Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز
لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز
لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز
Ebook599 pages3 hours

لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يعرض الكتاب، من خلال لقطات من السيرة الذاتية، مجموعة من الأفكار حول موضوع الإصلاح بصفة عامة، انطلاقا من فضاء ثقافي هو بلد المغرب- الذي تتشكل خصوصيته بتفاعل خاصبين كل من البعد الديني والتاريخي والجغرافي- أن يعرض مجموعة من الأفكار حول موضوع الإصلاح بصفة عامة، في سياق نقد ما أصبح يعاني منه واقعه السيكوسوسيولوجي" العام، من ظواهر سلبية تضر بالعلاقة بالمشترك، وتنعكس" على مختلف الميادين. وبموازاة مع ذلك يحاول استبصار التجربة الجماعية التي بلورها المغاربة، عبر مراحل تاريخهم الخاص في مجال الإصلاح والانصلاح، ودون فصلها عن امتدادها داخل مفهوم الأمة، أو تغييب ملمح التحضر الانساني بشكل عام. كل ذلك في قالب أدبي خاص، يستعير لفظ العكاز لتشخيص التواتر بين غياب وحضور حس تحمل المسؤولية في سلوك النفس الإنسانية

Languageالعربية
Release dateAug 9, 2021
ISBN9781005273316
لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز
Author

ابراهيم أعبيدي

مدون مغربي. من مواليد سنة 1956. عمل سابقا في مجال التدريس و التكوين. و مارس العمل الجمعوي..كما اشتغل في العمل السياسي،و كان عضوا بالبرلمان المغربي لولايتين تشريعيتين.

Read more from ابراهيم أعبيدي

Related to لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز

Related ebooks

Reviews for لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    لِنحذرِ العكاز، فقد يمارس الابتزاز - ابراهيم أعبيدي

    الحمد لله وحده، الذي ينجز وعده، فلا يضيع لمجتهد مُحسن جهدَه؛ وإن كان لا جهد إلا بعونه، ولا توفيق لإحسانٍ إلا بفضله، ولا فتْحَ، في أي عمل، إلاّ من عنده. والصلاة والسلام على من أرسله إلى العالمين، وجعله خير خلقه، وشرفه بأن سماه عبده، فأعلى قدره ورفع ذكره.

    ‏وبعد، فهذا كتاب حاولت فيه، من خلال لقطات من السيرة الذاتية، وانطلاقا من فضاء ثقافي هو بلدي المغرب- الذي تتشكل خصوصيته بتفاعل خاص بين كل من البعد الديني والتاريخي والجغرافي- أن أعرض مجموعة من الأفكار تهم موضوع الإصلاح بصفة عامة، في سياق نقد ما أصبح يعاني منه واقعه السيكوسوسيولوجي العام، من ظواهر سلبية تضر بالعلاقة بالمشترك، وتنعكس على مختلف الميادين. وبموازاة مع ذلك حاولت استبصار التجربة الجماعية التي بلورها المغاربة، عبر مراحل تاريخهم الخاص في مجال الإصلاح والانصلاح، ودون فصلها عن امتدادها داخل مفهوم الأمة، أو تغييب ملمح التحضر الانساني بشكل عام. كل ذلك في قالب أدبي خاص، يستعير لفظ العكاز لتشخيص التواتر بين غياب وحضور حس تحمل المسؤولية في سلوك النفس الإنسانية.

    فلم يكن هذا الكتاب ناجما عن سبق نية أو ترتيب. ذلك أني، عندما كنت أدوِّن هذه الكلمات في سلسلة فقرات، تحت هذا العنوان، على صفحة حسابي الخاص بالفيس بوك، مع ردودي، بهامشها، على بعض التعليقات؛ لم تكن لدي أية فكرة عن نشرها، كما هي عليه، في كتاب خاص يلتزم بما هو متعارف عليه في التصنيف والتأليف في عالم الكتب والمؤلفات، لولا ما ظل يصلني في ذلك، من إخوة متتبعين، من طلبات. فقد كنت أتابع نشرها بكل عفوية، هي وأخواتها، مما دونته خلال هذه السنوات الثلاث، عبر هذه المنصة من منصات التواصل الاجتماعي، على شكل حلقات. وقد أشار علي بعض المتتبعين الفضلاء بأن أجعل كل حلقة منها محدودةً من حيث عدد الكلمات، حتى لا أطيل على جمهور جعلته ظروف هذه الحياة يكتفي بما يُسعف بالقراءة السريعة لما يُنشر من مكتوبات.

    ‏ثم إني، في سلسلة هذه الفقرات، التي نشرتها مابين السابع والعشرين من غشت من السنة العشرين بعد الألفين ميلادية، والسابعة عشرة من فبراير من السنة الواحدة والعشرين بعد الألفين، كنت أكتب بطريقة عفوية لا تخضع لتصميم مسبق يجعل محتواها منظما ومنسقا، ولا تقيم بين لغة الأدب والشعر ولغة الفكر حدا مطلقا. هذا فضلا عن كوني لم أكن أقصد بها تصنيفا مبوبا ومنمقا، أو بحثا ممنهجا ومدققا، ولا تدوينا مؤصلا ومحققا، أو تناولا لموضوع محددا وموثقا، ولا مُؤلَّفا متخصصا معمقا، ولا عملا فنيا خالصا محبوكا ومُشوقا، حتى يكون جديرا بأن يجد له إلى النشر في كتابٍ وجوها وطرقا.

    ‏ورغم أني كنت أرسلها تباعاً، بوسيلة التراسل الفوري، إلى مجموعة من ذوي القرابة والأرحام والجيران، والأصدقاء والإخوان؛ فإني لم أكن أتوقع أن يفاجئني كثيرون، ممن لقيتهم عرَضاً، بِتَتبُّعهم لها بانتظام، حيث اكتشفت أنها صادفت عندهم قدرا محترما من الاستنفاع والاستحسان؛ وهو ما قوّى لديّ وجاهةَ تلك الطلبات، التي كانت تهدف إلى جمعها- كما هي- بين دفتي كتاب؛ تحاشيا للضياع الذي يمكن أن يطالها بالفضاء الأزرق في أي آن. وقد أخذت على نفسي وعدا لبعضهم؛ ها أنذا أنجزه. وإني أرجو الله أن يكتب له التمام. ولئن نجحَت التجربة، وسنحَت الفرصة، لَأَعمِّمنَّها- إن شاء الله- على باقي تدويناتي، حسب الإمكان.

    ‏وإني إذ أريدها إسهاما في تجديد فكرة الإصلاح، بالاقتراح والنقد، ومواجهة تسرب الفساد، بالكشف والصد؛ فإني أسأل الله أن يُصلح في مبدئها ومنتهاها النيةَ والقصد، وأن يسدد القول فيها، ويبارك فيما بذل فيها من الجهد، وينفع بها في العمل والكد. وهو ولينا فيما نقرر من أخذ أو رد، والهادي إلى سبيل الهداية والرشد.

    ابراهيم أعبيدي

    الرباط في:22 فبراير 2021.

    ~~~~***~~~~

    1. شكوى حارقة من غدرة عكاز.

    إنه الابتلاء غير المتوقع، أو عندما يباغتك الخذلان مِن عصاك التي تتوكأ عليها.

    فقد قال لي صاحبي، وهو يحاول أن يرفع إلي عينين منطفئتين، رغم ما يبدو من شبه حياة في نظراته، وأن يحرك، في أعلى جسدٍ مَسَّهُ الضرُّ وأثقل حركاته، رأساً قد أتى الشيبُ على ما تبقى من سواد شعراته، وقد نال الحزن والأسف من حباله الصوتية كما يظهر من نبراته: لعل من أشد ابتلاءات الله للعبد قبل مماته: أن يدقق في خطة معركة اللحظات الأخيرة من حياته، ويمضي إلى كريهة النِّزال، حيث ينتظره البأس في جولاته، وقد اعتمد- بعد الله- على الشخص الذي أحبه حتى شاطره نفسه؛ فيكتشف، في آخر المطاف أنه قَلبَ له ظهر المجنّ، فأصبح يجدف بالمجداف عكسه، وقد خذله، وفي ظهره أشهر فأسه، ونصب في وجهه مدفع المشاكسة والمراء، ونسي من أوامر الشرع وأخلاق الوفاء درسَه، فلبس درع العناد واللِّجاج، وركب رأسه.

    ثم سكتَ، وقد أطبق شفتيه، وأقبل علي بوجه متيبِّس، حتى خِلْتُ أنه قد خرق، بين وجهينا، مسافةَ التباعد المعتبرة في الاحتراز من عدوى وباء كورونا، وهو يتصفح محياي. وببطء كبطء حركة رِجل الحرباء، وضَع يده المرتعشة على كتفي. فخُيل إلي أنه رأى فِيَّ نَفْسَه، واشْتَمَّ منِّي أني أعاني مِن نفس جرحه، وأتوجع من نفس لدغة جُحره، وكأنه يريد أن يقول لي: تكلم يا إبراهيم! بربك قل لي: كيف وجدتَ ألَمَ ما حكيت لك عن تلك الصدمة، وما بُحتُ به لك من جمرة تلك الحسرة؟ بربك، أدركني بقطعة ثلج من أعماق قلبك! تطفئ بها عني كتلة من جحيم جهنم داهمتني في خريف حياتي، على حين غرة!.

    2. وطأة العكاز يخففها حضنٌ نتوسم فيه الرحمة.

    وعندما يُعِين عليك هُمومَ الدنيا مَن يُفترَض فيه أن يسمعك ويفهمك ويرحمك، ويصون وُدك ويحفظك؛ فإنك تبحث بفطرتك عن أي شخص- بعد الله- يُلَطِّفُ حَرَّ حرقتِك.

    و الحق أقول: لقد أحسست كأني وجدت نفسي في صاحبي. وأحياناً قد تكون لِلُّغة وظيفةً تجعل الكلام بَلْسَماً لجراحات الحياة، التي تظل تعتصر قلب الإنسان، فتعتريه رغبة عارمة في الصراخ، وشعورٌ قوي بالحاجة إلى الفرار من بني جنسه إلى أي مكان؛ بل بالحاجة إلى الفرار حتى من نفسه لو كان بالإمكان. وهو لا يتحقق بالشكل الآمن والأمثل، إلا إذا سخر الله لك شخصا يفتح لك حضن قلبه؛ فتجد نفسك في نفسه، ويتم تصريف تلك الرغبة في الصراخ إلى بوحِ حميمٍ لحميمه، لتخرج على شكل شكوى من أذى بعض البشر الذين يسحقون بغلظة قلوبهم رقّةَ قلبك، ويُرهقون بقساوة جحودهم رهافة حسِّك، ويظاهرون عليك عدوان هشاشة صحتك، ويطفئون، بزوبعة رعونة تصرفاتهم شمعةَ سعادتك، وينسجون، بخيوط نكدهم مُسوحَ شقائك، ويمحقون بفظاظة تلاعبهم بمشاعرك رومانسيةَ وُدِّك، ويصفعون بغدرهم وفاءك وحسن عهدك، ويقابلون بكفرهم جميل إحسانك وفعلِك، ويجرحون بتفحشهم أناقةَ ذوقك، ويقتلون بتوحشهم روحَ تودّدِك وحياةَ بسْطك، ويدمرون بشرِّ تمردِهم خيرَ تَكرّمك وتَقربك، ويسرقون بثقل ظلالهم ابتسامةً، بالكاد انتزعَها، من يد الهموم، ثغرُك.

    هم طينةٌ من الخلْق، كلما شعروا بالضعف، أظهروا خنوعهم وتمسكنوا. فإذا رأوا لأنفسهم بصيص شعاع من كوة إفلاتٍ أو قليلا من قوة على التهديد برفع مُنكَر الأصوات، حسبوا أنفسهم قد تمكنوا؛ ففرعنوا، وضربوا عرض الحائط بالعهود والصلات، وانتهزوا الوضع بالغدر، فهُم به يقايضونك، وعلى حق من حقوقك يفاوضونك. فإذا شعر الواحد منهم مرة أخرى بحاجته إليك، عاد يطوف بك طواف القطة العطشى، ويبصبص لك بِذَيْل كلبةٍ جوْعى، ويتقرب إليك بابتسامة ميتة صفراء، وقد أجْذَب مُحَيّاه من أية قطرة من حياء.

    3. الغدر لا يعرف حياء ولا منطقا وليس له دين.

    وإذا لم يستحِ المرء، فلن يبقى له ما يمنعه من أن يقول كلّ ما يريد، أو أن يفعل ما يشاء.

    ‏لذلك نجد صِنْفا من البشر لا يخجلون إذا خالفوا في حديثهم واقعا، أو ناقضوا في كلامهم منطقا. ولا تتحرك ضمائرهم إن انتهكوا شرعا أو خرقوا قانونا، ولا تتمعر وجوههم إن نقضوا عهدا ساريا أو ميثاقا قائما أو عقدا. فهم لا يحترمون نظاما، ولا يُقدِّرون مكانة، ولا يحفظون ودا ولا سلاما، ولا يعرفون مرحمة ولا إنظارا، ولا يمنعهم كونهم يستظلون بشجرتك، ويأكلون غلتك، أن يَسُبّوا، بِفِعالهم، مِلّتَك. ولا يُخجِلهم حالُهم هذا، من أن يكونوا متدينين. فكثيرون هم من لا تسبقهم إلى الصف الأول بالمسجد، ولا تكاد تفارق ألسنتَهم عبارات الأحاديث النبوية الشريفة والآيات القرآنية الكريمة، ولكن كلّ حظهم من الدين عاطفةٌ ظاهرة جهلاء، تستر داخلهم حزمةً مبطنة من الأهواء، مع جرأة حمقاء، على تأويل النص وإصدار الفتوى. فكأنما أُقفلت منافذ أفئدتهم جمعاء، فلا تصلها هداية من مشكاة رشد، ولا ينفذ إليها شعاع من بركة تعلم العلم، ولا يَقْرَبها نور خُلُقِ إعمال منهج التفكر والتثبت والفكر.

    وكم ممن أعفوا لحاهم وسرحوها بالمِشاط، وزينوا جباههم بدمغة السجود في الصلاة، يهشون لك بمظاهر من التدين تظهرهم من الصفوة المتخشعة، حتى إذا وثقتَ بتقواهم في معاملةٍ، غدروا بك، وهم بوجوه حمراء مصفحة، وأعينهم شاخصة مُفتّحة. ‏يُوغلون في إيذائك بجوارحهم المُسيَّبة، التي لا تعرف نظاما ولا طرقا مهذبة. إذا تمكنوا منك، فهُم كالمنشار بأيدٍ حِدادٍ مُسَنَّنة؛ تُقبِل فتُدبِر بحق من حقوقك، وعبارة: ما شاء الله، لا تنفك على ألسنتهم مُحَيَّنة. أو كالقنافذ هم، كلما مروا بك أو مررت بهم، إلا ونلت حظا من وخز إبرهم المدببة. فإذا اشتكيت منهم إليهم- ومن حقك الشكوى- وعظوك بأن اصبر يا أخي، ولك بذلك أعلى الجنة! وكأن الدنيا خلقت لغيرهم زنزانة تعذيب، وهُمْ قد خُلقت لهم ورشةً ليشتغلوا فيها جلادين، وأن أجرهم وثوابهم في ذلك المجهود الطيب، على رب العالمين!

    4. العكاز المتفلت يُعرف من سلوكه.

    فنوع معدن العكاكيز البشرية، لا نميزه بظاهرِ تَديُّنٍ ولا بعدمه، لكن له سلوك ظاهر يُعرف به. وقد يكمن أحيانا، غير أن ملاحظة فلتاته قد تُخْبِرُ به.

    وقد علمتَ من سلوكهم حين يجمعك بهم المُقدّر: أنك إذا ما استجبت لاستفزازهم، ذهبت أخلاقك التي هي ثوبك الأستر. وقد يجرّونك إلى موقفٍ يُحْذَرُ، وعاقبةٍ تُنْكَرُ. وإذا تصبّرتَ وغضضت الطرف عنهم، طغوا وبغوا عليك وكشروا.

    إنهم قوم لا يرضيهم فعل، ولا يقنعهم قول. إذا أنتَ تكلّفت من أجلهم وبادرت وأحسنت، قالوا: لمَ فعلت؟ فو الله ما أحسنتَ ولا أجملت!، وأرهقوك وأعسروا. وأغلظوا في لومك وأكثَروا. وإن أنت أقلعتً وأمسكت وتركت، قالوا: كسول بخيل مُقَتِّرُ. والأدهى من ذلك أنهم يلصقون بك كلّ فشلِ الدنيا، وأنك أنت الجاني وحدك والمُقَصِّرُ. وإذا رأيت منهم حماقة تمشي على رجليها وتتبختر، فيا ويلك إن قُمتَ تشجبُها وتَستنكِرُ! وإلا فكن كأنك أعمى لا ترى شيئا ولا تُبصِرُ! وإن شاورتهم في أمر، تصدوا لفكرتك، عنادا، وعارضوها بفكرة أخرى هي حماقة لا يقبلها عاقل ولا تُتصورُ. وإن حسمت، بعدها، في أمرٍ بما يَرْجُح ويَظْهَر، قالوا: دكتاتورٌ مستبدٌ لا يُشرك غيره ولا يشاور.

    إنها الشخصية السادية التي تترصد ضحيةَ لها كل حين، وهي تسمتع بتعذيب الغير والتلذذ بإذاية الآخرين، في أبلغ وأبشع الصُوَر التي لا تُتصوَّر. ولولا أن الله يلهمك حِلماً، به تتعقلُ وتتصبرُ، لصرختَ عاليا وقفزت هاربا تتعثرُ، وقد ذهلْتَ من الغيظ، حتى لبِسَ نعلَك الأيمنَ قدمُك الأيسرُ.

    5. عندما تكتشف في شكوى غيرك شكواك.

    ولئن كانت آفة الكلام أنه يجرُّ بعضه إلى بعضه، فيكون عند القاضي مَدخلا لتمحيص التهمة، وعند الفضولي مسلكا إلى هتك نعمة الستر، فإنه، عند الطبيب النفسي، طريق إلى العلاج بعد الكشف.

    هكذا، وجدت نفسي، بعد أن توقفت استجابة حاسوب الخيال، أمام ما يُشبه صبيبَ الإلهام، وقد استنفَرَتْ ذهني شخصيةُ العكاز، في أقصر رواية درامية سرَدها علي صاحبي، ولَمّا تَمْضِ دقيقةٌ أو دقيقتان. تزاحمَتْ فيها أوصافٌ قاسية لسلوك تلك الشخصية، ولكنها الحقيقة عيْنها، بلا كمامة ولا قناع أو لثام. حقيقة تخرج من أعماق الفؤاد، مُحْرِقَة، موجعة، قاسية. إنها بكائيةٌ شعرية على مصير ما يمكن أن يُعوِّل عليه المرء في حياته لآخرته، وقد تحول، فجأة أمام عينيه، إلى رماد وحطام أو رسومٍ دارسةٍ من أطلال.

    أحسست وكأن سحابة سوداء، مثقلة بأشجان قديمة، تغشاني، لكني لم أعد أذكر فيها حقيقةَ وجهِ شكواي. سرحتُ طويلا بذهني في أرجاء شكوى صاحبي، لعَلّي أتعرف على ملامح جرحي في تقاسيم وجه جرحه؛ فاكتشف، بذلك، شكواي في شكواه. وقد كنت نسيت كلمة سر دخول قرص المخزون، بفعل طول حالة الاسترخاء والركون. وأحيانا قد يُوقعك الشعور الكاذب بالأمن والأمان، في ورطة هي من ريب المنون. وذلك بالتفريط في شيء قد تراه يهون. لكنك قد تبيتُ ليلةً في حالكِ الظلام، بسبب تضييعك لمِفَكّ برغي، كان يمكن أن تشدَّ به خيطاً كهربائيا ارتخى في مدخل أو مخرج قاطع التيار.

    فشكوى صاحبي، التي ظلت تمشي داخل بهو فؤادي وتجيء، لم تكن تماما خالية مما ينفع جرحي ويعالج لواعجي، بل يكفيها أنها أرجعتني إلى نفسي. وأحيانا ما تجد نفسك، عندما يبثك بعض الناس شكواهم، قد غمر قلبَك إحساسٌ ببردِ الاستئناس، من وحشة الشعور بالتفرد بمصيبتك بين الناس؛ فتكتشف أنك لست وحدك من يعاني، بل قد تكتشف أن مصيبتك أخف من مصائب كثيرين ممن عضهم البؤس والبأس. وأكثر من ذلك، يدفعك ذلك إلى أن تدرك أن من سنن الله، في دفع ما تجلبه الأنانية من عزلة وارتكاس، ارتباطُ أخذِ سعادة الذات بعطاء وبذْل السعادة للغير من الناس. ولعل في ذلك حكمة الله في خلْق الفرد محتاجا في حياته إلى الغير؛ فقضى في حُكميه القدَري والشرعي أن مَنْ يُعِنْ يُعَنْ، وأنَّ الناسَ بالناس.

    6. العكاز قد يستغل حاجتنا إلى الغير، ليمارس علينا الابتزاز.

    وتلك حقيقة وجودية، تستغلها العكاكيز الانتهازية، لتمارس أفعالها الابتزازية.

    فوجود المشترك ضرورة من ضرورات الحياة البشرية؛ لذلك كان لا بد أن يعيش الناس في مجتمع يوفر شرط التعاون أو التضامن، الذي لا يمكن بدونه توفير حاجاتهم الفردية الماسة. فحاجات الشخص البيولوجية والاجتماعية والنفسية، من مأكل ومشرب، وأسرة وأبناء، وفرح وعزاء، كلها مرتبطة بمدى التفاعل والتفاهم والتعاون مع الآخر؛ حيث إن الله قد جعل بعض الناس لبعضهم سخريا. ومن هنا نفهم حاجة كل واحد منا إلى الدعم والإسناد في تحققِ قيامه وسيره، مادام حيا. وهي حاجة تخرق الحاجز بين مكمني قوتنا وضعفنا في المجالات الدنيوية.

    و إذا ساد الظن عند الشخص بأنه قادر على الاستقلال والاستغناء، فإن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد رغبة في التخلص من رؤية سلبيات التعامل اليومي مع الغير، عندما تَضمُر فيه روح التعاون والتضامن، ويضعف من خلاله السِلم الاجتماعي، وتطغى عليه روح الأنانية والشر. ولا شك أن الأمر في هذا المستوى النفسي متفهَّم ومفهوم. أما أن نزعم أننا قادرون، بمجرد رغبة طائشة أو نزوة عابرة، على معاكسة فطرة الله وتبديل سنته، فذلك من أنكر الظنون. ويبقى الأصل هو ضرورة المشترك بين الأفراد، كأمرٍ نافع وجميل، رغم التفلت المستمر لأنانية البشر، وتبيِيت بعضهم للشر.

    فمن حقائق الحياة الدنيا: أن يوجد لكل شيء جميلٍ وضروري للمنفعة العامة، أشرارُه الذين يستغلون تلك الضرورة، من أجل تعكير مورده، وتقبيح جماله، وذلك باستغلاله لمجرد المنفعة الخاصة. وهذا، كما يصدق في ميادين الدين والقانون والأسرة والسياسة، وفي الميادين كافة؛ فإنه يصْدُق، كذلك، على العكاز فيما تطرحه ضرورته، من التدافع بين حضوريْ المنفعة والآفة. فحيث توجد الضرورة، تجد الابتزاز واقفا في طابور الانتظار، وقد أدلج ليلاً قبل الإبكار، تماما كما يفعل عند أزمة الغذاء تجارُ الاحتكار، حينما يَغْشَون الأسواق السوداء تحت جنح الظلام.

    7. استمرار وجود العكاز، عبر التاريخ، سببه الحاجة إلى منافعه.

    و صِفَة الضرورة تبينها أيضا الدلالة اللغوية للفظة عكاز؛ إذ العكاز، أو العكازة، عصا يُتَوَكّأُ عليها. فالتوكؤ هو الوظيفة الرئيسية للعكاز.

    غير أن العكاز- ككل ما سخر الله للناس من مأكل ومشرب ومركب ومسكن وأمكنة وأدوات ولباس، وغيرها مما ينفعهم من مستلزماتٍ للاستعمال- أنواع وأشكال. وقد يكون له- بَعد وظيفة الاتكاء والاعتماد والإسناد- وظائف شتى ومآرب أخرى: كالهش والضرب ودلالة الأعمى، أو كزينةٍ لعِلية القوم،كما في بلاد السودان الأدنى. لكن من المعلوم أنه لم يستمر صامدا في عصر تطور التكنولوجيا، إلا بسبب وظيفة الاتكاء عند العجز في المشي والإسناد. حتى أننا نشاهد، اليوم، من العكاكيز أشكالا متطورة، منها ما يُدفع على عجلات، ومنها ما رُكِّبَ بأسفله زُجٌّ مَرِنٌ يتكيف مع طبيعة الأرض ومع وضعيات الخطوات، ومنها ما يطوى بعد الاستعمال، وغير ذلك، مما جَدَّ في صناعته، من تصاميم وتطويرات.

    وهذا يؤكد أن العكاز مرتبط بحالة الضرورة، وأنه سيبقى عَصِياًّ على الانقراض، حظِيّاً بالعناية من حيث التجويد والتطوير؛ وذلك بسبب دافع التوسل به لتجاوز نقص موجود لدينا، أو حاجة تطرأ علينا. ومادام الله قد خلق الإنسان برِجلين لا أربع، وجعل حركةَ تَنَقُّله الطبيعية هي المشي منتصبا؛ فإن هذه الحركة، في غياب أية وسيلة أخرى، تكون هي الأسهل والأسرع.

    وعليه، فإن في العصور التي كان تَنَقُّلُ الناسِ مشياً في الأغلب الأعم، وفي تضاريس أصعب وأوعر، وعبر مسافات أبعد وأطول، كان العكاز رفيقا ضروريا لإسناد الرِجْلين ضد التعب، ولدعم انتصاب الجدع، كلما أرهق عضلاتِه النصَب، ولتجنيب القدم موطئاً لا يناسبها، ولا يقدر على وطئه غير قدمٍ لها خصائص طرفِ عصا من خشب؛ هذا فضلا عن كونه يحفظ التوازن خلال ارتقاء مرتفَع، أو أثناء الانحدار من صَبَب.

    ولقد خلّد الله ذِكر العصا التي يُتوكأ عليها، في كتابه، فجعلها معجزة لرسول من أولي العزم من رسله. كما جعلها الأداة التي بقيت تُسْنِد جسد ملِكٍ عظيم، هو أحد أنبيائه، بعدما قُبضت روحه وهو قائم، لولا أن نخرتها الأرَضة، ليعلم الجن بموته. فالعصا الأولى جعلها الله تدعم صِدقَ رسوله موسى أمام تكذيب فرعون له، والعصا الثانية ظلت تدعم جسد نبي فارقته روحُه، لولا أن أكلتها الأرَضَة. ولعل في هذا إشارة إلى ما يجب أن يتصف به العكاز عندما يكون بشرا.

    8. من وظائف الشخص العكاز في الحياة الخاصة.

    وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكن وصف أو تحديد مجموعة العكاكيز الآدمية عن طريق إحصاء عناصرها الممتدة، لكن من المفيد، في ذلك، استعراض أمثلة في إطار تعريف رياضي، أو تحديدٍ بالفهم. ذلك أننا إذا استثنينا النفْس التي هي العكاز الذي تحمله بين جنبيك، فقد نجد أن للعكاز، بمفهومنا الاجتماعي، وظائف مختلفة وأدوار شتى، يتقمصها أشخاص حينما يُعتمد عليهم في مناحٍ ومستويات، تتراوح ما بين الحياتين الخاصة والعامة.

    أما على مستوى الحياة الخاصة: فقد يكون العكازُ بائعَ خدمة محددة أو مادة معينة، اعتمدْتَ عليه في الحفاظ على انتظام تزوُّدِك بها، وضمانِ توفرِ الجودة فيها؛ فلا يقوم أمرك بدونها، ولا تستغني، في شأنك، عن وصولها. وقد يكون صديقا أو ولدا وَلَّيْتَهُ أمْرَك، واستودعته سرك، وأسندت إليه ظهرك، وعولت على وفائه، إذا تَنكَّر لك دهرُك، وزال عنك جاهك، وذهبَ قدْرك، واضطرب شأنك وأمرُك، وخذلك خريف عمرك؛ وذلك لقضاء مآرب يتطلبها ما استجدّ مِن وضعك، وينصلح بها ما انخرم من شأنك، ويُلَمّ بها ما ظهر من شعثك.

    وقد يكون هذا العكاز زوجا اختاركِ واخترتِه لتعتمدي عليه في صَوْنك وسترك، وبذل نفقتك ومداومة نُصحك، وإحسان عِشرتك والهيام بعشقك، وليُشبع بخبز العاطفة جوعتك. أو قد يكون زوجةً اختارتكَ واخترتَها لتعتمد عليها، طوال حياتك، في إحصان فرجك، وصوْن عِرضك، وحمل وتربية ولدك، ورعاية بيتك والحفاظ على مالك، ومُراحمتك وسترك، وكتمان سِرك، وبذل نصحك، ومراعاة عذرك، والصبر على حالات ضعفك... وغير ذلك من مآرب مشروعة أخرى. بل قد يكون العكاز مجردَ حَمّالٍ بسيط، يترصدك في السوق؛ فيرتمى على قفتك، يعرض مساعدته لك، بتضرع وشوق، ويقسم يمينا على صَوْن محتوى حِمْلِها، وعدم المبالغة في طلب أجرة حَمْلِها.

    9. من وظائف الشخص العكاز المتعارضة في الحياة العامة.

    وأما في حياتك العامة، فبالعكاز قد تُصْرَفُ عنك أو تحيق بك الطامَّةُ.

    ومن هذه الناحية، قد يكون العكاز شخصا مستشارا بمكتبك في ضروريٍّ من المشورة والنصحية، قد اعتمدتَّه في إمدادك بالمعلومة الصحيحة، وتمكينك من التوجيهات السليمة، لكي تبني عليها قرارات، قد يكون لأي خطإ فيها، نتائج وخيمة. وقد يكون موظفا تحت إمْرَتك، أو عوْنا مساعدا لك في التحقق من الوقائع، وفي تمحيص الوثائق وضبط صياغة المقال، وفي حراسة توقيعك من أن يَجْنَح القلمُ فيُمضيَ، عن عماية، على خطإ أو ضلال. وقد يكون العكاز شخصا جاء ينخرط في هيئة أو مؤسسة أنت فاعل فيها؛ فالتزم، معك، بالعمل على احترام نظامها ومبادئها، والتفاني في التعاون على تحقيق مراميها، دون مآرب مخالفةٍ يسعى إليها خفية في الكواليس أو من تحتها، يُبيِّتها ويُخفيها بلزوم ظِلك، والسطو على رصيدك، وعرقلة أو نسف نشاطك؛ لإقصائك وتدبير انقلابٍ ضدك. وقد يكون العكاز شخصا اخترتَه شريكا لك في شركة مالٍ، يُعينك على حسن استثماره، ويدعمك بصادق جهده في صونه وإكثاره، ويشاطرك في تحمل تكاليفه وأخطاره، مثلما يقاسمك نِتاج أرباحه وثماره.

    و عموما، فقد يكون العكاز أي شخص آخر، غير هؤلاء، ممن جمَعك به ما هو مشترك، لا تستغني فيه عنه على الإطلاق، أو ممن أحوجك اللهُ إليهم، وربطك بهم تعاقدٌ مفعوله سارٍ وباق، أو استأمنتهم على مصلحة باتفاق؛ فاعتمدتَ على وفائهم بعقود أمضوها، أو وعود قطعوها لك على أنفسهم، وعوَّلتَ في تحقيق تلك المصلحة عليهم، كما يعوِّل صاحب العكاز على العكاز. فالواحد منهم كالحبْل تحزَّمْتَ به لتطلع من بئر. فإذا مَتُنَ ووَثُقَ، صَعِدْتَ ونجوْتَ، وإذا كان واهِناً، انقطع وسَقَطَّتَ من حيث تصعد، فارتطمْتَ بالقعر، وهلكْتَ بسبب خذلان مَنْ عليه قد عوَّلتَ. فلا أنت من ذاك الجُبِّ خرجْتَ، ولا أنت بقيت في قعره سالما، حيث قد تُدركك سيارةٌ مثل سيارة يوسف، لو انتظرْتَ.

    10. العكاز لا يكون محايدا إلا إذا كان خارج الخدمة.

    إذ أن أفعال العكاز لا تعرف الحياد؛ فهو إما أن يدعمك فيَجْبُرَ عَجْزَك، وإما أن يخذلك فيُفاقِمه، إن لم يُسرِّعْ بموتك؛ لكن المشكلة قد تكون في مدى دقة مَيْزِك وفَرزِك.

    فالعكاز لا يكون محايدا، إلا إذا كان في وضِع خارج الخدمة. أما إذا دخل حيز الاستعمال، وانتقل إلى وضع التفعيل، فليس له إلا أن ينحاز إما إلى مساعدتك على استعادة مَشْيِك بشيء من رشاقة، وإما إلى الغدر بك، فيزيدك، إلى عُرجَتِكَ، هَلَكةً أو شَرَّ إعاقة.

    وكم من عكاز مغشوش فرِحَ به صاحبه، وأقام لفرحته حفلا للعائلة وللأصدقاء، فما لبث أن أسقطه على وجهه سقطة مهلكة قاتلة؛ انكسر منها حوضُه، أو انفشخ بها رأسه، أو دق بها عنقه، فأَسْلمَه إلى نصفِ موتةٍ، أو موتة كاملة، وذلك من حيث كان لا يرجو من الاتكاء عليه سوى إسناد مشيه، بسبب تمزقٍ بسيط في عضلة إحدى رجليه. ولو علم ما في الغيب، ما قرَّبَه منه ولا فكَّر يوماً في الاتكاء عليه. ولكنّ مظاهرَ وأشكال الأشياء ما تنفك- إن لم نتثبت ونتفرس- تجْذبنا وتُغرينا. وكذلك دافع العجَلَة إلى قضاء الإِرْبِ لا يزال، عن تمحيص وسيلته، يذهلنا ويعمينا، خاصة إذا أشبعَتْه يدُ التزوير بالتقليد تَقْييناً وتزييناً، كما شاهدنا، يفعله حينا، باسم الصين، مُقَرصِناً برخص الثمن يٌغرينا؛ فيغدو لنا مصيدةً تجذبنا إليه فَتُرْدينا. ‏

    وكذلك، فمن العكاكيز ما أسندت أجسام أصحابها، ليمشوا قياما، وتحملت عنهم، أثناء تحركهم، حرجا شديدا وآلاما.

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1