنتْبع من رفعتْه النفوسُ ........ ونترُك من قدَّمتْه اللئامْ

    فأختارُ طوراً زوايا الخمولِ ........ وطوراً أحبُّ الأمورَ العظامْ

    تراني على كلِّ حالٍ أُرَى ........ أسيَر الهوى ومليكَ الغرامْ

    وما جرعَةُ الحب إلا المَنونُ ........ وما لوعةُ الهجرِ إلا الهُيامْ

    وما راحةُ العشقِ إلا العَنا ........ ولا صحةُ الصَّبِّ إلا السَّقامْ

    ولي حَسرةٌ بعد أخرى لها ........ زفيرٌ ولي له انْحسامْ

    يُذيب الحشا ويُثيِر الشُّجونَ ........ بنارٍ غدا وَقْدُها كالضِّرامْ

    وهل للهوى غيرُ مَن ذاقه ........ فَنشكْو له مُرّ سَمْع المَلامْ

    ولاكلُّ مَن غاص بحرَ الهوى ........ حوَى مِن جواهِره باغْتنامْ

    ولاكلُّ مَن قد سما للعلومِ ........ يقرِّر مُشكِلَها عن إمامْ

    فذاك هو الن َّدْبُ بدرُ العلومِ ........ ولم يزل نورُه في التَّمامْ

    كخِلِّى الكَرِيمىِّ مَن فضلُه ........ تلفَّعه يافعاً باهْتمامْ

    مُهذَّبُ أخلاقِ أهل الوفا ........ حفيظٌ لعهدِ التقى والذِّمامْ

    السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله

    والدي الذي هو سبب حياتي الفانية، تتبعها حياتي الباقية .فإني من صلبه خرجت، وعليه تخرجت .ولا أعد من الفضل، ما كثر لدي أو قل، إلا منه ابتداؤه، وإليه انتهاؤه .وكنت أطوع له من قلمه لكلمه، وأوفق من بنانه لبيانه .ما ملت عن نهجه ولا تنحيت، من حين دبيت إلى حين التحيت .أرجو على يديه حسن التحلي، والاطلاع على أسرار التجلي .حتي أسعد في آخرتي ودنياي، وأفوز بالحسنى في مماتي ومحياي .وكان هو حريصاً على فائدة يلقيها على، وعائدة يجر نفعها إلىّ .حتى خصَّني بتعليم ما تفرد به من صنعة الإنشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .وأنا فيما ذكرته واصف نفسي، وأما وصفه فمما لا يقوم باستيفائه يرسى ولا نقسى .إن قلت: فاضل، فقد ساواه في الفضل من سواه، أوقلت: ماجد، فقد شاركه في المجد من عداه، وهو تعداه .وأنا لا أرضى له إلا التوحد، ولا أقبل له إلا التفرد .فإنه من منذ وجد، إلى أن فقد .لم يزل ربيب نعمة، غذى حشمة .والجاه في زمن أبيه، يخشى من أنفته وتأبيه .والأمداد فضل الله، لأبي الأمداد فضل الله .وله عزمة تلين قسوة الدهر الأبي، ويتلى حديثها كما يتلى الحديث عن النبي .إلى بشر يترقرق ماؤه في غرته، وينفتق نور الشرف بين أسرته .وله كلماتٌ كحديث الصديق، أو عتيق الرحيق، يجمع لذة حلو الحديث إلى نشوة المر العتيق .بخطٍ ينطق من غير لسان، ويفصح من غير بيان .وشعرٌ إذا رأيته، رويته .ونثرٌ تحفظه، حين تلحظه .وله تآليف ضربت من الإجادة بسهم، وأقر لها أهل البلاغة من كل شهم .هي لعقد الفضل واسطة النظام، ولمطلع المجد بيت القصيد وحسن الختام .فمن شعره قوله، من قصيدة مطلعها :

    حديثُ غرامي في هواك صحيحُ ........ وقلبي كأقْوال الوُشاة جريحُ

    وشوقي إلى لُقياك شوقُ حمامةٍ ........ لها فوق أفْنان الغصون صُدوحُ

    فتندُبُ أطْلالا لها ومعاهداً ........ وتظهِر أشْجانا لها وتصيحُ

    فلا مؤنسٌ في الدار لي غير صوتها ........ إذا هاج وَجْدي والدموع تسيحُ

    كلانا غريبٌ يشْتكى الهجرَ والنَّوَى ........ فيبكي على إلفٍ له وينُوحُ

    فقلبي وجَفْني ذا يذوبُ صَبابةً ........ حَزِيناً وهذا بالدموع قَرِيحُ

    ومُهجةِ صَبٍّ مُستَهامٍ مُتيَّمٍ ........ بها صار من داء الغرامِ قُروحُ

    أهِيمُ غراماً حين أذكُر جِلَّقاً ........ ودمعي بسفْح القاسِيُونِ سَفوحُ

    ولو كان طَرْفي في يدَىَّ عِنانُه ........ سعيْتُ ولكن مُناى جَمُوحُ

    وقوله من أخرى، مستهلها:

    رعى اللهُ أيام الشَّبِيبة من عَصْرِ ........ وهزَّ نسيمُ العيش رَيْحانةَ العمرِ

    وحّيَّ بِقاعاً تُنبت الحسنَ تُرْبُها ........ وتُبْدِي لنا الأقمارَ من فلَك الخِدْرِ

    حَلْلتُ بها والدهرُ أبيضُ مُقِبلٌ ........ وعَيْشِى مقيم في خمائله الخُضْرِ

    تُحيط بَي الغِيدُ الحسانُ أوانِساً ........ كما اشْتبكَتْ زُهْر النجوكم على البدرِ

    هذا نقل منق قول ابن خفاجة في النسيب:

    غَزاليَّةُ الألْحاظِ رِيميَّةُ الطُّلَى ........ مُداميَّةُ الألْمَى حَبابَّيةُ الثغرِ

    تَرنَّح في موشِيَّةٍ ذهبَّيةٍ ........ كم اشتبكتْ زُهْرُ النجومِ على البدْرِ

    وفي المقامة الحلوانية: وقد أحاطت به أخلاط الزمر، وإحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر .وله من أخرى مستهلها:

    طيفٌ يُمِّثله الغرامُ بفكْرِه ........ ورَجاً يَحارُ بطَيِّه وبنَشْرِهِ

    منها في الغزل:

    وبمُهْجتي نَشْوانُ من خمرِ الصِّبا ........ لعبتْ بنا قَهْراً سُلافةُ خمْرِهِ

    يرْنُو إلىَّ بساحرٍ من طَرْفِهِ ........ عنه روَى هاروتُ قصةَ سِحْرِهِ

    بدرٌ تكامَل في المحاسِن خَلْقُهُ ........ لمَّا غدا منه المَحاقُ بخَصْرِهِ

    هذا معنى أرق من خصر مليح، وفيه مع هذه المقابلة تنشيط وتمليح .وأظنه رأى بيت المطَّوِّعيِّ فاستجاد معناه، وشيد بوصف الكمال مغناه .وبيت المطَّوِّعيِّ:

    قضيبٌ ولكنْ مَبْسمُ النَّورِ ثغرُه ........ وبدرٌ ولكن المَحاقَ بخَصْرِهِ

    ولقد مر بي أبيات في هذا المعنى لابن مخلد، لعبت بي لَعِبَ الشمول، بحُرِّ العقول .وهي:

    لعبتْ به نُجْلُ المَحاجِرْ ........ لَعِبَ الخناجرِ بالحَناجِرْ

    بأبي رواقدُ في سُوَيْ _ داءِ القلوبِ وفي النَّواظرْ

    هُنَّ البدورُ ولا مَحا _ قَ لهُنَّ إلا في الخواطِرْ

    تتمة الأبيات من القصيدة:

    قد بات يسْقينا مُدامة ثَغْرِهِ ........ وتُضيءُ مجلَسنا لآلئُ دُرِّهِ

    طَرْفي بجنَّة حسنِه مُتنعِّمٌ ........ والقلبُ في نارِ الجحيم بهَجْرِهِ

    قد لامَني فيه العذولُ جَهالةً ........ لم يَدْرِ ما صَحْوُ الهوى من سُكْرِهِ

    بَحْرُ المحبَّة ليس يبلُغ غَوْرَه ........ لم يُلْفِ ساحلَ بَرِّه من بحرِهِ

    يا قلبُ رِفْقاً كم تُحمِّلني الأسى ........ أوَ مَا ترى جَوْرَ الزمانِ بِحُرِّهِ

    مَهْلا لقد حمَّلتني عِبْئاً لقد ........ أعْيَى الجبالَ الشُّمَّ شَمَّةُ نَزْرِهِ

    وألِفْتُ صَرْفَ الدهر حتى إنه ........ سيِاَّنِ عندي عُسْره مع يُسْرِهِ

    وما أحاسن محاسنه قوله:

    ومَصُونٍ عليه غَيْرةُ حُسْنٍ ........ حجَبْته عن أعْيُن الأوهامِ

    حبُّه في القلوبِ سِرٌّ خَفِيٌّ ........ كخَفاءِ الأرْواحِ في الأجسامِ

    ملِكٌ لم يدَعْ من الحسنِ شَيَّا ........ لِسواهُ بَراه في الأحْلامِ

    وقوله:

    ألا يابنَ الأُلَى سادُوا أراك تفوقُهمْ ........ وتبلغُ إن شاء الله الإلهُ العُلَى حَتْمَا

    فأنت هلالٌ والهلالُ نمُوُّه ........ دليلٌ له أن يْغتدِى قمراً تِمَّا

    هذا من قول الآخر:

    إن الهلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّه ........ أيْقْنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ

    قلت: عامة أهل الأدب وغيرهم أن نجاح الأمور وسعادتها، ونحوستها وخيبتها، بأوائلها .وفي أمثال العامة :' ليلة العيد من العصر ما تخفى ' .' والليلة المضيَّه تبان من عشيَّة ' .' واليوم المبارك من أوله يبين ' .ويقولن: ' لو أراد يسعدني أيش كان يقعدني ' .كما قيل:

    إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ........ ولكم يفْخَر فليس له افْتخارُ

    وقال:

    وإذا الفتى مرَّتْ له في عمرِه ........ خمسونُ عاماً للتُّقى لا يجْنحُ

    عكَفتْ عليه المُخْزِياتُ فما لَهُ ........ مُتحوَّلٌ عنها ولا مُتزحْزَحُ

    وإذا رآى إبْليسُ غُرَّةَ وجهِه ........ حَيَّى وقال فَدَيْتُ مَن لا يُفِلحُ

    والمنجمون على خلافه، فإنهم يقولون: هذا بحسب الطالع، فقد يكون في أول العمر، وقد يكون في أوسطه، وفي آخره .وكذا في الشرع، قد يولد المرء مؤمناً أو كافراً في أول أمره، وفي أوسطه، وآخره، ثم يعرض له خلافه .وما ذهبوا إليه أوهام. انتهى باختصار .ومن كتاب اللآلي قال الشهاب: قلت: الواهم ابن أخت خالته، فإن الأول في وادٍ وهذا في آخر، بعيد عنه بمراحل، لأن الجمهور أرادوا أن الله خلق في كل أحدٍ استعداداً للسعد وغيره، تظهر علاماته عليه في أول أمره .كما قال:

    في المهدِ ينطِق عن سعادِة جَدِّه ........ أثرُ النَّجابِة ساطعُ البُرهانِ

    وأما برُوزه من القوَّة، فقد يُسرِع وقد يُبْطِى، كما لا يخفى .وله:

    أنا ما بين زُمْرِة الأقْرانِ ........ خَصَّ حَظّي الزمانُ باِلحرْمانِ

    فالعُلالاتُ لي سحائبُ يبْدُو ........ بَرْقُها خُلَّباً مكانَ الأمانِي

    هذا من قول بعضهم: برقٌ خلَّب، وعلالات للنفس وخدعٌ لها .قال كعب:

    فلا يُغرَّنْكَ ما منَّتْ وما وعدتْ ........ إن الأمانِيَّ والأحلامَ تضْليلُ

    وقد استحسنوا قول بعض الحكماء: الأماني أحلام المستيقظ .ونظمه القاضي محمد بن هبة الله الحسيني الأندلسي، فقال:

    كم ضيَّعتْ منك المُنَى حاصلاً ........ كان من الواجبِ أن يُحفْظاَ

    فإن تعلَّلتَ بأطْماعِها ........ فإنَّما تحلُم مُستْيِقظَا

    ومن النوادر:

    أحاديثُ نفسٍ كاذباتٌ وما لَها ........ فوائدُ إلا أن تسُرَّ الفتى العانِي

    وأكثرُ ما تُمْليه يظهُر ضِدُّه ........ فكلُّ أمانِي القلبِ أحْلامُ يَقْظانِ

    وأحسن منه:

    إنما هذه الحياةُ مَنامٌ ........ والأمانيُّ حُلمٌ بها المرءُ صَبُّ

    فلهذا تأْني على العَكْسِ ممَّا ........ كرِه الناسُ دائماً وأحَبُّوا

    وشعره كثير مجموع في ديوان، والطرس يستدل على ما فيه من العنوان .ومن منشآته، التي أعدها من بدائع مقولاته .ما كتبه على لسان فرسٍ إلى مفتٍ بالروم، وجرى فيها على طريقة الوهراني، في رقعته التي كتبها على لسان بغلته، وعلَّقها في عنقها، وسيبها في دار الأمير عز الدين موسك .فأما رقعة أبي، رحمه الله تعالى، فهي :الهمام المقدام في حلبة الرهان، والإمام المصلى به يقتدى المجلى والثاني في ميدان البيان .غرة جبهة دهم الليالي، من شهب أيامه ربيع الفخار والمعالي .جعل الله مجمل سعادته غنياً عن الإفصاح، وجياد أوصافه الحسنة متباريةً في ميدان المداح .بجاه سيدنا محمد الذي علا على البراق، وتشرفت به الآفاق .أنهى إلى عالي حضرته، بعد تقبيل سامي سدته .أنه لا يخفى ما ورد على النبي النبيه، أهدى الله إليه صلاته وسلامه ،: ' الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ' .وإنني تلك الفرس الأصيلة الطرفين، والحجر العريقة الجانبين .فأبى من العتاق المعنقية، وأمي من الصَّافنات الجياد السقلاوية .نشأت بأراضي الشام، وشممت ذلك العرار والبشام .وقد كان شرفني المولى بالرُّكوب، وأملت منه المطلوب .وفزت بالمراد، وسبقت الجياد .وتقدمت الحياشية أمامي، وحملت الغاشية قدامي .ومشيت بالأدب والوقار، ولم يصدر مني عثار ولا نفار .وقد طرق سمعي أن المولى صار فارس الميدان، وسابق يوم الرهان .وامتطي الصدارة صهوة الإقبال، وسحب له جنيب العز والإجلال .وملك زمام الأمور، وشد حزام العزم في مصالح الجمهور .فحصل لي كمال السرور والنشاط، وكدت أن أفك نفسي من الرباط .وأجد في المسير، إلى تهنئة جنابة الخطير .لكن أقعدتني الأيام عن ذلك، ومنعتني عن سلوك هذه المسالك .لما حل بي من مواصلة الصيام، والركوع والسجود عند القيام .وتقدمني في المسير الرفيق، الذي اجتمعت أنا وإياه في طريق.

    إن العوائقَ عُقْنَ عنك ركائبي ........ فلهُنَّ من طربٍ إليك هَدِيلُ

    وكان بلغني أنه ركض في ميدان حضرتك بعض اللئام، ووضع قديم قوله حيث شاء من الملام .ونسبني إلى البطر والجموح، وسلوك طريقٍ من قلة الأدب مطروح .وأن البحر على تعكر، والورد الصافي تكدر .فوالله ليس لما قيل، أصلٌ أصيل .وكنت أود أن أتوصل إلى بره، وأكرع من فائض بحره .وأورد موارد إحسانه، وأفوز بلطفه وامتنانه .فلا خير في حبٍ لا يحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه .وقد علم أن البهائم لا تعلم شعر أبي تمام، ولا تعرف شعر أبي الطيب الهمام .ولا تطرب الخيل، إلا بسماع الكيل .والعلاف، لا يعرف مسائل الخلاف .وصاحبي وإن كان هو الأصيل العريق، كلنه مقتر للضيف في العليق .كثير الشعر قليل الشعير، ينشد بلسان التقصير:

    ومالي صنعةٌ إلا القوافي ........ وشعرٌ لا يباع ولا يعار

    فالشعير أبعد من الشعرى العبور، ولا وصول إليه ولا عبور .فالبطن ضامر لا يشد عليه حزام، والفم خالٍ ليس فيه إلا اللجام .وقد بليت بعد الهزال بالخرس، وأصبحت كما قيل: الجل خيرٌ من الفرس .وغيري ممن ليس له أصل ولا فصل، ولا أدب عنده ولا فضل .يرتع في رياض الإنعام، ويجهل أنه من الأنعام.

    حمارٌ يسيَّبُ في روضةٍ ........ وطِرْفٌ بلا عَلَفٍ يُربَطُ

    فإن أنْعَم المولى بحَلِّ وَثاقي من يد الحِرمان، وأحلَّني من ربيع فضلهِ في رَبْوة الإحسان .فأكرُم الخيل أشدُّها حَنِيناً إلى وطنه، وأعتق الإبل أكثرها نزاعا غلى عطنه .فليهتز فرص الاقتدار، ويغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار .فالدابة تضرب على النفار، لا على العثار .فليس لي سواه أعول عليه، وأرفع قصتي إليه.

    وهيْهات أن يُثْنَى إلى غيرِ بابِه ........ عِنانُ المطايا أو يُشَدَّ حِزامُ

    وهذه رقعة الوهرانيّ، وهي من لطائف نزعاته، ومحاسن مخترعاته :المملوكة ريحانة بغلة الوهرانيّ، تقبل الأرض بين يدي الأمير عز الدين، حسام أمير المؤمنين .نجاه الله من حر السعير، وعظم بداره قوافل العير .ورزقه من التِّبن والشَّعير، وسق مائة ألف بعير .واستجاب فيه أدعية الجمّ الغفير، ومن الخيل والبغال والحمير .وتنهى إليه ما تقاسيه من مواصلة الصيام، والتعب في الليل والدوابُّ نيام .قد أشرفت مملوكته على التَّلف، وصاحبها لا يحمل الكلف، ولا يوقن بالخلف، ولا يقول بالعلف .وإنما يحلّ به البلاء العظيم، في وقت حاجتي إلى القضيم .والشَّعير في بيته مثل المسك والعبير، والأطريفل الكبير .أقلُّ في الأمانة من النصارى الأقباط، والعقل في رأس قاضي سنباط .فشعيره أبعد من الشِّعرى العبور، ولا وصول إليه ولا عبور .وقرطه أعزُّ من قرطي مارية، لا يخرجه صدقةً ولا هبةً ولا عارية .والتِّبن، أحبُّ إليه من الابن .والجلبَّان، أعز عنده من دهن البان .والقضيم، بمنزلة الدُّرِّ النَّظيم .والفصَّة، أجلُّ من سبائك الفضَّة .والفول، دونه ألف باب مقفول .وما يهون عليه يعلف الدوابّ، إلا بفنون الآداب، والفقه الُّلباب، والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب .ومن المعلوم أن الدوابَّ لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم .ولا تطرب إلى شعر أبي تمَّام، ولا تعرف الحارث بن همام .ولا سيما البغال، التي تستعمل في جميع الأشغال .مسكبة قصيل، أحب إليها من كتاب التَّحصيل .وقفَّة دريس، أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس .ولو أكل البغل كتاب المقامات، لمات .ولم لم يجد كتاب الرَّضاع، لضاع .ولو قيل له: أنت هالك، لم يأكل موطأ مالك .وكذلك الجمل، لا يتغذَّى بشرح أبيات الجمل .ووقوفه في الكلا، أحبُّ إليه من شعر أبي العلا .وليس عنده طيِّب، شعر أبي الطيِّب .وأما الخيل، فلا تطرب إلا إلى استماع الكيل، وإن أكلت كتاب الذيل، ماتت بالنهار قبل الليل، والويل لها ثم الوبل .ولا تستغنى الأكاديش، عن أكل الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الخريش .وإذا أطعمت الحمار، شعر ابن عمَّار، حلَّ به الدمار .وأصبح منفوخاً كالطبل، على باب الإسطبل .وبعد هذا كله فقد راح صاحبها إلى العلاف، وعرض عليه مسائل الخلاف، وطلب من بيته عشر قفاف، فقام إلى رأسه بالخفاف .فخاطبه بالتقصير، وفسَّر له آية العير، وطلب منه قفَّة شعير، فحمل على عياله ألف بعير .فانصرف الشيخ منكسر القلب، مغتاظاً من الثَّلب، وهو أخسُّ من ابن بنت الكلب .فالتفت إلى المسكينة، وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة .وقال لها: إن شئت أن تكدِّي فكدِّي، لاذقت شعيرة ما دمت عندي .فبقت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة .فقال لها العلاف: لا تجزعي من خياله، ولا تلتفتي إلى سباله .ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكن عندك أخسّ من عنفقته .هذا الأمير عز الدين، سيف المجاهدين .أندى من الغمام، وأمضى من الحسام، وأبهى من البدر ليلة التمام .لا يرد سائلاً، ولا يخيِّب آملاً .فلما سمعت المملوكة الكلام، جذبت اللجام، ورفست الغلام، وقطعت الزمام، وشققت الزِّحام، حتى طرحت خدها على الأقدام، ورأيك العالي والسلام .وله من رسالة كتبها إلى منصور الطبيب الغزواني، يشكو إليه علة لزمته، وبرداً وقع في ذلك العام، خارجاً عن معتاد الشام.

    أنا أصبحتُ لا أُطيق حَراكاً ........ كيف أصبحت أنت يا منصورُ

    قد طالت العلَّة، وطابت العزلة .فليس في الحركة، هذا الآن بركة .والانقطاع، أربح متاع، والاجتماع جالب الصُّداع .والاختلاط، محرّك الأخلاط .والوحشة استنئناس، وأجمع للحواس .فهو زمان السكوت، وملازمة البيوت، وأوان القناعة بالقوت، وذلك قوت من لا يموت .والحر حرٌ، وإن مسه الضر .فوطؤه خفيف، وضالته رغيف.

    لزوم البيت أروح في زمانٍ ........ عدمنا فيه فائدة البروز

    فلا السلطان يرفع من محلى ........ ولست على الرعية بالعزيز

    ولست بواجدٍ حراً كريماً ........ أكون لديه في حرزٍ حريز .

    وإني لأشكو من تسحب هذا السحاب، وتسلط هذا الرَّباب .وام أر قط والله كالعام، الكثير الإنعام .الذي من تورط فيه غرق، ومن تنشط فيه عام .سحابٌ مجنون، يصم الآذان برعده، وبرقه يغشى العيون .وغمامٌ شديد الإيلام، كأن صوبه صوب ملام، أو عرق حمام .ومطرٌ كأفواه القرب، وصوت رعدٍ يميت الطرب .حتى كأن صوته صوت عذاب، أو سطوة ليوثٍ غضاب .أو أنه مهجور مرتاب، من تصرم أسباب وداد الأحباب .أو كأنه نعرة فيل، أو نفخة إسرافيل .أو شق السماء بشدةٍ فانشقت، ' وأذنت لربها وحقت ' .ولمع برقٌ خفاق جلاب، مشرق كالشمس إلا أنه شديد الاضطراب، سريع الاحتجاب، لمّاع، دفّاع، يختار دونه لمع السراب، ومنع الشراب .حتى قال قائلنا: ليت بذي الغمام جهام، وليت ذا البرق المتألق خلب وسيفه المسلول الصارم كهام .وليته كان كاذب المخيلة، وليت لقحة نوئه هذا شحيحةٌ بخيلة .ولم أر حال هذا السحاب الغيداق، إلا كحال مولهٍ مشتاق، شديد الأشواق. وكاف الآماق .مشتعل الزفرات، متقاطر العبرات .فسبحان من أرسل مدارا، وجعل القطار في هذه الأقطار بحارا .ألا يرى كيف من الله سبحانه بالوقوف، على السقوف .وبالثبوت، على البيوت .ولم يعلم هل هذا السحاب، أصبح يجود لسقياً رحمةٍ أم سقيا عذاب .وأما الثلوج فإنها شيبت نواصي الجبال، مع شدة الاحتمال، فما الظن بنواصي الرجال، مع تزاحم الأهوال، وتراكم الأثقال .اللهم إنا نستعيذ بك أن تقلب الأعيان، فتجعلها سبب الموتان، في الحيوان، أو أن تعيد الطوفان، في آخر الزمان، وبالله المستعان، وعليه التكلان .وأبق له عبدٌ وهو بالقاهرة، فكتب إلى دمشق، يخبر بإباقته :وأما ياقوت الممقوت، سوَّد الله وجهه، وعامله بالنكال أيما توجه .قد أبق في هذه الأيام، كما هو دأب جنس الخسيس الخبيث فما عليه ملام.

    واللومُ للحرِّ مقيمٌ رادعٌ ........ والعبد لا يردعُه إلا العصَا

    ولما بلغنا ذهابه من اليم، تباشرنا بزوال الهم .وأنشدنا:

    إلى حيثُ ألْقَتْ رَحْلَها أمُّ قَشْعَم

    ولو طلب منا الإجازة أجزناه، والمكاتبة كاتبناه ودبرناه، وعن خدمتنا أبعدناه .ولو أدرناه تطلبناه، وبما يليق عاملناه.

    وإذا رأيتَ العبدَ يهرُب ثم لم ........ يُطْلَب فمولى العبدِ منه هاربُ

    ولو لم يكن لي في هذه السَّفرة من الربح الذي ليس به خفا، إلا ذهاب هذه الغمة السوداء لكفي .وفي الحديث الشريف: ' اطلبوا الخير عند حسان الوجوه '، ومن أمثالهم: ' قبح اللكع ومن يرجوه ' .وقد كنَّا قديماً نسمع، أن الخادم بمنزلة النَّعل يلبس ويخلع .والعبد لو كانت ذؤابة رأسه ذهبا، لكان رصاصةً رجلاه .ومن أبق عن الخدمة، فقد يعد بعده نعمة، وقربه نقمة .فقد يفر المهر من عليقه، ويطير الفراش إلى حريقه .فما كل شجرة تحلو لذائقها، ولا كل دار ترحب بطارقها .ومن أبق عن مولاها مغاضباً، وجانب إحسانه الذي لم يكن له مجانباً .يجد من مفارقة معاهد الإحسان، ما يجده من مفارقة معاهد الأوطان .ويكون ذنب عقابه فيه، وكم عبدٍ أبق من مواليه .وقد روى مرفوعا عن سيد الأمة: ' أيما عبدٍ أبق فقد برئت منه الذمة ' .وبالجملة فقد حصل لنا بذهابه غاية المسارّ، و:

    إذا ذهب الحمارُ بأم عمرٍو ........ فلا رجعتْ ولا رجع الحمار

    وله يصف فتى :حسنه يملأ القلوب والصدور، وليس البدر إلا أن فيه حسنا تلاشت في دقائقه البدور .ريمٌ من الروم، خادم مخدوم .قد كساه الزمان ملابس جماله، ووهبه الأوان

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1