Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

سبتاجرام 2 - العارف: إن كنت تمزق الجثث لتعرف كيف ماتت، فأنا أمزقها لأعرف كيف عاشت
سبتاجرام 2 - العارف: إن كنت تمزق الجثث لتعرف كيف ماتت، فأنا أمزقها لأعرف كيف عاشت
سبتاجرام 2 - العارف: إن كنت تمزق الجثث لتعرف كيف ماتت، فأنا أمزقها لأعرف كيف عاشت
Ebook1,091 pages7 hours

سبتاجرام 2 - العارف: إن كنت تمزق الجثث لتعرف كيف ماتت، فأنا أمزقها لأعرف كيف عاشت

Rating: 5 out of 5 stars

5/5

()

Read preview

About this ebook

ما زالت (ليليث) تجوس بين الظِّلال، ما زال (لوسيفر) وإخوته يعيثون في الأرض فسادًا، وما زال (أولو العزم) يجابهون الشياطين مرَّة بعد مرَّة، وما زِلتَ أنتَ عزيزي القارئ على متن قطار خيالك يحملك بين صفحات الكتاب عبر الأزمان والأمكنة، تزور بلدانًا مِن الحكايات لن يكون استنطاق جُثَث الموتى بأوَّلها، ولن تكون أحلام (إبليس) بآخِرها.
Languageالعربية
Release dateMay 31, 2022
ISBN9789948817277
سبتاجرام 2 - العارف: إن كنت تمزق الجثث لتعرف كيف ماتت، فأنا أمزقها لأعرف كيف عاشت
Author

أ.ع جهيني

نبذة عن الكاتب أحمد عطية الجهيني – المعروف اختصاراً بـ (جهيني) – طبيب وروائي مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة في عام 2005، وعُرِف من خلال مشاركته في ورش الكتابة لعدة برامج تلفزيونية. صدرت له رواية (سبتا جرام) في 2019، ورواية (العارف) هي ثاني أعماله الروائية الطويلة.

Related to سبتاجرام 2 - العارف

Related ebooks

Related categories

Reviews for سبتاجرام 2 - العارف

Rating: 5 out of 5 stars
5/5

1 rating0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    سبتاجرام 2 - العارف - أ.ع جهيني

    سبتاجرام 2 - العارف

    إن كنت تمزق الجثث لتعرف كيف ماتت، فأنا أمزقها
    لأعرف كيف عاشت

    أ.ع جهيني

    Austin Macauley Publishers

    سبتاجرام 2 - العارف

    نبذة عن الكاتب

    الإهـداء

    حقوق النشر

    شكر وتقدير

    تنويه

    باتومي: جورجيا الاتحادية

    الكتاب الأول

    عن الرجل الذي لا يبالي

    عن الحارس المذعور

    عن الضابط الشارد

    قصر لاتيرانو: روما

    الكتاب الثاني

    عن الفتاة الصهباء

    عن الخادم الأمين

    عن الفتاة الصهباء- 2

    البرزخ

    الكتاب الثالث

    عن الذي لا يموت

    عن الفتاة الصهباء - 3

    عن الذي لا يموت - 2

    جبل سنجار: العراق

    الكتاب الرابع

    عن الملاك الذي هوى

    عن الخادم الأمين – 2

    عن الجورجية النفساء

    ضاحية ليوبرتسي: موسكو

    الكتاب الخامس

    عن الجورجية النفساء - 2

    عن الخادم الأمين - 3

    عن الضابط الشارد - 2

    عن الفتاة الصهباء - 4

    خوني: جورجيا الاتحادية

    الكتاب السادس

    عن الخادم الأمين - 4

    عن الفتاة الصهباء - 5

    عن الخادم الأمين - 5

    قصر (الإله الحاكم): لوسيفريا

    نبذة عن الكاتب

    أحمد عطية الجهيني – المعروف اختصاراً بـ (جهيني) – طبيب وروائي مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة في عام 2005، وعُرِف من خلال مشاركته في ورش الكتابة لعدة برامج تلفزيونية.

    صدرت له رواية (سبتا جرام) في 2019، ورواية (العارف) هي ثاني أعماله الروائية الطويلة.

    الإهـداء

    إلى من أهدى للطفل الذي كنتُه الكتاب الأول

    وإلى من أعانت الطفل الذي كنتُه على قراءته.

    الغاليان أبي، وأمي

    حان الوقت لأرد الهدية...

    حقوق النشر

    © أ.ع جهيني 2022

    يمتلك أ.ع جهيني الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقاً للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأية وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948817260 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948817277 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب:MC-10-01-6721618

    التصنيف العمري:17 +

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن المجلس الوطني للإعلام.

    الطبعة الأولى 2022

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    شكر وتقدير

    خالص الشكر والتقدير للسادة:

    - د. ياسر حلمي: استشاري أمراض النساء، والوكيل العلاجي الأسبق لمديرية الصحة.

    - د. أحمد نور: اختصاصي الصحة المهنية، والتخدير.

    - د. داليا حسين: اختصاصي طب الأسرة.

    - م. محمد عطية: مصمم الدعاية والإعلان.

    المجد للملاك الذي هوى

    خريطة العالم بعد الخلق الجديد

    مملكة (لوسيفريا)

    مملكة (بابلونيا)

    مملكة (بعلزبول)

    مملكة (أبادونيا)

    مملكة (مامونيا)

    مملكة (بلفيجوريا)

    مملكة (ساتان)

    أرض الـ (لا أحد)

    مسرح الأحداث في حقبة الخلق الجديد

    مدينة (لوسيفريا)

    أرض العواصف

    مدينة (بابلونيا)

    خرائب مدينة (متسخيتا) القديمة، وأطلال دير (جيفاري)

    مملكة (لوسيفريا)

    مملكة (بابلونيا)

    البحر الكبير

    تنويه

    بالرغم من أن هذه الرواية تبدو تتمَّة لأحداث رواية (سبتا جرام)، إلا أن لها بناءها الدرامي المنفصل، وأجواءها الخاصة المختلفة تمامًا عن سابقتها. لذا يمكنك عزيزي القارئ أن تستمتع بأحداث الرواية حتى وإن لم تكن قد قرأت الكتاب السابق، إلا أن حصولك على كامل المتعة لن يتحقق إلا بقراءة (سبتا جرام)؛ فبادر باقتنائها.

    (أحمد)

    هذه الرواية عمل أدبي، وليست مرجعاً دينيّاً أو مصدراً للتاريخ؛ فاقرؤوا الحكاية بعين الخيال، ولا تحمّلوها ما لا تطيق.

    فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ

    الآية

    باتومي

    جورجيا الاتحادية

    دويّ الانفجارات يلوِّثُ ثوب الصَّمت الناصع بالرماد المحترق من جديد. جدران الغرفة الباردة ترتجُّ، فيفارقها بعض طلائها متهاوياً ليختلط بالغبار، وخيوط العنكبوت التي سقطت من زوايا السقف المعلّق. ترتجف الإضاءة الشاحبة في الغرفة قبل أن تعود لتتظاهر بالثبات. تجاوب (ناتيّا) ارتجاف الإضاءة بارتجاف مماثل، لكنها عجزت عن مجاراتها في الثبات المزيّف. ودّت (ناتيّا) لو غابت الأنوار عن الغرفة لبرهة تسقط فيها في قبضة الظلام، علّه يسترها عن عيون (مراد)؛ فلا يرى سروالها الذي بلل باطن فخذيه البول الذي فرَّ فزعاً من مثانتها. لكن الظلام في (باتومي) صار ليّن الجانب لا يستر أحداً، وتجترئ عليه المصابيح البيضاء، والانفجارات المتوّهجة، وعيون القطط اللامعة، وشعلات السجائر الحمراء.

    - ما هو تاريخ اليوم يا (ناتيّا)؟

    من ركن الغرفة يأتيها صوت (مراد) الهادئ، فتضم فخذيها غريزياً، قبل أن تنظر صوبه حيث جلس إلى الطاولة الكبيرة، وقد ألصق عينيه بمجهر المختبر. بقدميها تدفع المقعد ذا العجلات الذي تجلس عليه صوب الحائط الذي عُلِّق عليه التقويم المطبوع.

    - التاسع والعشرون من يناير لعام 2056م يا دكتور.

    تراه يلتقط أنبوب اختبار زجاجي من بين عشرات الأنابيب المرصوصة أمامه على الطاولة، فيُثبِّتُ عليه ملصقاً سُجِّل عليه تاريخ اليوم واسم صاحب العينّة.

    صارت الأمور عسيرة في مستشفى(باتومي) المركزي، ومختبر التحاليل الطبية الملحق به؛ بعد أن انقطعت خدمات الاتصالات والإنترنت عن كامل أرجاء الدولة. عاد المختبر إلى الوراء قرناً كاملاً، حتى إن التقويم المطبوع قد صار الوسيلة الوحيدة المتاحة لمعرفة تاريخ اليوم بدقة. فكرت (ناتيّا) أن جهدها المُضاعف في أداء مهام وظيفتها يستلزم حصولها على بعض الدعم من زملاء العمل، لكنها عادت فتذكَّرت أن جميع طاقم المختبر إما قُتلوا، أو تقطَّعت بهم السبل.. لم يبق منتظماً في العمل سواها هيَ.. فنيّة المختبرات الطبية، والطبيب (مراد) اختصاصي (البيولوجيا الجزيئية).

    تطلق (ناتيّا) زفرة حارة، وهي تحاول أن تصب تركيزها على عملها. التقطت أنبوب اختبار يحوي إحدى العينات وهمَّت بفحصه، لكن رجفة يدها أسقطت الأنبوب أرضاً ليتهشَّم، بعد أن عادت الانفجارات لتدوّي من جديد، ومعها عادت الإضاءة لترتجف، وعاد البول ليتدفَّق من مثانتها كرّةً أخرى.

    - من يطلق القذائف؟

    تهتف (ناتيّا) ليصل صوتها إلى مسامع (مراد)...

    - ربما كان الأمريكيون يقصفون فصائل المقاومة! في هدوء يجيب (مراد)، بينما هو منهمك في فحص عيّنة جديدة وربما كانت المقاومة تقصف دوريات أمريكية.. مبتسماً نظر إلى (ناتيّا) وهو يضيف: وربما كان الروس يصبُّون قذائفهم على الجميع. لا تسمع (ناتيّا) الجزء الأخير من عبارته التي طمستها صافرات الإنذار التي أخذت تعوي بلا نية للتوقف، فيردُّد (مراد) ساخراً: كان هناك قصف منذ عشر دقائق، فلتتوخَّى الجُثَثُ الممزَّقة الحذر ولتلزم المخابئ.

    - أتجد بالاً رائقاً للهزل؟ تقولها (ناتيّا) مستنكرة، ثم تردف: كيف تحافظ على رباطة جأشك وسط تلك المذابح؟

    - وهل ينجينا الهلع من الموت؟

    سألها بصوته العميق، فلا تجيب.. فقط أخذت تتطلع إليه في صمت. عيناه عميقتان كصوته؛ أحاطت بهما هالتان سوداوتان زادتا عينيه عمقاً. بدت عيناه الحالكتان متباينتان بشدَّة عن بشرة وجهه، شاهقة البياض المشرّبة بالحمرة. شفتاه الرفيعتان، وفكُّه العريض تضافرا مع شعره الفاحم في منحه مظهراً رجولياً يوحي بالأمان، وأضفَت عَليه بُنْيَتَه القويَّة فارعة الطُّول، سَمْتَ المحاربين الرومانيين شديدي المراس.

    خيالات (ناتيّا) شراكٌ خبيثة.. نسجت حولها حبائلها لتوقعها بين ذراعي (مراد) الآمنتين في حجرة المختبر التي تمنَّت لو غرقت في الظلام. في الظلام لن يرى (مراد) الشبق في عينيها، ولن يرى البول الذي لوث فخذيّها. ربما اشتم رائحته، ولكن لا يهم، فعيّنات البول في قواريرها الزجاجية تعبّق رائحة المختبر على كل حال.

    يدوّي انفجار جديد، فينتزع (ناتيّا) من خيالاتها المأفونة.. تهز رأسها في قوة، وقد جَلَدَتها ذكرى زوجها الراحل بسوطٍ قاسٍ يوقظ وفاءها الغافي. مات زوجها في قصف ضرب المدينة منذ شهرين.

    - أريد العودة إلى بيتي! تقول (ناتيّا) هاربة من الخيال والذكرى لا أشعر بالأمان هنا.

    - ربما كان المستشفى أكثر بقاع (باتومي) أمناً في الوقت الراهن يذكر الأمر كحقيقة جافة، وكأنما لا يأبه لبقائها أو رحيلها.

    - والدليل على ذلك هو المشافي الثلاثة التي قُصفَتْ في الأشهر الماضية. السخرية الغاضبة تفعم عبارتها. ودَّت لو أبدى (مراد) شيئاً من جزع، أو بعض اهتمام بشأنها.

    - لذلك لن يخاطر أحد بتدمير المستشفى المتبقي. ينظر إلى عينيها في ثبات كأنما خمّن ما يدور بخاطرها صار يخدم جميع الفرقاء، يقفز في ذهنه خاطر أن جميع النسوة حمقاوات. في أحلك الظروف يجدن بالاً رائقاً ليرثين حالهن، فإن لم يجدن من يبدي التعاطف؛ صببن جام غضبهن على الرجال.. أزواجهن، أو أحبائهن، أو إخوتهن، وإن عَدِمْنَ الجميع؛ فزملاء العمل يصلحون للمهمة بكفاءة. كاد أن يلقي تعليقاً بارداً جديداً، ليتمتع برؤية الغضب على وجه (ناتيّا)، لولا أن قاطعته طَرَقَاتٌ عجول على الباب الذي انفتح قبل أن يأذن للقادم بالدخول.

    - دكتور (مراد)، سيدة (ناتيّا)، يريدونكما في قسم الطوارئ. يقولها الممرض الشاب الذي اصطبغ زيُّه الأزرقَ بدماء حمراء طازجة.

    - وما الداعي لذهابنا؟ يسأل (مراد) باستنكار.. فليرسلوا ما لديهم من عينات إلى هنا.

    - هم يطلبونكما للمعاونة في إسعاف المصابين. يزفر الممرض في أسى، وهو يضيف: ضحايا القصف الأخير بالمئات.

    - وما شأني أنا؟ في غلظة واضحة يقول (مراد).

    - هم يطلبون كل من لديه خبرة طبية! يخفت صوت الممرض، وهو ينظر إلى (مراد) باحترام فرضته سنوات عمر الأخير الأربعين.. المتطوعون من طلبة الطب يملؤون المستشفى بالفعل.

    - حسناً إذاً. يقول (مراد) بعد لحظة صمت.. سنلحق بك خلال دقائق.

    متثاقلاً ينهض (مراد) من مقعده، فيخلع معطفه الأبيض، ثم يتجه نحو خزانة صغيرة بركن المختبر، فيفتحها بمفتاح صغير في سلسلة مفاتيحه. منها يلتقط قارورة زجاجية صغيرة، فيضعها في جيب سرواله.. هيا يا (ناتيّا). معاً يغادران المختبر هابطَين نحو قسم الطوارئ الذي بدا كساحة معركة لا منتصر فيها. واضعاً يديه في جيبَي سرواله يخطو (مراد) فوق الأجساد الدامية التي افترشت الأرض متجهاً صوب الباب الكبير للمستشفى ، فيتجاوزه في هدوء.

    - إلى أين؟ يلتفت (مراد) إلى (ناتيّا) المرتبكة التي سألته مِن على الناحية الأخرى للباب، تردف: قلتَ إنَّ المستشفى هو أكثر الأماكن أمناً!

    يهزُّ كتفيه بلا مبالاة دون أن يجيب، وسط سيَّارات الإسعاف التي أخذت تعوي، يشقُّ طريقَه مغادراً حَرَمَ المستشفى ، قبل أن يبدأ في السَّيْرِ شمالاً عبر شارع (جريشاشفيللي) العريض متجهاً صوب محطة القطارات المركزية، والتي ما زالت تعمل بمعجزة ما. الهواء البارد المحمل باليود والآتي من البحر القريب يمتزج براحة الشواء المنبعث من الأبنية المهدمة التي اشتعلت بقاطنيها؛ فيعبق المزيج الفريد رئتيه. شاعراً بالانتعاش يبدأ في الدندنة بغتة بصوت خفيض:

    في الميـــاديـــن تــحـــترق الجـثث

    كـــي تـــبـقى آلـــة الــحرب تدور

    المـــوت والـــكراهيــة للــــبشرية

    يـسمِّمَان العقول المغسولة

    رحلجميع أعضاء فرقة (السبت الأسود) منذ زمن طويل، لكن أغنيتهم الأثيرة إلى قلبه ما زالت تنبض بالحيوية على لسانه.

    الساسة يخفون أنفسهم بعيداً

    هــــم فــــقـــط يـــــبـــــدؤون الــــــــــــــــــــــــحرب

    لمــــــــــــــــاذا يــــــــــــخرجـــــــــــــــون للـــــــــــــــــــــــقتال؟

    تـــــــــــــــركـــوا هـــــــــــــذا الـــــــــــــــدور للـــفـــقراء

    في هدوء يتأمل الوجوه المتوترة التي تجدُّ السير حوله.. بعضهم يسلك طريقه لذات وجهته، وبعضهم عائد منها. ربما سكنَه ذاتُ التوتر قبلاً، لكن السكينة أفعمته منذ يومين حين استقبل بكثير من العُسرِ رسالة أخته التي بعثتها من (موسكو)، طمأنته فيها أنها قد استقبَلَت طرده. كذلك استقبل باقي إخوته المتناثرون في شتى أصقاع الأرض طرودهم. منذ يومين هبط إلى قبو منزله، فالتقط قارورة صغيرة من ثلاجة كبيرة امتلأت بمئات القوارير المشابهة. صنع من تلك القوارير ما يكفيه هو وإخوته وذريتهم إلى يوم الدين. بحرص أفرغ محتويات القارورة في محقن، وبها حقن نفسه كما فعل إخوته مسبقاً. كرر ذات الأمر مع طفليه، وعندما عزم على حقن زوجته فاجأه رفضها. بعصبية أخبرته أنها لن تحقن نفسها بما تجهل كنهه، فلم يلحَّ عليها طويلاً. هو لا يطيقها على أي حال، ولربما استحقَّت مصيرها المنتظر.

    أخيرا يصل إلى المحطة الكبيرة في نهاية الشارع، فيعبر بوابتها المزدحمة. بخطوات هادئة يتجه صوب صالة الانتظار المكتظة بالمسافرين إلى شتى بقاع البلاد. يمر بين صفوف المقاعد الممتلئة حتى يتوسط القاعة، فيخرج القنينة الصغيرة من جيبه..

    - بحق جميع القديسين أبارككم يقولها، وهو يفتح القنينة محكمة الغلق عسى أن تعودوا إلى أطفالكم سالمين يبدأ في نثر السائل الشفاف الأشبه بالماء على وجوه الجالسين، فيبتسم بعضهم في توتر، بينما يظهر الغضب على ملامح آخرين.

    - من أنت أيها السيد؟ يقولها أحد المغضَبين، وهو يجفف الرذاذ عن وجهه لا تبدو قِسَّاً!

    - اسمي (مراد)، يلقي القنينة الفارغة في جيبه من جديد، ثم يعود ليتطلع لمحدّثه (مراد غسّان الكرجاوي) يستدرك دون أن يترك لمحدثه فرصة للحديث.. اسم صعبٌ هو على لسانك! ابتسامة عابثة تلاعبت على شفتيه الرفيعتين وهو يضيف في هدوء يمكنك أن تدعوني (لوسيفر)!

    الكتاب الأول

    من الصلصال يأتي من يدمر الصلصال..

    (النبوءة)

    عن الرجل الذي لا يبالي

    (1)

    رائحةُ الدُّخان والدم تلك، وللعويل أيضاً رائحة.

    عويل له رائحة عطنة ثقيلة كفاكهة فاسدة أطلقته (إيكاترينا) في وجهي، وهي تتلوى كضبع سلخوه حياً، فجفلت.. تراجعتُ خطوتين، ثم عدت أتأمَّل البناية المهدَّمة، وأتشمَّم الدُّخان والدَّم، بينما صرخات (إيكاترينا) عطنةُ الرائحة تصفع أذنيّ بلا رحمة.

    طلبت مني السيدة (إيريني) شراء بعض الخبز لها، عندما رأتني أخرج للتسوق... قالتها (إيكاترينا) المنتحبة، وهي تغرس أصابعها بلحم ذراعيَّ كأنها تستمدُّ مني تجلُّداً لا أملكه. كلماتها وأدت داخلي أملاً أحمقَ بأنَّ (إيريني) ربَّما كانت خارج البناية وقت تهدمها.

    ما كدت أبتعد عن البناية حتى هرولت عائدة، وقد أفزعني صوت الانفجار. انتزعت أصابعها من ذراعي، ثم هرعت نحو أنقاض البناية التي كانت منتصبة منذ سويعات. أنشبت أظافرها في الركام، وهي تصرخ بأسماء أطفالها الثلاثة.

    راقبتها لبرهة، وراقبت حزني إذ ينقشع كسحب ضربتها أشعة شمس صيفية، فتنكشف عن سماء تلوّنت بالبلادة. كثير كل هذا الحزن. لم يسعه قلبي؛ فتداعى.. تهاوى كما تهاوت البناية.. تشظَّى؛ فلم يخلّف أنقاضاً.. بدا وكأنه لم يوجد قط!

    (المجد لي! صرت رجلاً بلا قلب)...

    هززت كتفيّ، ثم أخذت أُنقِّلُ قَدَميَّ مبتعداً. اخترقت ما تبقى سليماً من شوارع الحي المبعثر كمأدبة فرغ منها الآكلون، بينما أخذت عيناي تمسحان المباني المهدمة. رجل مهرول حمل دلواً من الماء يسألني أن أعاونه في إطفاء أحد الحوانيت المشتعلة، لكنّي لا أبالي.

    أشلاء الجثث المتناثرة لا تجد من يحملها، توسَّلت إليّ إحدى النساء أن أعاونها في لملمة ما تبقي من جسد زوجها.. لكني لا أبالي.

    أطفال ممزقو الثياب.. ملطخون بالدم يهيمون على جانبيّ الطريق.. تقبض طفلة على أصابعي بكفها الصغير، فتلوثها بدم لزج. تسألني ذاهلة أين أمي؟

    لكني لا أبالي.

    لقد ماتت (إيريني) الحبيبة.

    (المجد لي! صرت رجلاً بلا قلب)...

    (2)

    رائحة الدخان والدم تلك، وللعويل أيضاً رائحة...

    مرَّ يومان منذ أن وقفتُ أحدِّق في البناية المهدمة، لكن الرائحة تأبى أن تفارقني. التصقت بخياشيمي كعلقة تمتصُّ روحي عبر أنفي، أو لعلها روحي هي من تمتصها!

    الآن أقف صامتاً أمام شاشة التلفاز القابع بغرفة المعيشة بشقتي.. لم يبق به سوى قناة وحيدة لم تعد تبثُّ إلا لقطات من جنازة رئيس دولتنا (زوراب أبخازي) الذي قُصف قصره منذ شهر مضى.

    لكني لا أبالي...

    لا أحد في العالم حقاً يبالي؛ فمقتل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية منذ بضعة أشهر قد طمس ما عداه من القتل؛ فصارت مصارع العظماء من بعده أموراً عادية لا تستحق عناء التعليق. ببلادة أخذت أحدِّق في شاشة التلفاز التي ملأها سواد الحداد، وقد سالت عليها كلمات التأبين البيضاء. بينما تتصاعد تدريجياً تراتيل جنائزية كئيبة، لتتراقص على أنغامها المقبضة الكلمات البيضاء في دثارها الأسود.

    رقد على رجاء القيامة المناضل البطل (زوراب أبخازي) رئيس دولة (جورجيا الاتحادية) في الأول من يناير من العام 2056م

    فلا رحم الرب روحه الآثمة أقولها ساخراً، وأنا أغلق التلفاز. قادنا المجانين نحو الحرب المجنونة. سيُعلِّق المنتصرُ منهم نياشين الفخر، ويتوَّج بأكاليل الغار، ومن لقى حتفه – كرئيسنا – فقد صار بطلاً صنديداً، جنازته مهيبة، وتابوته من خشب الصندل.

    أما (إيريني) فجنازتها العويل كريه الرائحة، وتابوتها الركام.

    أخبرتني (إيريني) قبل تهدم بيتها بخمسة أيام أن لا منتصرين بتلك الحرب، فصدَّقتُها. (إيريني) لا تكذب، فحينما انتفخ بطن أمي منذ ما يقارب الخمسة وعشرين عاماً ظننتها حبلى واغتبطت، لكن (إيريني) قالت إن بِثديِ أمي مرضاً.. لم أصدقها وقتها، فلئن كان المرض بثدي أمي، فلمَ انتفخ بطنها؟ لم أفهم هذا وقتها، ولم أفهمه حتى الآن، وعندما صار بطن أمي عظيماً، كمن ينتظر المخاض ذهبت إلى المستشفى، بينما بقيتُ أنا أترقَّب المولود المنتَظر بوجه متهلل على عكس وجه (إيريني) المفعم بالقلق، وحين سألتها عن خطبها أخبرتني شفتاها أن أمي قد اشتد بها السقم.

    مجدداً كذّبتها، وارتقبت ولادة أمي لأخٍ أصغر، لكن وجه أمي البارد الخاوي من الحياة، والذي ودَّعته في اليوم التالي علَّمني أن أصدق (إيريني). أمام جثمان أمي ضمتني (إيريني)، فأخذت باكياً أخبئ سنوات عمري العشر ما بين إبطها، وثديها الذي كان متماسكاً.. لا تحزن يا أحمق. أنا أمك من بعد أمك.

    صَدَقت (إيريني)، فكانت لي خير أم. تمدَّدت السنوات العشر التي تكبرني بها أختي الوحيدة، فاحتوت خبرات جميع النساء اللاتي أنهكتهن الأمومة، لتأخذ (إيريني) خلاصتها، وتسقيني إياها حناناً مكرراً.

    - ألن تذهب إلى عملك يا (فيكيا)؟ قالتها لي (إيريني) في بيتها منذ خمسة أيام.

    - قُصف المصنع يا (إيريني).. لن أحرس الركام!

    - أحمق أنت كأبينا (لوري)؛ أهدر عمره في حراسة ذلك الدير، ولم يجنِ سوى الفتات، وهأنتذا تقتفي خطاه، فتهدر عمرك في حراسة المصنع السخيف.

    - جشع أبينا هو ما أهدر عمره يا أختاه! جشعه أفقده وظيفته، ومعها خمس سنوات من عمره قضاها سجيناً، وذعره الدائم أهدر بقية سنوات حياته.. صمتُّ لحظاتٍ ثم أضفتُ هامساً: تدنيسه لذاك القبر كان وبالاً عليه، وعلى أسرتنا بالكامل.

    أشاحت (إيريني) بذراعها، ولم تُعلِّق.. هي مثلي.. تتذكر نظرات أبينا دائمة الخوف كنظرات فأر محاصَر.. نظرات صاحَبَتْهُ سنينَ سِجْنه الخمسة، وصاحَبَتْه بعد إطلاق سراحه. نظرات لم تفلح فرحته بمولدي بعد خروجه من سجنه بعام في طمسها. هي مثلي تتذكُّر ساعات احتضاره.. منذ خمس سنوات أباحت هلاوس النزع الأخير بما كتمه في صدره لسنين.

    بقوة هزَّت (إيريني) رأسها، وكأنها تنفض عنها الذكرى، ثم طَفِقَت تتحدث في موضوعات شتَّى لا رابط بينها، بينما عيناها تجوسان في ملامح وجهي. ثرثرت كثيراً، وقالت كل الكلمات إلا الكلمة الوحيدة التي أرادت قولها حقاً.

    ليتني علمت أنه لقاء موّدِع يا (إيريني) الحبيبة.

    الآن أرشف رشفة مُرَّة من قدَحِ الشَّاي الأخضر الذي أعدَّته لي (لامارا)، وأحاول تَذَكُّر الكَلِمَاتِ التي قالتها لي (إيريني) منذ خمسة أيام، فلا أتذكر سوى كلمة وحيدة امتلأ بها حديثها، وإن لم ينطق بها لسانها.. كلمة (وداعاً)..

    (3)

    رائحة الدخان والدم تلك، وللعويل أيضاً رائحة...

    أزيحُ مزلاج النافذة الضيِّقةِ بغرفةِ المعيشة، لأشرِّعها على اتساعها، فلربما طمس الهواء البارد للَّيلِ الوليد تلك الرائحة التي علقت بأنفي منذ يومين.

    - إن كنت تريد الانتحار، فأنا لا أريده.

    (لامارا) الغاضبة تخرج من المطبخ حيث دخلت منذ برهة لتعد لعشائنا بعض البطاطا الفاسدة.. تهرول نحو النافذة المفتوحة.

    - ستضل القذائف الموّجهة بالأشعة تحت الحمراء، وتلك الموّجهة بالموجات الصوتية طريقها، ولن يرشدها إليه إلا ضوء نافذتنا! أقولها ساخراً، وأنا أمسك بساعدها لأمنعها من التقدم أكثر.. إن ضلَّت القذائف طريقها، فلن تضلَّه صواريخ القاعدة القمرية! تتابع عيناها سبابتي التي أشارت إلى السماء المزينة بالقمر الشرير.

    - لا تجعل مهمتها أسهل على الأقل! تتملص من قبضتي.. بعينيها ذعر بقرة رأت سكين القصّاب.

    تباً لك يا امرأة! لمَ تتمسكين بالحياة؟ فأنا لا أبالي! فقدتِ أبويك منذ أسابيع في قصف صار يومياً، وما كدت تعودين من المقبرة التي واريتِ فيها أبويك الثرى؛ حتى رجعت إليها من جديد لتشيِّعي جثمان أخيكِ الوحيد الذي قتله الأمريكيون، وقد حسبوه أحد أفراد المقاومة. لمَ تتمسكين بالحياة؟ فأنا لا أبالي!

    لا ذرية لنا رغم سنوات زيجتنا السبع، فلن نجزع على يُتم أطفال لم يأتوا، إن نحن غادرنا إلى حيث غادر الجميع. لمَ تتمسكين بالحياة؟ فأنا لا أبالي!

    فقدنا عملينا، ومطبخنا لم يعد به سوى بضع حبات من البطاطا التي تبرعمت درناتها القديمة. سنموت على كل حال.. إن لم يكن بنيران القصف؛ فالجوع سينجز المهمة بطريقة أكثرَ قسوة.

    أراها توليني ظهرها، وتستأنف هرولتها نحو النافذة المفتوحة. أردافها العريضة ترتج، وهي تحاول إغلاقها. بغتة يدوّي صوت الانفجار القريب، فتتجمد قبضتاها على مصراعيّ النافذة، وتتوقف أردافها عن الارتجاج.

    - يا يسوع! عيناها صارتا حمراوين بلون نيران الانفجار.

    - يسوع مات.. قتلته قذيفة! عبر النافذة أرى النِّيرانَ تأكل إحدى البنايات القريبة.. في الليل يستأنف الروس القصف. منذ ثلاثة أسابيع صارت القذائف روسية بعدما كانت أمريكية.

    - (تبليسي) تبُاد! ألن يلتفت لنا أحد؟ صوت (لامارا) صار همساً.

    - الصين تقذف اليابان بلا توقف.. تركيا تهاجم إيران.. غرب أوروبا يفترس شرقها.. إسرائيل تصارع العرب.. اتحاد دول أمريكا الجنوبية لا يتوقف عن إطلاق الصواريخ صوب الولايات المتحدة الأمريكية، وصواريخ القاعدة العسكرية الأمريكية على القمر لا تتوقف عن اصطياد الجميع.. رائحة الشواء التي يحملها الهواء البارد تداعب أنفي؛ فازدرد لعابي الجائع.. أردفتُ: إن ظننتِ أن أحدهم قد يلتفت لبضع مئات الآلاف من القتلى الجورجيين؛ فأنت حمقاء!.

    - هذا لحم بشري!.. تغطي أنفها براحتها، فأنظر لها بلا فهم. عبر النافذة تشير سبابتها إلى البناية المحترقة.. رائحة الشواء. هو لحم بشري يحترق! تتسع عيناي ارتياعاً بينما تتصاعد عصارة معدتي غاضبة، لتصفع لعابي الجائع؛ فيثوب إلى رشده. بغتة يضربني الدوار؛ فأستند إلى الجدار، بينما عيناي تراقبان (لامارا) التي أخذت أصابعها تعبث بحلية رأس الجدي الذهبية المعلقة في سلسلة سميكة ملتفة حول جيدها، قبل أن تقول بغتة: ما كان للرئيس الراحل (أبخازي) أن يصطف في خندق الروس.

    - كان لا بدَّ للروس من تكوين جبهة متقدمة بجورجيا، لمواجهة القواعد الأمريكية بتركيا.. لو لم ينضم الرئيس (أبخازي) إلى الروس لأجبروه...

    بخطى مترنحة أخطو صوب النافذة الضيقة لأوصدها؛ فيكفُّ الهواء المحمل برائحة الشواء الكريه عن التحرش بأنفي. أجلس بشحوبي إلى إحدى الأرائك قصفنا الأمريكيون طيلة العام الماضي لتدمير قواعد الروس على أرضنا، وعندما انتشر الجنود الأمريكيون في طرقات (تبليسي)، وتلونت القواعد العسكرية بلون العلم الأمريكي، بدأ الروس في قصفنا لتدمير قواعد الأمريكيين، كما إن فِرَقُ المقاومة الوطنية تزيد الوضع سوءاً. صار الأمريكيون يطلقون الرصاص على الجميع في الطرقات بلا تمييز.

    صوت انفجار جديد يهزُّ أركان غرفة المعيشة.. تغطي (لامارا) أذنيها بكفيها، وقد أصابهما الصَّمَم.. على أرضية الغرفة تتهاوى على ركبتيها.

    - هم يتوقعون منّا أن نموت في أدب! تقترب مني حبواً.. عينا البقرة المذعورة تتأرجحان في محجريهما وهي تهمس: (فيكيا).. عِدني بأن نعيش حتى نهرم!

    آه يا حمقاء! كيف أعدك بما أكره؟!

    (4)

    رائحة الدخان والدم تلك، وللعويل أيضاً رائحة...

    - أخبرتكَ ألا تفتح النافذة. عويلها له صوت شاة ذبيحة.. من غرفة نومنا تخرج مترنحة. فتحتَ النافذة فتسرب الموت منها! البثور الحمراء الكبيرة تملأ وجهها وذراعيها.

    جسدي يحترق يا (فيكيا)! شقَّت ثوبها، فرأيت البثور مكدَّسةً كحبات العنب علي جلدها العاري، وعندما فَرَكَت عينيها سقَطَت أجفانها في كفيها، فانفلتت من بين شفتيّ صرخة مرتاعة. أقتربُ منها، وأحيطها بذراعيّ، بينما صرختي قد تحولت إلى سعال متكرر. أسعل، ثم أسعل، فتطير خيوط الدم من فمي، لتختفي وسط القيح الأحمر الذي سال من البثور الضخمة على صدر (لامارا) العاري. تغيم الرؤية، وتحرق النار عينيّ، فأفركهما.. أجفاني تسقط في كفيّ كأوراق شجرة خريفية.

    (تمنيت الموت لكني غفلت عن عذاب دربه!)

    يا يسوع! أصرخ لتتمزق أحبالي الصوتية، فيلوث الدم شفتيّ.

    (يسوع مات.. قتلته قذيفة!)

    تتملَّص (لامارا) من بين ذراعيّ، وهي تعوي ككلبة عقور. تفتح باب شقتنا غير عابئة لعريها.. أمدُّ ذراعيَّ لأَمْنَعَها، فأرى عليه البثور الكبيرة كحبات العنب. جارنا السيد (فيدور) يهرع خارج منزله متعثراً.. عيناه تسيلان دماً.

    لمَ فتحت النافذة يا سيد (فيدور)؟ منها تسرب الموت! ترفع (لامارا) سبابتها، وتهزها في وجه الجار الذي ملأته البثور الحمراء كمعلمة توبِّخُ تلميذها. تنفصل السبابة عن كفها؛ فتودعها نافورة من الدم انبجست من موضع الانفصال، بينما يرمقها السيد (فيدور) بنظرة لا تبالي من خلف غلالة الدم التي غطت عينيه.

    (تمنيت الموت لكني غفلت عن عذاب دربه!)

    من ذراعها أجذبها لنغادر البناية. تحت الأشعة الفضية للقمر الشرير تهيم حشود سكان الحي كأشباح يحملون بثورهم فوق عريهم. تبتلعنا الحشود التي تشق طريقها عبر شوارع (تبليسي) باتجاه الشمال؛ فتجرفنا لذات الاتجاه.

    (قافلة الهائمين تشق طريقها نحو العدم!).

    تتعثر القافلة الهائمة ببعض الجنود الأمريكيين.. يصرخون ألا نقترب أكثر، ثم يطلقون صوبنا بعض الرصاصات الطائشة، قبل أن تغزو البثور جلودهم وتنزف عيونهم دماً؛ فينضمون إلى القافلة الهائمة التي سلكت بلا حادي طريقاً نحو الشمال.. تسقط بعض أجساد الهائمين صرعَى؛ فتطؤها أقدام الآخرين التي تجمد عليها الدم.

    تصل قافلة الموت إلى نهر (متكفاري) الذي يشقُّ (تبليسي). تجمَّدت مياهه الآسنة برداً، أو لعلها تجمدت فَزَعاً. يدفع المعذَّبُون أجسادهم في النهر باحثين فيه عن خلاص لا يملكه. على الضفتين تراكَمَت الجثث بينما تتشقق طبقة الجليد التي تغطي النهر كاشفة عن مياه راكدة صارت حمراء.

    (النهر يعمِّد الغاطسين بالموت!)

    أشقُّ طريقي مخترقاً الأجساد الدامية، قبضتي تطبق على ساعد (لامارا)، فأجرجرها خلفي.

    - إلى أين نذهب؟ (لامارا) كالمخدرة.. أسكَرَها الألم والنَّزْفُ.

    - إلى حيث ننال ميتة سريعة. أجيبها بصوتٍ مبحوح.

    - وعدتَّني أنْ نعيش حتى نهرَم. صوتها ممطوطُ النَّبرات كمن تعاطى جوالاً من القنّب.

    نغادر الحشود، ونخترق أزقَّة خالية إلا من جثث محظوظين نالوا الموت سريعاً. أَعْلَم أنَّ هناكَ قاعدة أمريكية بالجوار.. عادَتُهُم أن يطلقوا الرصاص على كل من يقترب. من القاعدة ندنو.. على بوَّابَتِها يقف جنديان متحفِّزَان يحملان سلاحيهما، في حين غطى وجهيهما قناعان يقيهما الهواء الملوث.

    لا تقتربا أكثر!

    أسمع الهتاف بالإنجليزية، فلا أبالي. أستمر في دفع قدميّ إلى الأمام.

    بحقكما أطلقا رصاصاتكما.. هي ما نبتغي...

    لا تقتربا أكثر!

    يتكرر الهتاف بالجورجية.. سبابتاهما تداعب أزندة أسلحتهما ولا تضغطها.

    (تباً! لمَ صار الموت عسيرَ المنال!)

    أَقتربُ أكثر، وأنا أجرجر (لامارا) خلفي. يتراجع الجنديان خطوة، ثم يطلقان رصاصاتِ لا تُصِيبنا. رصاصات قصدت القادم من وراء ظهورنا، والذي لم نره إلا بعد أن مرق من خلفنا إلى الأمام منقضَّاً على الجنديين.

    خفيف كفهد.. سليم كفهد.. تلتمع عيناه كفهد...!

    يطبق قبضتيه على عنقي الجنديين؛ فلا يتركهما إلا بعد أن فرغت منهما الحياة. إليّ وإلى (لامارا) المخدرة بالألم يلتفت.

    - أنت لن تموت!

    صوته عميق كفهد..

    أنُجيك الآن، تلك هي الأولى!

    تُنجيني غداً، تلك هي الثانية!

    ثم أُعيدك سيرتك الأولى، تلك هي الثالثة!

    عينا الفهد اللامعتان تجوسان في بُثُورِ وَجْهِي.

    - لا أفهم! تنسيني الدهشة آلام جسدي.

    - أمامك حياتك كلها لتفهم. فقط لا تنسَ وجهي، لا تنسَ الكلمات.

    - لا تراهن على ذاكرة بشر!

    يدور بخفة الفهد إلى ما خلف (لامارا).. يضع إحدى راحتيه على عنقها الذي تزينه القلادة السميكة؛ فينزعها عنها.. يقرب شفتيه من أذنها التي انسلخ جلدها، بينما أخذت راحته الثانية تتحسَّسُ أسفلَ بَطْنِها العاري، لتتلطَّخ أصابعه الطويلة بالدم.

    - إن نسيت؛ فالماءُ لا ينسى! يقولها قبل أن يغطِّي الصوت المدويّ على كلماته؛ فألتفت إلى مصدر الصوت فأرى الحجر الأول الذي سقط من السماء..

    ثم يغشّي عينيّ ضوء الانفجار.

    عن الحارس المذعور

    (1)

    الزنزانة ضيقة لا تتجاوز المترين طولاً وعرضاً..

    الزنزانة مظلمة لا مصابيح بها، فقط تتسرب أضواء أعمدة الإنارة بالخارج من نافذتها الضيقة، فتزيح بعض الحجب عن وجه رفيق الزنزانة الذي افترش الأرض أمامي.. صامتٌ هو.. عيناه مغلقتان.

    - ألن تتناول عشاءك؟ عيناي ترقبان صحفة عشائه التي لم تُمس.

    - هأنذا قد تناولته. يفتح جفنيه، ويمدُّ يده دون أن ينهض؛ فيلتقط كسرة من الخبز الرديء.. يلوكها على مهل. منذ يومين لم يأكل سوى كسرات الخبز.. يزيح الطعام باتجاهي في عرض صامت. منذ يومين يقدم لي طعامه.. منذ يومين آكله!

    أزحزح ردفيّ بصعوبة، وقد خدرهما الجلوس الطويل على الأرض الصلبة.

    أقترب منه ومن صحفة الطعام، لا أشعر بالجوع، إلا أن سنواتِ الحرمان الطويلة علَّمَتني أن أفتك بأي طعام لا صاحب له.

    أنت إلى طباع الضباع أقرب!.. يهمهم صاحبي بعد أن عاود إغلاق جفنيه الضباع تأكل على كل حال.. جائعة كانت، أم لم تكن...!

    لا أعلق على عبارته. أدفع مزيداً من اللقيمات إلى صحن الطعام، ومن الصحن إلى حلقي. لحم التونة المفتت في الصحن بدا شبيهاً باليرقات الكثيفة التي أزاحها رفيق الزنزانة عن فم الجثة منذ يومين.. تذكَّرت ذلك الآن، فأحسست باللعاب المالح يُفْعِمُ بلعومي.. العرق الباردُ يغطِّي جبيني، واللقيمات تأبى النزول، بينما تصاعد الحامض من جوفي حاملاً معه وجبتي السابقة... أتقيَّأ.

    خيبك الله! يهتف صاحبي مشمئزاً وقد انتفض جالساً، ليزيح قدميه اللتين لوَّثَهُما القيء. أنظر له مندهشاً من خَلفِ غِلالتيّ الدموع والعرق اللذين أثارهما تقيُئي. لم يشمئز من الديدان الصغيرة التي دلك بها عينيه منذ يومين، وأثار قيئي حفيظته!

    - صمتاً يا نابِشَي القبور!.

    الحارس الغليظ يدق باب الزنزانة الحديدي من الخارج.

    أزحف إلى أحد أركان الزنزانة، ثم أتكور حول نفسي، وأرقد في بركة القيء والعرق. أغمض عينيّ، وأسترجع الذكرى القريبة.

    (2)

    دير (جيفاري) من جديد.

    دير (جيفاري) كل يوم.

    عين الرب القاطنة فوق الجبل ترنو إلى (متسخيتا). ترى الجميع ما عداي.

    تحملني قدماي إليه من جديد.

    تحملني قدماي إليه كل يوم.

    فردتا حذائي بهما أكثر من فتق.. أحس ببلل الأرض التي هطلت عليها أمطار ربيعية غزيرة وقد تسرَّب إلى قدميّ.

    غداً سأشتري حذاءً جديداً.. غداً سأمتلك ألفيّ دولار.

    يستقبلني زميلي متأففاً أمام بوابة الدير الحجرية.

    - كريشت أغاسدجا.

    تشوه الريح العاصفة في العراء أعلى الجبل كلماتي. لكن زميلي يستنتجها علي أي حال.

    - كيشماريتاد أغاسدجا. يرد زميلي التحية الخاصة بليلة عيد قيامة (يسوع). يكمل بضيق: هاتفتك أكثر من مرة يا (لوري).. هاتفك مغلق.

    - نفذ شحن البطارية أُخرِج هاتفي الحقير من جيبي.

    - "صرنا في العام ستة عشر وألفين، وما زلت تقتني هاتفاً محمولاً ذا أزرار!".

    أخبرته أنني أجد الهاتف القديم ذا الأزرار أكثر عملية. لكنني لم أخبره أنني لا أمتلك ثمن هاتف حديث.

    غداً سأشتري هاتفاً ذكياً.. غداً سأمتلك ألفي دولار...

    تأخَّرتُ كثيراً. سيفوتني قُدَّاس القيامة. ما زال الضيق مسيطراً على صوت زميلي.

    أخبرته أنني تشاجرت مع زوجتي قبل خروجي للعمل، لكنني لم أخبره أنها بكت وهي تلوّن بيض القيامة بالأحمر. (إيريني) ابنتي الوحيدة ستذهب لحضور قدّاس القيامة بذات الثوب المبطن بالفرو الذي حضرت به قدّاس الميلاد. قالت زوجتي من بين دموعها أن الجو أصبح دافئاً وأن (إيريني) ستتعرق في ثوبها الثقيل وتمرض.

    (إيريني) لديها ثوبٌ واحدٌ.. شتويٌ هو.. لسوء الحظ!

    غداً سأشتري ثوباً ربيعيا لـ (إيريني). غداً سأمتلك ألفي دولار.

    كيف حال أبيك؟ يتأهب زميلي للانصراف في ذات الحافلة الصغيرة التي أقلتني وحيداً إلى مقر عملي بدير(جيفاري).

    أخبرته أن أبي ما زال يعاني من ذات الرئة، لكنني لم أخبره أن دواءه قد نفد منذ أسبوع. جميع المقربين يتهيؤون لعيد القيامة، لذا صارت محاولات الاقتراض عسيرة، كمحاولات أبي التقاط أنفاسه.

    غداً سأشتري دواء أبي. غداً سأمتلك ألفي دولار.

    - ألم يأت المشرف اليوم؟... أنظر إلى الدير المظلم إلا من إضاءة خافتة يبثها مصباح أصفر قرب مدخله.

    صارَ مشرفُ الأمن – رئيسنا المباشر – لصيق المراقبة لنا، أنا وزملائي الثلاثة رجال أمن الدير منذ أن اقتحم ذلك المصري المكان، واعتدى على رهبانه في فبراير الماضي.

    يا للعار! يضرب الرهبان تحت أنوفكم! أي مخنثين أنتم!

    قالها لنا مساء ذلك اليوم في فبراير أمام بوابة الدير الحجرية، وقد اصطف أمامه أربعتنا.

    (لوري) ماذا كنت تفعل عندما اقتحم ذلك الرجل الدير؟ أراهن أنك كنت تلج هراوتك الغليظة في شرجك الواسع!

    ارتجفت من البرد والإهانة.. أخبرته أنني كدت أوسع المصريَّ ضرباً بهراوتي السوداء، لولا تدخل أحد الكهنة. طيلة خمس سنوات عملت فيهن كحارس لدير (جيفاري)، لم أعهده إلا مسالماً كحظيرة خراف. زوّاره مسالمون كخراف. لهذا لم أجد التعامل مع الذئب حين جاء.

    في ذلك اليوم أمرَنا المشرفُ بالانتباه واليقظة. أخبرَنا أن المصري قد يعود، وعلى هراواتنا أن تُحسِن استقباله إن فعل. ثم تركنا في العراء البارد أمام الدير، وعاد إلى منزله ليندسَّ بجوار زوجته تحت أغطية فراشه الدافئة. على كلٍ حسبته مبالغاً، فالشخص الذي أوشكنا على تحطيم عظامه بالدير وقت الغروب لن يجازف بالعودة إليه في المساء.. لكنه عاد!

    فارع القامة، مهيب، تحيطه ظلال المساء... وسيم كأنه الشيطان اقترب من الدير.. بدا متردداً، وقد عجز عن اتخاذ قرار مناسب. فتاته الحسناء التي رافقته قبلاً تقف بجواره، بينما يتطاير شعرها في جنون. متحفِّزاً. شدَدْتُ ظهري، وباعدت بين ذراعيّ لأبدو أضخم، وإن قررت أنْ أتحاشاه قَدرَ الإمكان إن أراد العراك. ذلك الرجل قادر على تمزيق جسدي الهزيل بيديه العاريتين إن أراد، لكنه انصرف وقد آثر السلامة!

    المشرف، وجميع الرهبان غادروا لِكاتدرائية (سفيتسكفالي) لحضور قُدَّاس القيامة... يقول زميلي، وهو يندس في أحد مقاعد الحافلة الصغيرة: الدير خالٍ تماماً كقلب أعزب! أو كحافظة نقودي!

    أراقب الحافلة المبتعدة لبرهة، ثم أتجه إلى كشك الحراسة بجوار الباب الحجري للدير.. أرنو إلى القمر المكتمل، وأحلم بالألفي دولار. وأنتظر موعدي المحرم!

    (3)

    ها قد قام..

    حقاً قام..

    المسيح ابن الإله

    قام وانتصر

    هاللو.. هاللوليا

    هاللو.. هاللوليا

    عبر مذياع هاتِفِي الحقير أستمع إلى ترانيم القيامة. اخترت هذه الليلة المباركة بالتحديد لأقترف فعلي الشنيع.

    قام فادينا الجبار

    هــــــلمَّ لـــــــــنفـــرح بـــــــــــــه

    قــــــــــــــام وأنــــتـــــــــــــــــــــــصر

    هـــــــاللو.. هــــــــــاللوليا

    هـــــــاللو.. هــــــــــاللوليا

    لا تغضب مني يا (يسوع)، فأنت المُلام لا أنا!

    أضواء المصابيح الأمامية للسيارة ذات الصندوق المكشوف التي اقتربت من الدير تغشى عينيّ اللتين اعتادتا الظلام.. أهرع إلى السيارة التي انفتح بابها.. بجوارها وقف (التركي).

    - كريشت أغاسدجا مرتجفاً أقولها، فأراه يحدِّقُ في عينيّ بعينين عكرتين لا لون لهما دون أن يجيبني... هي تحية القيامة الجورجية تعني (المسيح قام). عليك أن تجيب بـ (كيشماريتاد أغاسدجا) التي تعني (حقاً قام).

    - أعلم ما تعنيه بجورجية سليمة يجيبني بفتور، فأتعجب.. لا يبدو تركياً، ولا يبدو جورجياً كذلك. وجهه لا يشي بعرقه، وملامحه بلا تعبير يبوح بانفعالاته. محايدة هي كلوح زجاج. بدا جلد وجهه المشدود وكأنه غطاء لعظام جمجمته لا أكثر. وخطُّ الشيب الشعر المتبقي على جانبي رأسه ولحيته الطويلة بالكامل، بينما التمعت صلعته تحت ضوء البدر؛ فخمَّنت أنه قد تجاوز الخمسين. فكَّرت أنَّه لو حلق شعر رأسه ولحيته الشائب لعجزت عن تحديد عمره، كما عجزت عن تحديد جنسيته.

    - أين القبر؟ لهجته لا تحمل تعبيراً كوجهه.

    - أين النقود؟ أقولها بعصبية.

    لا يبدو كشخص يملك دولارين، فما بالك بألفين! ملابسه عكرة لا لون لها كعينيه. رُتق قميصه وسرواله في أكثر من موضع. أما حذاؤه؛ فحدِّث ولا حرج. هذا شخص ارتدي الثياب – فقط – ليستر عورته.

    - هاك ألف، سأعطيك مثلها حين تنهي مهمتك.. من جيب سرواله يخرج رزمة الأوراق الخضراء، فألتقطها بلهفة. عيناي تلمحان انبعاجاً صغيراً في الجيب الآخر للسروال. الألف الحبيبة الثانية ترقد بذلك الجيب. فكرت ألا أتم مهمتي البغيضة، سأضربه وأنتزع منه الألف الثانية. هو نحيل كقشَّةٍ على الرغم من طوله الفارع. أستطيع صرعه بسهولة، وسأدَّعي بعدها أنَّه لصٌ قد اقتحم الدَّير، ولن يصدقه أحد إن تكلَّم. رفعت عينيَّ من جيبه إلى وجهه؛ فرأيته يتطلع إليّ باستخفاف. بدا وكأنه سمع أفكاري عندما قال بهدوء: لست وحدي.. صديقي المصري بالجوار!"

    تباً للعرب! يملؤون جنبات (جورجيا) هذه الأيام. سوريون، وعراقيون، ومصريون. عقد الصفقة معي ذلك المصري الذي قابلته بالحانة منذ يضعه أيام. اتفقنا أن أقابل (التركي) – الذي لم أره سوى الآن – في الواحدة صباح يوم القيامة. صافحني المصري بعدها بقبضة غليظة نفرت عروقها، فكاد أن يهشم أصابعي. قويٌ هو كذاك المصري الأول الذي اقتحم الدير. في وجوده تبدو مهاجمة التركي فكرة حمقاء.

    أهزُّ رأسي متفهماً التهديد المبطّن، ثم ألتقط الرفش متردداً.. أسير واجماً كشخص يسير إلى مشنقته.. تدفعني الألف دولار الثانية في جيب التركي، بينما يجذبني هلعي قائلاً: كفى!

    من السيارة يلتقط التركي حقيبة قماشية كبيرة، وقد دل احتقان وجهه على ثقلها. خلفي يسير صامتاً بينما ندور حول الدير الحجري القابع فوق قمة الجبل المشرف على (متسخيتا)، لنصل إلى الساحة الواسعة خلفه. رسمَ القمرُ الكاملُ الاستدارةِ ظلَّينا على عجَل، ثم طرحهما مشوهَيْن، فارتميا على شواهد القبور أمامنا.

    - تلك هي المقبرة.. دفُنَ رهبان الدير هنا منذ قديم الأزل. يرتجف صوتي.

    دائماً ما كنت أتجنَّب الذهاب إلى الساحة الخلفية أثناء مناوبتي الليلية. أشعر بعمودي الفقري وقد صار قضيباً من ثلج، بينما جلدي صار جلد أوزَّة منتوفة الريش.

    هم نيام! أقولها لنفسي مطمْئِناً. فقط لن يستيقظوا ليفركوا أعينهم، ويقصَّوا علينا ما حلموا. هل أدركوا أنهم نائمون حقاً؟ أم هم من استيقظوا وتركونا خلفهم نحلم؟ هل التفتوا داخل قبورهم وقالوا لكل شيء وداعاً؟

    - قال كبراؤنا (الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا).. للمرة الثانية يخمن (التركي) الكلمات المعتملة في صدري: هؤلاء من عرفوا إجابات كل الأسئلة يا أخي! صارت كل الأسئلة لديهم سؤالاً واحداً، وصارت كل الإجابات إجابة واحدة. يلهث تحت وطء حقيبته، وقد تسرَّب إلى صوته المحايد بعض الاهتمام حين سأل: أين القبر؟

    أصمتُ برهة، بينما عيناي تجولان وسط الشواهد الحجرية المبعثرة بلا نظام، والتي تخلَّلَت الفرجات بينها الحشائش الطويلة التي صارت سوداء، ونبتت على أطرافها أزهار أجهل أسماءها. ما أكثر أزهار بلادنا! عصر اليوم أهدتني (إيريني) زهرة صفراء.. وضَعَتها خلف أذني بينما تضحك سنوات عمرها الخمسة، وعندما اختفت ضحكتها – وهي ترتدي ثوبها الثقيل المبطَّن بالفرو – أزحت الزهرة واجماً.

    لا تُغزل أوراق الأزهار قماشاً يا (إيريني). ليتها كانت! لكنتُ حُكْتُ لكِ ثوباً ربيعياً!

    - هناك! أشير إلى إحدى الشواهد الحجرية بسبابة مرتجفة، ثم أسير نحو القبر المنشود بخطوات مرتعشة يتبعني (التركي). من حيث وقفت أرى (متسخيتا)، وقد افترشت الأرض عند قدميّ. أظلمت المدينة، أو كادت. فيما عدا مركزها الذي تلألأت فيه كاتدرائية (سفيتسكفالي) بأضواء قدَّاس القيامة. منها يحمل هواء الليل البارد إليّ أصواتاً خافتة ممزقة للقداس.

    حثيثا أبدأ الحفر، كأنما أريد أن أختلس تلك اللحظات من السماء.

    الرب ينظر بعين الرضا إلى القداس.

    فهل غفل عن نابش القبور؟

    أخيراً يظهر التابوت الخشبي الراقد في قبره، فيضع التركي حقيبته الثقيلة أرضاً، ثم يعاونني فنخرجه من باطن القبر.. على الحشائش القصيرة التي تغطي الأرض الصلبة نضع التابوت لاهثين.

    - هلم ساعدني! يقول (التركيُّ)، وقد أعجزته ذراعاه الناحلتان عن رفع غطاء التابوت منفرداً. على ركبتيّ أجلس محاذياً له، ثم أعاونه متردداً. الغطاء المزيَّن بصليب أصفر ثقيل كخطايا بني آدم. بصعوبة أزحزحه، فتفترس الرائحة العفنة خياشيمي. أنتفض واقفاً معتمداً براحتي على كتف (التركي)، وأنا أغطي أنفي بكفي الثانية.

    - يا (يسوع)! مشمئزاً أقول.

    - (يسوع) مات! قتلته قذيفة. مشدوهاً يقولها بصوت بدا مختلفاً.

    أنظر إليه بدهشة، فيبادلني نظرة الدهشة بمثلها!

    - ماذا تقول؟ أقول مستبشعاً.

    - لم أقل شيئاً، فقط قِيلت الكلمات على لساني!.. يقول (التركي) بصوت ما زالت به آثار دهشة. يهزُّ رأسه، وكأنه ينفض عنه دهشته، ثم يضغط فكَّيه ببعضهما، وقد عاد إلى محاولاته اليائسة لإزاحة غطاء التابوت. أعود لمعاونته، وقد انتفخت أوردة ساعديّ وعنقي، قبل أن ينزاح الغطاء أخيراً؛ فتغمر الرائحة العفنة كل شيء.

    لعمري كم تغيرت أيها الراهب! متى اسودَّ وجهك؟ متى جُدع أنفك؟ متى تقشَّر جلدُ كفيك؛ فبدت يداك كقفازين تريد خلعهما؟ أين اختفت عينك اليسرى؟ محجرها أسود فارغ إلا من دودة صفراء طويلة تتمطى في كسل. لمَ تدلت كرة عينك اليمنى على خدك الذي امتلأ جلده الأسود بفقاعات صفراء؟ ما كل تلك اليرقات البيضاء التي تغزو طاقتي أنفك وفمك، فحسبتك تقيء؟!

    التركي الجالس على ركبتيه أمام التابوت يلتقط مبضعاً صغيراً من حقيبته، به ينتزع عين الجثة الواحدة أمام عينيّ الَّلتين صارت رؤيتهما حمراء باهته. العرق البارد يغزو جبهتي بينما تصاعدت لقيمات عشائي إلى حلقي. أتراجع إلى الوراء عدة خطوات ثم أفرغ معدتي المهتاجة من وجبة العشاء الذي تناولته منذ سويعات. بعدها تعود الرؤية لتتضح، وأشعر ببعض التحسن؛ فأتقدم مجدداً إلى حيث (التركي) الذي بدا منهمكاً فيما يفعله؛ فلم يعر انتباهاً لكل الفوضى التي أثرتها خلفه.

    - ألا تخشى الموتى؟ أراقب مبضعه الذي يعبث في فم الجثة.

    - الموتى لا شر لهم.. هم منافقون كفوا عن أن يكونوا كذلك.. تسرَّبت عنهم أرواحهم التي كانت تسترهم، وتركت أجسادهم على حقيقتها. بأصابعه يلتقط بعض اليرقات البيضاء التي ملأت فم الجثة، يفرك بها عينيه المغلقتين، وهو يضيف: أجساد عطنه الرائحة.. ثيابها الدود!

    لا أتكلم.. فقط أرتجف.

    ينتزع المبضع بعض اللحم المفتت من منبت لسان الجثة، فينظر إليه (التركي) مليّاً وهو يقول: كان الراهب بلا لسان، ولكن هذه البقايا ستفي بالغرض. الطقس البارد، والثياب الثقيلة، والتابوت محكم الغلق حموا الجثة التي فارقتها الحياة منذ ثلاثة أشهر من التحلل الكامل. يشرع في نزع اللباس الكهنوتي الذي ارتدته جثه الراهب المتوفى قائلاً: هلمَّ ساعدني.

    الرداء ثقيل كثوب (إيريني) التي تتعرق الآن، وهي ترتل ترانيم القيامة مع المرتلين بكاتدرائية (سفيتسكفالي) التي رقدت على سفح الجبل، فأسمع أصواتهم الممزقة تحملها الريح.

    هل قد قام

    حقاً قام

    قام وانتصر

    المسيح قام.. فتح قبره ونهض؛ فباركته الملائكة.

    والآن نحن قد فتحنا ذلك القبر، فهل تباركنا الملائكة؟ أم أنها تلعننا؟

    الرداء ملتصق بالجسد.. أبدأ في نزعه؛ فانتزع معه الجلد ذو الحويصلات الصفراء. يتناثر رذاذ لزج على وجهي؛ فأمسحه مشمئزاً وأنا أواصل عملي الكريه حتى نخلع الرداء في النهاية، ليضعه (التركيُّ) في حقيبته القماشية، ثم يتنهد وهو ينظر إلى الجثة التي صارت عارية. لونها أخضر مائل للسواد، وقد تساقط عنها اللحم في عدة مواضع. تجويف قبيح يرقد أسفل الصدر.. فيه مد (التركي) كفه، وانتزع ما بدا أشبه بقلب أسود تتقافز عليه اليرقات البيضاء. في حقيبته الكبيرة يلقيه مع عين الجثة، وفتات منبت اللسان في حين أخذت معدتي تنقبض من جديد، وعادت الموجودات لتشحب أمام عينيّ. مجدداً أقيء. لا طعام هذه المرة، فقط عصارة صفراء مُرَّة.

    تتضح الرؤية مرة ثانية، لأرى التركي يسير حثيثاً إلى بقعه خالية من الأرض. من حقيبته الثقيلة يخرج بخاخ طلاء أبيض يضغط على قمته، ليرسم على الأرض العشبية دائرة كبيرة قطرها يزيد عن السبعة أمتار. بدهشة أخذت أراقبه، وهو يرسم بالطلاء مثلثاً متساوي الأضلاع داخل الدائرة بحيث تمسُّ رؤوسه محيط الدائرة.. صار الآن كل ضلع للمثلث وتراً للدائرة.

    داخل المثلث رسم دائرة أصغر، وداخل الدائرة الجديدة رسم مثلثاً بذات هيئة المثلث الأول. على الرؤوس الثلاثة للمثلث الجديد وضع غنائمه الثلاثة.

    - ماذا تفعل؟. لأنفاسي رائحة القيء وطعمه.

    - بعينه أرى ما رأى.. بلسانه أنطق بما نطق.. بقلبه أشعرُ بما شعر. من حقيبته يخرج أسطوانات حديدية ثلاثة. يضع الأثقال الثلاثة على رؤوس المثلث الأول، ثم يعود فيهرول إلى حيث رقدت الجثة داخل تابوتها. من أسفل ذراعيها يرفعها، ثم ينظر إليّ في طلب صامت.

    - لا أدري أي شعوذة تصنع يا غريب الأطوار أنت! لكني لن أتورط معك!. أشيح بيدي التي لوثها القيء.

    - لقد تورطتَّ بالفعل! يلهث، وهو يجاهد لرفع الجثة التي صارت في وضع الجلوس.

    - دع صاحبك المصري يساعدك.. قلت إنه بالجوار. صوتي يرتجف غضباً.. يرتجف هلعاً.

    - كذبت! ليس هناك سوانا. شبح ابتسامة صفراء يجوس بوجهه.

    أَنظُرُ إلى الرسوم المنقوشة على الأرض. القبر المفتوح، التابوت المنتَهَك، الجثة الجالسة تنظر إلي ساخرة بلا عينين. أي فخ أوقعني فيه ذلك الرجل؟!

    - خذ الجثة وانصرف.. سأتكفَّل أنا بإزالة الفوضى. وددت أن يكون صوتي صارماً، لكنه جاء متوسلاً.

    - لم تتحلل الجثة تماماً، لكنَّها بدأت في التآكل بالفعل، والتحلل يلتهم الذكرى كما يلتهم الجثة. ينظر إليَّ القمر الكامل.. "لا بد

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1