Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

جبال بعيدة
جبال بعيدة
جبال بعيدة
Ebook577 pages5 hours

جبال بعيدة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كنا نمشي في ظلام الليل كما العميان ... وبلغ سمعنا مواء قطط .. نباح ، ثم ثغاء  ماعز ،  وظهر قمر خفيف . توقفنا  لنسترق  السمع ، ونحدد  من أي الاتجاهات  تجيء  هذه الأصوات . تقدمنا نمشي لكن بريبة ، فتفاجأنا بشبح أبيض يظهر في الليل ويصرخ فينا بصوت زلزل الوادي : " توقف " . توقفنا رافعين أيدينا لأعلى ، فتقدم الشبح نحونا ، وعندما اقترب ، رأيته : رجلاً ملثماً ، يصوِّب فينا بندقية . كانت ملابسه بيضاء . مرت لحظة صمت ، ثم ساقنا أمامه بالبندقية دون أن يتفوَّه بلا ولا كلمة ، فقط كان يوجهنا من حين إلى آخر إلى الطريق ، وشعرت أن رفيقتي تتشبث بيدي كما طفلة . بعد قليل أمرنا أن نهبط في منحدر وعر ... تعثَّرنا ، لكننا استدلينا على الطريق مستسلمين تماماً ، وقبل أن نهبط إلى القاع سمعنا طلق ناري يدوّي من بندقيته فوق رأسينا ... أصابنا  الذعر ... " توقف "  قال  آمراً . تقدمنا بخوف بعد أن أمرنا بذلك  ، ورأيناه يمشي خطوات تحجبه عنا في الليل . ماهي إلاَّ لحظات حتى سمعنا صوت باب ينفتح ... سمعنا جلجلة قفل من  الحديد . وعاد إلينا ، ساقنا وهو يتمتم  :"  كَتلوه  " . أدخلنا في باب ، ثم سمعنا اصطفاق الباب بشدة خلفنا ، سمعنا صوت المفتاح في قفل الباب واضحاً . كان الظلام مخيفاً في الداخل  ، فزاد لذلك تشبثها بكتفي أكثر من ذي قبل . كان أكثر ما أخشاه الثعابين والحيَّات ، لذلك لم أتقدم خطوة واحدة ، وقفت مسمّراً في مكاني إلى أن تناولتُ عود ثقاب وأشعلته ، لأجد أننا في حجرة من صخور . كانت أرضية الحجرة كما سقفها : صخور ... صخور . أشعلت عود ثقاب ثاني ودرت في الحجرة الواسعة ... لاحظت أنها ملساء ولا شيء فيها . أشعلت عوداً ثالثاً وأنا أدور في الحجرة وأتأمل جدرانها فوجدت باباً كان يفضي إلى هوة من ظلام ، عندما تفحصتها وجدت أنها متاهات مخيفة لحجرات أخرى ... خفت من الظلمات المجهولة ، فعدت إلى صاحبتي حيث وجدتها دخلت في كيس النوم ونامت . لم أكن أناقش الأمر داخلي... لم أشغل بالي بتفسيرات كثيرة لما حدث ، لذلك استسلمت للنوم بسهولة من جراء ما ألم بي من تعب المشي

Languageالعربية
Release dateAug 1, 2022
ISBN9798201252540
جبال بعيدة

Related to جبال بعيدة

Related ebooks

Reviews for جبال بعيدة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    جبال بعيدة - Santiago Martini

    جبال بعيدة

    رواية

    Santiago Mrtini

    ( جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة )

    إهداء :

    إلى الرياح في جبال الجبال

    ––––––––

    هذه الرواية للنشر الورقي للتواصل

    ((santiago.xxx.santiago@gmail.com

    المحتويات

    _____

    الفصل الأول

    الفصل الثاني

    الفصل الثالث

    الفصل الرابع

    الفصل الخامس

    الفصل السادس

    الفصل السابع

    الفصل الثامن

    الفصل التاسع

    الفصل العاشر

    الهوامش

    _____

    هوامش الفصل الأول

    هوامش الفصل الثاني

    هوامش الفصل الثالث

    هوامش الفصل الرابع

    هوامش الفصل الخامس

    هوامش الفصل السادس

    هوامش الفصل السابع

    هوامش الفصل الثامين

    هوامش الفصل التاسع

    هوامش الفصل العاشر

    الفصل الأول

    _______

    انغلقت الحجرة ...كانت توبة قد أغلقت الباب خلفها بعنف ، ثم أهملت جسدها على السرير وهى بكامل ملابسها . لم تخلع الحذاء ، أغلقت عينيها ، فدخلت طيور كثيرة  تحمل شراييناً مُدلاة من مجموعة ناس كانوا يقفون صفوفا صفوفا  . طردت كل شئ وانقلبت فى مواجهة الحائط ؛ فى البداية مسحت عليه ، ثم صارت تقشّره  . فوران يصعد من صدرها ، يجول فى منطقة رأسها ، فوران يضغط  كل شئ : عينيها ، جبينها  ، وكل هذا العالم ، فتصرخ ثلاث مرات ، وإذ كانت تصرخ ، جرت إلى الشبابيك المُغلقة لتغلقها ، ثم عادت : لا أحد سيسمع ... وإن سمع أحد ، فلن يعنيه الأمر ...إنه لا يعنيني وكما كهرباء تفرغت من جسدها ، أحست بفتور، ونامت .هي لم تنم ... هي صمتت ، وفى الصمت اهتزَّت يدان عصبيتان لعجوز لها وشم  إنتِ مَخَرُوعَة(1 ) ... صباحكِ صار مِثل اللمونة(2) والصمت يمشي كجندي حراسة فى كلِ مكان ... فى الحجرة ، فى ذاك الفراغ اللانهائي ، حيث اشتدت الزوابع ، ودهس الظلام كل الجبال .فى نفس الصمت : كان القمر غائباً ، والنجوم ممحوة بالغبار الصاعد ،  والذي يلفها ؛ وتُحَرِّك الريح أردية الخيش القديمة  على جسديهما بعنف ، فتتشبتث بثوب العجوز . كانت أربعة أقدام حافية تبحث عن خطواتها فى الفجر ... ، تتعسس ـ  بين الحصو والحجارة  أماكناً لا تُحدث قروحاً فى أطراف الأصابع والأقدام  ..مازال المكتل (3) بعيداً ، والأم تسحب ابنتها برفق فى ذاك الغيب المنقوع فى صمت توبة وهى تبحلق فى سماء الغرفة ... تبحلق وفقط . لقد سلَّمت للصمت كل ما حدث ، صارت الصمت الذي يبتلع حوائط حجرتها الأربعة  ، وهى مازالت تتعلق فى نفس الثوب ، ذي النقوش الخفيفة ، وتتحسس الفتق المعمول فى جنب الطَّرز الطولي ... تُدخِلُ إبهامها منه ، وتعبث بالقماش المقطوع  ، فيتسع المزق شيئاً فشيئاً ، وتقبض الأصابع العصبية على يدها ، فتشتد العاصفة .مسجاةٌ على ظهرها تتنفس ، وتحس كيف هدأت العاصفة عندما دخلت خلف أمها فى المكتل ، هذا الجبل المشقوق من المنتصف ويدفن فى نفسه أسراراً  كثيرة  . ، رأت حجارةً وشوكاً وطيناً ، وكانوا على بطونهم ميتين ، مصفوفين جنباً إلى جنب ، محزمين ببنادق وذخيرة وزمازم للماء ... كانت الدماء مازالت تنزف على التراب والذباب يحوم . كانت ذبابة تلبط فى دماء جُرح غائر فى الرأس ، لذلك صرخت توبة وهى تندفع نحو أمّها  التى تمتمت بكلمات غامضة  أثناء ماكانت تضع المخلاة على الأرض قرينة(4)   سمعت أمّها تقول  والفجر يأتي .مرّت لحظات ليست طويلة ، خلالها جمعت الأم كومة حطب من  شجر عجرم (5)مات في مكانه منذ حولين أو أكثر ، وقد كانت توبة  خائفة تجلس تنتظر ولاتشارك أمّها في جمع الحطب ، كما لو كانت لاتوافق على الرشوش أو مجبورة عليه  ، ويدها تتحرك على عين من عينيها ، تعركها وقد كانت بدأت تبكي خائفة ، ولاتعرف لماذا هي خائفة .أشعلت أمها النار بعد محاولات عديدة ، إذ أخرجت من حزامها كيس صغير فيه زناد وصوان وقَدح (6) . قدحت الزناد فلم  يدخن القَدح ، عاودت هذه العملية عدة مرات ، فلم تستجب الزناد ، فظهرت عليها العصبية ونوع من اليأس . صارت تروح وتجيء متظاهرة أنّها تبحث عن مزيداً من الحطب على الرغم من أن كومة كبيرة من الحطب كانت جمعتها للتو .  فجأة  أعادت أم توبة المحاولة فاشتعل القدح ، وبسرعة نقلت النار من القدح  عن طريق  عُطبة(7) كانت مدسوسة في المخلاة التي أخرجت منها طاسة حديد بمقبض طويل .اشتعلت النار ، وبدأ الجمر يتحول للّون الأحمر ، فوضعت الأم الطاسة  على الجمر وتركتها تسخن بعض الشيء ، ثم أخرجت صرة من المخلاة وفتحتها وأخرجت منها  مادة الرصاص على شكل حبيبات وقطع صغيرة . كان هناك أكثر من حفنتين من الرصاص في الخرقة المعصوبة . فكّت الأم  الخرقة المعصوبة ووضعت جميع حبيبات الرصاص دفعة واحدة في الطاسة ، وبدأ  الرصاص يسيح في أثناء ماحضرت الأم ماء في سطل سمنة قديم فاضي ومقصوص وانتظرت بعض الوقت حتى تحوّل الرصاص في الطاسة بالحرارة إلى سائل .كانت توبة لها عصبة رأس وضعت عليه الأم السطل وكان الماء فيه يقارب الربع وتناولت الطاسة والرصاص يغلي فيها وسكبته في سطل الماء وهو مثبت على رأس توبة وكانت تتمتم  مرددة كلمة سبحان اللهصوت مادة الرصاص المغلي عندما سقط في الماء أحدث دويا يشبه الصوت الذي يعمله الماء البارد عندما تسكبه في الزيت وهو يغلي ، وأحدث أيضا دخان ، فتوقفت توبة عن البكاء وبطريقة فجائية .أنزلت الأم سطل الماء من فوق رأس توبة  وانشغلت بلم الحاجات في المخلاة ثم عادت ووضعت يدها في السطل  وأخرجت كتلة الرصاص وقد تشكلت وبردت ، تأملتها وهي تتمتم سبحان الله ، ولم تعلق بشيء ، ووضعتها في خرقة ولفت الخرقة بعناية ودستها في  المخلاه .توبة لمحت الشكل الجديد للرصاص في يد أمها  عندما أخرجته من سطل الماء ، كان الرصاص قد تشكل على هيئة طفلة  بهيئة تشبه هيئة توبة ، حتى ربطة الرأس واليد التي تمسح الدموع  ، بفارق بسيط أنه نبت لها رأسان .صوت الرصاص وهو يلامس الماء أحدث صدى فى الشق  ، سمعته يصم أذنيها وهى مازالت مسجاة على ظهرها بنفس البنطال والحذاء ؛ لقد رأت الدخان وسمعت صوتها يعطس وهى مفزوعة وتضغط قبضتها على ثوب أُمها . كانت خائفة أن تتركها أمّها للقتلى . صرخت توبة صراخاً جعل العجوز أكثر عصبية وتضربها ، بأصابع يدها  على ظهرها ضربا خفيفا، على الرغم من أن توبة رأتهم ، وبأصبعها أشارت نحوهم وهى تصرخ كتيل لـ ..لـ ..لـ فتضربها اليد المعروقة : كتيل يكتلكِ(8) عبثت توبة بخشبة السرير ، ثم وضعت يديها متشابكتين تحت رأسها ، فرأت أمها تفتح النافذة . كانت لأمها نفس الهيئة ، فقط أسنان قليلة تهدَّلت ... صار فمُها مُضحِك ، وهزَّت ضلفتى الشباك كأنما لتوقظ توبة  من نومها أو تنبهها  بقدومها : كنت عارفة يومها إنّه الوَنَس(9) ، لكن كنت حريصة إنكِ ما تعرفيه . الناس ما بيسَمْوه، وان سَموه ، يُكتل أو إيصيب(10)  . كنت عارفه كل اللى انكتلوا غاد ، بَسْ ما كنت عايزتكِ تِدْري إنّه ونس حتى ما تنصابي . المكتل موصوف للكل إيرشوا فيه ، وأنا كنت خذتكِ للرشوش(11) ، فشفتيهم . أنا ما ضربتكِ كُره فيكِ ... أنا ضربتكِ حتى ما تسميه ... فسميتيه ، عشان هذا صابكِ مَس من يومها ... صرتِ ممسوسة  الدموع الساخنة والصمت الرصاصي ... كل شئ مربع ... مستطيل ولا يشى بشئ ، فقط نهدةٌ حرّكت هواء الحجرة ... حرّك جسدها ما حرّك وهي ذاهبةٌ للمرآة ، لقد رأت وجهها شاحباً ، رأت عينيها ، وشاهدت قدميها إذ تتعثران خلف أمّها ؛ لقد غادرت قدماها الشَقّ(12) ... ابتعدت مع أمها راجعة من المكتل ، وعندما تملَّكتها قشعريرة ساخنة ، هدأت الزوبعة ... الزوبعة لم تهدأ ، بل رأتها تهز أُمها بعنف ، فصرخت . كان شئٌ ناعما يتحسسها والأم تقاوم الريح ، وتجرّها بلا تهاون ، كان هذا الشيء يشبه ثعبانا يمشي على ظهرها  .فى المرآة ، كذلك ، شاهدت مراعٍ بعيدة وجافة ، وعلى أوّلها ، بنفس قدميها ، تمشي فى ظهيرة قاسية  ، وعندما مدت بيدها لإناء الماء وهمَّت بأن تشرب ، رأته يقذف أمامهما خاتماً جميلاً ... قذفه فى الهواء ثلاث مرات ،  ثم حفظه فى قبضة يده . كان يمشي أمامها بظهره ولا يتعثر فى الطرقات الوعرة ، ولـم تكن تحركه الزوبعة... لم تكن تحركها ... كانت الزوبعة تحرك أُمها فقط ، لذلك أحست براحةٍ فى تلك اللحظة ، لأنها رأت سماءً ونجوماً ، رأت قمراً وأحست بدفء وطمأنينة وهي تشاهده في الظلام   يمشي بظهره . كان يظهر  ويختفي .أحيانا ، تشاهد بوز الرشاش يعوم فى دماء  ، ثم يظهر وجهه ... كانت ابتسامة ما... ربما كانت مرارة .تحرّكت توبة ، ثم جلست على الكرسي ... عبثت بخطوط غير واضحة علىورقة مرسوم عليها مربعات كثيرة ، فرأته بنفس الهيئة : حزامه العريض والذخيرة والرشاش وزمزمية الماء ... كان نحيلاً ويبتسم ... فضغطت بقبضتها على ثوب أُمها التى ما تزال فى الزوبعة ، ثم أصابها لفح هواء ساخن ... مرَّ على وجهها وهى تتحسس العاصفة ، ولم تجدهامن مربعات صغيرة على الورق ، أطلت أُمها وقد كانت تعصد حليباً ودقيقاً وقالت: الوَنَس(13) ما بيشوفوه اثنين . أحست توبة  بيأس ... بفراغ هائل يسكن رأسها ، فخبطت على الأرض بقدميها ، ثم تأملت طاولة اصطفت عليها كُتب ، منها ما كان مبعثراً ومنها ما كان ملقياً  بإهمال ... ورق غير منظم ... كوب شاي من الأمس استقرت فى قاعه بضع قطرات ، ثم استلقت بنفس جسدها على السرير ، فسمعته يقول : خرجنا من البحر ، وقطعنا كل هذه المسافة فى يومين ، وعندما نمنا فى  الشق ، حذرتهم من رجلٍ قابلنا فى الطريق ولم نقتله ، لم نستيقظ من نومتنا ، نمنا نوماً نهائياً ، لأنهم حددوا مكاننا بالهيلوكابتر وقتلونا ...  قتلونا وهبطوا يجمعون أسلحتنا ، وعندما عبأوها فى صناديق قالوا : هكل بسيدر(14)   لذلك لم أعش حتى أعطيها  هذا   وكان يشير للخاتم .فتحت توبة عينيها ، كان السقف بنفس طلائة  القديم ، ونفس الخاتم يظهر ويختفي ، ثم رأته ينفض غبارا عن سترته ... رأته يمسح جبينه  فخافت ، وعندما أحسَّت أمها بذلك لم تتكلم ، بل ضغطت على معصمها وسحبتها كما كانت تسحبها .كانت كذلك دموع فى عينيها ، مسحتها برفق وغادرت السرير ، غابت فىالمطبخ قليلاً ثم عادت وفى يدها فنجان قهوة غير معمول جيداً . عادت وهى تسحب أنفاساً عميقة من سيجارة فى يدها ... أطفأت الكهرباء وجلست ، وكان يمسح غبارا من على وجهه  بكُم سُترته .***هو نفسه فرَّاج  فى صيف ذاك العام يعود إلى نفس المكان الذي رحلوا منه عندما حلّت بهم أعوام الجدب والجفاف وانحسر المطر عنهم  لسنوات طويلة  . غيوم صيفية كانت  تدهن السماء وتبعث فيه الشعور بالوِحشة وهو ينزع اللاطريق بين قدميه ؛ وعندما تعب ، نام على بطنه ، ثم استيقظ فى الصباح نازحاً بسنيه الأربع والعشرين إلى عراءٍ لم يعد به غير اليباس الذي كانوا قد تركوه راحلين نحو جهات وعدتهم بمراعٍ بعيدة وعشب بعيد ... كانوا يحلمون بالحليب يتدفق بين  شفاهالشياه الصغيرة . كان فرَّاج عائدا في سنوات المَحَلْ ، تلك التى حلَّت بالرمانوالعنب والشعير والناس  ، فطردتهم أفواجاً تتقدم أفواجاً ، باحثين بين أقوام غريبة  عن مراع للحلال ...مكث فرَّاج قليلاً ليتفحّص الآفاق الصفراء : كانت الرمال هى الرمال ، رآها جافة وصفراء ، هجروها لتنعم الريح بوحدة كبيرة.. لتكف عن حمل أصواتهم إلى آفاق الكثبان . عاد يبحث عن الأيام التي مرت  قبل حلول الجفاف ، بالأحرى عاد يبحث عنها ، عاد ليبحث عن آثارها في المكان الذي حدثت عليه أول نظرة وأول إصابة للقلب .وهذا الذي فى كف فرَّاج ، تراب ، تأمله ، ووجهاً  لها يظهر ويختفى على ضوء اشتعال النار  ، حيث كان يندسُّ فى أىَّ ركن من أركان العتمة ويتجسَّسُ ساعات طهو العشاء ، فيلوح وجهها مرةً أو مرتين . فى مرات كثيرة كانت تتاعبهُ وتتلثم عندما يرتفع لهب النار قوياً ويستطيع كشف كل شيء : جرار الماء والعجين فى أصابعها وكُم ثوبها القديم .لقد عاد فرّاج إلى الأرض التي تركوها ، إلى المكان الذي بدأت فيه  الشعلة الأولى للحب ، أو ربما كان هاربا ويشعر بالحنين للأيام الأولى قبل حلول الجفاف  ، قبل أن يرحلوا بعامين عندما وعدها بأن لايسمح لأحد بأن يقترب من خطبتها وقطع على نفسه عهدا بأن يسلك كل الطرق كي يحصل على مهرها  ، لكنّه لم يستطع ، فلا ناقة لفرّاج ولا شاة . عرف أن آخرين يحومون حولها للزواج  ، فضغط عليه اليأس ليهرب من المراعي التى انتقلوا إليها في بلاد الآخرين ويعود إلى الأرض  ، إلى الرمال البيضاء ، حيث كانت تشاغله بالليل بقذف النار في الهواء على سبيل التذكير بأنها تحبه وأنّها تفكّر فيه . جلس عند  المكان الذي كانت تشعل فيه النار لطهو العشاء لأهلها وتشاغل بالتراب الأسود  ، وسوس لنفسه  بأن سكن(15) النار لايذوب  ، ثم تناول أحد اللدايا(16) وجمعه مع لدية أو لديتين في وسط مكان النار  ثم جمع كل اللدايا في المكان  ككومة صغيرة  . كانت الكومة بها حجارة صغيرة وحجارة كبيرة ونظمها بحيث  أصبحت كما لو كانت قبرا  ، وهي مازالت أمامه تظهر وتختفي ، تفرح ويعتريها اليأس عندما خطبوها .*** .تركهم فرَّاج وقد كانوا حول النار يتآمرون بالليل على بعضهم البعض . كان لا يهدأ للنار اشتعال ، يطعمونها حطباً ناشفاً كلما وفد رفيق آخر ...  كانت أصابعهم تظهر على الضوء للذين يسكنون العتمات البعيدة ، وتستطيع كلُّ عشيقة أنْ تُفنِّدَ أصابعَ عشيقها ، لذلك كانوا لا يكفون عن إشعال النار، ويكرِّرونَ نفس الأحاديث التى لا تدورَ بينَ الجميع ، بل يتهامسونها ... يتهامسها فى الغالب اثنان ، وقد يشارك الجميع بأسرار يحكونها بحيث لا يفهم غريب ... وكان لا يجتمع حول نارهم غريب ، فهم غرباء حلَّوا بين أجناس تختلف ، لا يختلطون بهم إلاَّ فى الطرقات أو المشادَّات .وكانت ليلة موسومة بجمرةٍ هجَّت فى فضاء الليل ، لمحها فرَّاج كما لمحها رفاقه ، رأوه يصمت فجأة عن الكلام ، وهم خمّنوا هذا الصمت ، لكنّهم لم يتوقفوا عن أحاديثهم المَلْغوزة ... لم يتوقفوا عن التعريض بصاحب المزرعة وهو ينهرهم ويتوعدهم بطريقته التي يتندرون بها،  فبعضهم كان يصفه بأنّه يرغي كما يرغي البعير، وبعضهم يصفه بانّه يزبد كما تزبد الشاة المجعومة . هكذا كانو يرددون عند السطو على مزرعته لسرقة الحطب والتمتع باللهب في سهراتهم التي لاتنقطع .كانت الجمرة فى الفضاء  تعني له الكثير وتعني لها الكثير  ... ،  ففى  الليلة التي جاءوا  لخطبتها ،  كانت غير متأكدة من موافقة أبوها على الخاطب أم لا ، وكان لا أحد يستطيع أن يخمن نية أبيها . كانت العجائز تدري أنه لن يفرّط فيها ما دامت البهم(17) موجودة  . وكانت تـخـمـينات عجائز أخرى تشيع بأنه سيتمسك بها راعية لحلاله أطول فترة ممكنه ،­­­­ أو هو يريدها كذلك للأبد ... ، لذلك واعدته بعد الظهيرة عند جنزير الليمون  ، ونبهته إلى أنها ستقذف بجمرة فى الفضاء إن لم يزوجوها .كانوا رفقة غير قليلةٍ ، كلٌّ يطعمُ النارَ بطريقته ، وينظر فى الظلام صوب عشيقة سرِّية يعرفها الجميع ... كل يوارب عينيه فى اتجاه ، فكأنما كل الاتجاهات عشيقات .شعر فرّاج بمسؤولية  ، فالجمرة ظهرت في الفضاء ، تعني له أنّ أبوها  لم يوافق على تزويجها للخاطب في تلك الليلة ، وهذا لايعني له إلّا شيئا واحدا ، شيء يقول : عليه أن يوفر مهرها ويتقدم للزواج منها وهو لايملك من المهر شيئا ، لذلك استغرق فى أخيلة كثيرة حتى عندما كان يتكلم ويضاحكهم . وكان يعد على أصابعه  فى العتمة  طرقاً عديدة لتميزه عن آخرين كان يعرف أنَّهم سينافسونه عليها . جنح خياله لهدايا جديرة بها ، وأقمشة غير مألوفه ، فهبطت على مكانهم قطرات حقيقية من الندى ، وصاحت ديكةُ  الفجر فانفضوا عن مكان خلوتهم إلى أماكن متفرقة ليناموا .فى الصباح لم يعثروا على فرَّاج . سألوا عنه بعد الظهيرة ... ، وتساقط خبر صغير عن وِجهةٍ ولاَّها وذلك بشهادة قصّاص أثر متوسط فى العمر . وفى الليل أشعلوا النار وانتظروه ، لكنه لم يظهر ، بل ظهر من باب أزرق ويقوده شخص كان قد عثر عليه يتجول في المزارع.دخل فرّاج  خلف الرجل  إلى غرفةٍ مطلية بطلاء كئيب ... ، ولم يقدموا له شيئاً ، فقط كان دخان السجائر يملأ الغرفة المفروشة بحصير مهتريء ورجل ضخم الجثة يضع أصابعه الغليظة على طاولة صغيرةٍ مغطاة بفرش متسخ تظهر فيه مربعات بنية وخضراء .وعندما انتهى الرجل من حديثه الطويل ، أخذوه خلفهم بعد أن تأكدوا أن الليل هبط . وظل يمشي خلفهم ، حيث توضَّحت فى أخيلة الصمت والمشي أصنافا كثيرة من الأسلحة والجرحى . تمدَّد الفدائون على حدود شائكة وحدود غير حقيقية كانت تظهر وتختفي في مخيلة فرَّاج وهو يمشي معهم ، ثم اندسَّت الألغام والمفرقعات فى حقول الذرة والقمح وامضة بشكل عارض في صمته ... خزنوها  فى حفر غير متساوية ، وأنفجرت ـ بعد ساعات محدودة ـفى دوريات وناقلات جنود  كان بالكاد يتعرَّف عليها لأنه كان بصدد التفكير بأشياء كثيرة  ... رآهُ يخرج من البحر مرة أخرى محملاً  ببنادق وذخيرة ونقود  وذهب ... رآهُ يبتسم فى راحة وهى تأخذ الخاتم منه في حياء .تخيَّل فرَّاج كل ذلك وهو يمشي معهم ولا يعرف الجهة التى يقصدونها ، حتى اشتمَّ رائحة البحر ، وشعر  بجمهرة تشبه الخشب ، فتداعبت لديه خيالات أُخرى ، خلالها كان قد دخل زورقاً صغيراً ، وأبحر مع آخرين .وكان عام قد عبر ... وعام آخر قد ناهز المنتصف والنار نفس النار تشتعل كل ليلة ، يتبدد ما يتبدد من العتمة ويظهر ما كان قد ظهر على ضوء الشعلات البعيدة  ، بل أن وجوهاً وأصابعاً جديدة قد فهمت لأول مرة ما ينبغي أن تعمله ... كان قد تزايد حول النار رفاق جدد ، وتولَّدت من الأساطير حكايات يفضُّها القمر أو يشاغلها حتى الصباح . وعلى امتداد السهرة : كانت المراعي القديمة فى الرمال الصفراء مازالت تهجع فى سنوات المَحَلْ (18) .وحول النار تتفتَّق من ذاكرتهم كل هاتيك السنين بشمسها الحارقة ، ومراعي الجَدب التى رحلوا عنها .كانوا يجلسون حول النار كخائفين أو متحفزين للفرار ... فقط كانت الطمأنينة تسكنهم عندما يحدث شعاع من نارٍ فى منأى الليل يبث فى نفوسهم شوقاً غير مفهوم ... ، عند ذلك يسيطر التَّلهى أو ما يشبه الأمان على نفوسهم ، فيتقاربون موزعين.تخمينات الليالى القادمة على محنتهم التى عرفت كيف تجرفهم برفق لكن دون مودةوحول هواء تحرك قليلاً : كانوا ، وكان اللهب القوى يباعد أماكنهم وهو من فِعلة الريح الخفيفة يتحرّك ، وعندما هدأ اللهب ، خيَّم عليهم سكون في الريح السيئة والغير شديدة والتى أثارت فى نفوسهم حنيناً غير معروف  ، وشقّت الأرجاء أصوات نوقٍ  تحن(19)  بنغمة حزينة ، وقد نفذت الحكايات إلاَّ من أصوات شبه ميتة تحاول أن تبدأ . لكن ولأن الليل تأخر ، فقد بهتت حتى المحاولات العديدة لأن ترد أيّ حكاية لطزاجتها .فتور أو ملل كان يعمل فيما بينهم ... كان اليأس ، ولكنهم لا يعرفونه . فبلادهم ظلَّت فى الجفاف ولا تصلح للحياة ، والبلاد التى حلَّوا بها قاسية على نوقهم وبهمهم ونسائهم وأحلامهم  . لا شئ يستطيع أن ينقذهم إلاَّ لو  سقط المطر فى العام القادم على بلادهم بغزارة وطرد المحل ليتزوجوا عشيقاتهم بمهور كبيرة .فى لحظة الصمت التى مرَّت عليهم ، كان القادم نحوهم رجلاً لا يعرفونه ، وصل مجلسهم وهو ينادي على الجميع  في الظلام من بعيد بترديد كلمة  : هييييه ،فتهيأوا له ، وصافحوه واحداً واحداً وعلى وجوههم ما يشي بالتحفظ والتفحص  ،يريدون أن يعرفوه أو يخمنوه ، لكنهم لم يستطيعوا ، حتى عندما تبادلوا إشارات ونظرات سرية فى غفلة من عينيه  على ضوء اشتعال النار .ولم يجلس الرجل طويلاً ، بل سألهم عن  عيد ، وكان عيد هو الجالس بجانبه يمسك بيده اليسرى غلاية شاي صدئة ولها ممسك من سلك قديم ، وبيده الأخرى كان يتأنى وهو يلقمها بالشاي  ثم يضعها فى النار وينتظر  فورانها ، والرجل ما زال لم يتلقى إجابة من أحد عن سؤاله ، لذلك كرر السؤال عليهم جميعاً وهو يتفحصهم واحداًواحداً ويتفحصونه . كرَّر الرجل السؤال لثالث مرة ، وهمَّ بأن يغادر لولا أن عيد استوقفه لشرب الشاي . بعد أن فرغ الرجل من فنجانه  ، أخذه عيد ، ودخل معه فى الظلام ، حيث كان الذين ظلوا حول النار يراقبونه خطوة خطوة ، وعندما اختفى الرجل فى العتمة مع عيد ، توزعوا فى الظلام ليتابعوهما وهم متحفزون لحدوث ما يشبه الخطر لعيد . تجهَّز كلُّ واحدٍ منهم بسلاحه الخاص واتفقوا فيما بينهم أن هذاالرجل لابد وأنه ربما سيقتل عيد ، لكنهم كانوا متفقين ، ضمناً ، أنهم سيمنحونه وقتاً كافياً لئلا يكون ظنهم خاطئا وتكون نيَّة الرجل غير ذلك .رأوا شبح  الرجل يهمس لعيد بكلام لم يميزوه ، ثم رأوا يد الرجل تنقل إلى حِجر عيد أشياء صغيرة ولم يميزوها كذلك . عندما غادر الرجل ، بدأوا فى التخلّيعن حراسته وأطمأنوا إلى أن الرجل غير مضر، لذلك هجموا على عيد  من كل جانب ليمازحوه .ولم يتفاجأ عيد بهم ، لأنه كان يعرف أنهم غير بعيدين عنه . يعرف أنهم فى الظلام منتشرين ليحرسوه من ما قد تخيلوا أنه رجل قادم لقتل عيد ربما على أثر خلاف لم يطلعهم عيد عليه .تحلّقوا حول النار ، وأشعلوها من جديد ، ليشاهدوا : كيس بلاستيكى صغير مطوي بعناية ، كان قد أعطاه الرجل لعيد . عندما فضوا الكيس وجدوا أوراقاً  مالية ، تقاسموها بالتساوى ، ووجدوا خطاباً تفحَّصوه طويلاً على ضوء النار . ولأن أحداً منهم لا يعرف القراءة ، طواه عيد فى جيبه ، بعد أن تفحصوه ثلاث مرات محاولين تخمين ما به من شكله وفشلوا ـ طمأنهم عيد  بأنه يعرف أناس يستطيعون أن يقرأوه . طمأنهم كذلك على ثقته بهؤلاء الناس ، وأدَّعى معهم صداقة  وثقة .لم يجتمعوا فى ثاني ليلة حول النار إلاَّ وهم يحفظون كلمات الخطاب كلمة كلمة . ردَّدوا لبعضهم عبارات خطاب فرَّاج أكثر من مرة . أعادوا الكلمات الغير واضحة وحمَّلوها أكثر من معنى وأكثر من ظن ... فعلوا ذلك فى كل ليلة وهم ينتظرون الرجل المجهول ، ذاك الرجل  الذى وردت  ملامحه فى الخطاب . غنوا للمجهول فى سرّهم ، وأشعلوا النار التى تحلَّقوا حولها قلقين كما كل ليلة ... كان القلق يجوس في قلوبهم ، لكنه لا ينال الوجوه والأحاديث الموحشة ... ثمة خوف واحد كان يهاجمهم ، خوف من أن يفقدوا  ساعات الخلوه والكسل ، ساعات التجسس على وجوه عشيقاتهم بالليل ، وانتظارهن بالنهار  ، لكن متفقين  ، دون أن يُصرِّحوا بذلك  ، على أن لا يتخلَّف أحد عن دعوة فرَّاج لهم  _فى الخطاب _ للسفر والانضمام للفدائيين .لم يهتموا بنوع الحرب ولا بنوع الناس الذين وعدهم فرَّاج  فى الخطاب  بالانضمام إليهم ، بل اهتموا بفكرة المغامرة والسفر فقط .كان عيد ساهماً فى سرحة طالت أحلاماً صغيرة بالحنين وبعشيقته ، كان ينتظر  كما ينتظر الجميع  الرجل الذى لا يعرفونه ليسافر هو مع آخرين كما أخبرهم فرَّاج فى الجواب .خمن حماد أنهم سينضمون إلى فدائيين  .فسخر سلامة : أساسا مافي  فدائيين  جاء صوت رجل مسن بعض الشيء اسمه عبدالله ، قال : إحنا مالنا ومال جُرة فلسطينرد عليه عيد : إنت مالك في فلسطين ولا لك في مصر   وتضاحكوا .فسأل حماد : ليش انحارب إن كان مالنا ولا شيفرد سلامة : حارب عشان مكتوب عليك الحرب .جاء صوت رجل كبير السن  : الكل بيحارب عشان الفلوسرد عليه عيد : أسكت أنتفاعتدل الرجل وقال : أنت اللي تسكت ياهامل ، أساسا فلسطين هذي إلنا والأردن كمان ، خلك في بين بينك .فى الليل أيقظهم الرجل المجهول دون أن  يتكلم ، ولم يتكلموا هم كذلك . وكان الصمت قد وصل إلى البحر ، ثم دخلوا قارباً صغيراً وأبحروا مع الرجل المجهول والصمت .النار لا تزال تشتعل فى كل ليلة ، ولم تعدم من يتحلّق حولها ، ونفس الذى  كان يحدث حولها من قبل  ، ظل يحدث  ،  إلاَّ أن غياب الذين أخذهم الرجل المجهول أضاف نوعاً جديداً  من الحوارات والتهكمات ومزيداً من المرارة والغموض فى كل شيء .فى الظلام خمَّنوا مجيء الرجل المجهول . كان الرجل المجهول دائماً يفاجئهم حين لا ينتظرونه . كان يعرفهم واحداً واحداً وهم لا يعرفونه . يصمتون عندما يجلس  بينهم ، ثم يترك بين أيديهم رسائلاً وأوراقاً مالية  ، ويختفى فى نفس الظلام الذى يخرج منه ، وقد حدَّد لهم مواعيداً فى أماكن كان يسمّيها ، وعندما يتقاسمون وصايا المسافرين ، يتقاسمون الأوراق المالية ، ويتحلَّقون حول صديقهم الذى يقرأ عليهم الخطابات .يوشوش الرجل المجهول أحدهم ، فيعرف الجميع ، وينهضون  فى منتصف الليل ـخلفه إلى البحر ، حيث قارب صغير ينتظر .النار تشتعل فى كل ليلة ، والرجل المجهول يختفى بمن يختفى فى البحر ، ويعود رجل مجهول آخر ، يسحبهم إلى نفس القارب .أحد الشِّيَّاب استيقظ فى الليل ، وعدّ الذين ذهبوا مع الرجل المجهول  بإصبعه فى الهواء ،  ثم سمَّاهم واحــداً واحــداً ، وعندما تفاجأ بأن كل الرجال والشباب اختفوا فى البحر مع الرجل الغريب ، خرج من منامه ودلف إلى حجير(20) الشايب المريض وأيقظه :  ما ظل أحد غير الشِّيَّاب والحريِّم ! كان سعال ثقيل وعميق يمنع الشايب المريض من أن يكمل كلامه: ما حد بيشاور أحد !   . ومكث العجوزان حتى أقبل الفجر وهما يتألَّمان ، وكأن خطراً سيحلُّ   .***فى تلك الليلة ، كانت النار غير قوية ... ولم يشعلوها بنفس الطريقة التى كان يشعل بها الشباب والرجال نارهم . لقد تحلّق حول النار شيّاب مرضى وأطفال صامتون ، لأنَّ ما حدث فى ظهيرة ذاك اليوم أصابهم بالألم .لم يستطيعوا أن يعبّروا عن الغضب لأنَّ جميع الرجال والشباب تسللوا خلف الرجل المجهول ودخلوا البحر . حرَّك الشِّيَّاب سواعدهم بطرق يائسة ، وتبادلوا نظرات مليئة بالشوق إلى وجوه كل الذين اختفوا فى البحر .أصبح الوقت ثقيلاً على صدور العجائز والشيَّاب والنساء وحتى بعض الأطفال . حول النار صمتهم يعاني  من ما حدث لعايشة فى المزرعة ، ومن التوق إلى وجود ولو قلَّة قليلة من الذين دخلوا البحر خلف الرجل المجهول يثأرون لعائشة . للحظة تصور أحدهم  أن النياق والحلال والشجر والنار والهواء والسماء والنجوم والقمر تفهم كل ما يدور فى صدورهم من ألم .تمتم شايب يا قلّة الرجال . لم ينظر إليه أحد من الشِّيَّاب الآخرين ، بل ردّوا عليه بأنَّات وجيعة .الحجير جنب  الحجير ، وتظهر بقعة بوار مُخصّصه لسكناهم ومزدحمة بأكوام الشجر ومرابط المعيز والإبل . يسندون الخيش على أعمدة قديمة ويندسون تحته عن المطر والشوب  ، وحولهم تمتد مزارع الليمون والبرتقال ومحوَّطة بجنازير قوية .كل عام يزورهم رجل بدين ، غليظ الوجه والشفتين ، يُظهر لهم ودَّاً ولا يجهل الشِّيَّاب زيفه ، ثم يغادر وهو يسوق قطيعاً من الأغنام إيجاراً لوجودهم فى بقعة البور الخالية تلك التي يملكها  . لقد ظهر عليهم هذا الرجل أول ما ظهر بعد أن وصل  ظعنهم(21) بيومين،  تذمَّر من وجودهم في تلك الأرض وهي خالية ، فاقترح عليه أحد المسنين أن يأخذ شاة فى العام ، إيجاراً لقطعة الأرض التي سكنوها عن كل بيت ، انبسطت أساريره ، وغادرهم وهو يسوق قطيعاً من الغنم كأول إيجار يأخذه منهم، ويتمتم لكل من يقابله بكلمات طيبة .كان جميع الشِّيَّاب لا يجلسون حول النار إلاَّ لإنتظار عودة أحد الغيّاب ،  لأن حادثة عايشة أصابتهم بالعزوف عن الطعام ، وزاد شعورهم بالأرق والمرض وهم يتفحصون المسافة من جنزير الليمون إلى عندما غطت النسوة رأسها .وكانت عايشة قد تسلَّلت مرة  من خلف الجنزير إلى المزرعة المجاورة  لتجمع الحطب   ، لكن ما إن جمعت كومة وحزمتها  بحبل صغير ، وهمّت لحملها  ،حتى  سمعت صوتا  يردَّد ألفاظاً تداخلت فى بعضها البعض بحيث لم تستطع  أن تميّزها لتداخلها وطريقة لفظها ، أو أنها كانت مأخوذة بالمباغتة ؛ فلم تستطع أن تسيطر على نفسها وتسمع ما يقوله بدقة . تأخرت قليلاً وهى تفحص ملامحه  ... ورأته  يتحرّك بريبة .تأملت  عايشة الأغصان الجافة  ، ثم تأملت الرجل ، وبدأت   تهدأ ، وتفهم جميع ألفاظه  ؛ وقد كانت مشغولة بترتيب القُنعة(22) على وجهها .خبَّأت وجهها  وإحدى عينيها بقماش قنعتها الأسود ، وبالأخرى  أخذت  تتفحصه للمرة الثانية  وهى تتراجع إلى الخلف بخطوات فيها حذر  .تأكدت من أنّه ابن صاحب المزرعة ، وكانت لديها فكرة  أن المزارعين  لايعرفون اللقشة (23) ، وعندما فحصت وجهه  عرفت بأنه ابن صاحب المزرعة .هدأ الشاب ووقف وبينه وبينها كومة الحطب  ، لذلك خطر فى بالها أنه  ربما جاء للمغازلة ولم يستطع أن يختار الطريقة الصحيحة لبداية التعارف أو الكلام معها ، ففكرت فى أن تقوده للكلام ،   والذي تعرف أنَّه مفتاح لكل شيء  ... فكرت وفى همِّها كومة الحطب التي تحتاجها نار الليل ، يطهون عليها طعامهم وتؤنس حياتهم  . خمنت أنها ستبذل مجهوداً غير قليل ليفرج لها عن كومة الحطب . كان الذى منعها  من الحديث معه هو معرفة سابقة بأن جميع المزارعين  يتبادلون عبارات صريحة  . ارتجفت قليلاً وهى تتخيل نفسها تحدّثة بطريقة مباشرة أو صريحة  ، ووجدت نفسها قد أخذت قرارا  بأن تستغنى عن كومة الحطب وأن لا تحادثه أو ترد عليه  .عندما همَّت بالانصراف ،  ناداها بطريقة غير عنيفة ، وعندما التفتت  إليه  ، وجدته قد تخلَّى عن الملامح العدوانية بعض الشئ ؛ لذلك تلكَّأت وهى توزع عليه ألفاظاً لم يفهمها ... كانت ألفاظ تحمل أكثر من معنى ، وبها كثير من التضليل والتلغيز ، على أنها جميعاً كانت تعني السخرية منه .لم يفهم ابن صاحب المزرعة معنى عباراتها القليلة . فسّر الكلمات بطريقة سهلة ، وخمّنها مقايضة : تعطيه نفسها فى مقابل كومة الحطب  ، لذلك نادى عليها لتأخذ الكومة ، وعندما انحنت على الكومة ، هجم عليها بكل جسده ، فقفزت بجسدها دون أن يلمسه ، فقط بالكاد قبضت يده على طرف القنعة  ، فتخلّت  هي عن القنعة ، وتركته يعانى من جراء اصطدام صدره على الأرض  ، وأخذت تجري حاسرة الرأس ؛  وكانت قبضته تتشبثت  ب قنعتها أثناء سقوطه . كانت تجري  وبها فزع حقيقي ،  ثم بدأت فى الصراخ والجري معاً .فى المساحة الخالية شرق مرابط الإبل ،  رأوها تجري حاسرة الرأس ،  فخفَّت النسوة فى اتجاهها ،  واعتدلت قامات الشيَّاب وهم يشاهدون الأطفال كيف ذُعِرُوا . قذفت إحدى النسوة على رأس عايشة  العاري إحدى أجولة الخيش ، وقادتها إحداهن لتدخل فى أقرب حجير ،  ثم تجمَّعت النسوة الباقيات وشاهدن جرحها الذى كان يدمي من جراء قفزها من فوق  جنزير المزرعة . كانت عايشة تلهث من الفزع  والشيَّاب يلهثون ، حيث أحسّوا بحدوث خطر.حول

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1