Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول
في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول
في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول
Ebook367 pages2 hours

في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

هذا جزءٌ أوّل من كتاب تالٍ، نهجتُ فيه نفس مسلكي في كتاب "لنحذر العكاز"، الصادر قبل حوالي عام. والْتَزمْتُ فيه نفس المسلك ونفسِ الموضوع، من وجه ثانٍ
وأما موضوعه، فهو الإصلاح، الذي هو أساس إعمار هذه الدار، وطريق الفلاح في تلك الدار، والدَّيْدان الذي يُدندن حوله كل عاقلٍ يحفظ داخله فطرةَ الإنسان. وقد ركّزت، فيه، على جانب النفس كطرفٍ رئيس، إما في التواطؤ مع مسلسل الفساد، أو في مدافعته، من خلال ما يمكن أن يبذله الفرد مِن جهد، في معركة إصلاح نفسه، بالقدر اللازم من الوعي والاستبصار. فلا شك أننا جميعا نحب أنفسنا، لكن ذلك الحب سيبقى مصدر السعادة أو الشقاء لنا، باعتبار الطريقة التي ندبره بها، على مستوى مختلف العلاقات التي يمكن أن يتجلى من خلالها، ومدى نجاحنا في حفظ الترتيب والاتزان، على مستوي كل تلك العلاقات، في تناغم بينها، وانسجام بين العقل والوجدان.
وقد تضَمَّن هذا الجزءُ الكلامَ عن طبيعة ووظيفة هذا الحب في أكثر من مستوى وميدان، وما قد يَعرِض له مِن اختلال، وما قد يساعد على تحقيق وحفظ الاتزان، في حب النفس لذاتها، وتفاعله مع حبها للأغيار.
وقد تضَمَّن هذا الجزءُ الكلامَ عن طبيعة ووظيفة هذا الحب في أكثر من مستوى وميدان، وما قد يَعرِض له مِن اختلال، وما قد يساعد على تحقيق وحفظ الاتزان، في حب النفس لذاتها، وتفاعله مع حبها للأغيار. وقد تمَّت فيه وقفات مع حب ربنا المتفرد بالإنعام، وحبِّ رسوله الهادي إلى سبل السلام، وحب الوالدين والوِلدان، وحب الأزواج بين الرجال والنسوان، وحب المتاع والمال، وعن تدبير ذلك الحب بشكل عام. وقد خصصت الجزء الثاني للكلام عن موضوع حب الرئاسة، خاصة في مجال التصدر لتدبير الشأن العام.

Languageالعربية
Release dateDec 1, 2022
ISBN9781005164782
في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول
Author

ابراهيم أعبيدي

مدون مغربي. من مواليد سنة 1956. عمل سابقا في مجال التدريس و التكوين. و مارس العمل الجمعوي..كما اشتغل في العمل السياسي،و كان عضوا بالبرلمان المغربي لولايتين تشريعيتين.

Read more from ابراهيم أعبيدي

Related to في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول

Reviews for في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    في تدبير حبنا للنفس. الجزء الأول - ابراهيم أعبيدي

    90.نفوسنا بين طريقين في حبنا للمال.

    91.حول سؤال: أين نحن من الطريق الأول في حب المال؟.

    92.تجاوز حد الطمع إلى الجشع، في التعامل مع المال.

    93.وقد يزورك الجشع والشح في لباس من الدِّين.

    94.مثالٌ مِن الطريق الثاني في التعامل مع حبنا للمال.

    95.عودة إلى مفهوم الكرامة في علاقته بالبركة والصلاح.

    96.رحلة قصيرة في الصلة بين كرامة المرابط ولفظة أكُرّام.

    97. المرابطون على باب المال العام، يدفعون خطر الانهيار

    98.تذكار عن تعامل بعض متواضعي الحال مع المال.

    99.ولي مع جَدّي، والد الوالد، تذكارٌ ثان.

    100.‏‏ومن أبي محمد الدوان مماثلة، هي معادلة طرَفاها ضِدان.

    101. وجه المعادلة بين الشح والشعور بالافتقار

    102.‏وجهٌ ثانٍ للمعادلة بين الجود، والزهد والشعور بالاغتناء

    103.ما للغةِ المستعملةِ مِن آثار، في تزكية النفس بالمال.

    104.رصدُ التحول على مستوى لغتيْ الشكرِ والشكوى

    105.ومِن شر حبنا للمال، حربُ الإرث على الأرحام.

    106.مِن قصص الحرب على الأرحام، بسبب جشع المال

    107.القصة الثانية في الحرب على الأرحام، بسبب جشع المال

    108.القصة الثالثة في الحرب على الأرحام، بسبب جشع المال.

    109.القصة الرابعة في الحرب على الأرحام، بسبب جشع المال.

    110. في ختام الكلام عن حب المال.

    هوامش.

    ~~~~***~~~~

    بسم الله الرحمن الرحيم

    تقديـــــــــــم

    الحمد لله المنان، صاحب الفضل على الدوام. والصلاة والسلام، على حبيبنا محمد شفيعنا في تلك الدار، وعلى آله الطيبين الأطهار، وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان.

    وبعد، فهذا جزءٌ أوّل من كتاب تالٍ، نهجتُ فيه نفس مسلكي في كتاب لنحذر العكاز، الصادر قبل حوالي عام. والْتَزمْتُ فيه نفس المسلك ونفسِ الموضوع، من وجه ثانٍ. فهو عبارة عن تجميع لسلسلة من التدوينات القِصار، اخترت لها في تدبير حبنا للنفس كعنوان، بدأت نشرها بانتظام، على صفحة حسابي بالفيس بوك، خلال حوالي ثمانية أشهر وسبعة أيام. وذلك، ابتداء من اليوم الثامن والعشرين من شهر دجنبر من السنة الميلادية الحادية والعشرين بعد الألفين، إلى غاية اليوم الرابع من شهر شتنبر من السنة الثانية والعشرين بعد الألفين، حيث أنهيت هذا الجزء في اليوم الرابع والعشرين من شهر أبريل، من نفس العام. وبدأت نشر فقرات الجزء الثاني، باليوم الموالي، في نفس الشهر، من ذات العام.

    فأما من جهة المسلك، فأقصد التزامَ ما يقتضيه شكل وحجم نص التدوين، الذي يستهدف عموم القراء عبر وسائل الاتصال في هذا الزمان، مِن تجُّنبِ تسويدِ الصفحات الطوال، مع الحرص على جلب الاهتمام، بما يسَّر الله مِن تجميل العبارة ومحاولة حسن ضرب المثَل وانتقاء المثال، وتنويع المعلومة قدر الإمكان، قصد تنشيط القارئ وتجنيبه الإملال. ولا أزعم أني وُفِّقْتُ في التحقق بالتزام المسلك المرام، في نسجي للكلام بالتأسي والاقتباس من لغة للقرآن، والمزاوجة بين أسلوب المقامات، وإيقاع موسيقى الشعر في الآذان، وما في صوَره مِن جمال، وضبطِ حركة التنقل بين التقرير والحَكْيِ والحوار، وحفظِ هيبة الأصيل من فصيح اللسان، مع دمجِ بعضِ ما هو دارجٌ محليا، دون إسفاف أو إخلال، ولا فيما أتطلع إليه من تحقيق التوازن بين مقتضيات العقل والبرهان، ومتطلبات العاطفة والوجدان، في تحفيز الفكر لتمحيص الأفكار، واستيعابها عمليا في الميدان، وإيقاظ إرادة التحقق بالمسؤولية والالتزام. وحسبي، أني حاولت تحضيرَ وجبةٍ، أرجو أن يجد فيها القارئ باقةً من الأفكار، قابلة للتمثل والانهضام، مخللة ببهارٍ من اللسان.

    هذا، ورغم حرصي، فيها، على الالتزام بالاعتدال، ومدافعة وباء الولع بنهج التحامل ضد الأغيار، الذي يسُرُّ الغوغاءَ، والمتعالمين الجُهّال، والترفع عن الدِّهان، في توجيه النقد إلى ما ظهر لي من اختلال، ولو في سلوك المقربين والخلان؛ فإني، إنْ زلّتْ بي، عن هذا النهج، الأقدامُ، وطاشت بين أناملي في استعمال الأزرار، أستغفر ربي إنه هو الغفار، وأتقدم، سلفاً إلى القراء الكرام، بصريح الاعتراف وجميل الاعتذار.

    وأما موضوعه، فهو الإصلاح، الذي هو أساس إعمار هذه الدار، وطريق الفلاح في تلك الدار، والدَّيْدان الذي يُدندن حوله كل عاقلٍ يحفظ داخله فطرةَ الإنسان. وقد ركّزت، فيه، على جانب النفس كطرفٍ رئيس، إما في التواطؤ مع مسلسل الفساد، أو في مدافعته، من خلال ما يمكن أن يبذله الفرد مِن جهد، في معركة إصلاح نفسه، بالقدر اللازم من الوعي والاستبصار. فلا شك أننا جميعا نحب أنفسنا، لكن ذلك الحب سيبقى مصدر السعادة أو الشقاء لنا، باعتبار الطريقة التي ندبره بها، على مستوى مختلف العلاقات التي يمكن أن يتجلى من خلالها، ومدى نجاحنا في حفظ الترتيب والاتزان، على مستوي كل تلك العلاقات، في تناغم بينها، وانسجام بين العقل والوجدان.

    وقد تضَمَّن هذا الجزءُ الكلامَ عن طبيعة ووظيفة هذا الحب في أكثر من مستوى وميدان، وما قد يَعرِض له مِن اختلال، وما قد يساعد على تحقيق وحفظ الاتزان، في حب النفس لذاتها، وتفاعله مع حبها للأغيار. وقد تمَّت فيه وقفات مع حب ربنا المتفرد بالإنعام، وحبِّ رسوله الهادي إلى سبل السلام، وحب الوالدين والوِلدان، وحب الأزواج بين الرجال والنسوان، وحب المتاع والمال، وعن تدبير ذلك الحب بشكل عام. وقد خصصت الجزء الثاني للكلام عن موضوع حب الرئاسة، خاصة في مجال التصدر لتدبير الشأن العام.

    وإني إذ آمل أن يكون لبنةَ إسهامٍ فيما ينشده علْمُ الإصلاح مِن تجديد في الأفكار؛ فإني لا أدَّعي سبقا ولا فضلا في هذا الشأن، وإنما أطمع أن يكتبني ربي مع أهله، حتى وإن لم أكن أهلا لٍذاك المقام، وأن يصحح فيه ما قد يكون داخَلَ النيةَ، مِن حبِّ السمعة في هذه الدار، وأن يسدد فيه القول، ويبارك فيما تضَمَّنه من كلام، وأن ينفع به في إصلاح الحال.

    ابراهيم أعبيدي. أكادير، في: 05 شتنبر 2022

    ~~~~***~~~~

    1. ‏بيْنَ يدَيْ التدوين.

    ‏بينما أنا فيما يشبه رؤيا في منام، وبعدما يربو على نصف عام، من معاناة عارضِ امتحان، أصاب معه دواة كتابتي بالجفاف والهجران، إذ لقيتُ صاحبَنا أبا محمد الدوّان، وقد كنت افتقدته طيلة مدة هذا الزمان. حينها خطر لي ما سمعت عن طول الانتظار من طرف كثير من المتشوقين من المتتبعين الإخوان، فرجوته لو تفضل فأفادني بفضل مقالٍ، فنظر إلي بعينين لامعتين نظرة العاذل اللوام، وقال: أو لا تعلم أيها الغِر، المغرور بإعجاب بعض الأنام، ممن يتابعون ما كنت تدبجه مِن مرصَّع الكلام، أن مظنة تحقق نجاة العبد، فيما ينتظرنا من مآل، إنما هو فيما يتقبله الله منه من صالح الأعمال؟!

    ‏ لقد كانت تلك النظرة، من أبي محمد الدوان، تحمل، من صرامة النصح، ما تضيق عن حِمله العبارة من إحالات ومعان. بل إنها لَأقسى، في إيلامها، من قسوة اصطدام قُلَّة رأس شخص طويل القامة، لم يضبط انحناءته، بعتبة باب مَدخلٍ قصير، في الظلام! نعم، ما مِن أحدٍ ينكر أن القسوة كلها جدُّ مؤذية، بل إنها بالغة الأضرار، لكنها أحيانا تكون ضروريةً، كثيرةَ النفع لغافلٍ تائهٍ في أزقة دنيا طولِ الأمل وأحلام الخيال! وصحيحٌ أنها غالبا ما تُذْهِل الحليمَ اليقظان، فتجعل صدره ضيقا، ويغدو عقله في حكم عقل السكران، وما هو بسكران. لكنها أحيانا قد تكون رحمةً للشارد الذي أثملته الحلاوة المؤقتة للحياة، وكاد قلبه أن يموت بالرّان.

    ‏تحاملتُ على نفسي، لأتجاهل صوتا كاد أن يُغرِق مِنّي الكيانَ، أظنه يشبه الطنين الذي نشعر به عادة في باطن الآذان. ولملمتُ فلولَ ذاتي، فوجدتني معها، وكأننا اثنان. بل أصبحنا في وضعية مواجهةٍ كأننا خصمان. نعم، إنه لأمر مدهش، بل لا تكاد تصدقه منا العينان، أن يرى المرءُ نفسَه، في مرآة، بصورة مختلفة عن صورة جسمه الذي تحمله منه الرجلان! صورة هي منه، وهو منها، تحبه ويحبها، لكنْ ما بينهما شتان! ذهلتُ وانفعلت، ثم هدأت وتفكرتُ، ولما أدركتُ أثر تلك القسوة في تنبيه قلب المُغرم بذاته الولهان، قلت، وبكل تقدير واحترام، وبالغ تشكُّرٍ وامتنان: يرحم الله أبا محمد الدوّان! فقد يكون سببا في أن تتفتحَ منا العينان.

    2. معضلة حبنا للنفس، حين لا ترحمنا.

    وقائلةٍ، وكأنما أحست مني، عن المسارعة في هواها، التقاعسَ والوَنى: ألستَ يا صاحبي أنت هو أنا؟! طأطأتُ رأسي، ثم حركتُه إيجابا، وقلت: بلى!. قالت: فمالي أرى منك ترددا وتمَنُّعا عن التزامي يا فتى؟ ما بالك لا تطاوعنى أحيانا في الهوى؟. أجبتها، وبالقلب حَرجٌ قديم من الجَوى قد ثَوى: إن كنتُ ترددت أو تمنعتُ، كما تقولين فيما سُقتِ من دعوى، فما ذلك إلا لكوني أُحبك، لكن بطريقة أخرى. إنه حب أريده منزوعَ الهوى، تماما كتمر أجوَد، محشوٍّ بالجوز واللوز، منزوعِ النوى.

    ‏صاحت، بل شقّتْ صدرها وولولتْ، وشعرَها نتفتْ، وخدَّيها خمشت، وبمبَطَّن التهديد لوّحتْ، كامرأة سليطة كانت تترقب فرصة سانحة، لكي تقيم، بالباطل، ضد رجل لطيف، شرَّ دعوى، طمعا في أن تجعله رهن أمرها، خَنوعا مِطواعا أعمى: لعل واهماً قد أوهمك، أنْ قد شب عن الطوق عُنقُك، وفيك التهور قد استقوى، فلأجعلنّك تعلم أيُّنا أشد عذابا وأنْكىى! .

    ‏ لا تعجبوا! فما هذه، التي أحكي لكم عنها، إلا نفسي! نعم، إنها نفسي، يا سادة! نفسي التي بين جنبي، وتحتل من قلبي السويداء. نفسي التي ما انفكت تضغط علي، ولا أستطيع مفارقتها، كي أجد عنها في الدنيا مفرا أو ملجأ. نفسي التي تعز علي، وهي عندي أشهى وأحلى، وأود لو أني أُنفق كل ما أملك، لكي أشتري لها نعيما مُخَلّدا، وأضمن لها من العذاب الأليم مَنْجى. نفسي التي أحبها ولا أحتمل أن أخسرها دنيا وأخرى، فأظل أشدَّ حرصا على سلامتها وأرجى، وهي تظل تتفلت من يدي، ولا تبالي أن تخسرني، مثل زوجة مدللة حمقاء. فما أقساها علي من حبيبة! بل هي أشد وأقسى. إنها تأبى أن ترحمني عندما أُسلم الروح وأُصبح جسدا هامدا مُسَجّى.

    ‏ رباه، ما أقساها من معركة، حين يكون العدو فيها هو أغلى ما نملك مما هو ثمين ونفيس، فنحاربه، فقط، لأننا نحبه ونخاف عليه من الخسارة والتفليس! إنها أقسى، على القلب، من عذاب معركة نخوضها مع فلذة من فلذات أكبادنا، انحرف وافتتن بِشَرِّ رفيق، أو اختطفه منا أخبث جليس، ونحن نحاول جاهدين استرداده، بانتشاله من قبضة إبليس.

    3. الوظيفة الفطرية لحب الذات.

    بما أن كل ما أودع الله في الكون بعظيم قدرته، إلا وهو مشمول ببالغ حكمته. فإن حبنا لذواتنا، لا يخرج عن ذلك في أصله، كما في وظيفته. فمن المعلوم أنه لولا حبنا لأنفسنا، في هذه الحياة، لما كان خوفنا عليها من شر طوارئ الهلاك وهجمته، ولا نحن تحركنا لتجنيبها عاقبته ومغبته. فما حُب الحياة إلا حُب للذات، وقد تجلى في غايته.

    ‏ومن هذه الزاوية، ولهذا الاعتبار، فإن حبنا لذواتنا، ليس عيبا أو نقيصة أو سُبّة، في حد ذاته، بل هو ضروري لحفظ وجودها، في إطار الحكم الكوني لربنا، ووفق سنته. وهكذا زودنا، سبحانه، بالحواس، وألهمنا الإحساس بأي خطر يتهدد ذواتنا، وإدراك مدى خطورته. وبالإضافة إلى ما أودع فينا من استعداد لردود الأفعال اللاإرادية لتجنبه عند مفاجأته، مكننا، كذلك، من القدرة على التفكير، لترتيب أسباب تجنب هلاك الذات وتحييد مداهمته. فتجد الواحد منا يحس بخطر الجوع ويتحرك لسد جوعته، بعد أن يدرك الطريق إلى تلبية حاجته، تماما كما يدرك حاجته إلى الأمن، وحاجته إلى استرجاع توازن نفسيته، وتحقيق الاندماج الآمن في جماعته. كل ذلك لكي تستمر ذاته في الوجود- ما بقيت- سالمةً، طوال حياته.

    ‏وكما أن ما شرع الله جاء لدعم وتأكيد الفطرة التي فطر الناس عليها، فقد دعم، في حُكمه الشرعي، هذه الوظيفة الفطرية لحفظ الذات وصونِها. وذلك بالدعوة إلى التزام أسباب سلامتها وتجنب أسباب هلاكها. حيث نبهنا إلى أن لأنفسنا علينا حقا. وحذّرنا من ركوب البحر، حالَ هيجانه، ودعانا إلى اتقاء الوباء، وإلى التداوي من الداء، وعدم الإسراف في الأكل، وإلى الحمية. وجنبنا العمل بما لا نطيق من المشقة، كما شرع لنا صلاة الخوف. وأمرنا أن نتجنب أسبابَ الهَلَكَة، ونهانا عن أن نُلقي بأيدينا إلى التهلكة. وحرم علينا أن نتردى أو ننتحر، أو أن نقتل أنفسنا، مهما كان الدافع أو العلة. وجعلَ حِفظَ النفس ضرورةً، ضمن مقاصد ما شرع لنا من شِرعة.

    4. آفة تدبير حب النفس.

    إن الوظيفة الفطرية لحب النفس، عند البشر، ليست نظاما ثابتا لا يتبدل ولا يختل، بل قد يعتريه الانحراف فيزيغ أو يبطُل.

    ‏فمن ناحيةٍ، قد يجرف نفوسهم الهوى، فتعربد فيها الأنانيةُ تجاه الغير، حتى لَيكاد رأس التأله، من داخلها، أن يُطِل، فيجعل من الواحد منهم شبيها أو نظيرا لفرعون. وبما أن الميل إلى العبادة مركوز في الإنسان بالفطرة، فقد ينحرف، ويتجاوز حبُّه لنفسه حدود الثقة فيها ومعقول الغيرة، فيعبد ذاته، ويتخذ هواه إلها، فهو، من خمرة هواها، في سكرة، يجري ويلهث وراءه، كالكلب، لا تعتريه حالة فتور أو فترة. أنانيّ المذهب، لا يعرف لرغباته حدودا، ولا يعترف للغير بحق ولا حرمة.

    ‏كما أنهم، من ناحية أخرى، قد يصابون بداء كراهية وتحقير الذات، بل بحب جَلْدها وتدميرها، إلى درجة الانزواء والانتحار، فتضمر تلك الوظيفة الحيوية لحب النفس وتضمحل. حتى أن أقواما ظنوا أن النجاة في الدنيا هي في تدمير الذات، ومحاصرتها بالإذلال والاحتقار. وأن سعادتها في الآخرة، إنما يكون بقدرِ تعذيبها وتحقيرها في هذه الدار.

    ‏صحيح، أننا، قد نكون في كِلْتي الحالتين، من المنظور السيكولوجي، أمام مرضين، مرض التلذذ بتعذيب الذات، ومرض الانتشاء بتعذيب الغير. حيث نجد أنفسنا، أمام شخص مضطرب ومُختل، يستدعي العلاج، من الخارج، بالتدخل. لكن قصدنا، هنا، هو ما نتحمل فيه المسؤولية، في مواجهة ما يتهددنا من انحراف حب الذات، عن التوسط والاتزان والرشد.

    وتلك آفةٌ في تدبير حبنا لأنفسنا، كانت ولا زالت، وستظل، لأنها من مقتضيات سنة الله في ابتلاء الإنسان، الذي استخلفه، وكلفه، في نفسه، بتحقيق التوسط والاتزان والعدل.

    5. الطريق إلى تحقيق التوازن في حب الذات.

    ‏‏نعم، إن تحقيق الاتزان والتوسط، في حبنا لأنفسنا، قد يكون كثير منه، في أمور الدنيا، بمجرد الاهتداء بالعقل. فبالعقل، ندرك سوءَ العواقب؛ فنتجنب الأفعال والعوائد التي قد تضر، حتى من تلك التي بيّنَ حكمَها الشرعُ، كالقمار والسفاح والخمر. إذ قد يصل الإنسان بالعقل إلى الاتزان، في حب نفسه، وحفظها من ظاهر وخفيّ الشر. وذلك في كثير من شؤون نفسه، حتى لو لم يدرك منه الكُل. غير أن العقل لا يدرك الغيب. وهو، عند الناس عموما، مُعرَّضٌ، في أحكامه، للتأثر بالميل وردود الفعل.

    ‏ لذلك كان لابد من سبيل الإيمان ودليل الوحي ووازع الشرع، لضبط إدراك حد الاعتدال في حب النفس، والالتزام بالسعي إلى تحقيق حفظها دوما. ذلك أنها، ما دامت تتشوف إلى حياة الخلود بالفطرة، فإنّ وظيفة حفظها، تتجاوز حفظ وجودها في هذه الحياة الدنيا، إلى حفظ وجودها، بعد الموت، في الحياة الأخرى. وذلك بما للوجود الشامل من معنى. وهذا أمر، منه ما يدركه العقل من الشهادة، ومنه ما هو غيبٌ، وهو موضوع الإيمان والتقوى. فبدون الإيمان الصحيح بربنا، وبوجود الحياة الأخرى، ثم معرفة الطريق الموصل إلى السعادة فيها كدارٍ للبقاء؛ لا يمكن أن نحقق أو نقارب،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1