Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

بين مملكتين مذكرات حياة توقفت
بين مملكتين مذكرات حياة توقفت
بين مملكتين مذكرات حياة توقفت
Ebook728 pages5 hours

بين مملكتين مذكرات حياة توقفت

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

بين مملكتين مذكرات حياة توقفت سليكة جواد مذكرات مؤلمة ومؤثرة للغاية تكتب سليكة عن تجربتها مع سرطان الدم والتحديات التي واجهتها أثناء العلاج. تستكشف أيضًا الطرق التي غيّر بها المرض علاقاتها وهويتها وشعورها بذاتها. تتأمل في الدروس التي تعلمتها حول التكيف والأمل شُفيت سليكة حسب بيان الأطباء. ولكن سرعان ما علمت أن العلاج لا ينتهي بالتعافي من المرض؛ بل يبدأ من هنا. الآن يجب عليها ان تعرف كيف تعيش فكيف ستعود إلى الحياة وتعيش من جديد؟ وكيف لها أن تستعيد ما فقدته؟ بدأت سليكة في رحلة على الطريق في مائة يوم، قطعت فيها آلاف الكيلومترات وقابلت بعض الغرباء الذين راسلوها خلال السنوات التي قضتها في المستشفى: فتاة شابة في فلوريدا تتعافى أيضاً من السرطان؛ معلمة في كاليفورنيا فُجعت بموت ولدها؛ سجين محكوم عليه بالإعدام في تكساس قضى سنين عمره محبوساً في غرفة. وما تعلمته في هذه الرحلة أن الحاجز بين الصحة والمرض حاجز مسامي، ينتقل منه أغلب الناس جيئة وذهاباً بين هاتين المملكتين. بين مملكتين تسجيل دقيق للحياة مجدداً، واكتشاف ملهم يواجه الخطوب ويحرك الأحاسيس لمعنى أن تبدأ من جديد. من الكتب الأكثر مبيعاً في نيويورك تايمز • مذكرات لها أثر عميق تحكي عن المرض والشفاء، تسبر أغوار رحلة لامرأة شابة بدءً من التشخيص بالمرض وحتى انقضاء المرض لتستعيد حياتها ’’الطبيعية‘‘ – من مؤلف عمود ’’حياة، توقفت‘‘ في نيويورك تايمز من أفضل الكتب المنشورة في هذه السنة حسب كل من : واشنطن بوست، بلومبيرغ، مجلة رامبوس، شي ريدز، لايبراري جورنال، مراجعة كتاب نيويورك تايمز، بوكليست • ’’عشت مع رحلة سليكة بأكملها وسأتبعها في كل مكان تذهب إليه . . . فكتاباتها تعيد الروح إلى الحياة وتنير الطريق كي نتعلم أن نتحمل ما لم نعلم عنه شيئاً‘‘. شانيل ميلر، مراجعة كتاب نيويورك تايمز ’’صياغة بديعة . . . تترك أثراً . . . وقراءة تغير شيئاً داخلنا . . . إن رؤية سليكة جواد عن النفس والترابط والشك والزمن تخاطبنا جميعاً‘‘. – واشنطن بوست

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateMay 9, 2024
بين مملكتين مذكرات حياة توقفت

Related to بين مملكتين مذكرات حياة توقفت

Related ebooks

Reviews for بين مملكتين مذكرات حياة توقفت

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    بين مملكتين مذكرات حياة توقفت - سليكة جواد

    إهداء

    إلى ميليسا كارول وماكس ريفيتو - مداد كل ما كُتِب هنا

    وإلى هؤلاء الذين كُتبتْ آجالهم في مقتبل أعمارهم

    الحياة لا تتوقف، حتى يأتي الموت

    __ ميغل دي ثربانتس

    حاشية الكاتبة

    اعتمدتُ في تأليف هذا الكتاب على مذكراتي وسجلاتي الطبية ومقابلات أجريتها مع كثيرين ممن ظهروا في هذه القصة، وكانت ذاكرتي مُعِينة لي في ذلك. كما جئتُ ببعض المقتطفات من خطابات، قصدت بعض التعديل فيها للإيجاز.

    وتعمدت استخدام اسم مستعار لبعض الأشخاص، فعدّلتُ تفاصيل هويتهم وغيرتُ الأسماء الآتية، المدرجة بالترتيب الأبجدي: إستيل، جوني، جيك، دينيس، شون، كارين، ويل.

    القسم الأول

    1

    الحِكّة

    بدأتْ الحكاية برغبة مُلِحة في الحِكّة، فالرغبة ليست مجازية كالسفر حول العالم أو مثل أزمة مقتبل العمر، بل هي رغبة حقيقية في حك الجلد، حكة تثير الغضب وتفقد المرء عقله، فتتمنى لو أن لك أنياباً تخترق جلدك، حكة تبقيك يقظاً طول الليل. ظهرت تلك الحكة في السنة الأخيرة من الجامعة، وُجِدت في البداية أعلى القدم ثم غدت تنتشر في باطن الساق فالفخذ. حاولتُ في البداية مقاومة الاحتكاك، غير أن الأمر كان قد بلغ من القساوة ما بلغ، إذ بدأ في التوغل على سطح الجلد كلدغات آلاف البعوض التي لا تُرى. وبغير إدراك مني بدأتْ يدي تعرف طريقها نحو ساقاي، وتخدش أظافري الجينزَ الذي ألبسه أملاً في الارتياح قبل أن تختبئ تحت أطراف الخِياط لتتوغل مباشرة إلى اللَحم. كنتُ أحك جلدي في وقت عملي (الدوام الجزئي) في معمل أفلام بالحرم الجامعي، وكنتُ أحك جلدي من تحت مقعدي الخشبي الكبير في المكتبة، وكذلك حين كنتُ أرقص مع أصدقائي في حجرة مشروبات البيرة بالطابق السفلي، وأثناء نومي. وسرعان ما تشوهت ساقي بتشققات تقطر دماً، وقشور سميكة وندبات ظهرت مؤخراً كما لو أن أشواك الورد قد وخزتها. وكل ذلك يُنذِر بصراع دموي يتأجج داخلي.

    قال لي أحد الصينيين المعالجين بالأعشاب قبل أن يرسل لي بعض المُكمِلات ذات الرائحة السيئة وأعشاب الشاي المر: ’’قد تكون طفيليات حُملتْ معكِ في أثناء الدراسة بالخارج‘‘. ورأت ممرضة في المركز الصحي بالجامعة أنها إكزيما ووصفتَ لها دهاناً. وممارس عام اعتقد أن الحكة مرتبطة بضغط نفسي وأعطاني عينات من أدوية مضادة للقلق. ولكن لا يبدو أن أحداً منهم قد عرف السبب يقيناً، لذا قررتُ ألا أخوض في الأمر أكثر من ذلك أملاً في أن يتضح من تلقاء نفسه.

    كنتُ أفتح كل صباح باب غرفتي في السكن بترقب، وأتفحص الصالة قبل أن أقفز داخل منشفتي إلى الحمام المشترك خشية أن يرى أحدٌ أطرافي. وبينما كنت أغسل جلدي بخرقة مبللة، شاهدت الخطوط القرمزية تسبح في مصرف الاستحمام. بعد ذلك دهنتُ جسمي بمستحضر ’’بندق الساحرة‘‘، وسددت أنفي وأنا أشرب توليفة الشاي المر. ولما صار الجو أكثر دفئاً لا يتحمل الجسم فيه ارتداء الجينز كل يوم، اكتسيتُ بمجموعة من الجوارب السوداء غير الشفافة. كما أنني اشتريتُ فُرُشاً قاتمة اللون لإخفاء البقع التي تشبه الصدأ، ناهيك عن أني كنتُ أجعل الأضواء خافتة حين أكون في تلاحم حميمي ووصال عشقي.

    ومع الحكة أصابتني الغفوات، تلك التي استمرت لساعتين ثم أربع ساعات ثم ست ساعات، لم يكن جسمي يكتفي بهذا القدر من النوم. فبدأ الدوار يلاحقني في تدريبات الأوركسترا ومقابلات العمل، ومواعيد التسليم وأثناء تناول وجبة العشاء، والواقع أن الاستيقاظ كان يستنزف طاقتي. وبينما كنا نسير إلى قاعة الدراسة ذات يوم قلتُ لأصدقائي ’’لم أواجه مثل هذا التعب طيلة حياتي‘‘، فتعاطفوا معي قائلين ’’وأنا أيضاً، وأنا أيضاً‘‘. كان الجميع يشعر بالتعب، إذ لم نشهد في حياتنا شروق الشمس أكثر مما شهدناه في الفصل الدراسي الأخير، ذلك أنا كنا ندخل المكتبة لساعات طويلة لإنهاء أُطروحة التخرج ثم نتبعها بحفلات صاخبة تستمر حتى طلوع الفجر. عشتُ في قلب حرم جامعة برنستون في الطابق العلوي لمبنى سكني على الطراز القوطي، تعلوه الأبراج والتماثيل ذات الوجوه المتجهمة. وفي وقت متأخر من إحدى الليالي الأخيرة في الجامعة، تجمعت صديقاتي في غرفتي لتناول المشروب الأخير لنا، كانت لغرفتي نوافذ كنوافذ الكاتدرائيات، وكنا نحب أن نجلس على حافة النافذة متدلية أرجلنا، نشاهد المتسكعين السكارى يتعثرون في السير إلى منازلهم وأشعة الشمس الكهرمانية تغمر بنورها الوليد الفناء المرصوف بالحجارة. كان قد اقترب موعد تخرجنا، فأردنا أن نستمتع بالأسابيع الأخيرة معاً قبل أن نفترق، حتى لو كان ذلك على حساب صحة أبداننا.

    غير أني كنتُ أخشى أن يكون هذا الإعياء من نوع مختلف.

    مكثتُ وحيدة في فراشي بعد أن رحل جميعهن، أحسست بوليمة تُقام تحت جلدي، كأن شيئاً يشق طريقه نحو الشرايين، وكاد أن يذهب عقلي بسببه. وعندما تنفد طاقتي وتزداد الحكة، تحدثني نفسي بأن السبب هو أن الطفيليات تزداد شهيتها. والحق، فقد ألحّ عليّ الشك في وجود تلك الطفيليات. وبدأت أتساءل ماذا لو أن المشكلة الحقيقية تكمن داخلي أنا.

    *      *      *

    وفي الأشهر التي تلت هذا الحدث، شعرتُ بأني تائهة وغارقة في الحيرة والشكوك، أتعلق بأي شيء يطمئنني. وتحكمتُ في نفسي فترة من الزمن. ومهما يكن من أمر فقد تخرجتُ في الجامعة وانضممت إلى زميلاتي في الانتقال إلى نيويورك. ووجدتُ إعلاناً على شبكة كريجزليست لغرفة نوم خالية في طابق علوي فسيح تقع أعلى محل مستلزمات فنية في شارع القنال. كان ذلك في صيف 2010 عندما ضربتْ المدينةَ موجة حر شديدة فامتصت الأكسجين، خرجتُ من المترو فهاجمتني رائحة القمامة النتنةـ ورأيتُ المسافرين وأفواج السياح المتسابقين لشراء الحقائب المزخرفة يتزاحمون على الأرصفة. كانت الشقة في ممر بالطابق الثالث، وبعد وصولي وضعتُ حقيبتي عند باب الشقة، وكانت ملابسي البيضاء العلوية قد استحالت إلى رداء شفاف بسب العرق الشديد. عرّفتُ نفسي لرفيقاتي الجدد بالغرفة؛ كان يوجد تسعة منهن، وكانت جميعهن قد ناهزن العشرين ويغلب عليهن الطموح أو عداه: ثلاث ممثلات، وعارضتا أزياء، وطاهية، ومصممة حُلي، وطالبة جامعية، والأخيرة تعمل محللاً مالياً. تدفع كل منا ثمانمائة دولار شهرياً مقابل كهف بلا فتحات تهوية يفصل بينهم جدار رقيق أقامه صاحب العقار لتوفير نفقاته.

    سجلتُ في منحة صيفية في مركز الحقوق الدستورية، وعندما حضرتُ في أول يوم، شعرت بالرهبة لكوني في غرفة يجتمع فيها أكثر الحقوقيين جرأة في البلد والمهتمين بشأن الحريات المدنية. كان العمل جدّ مهم، غير أن المنحة غير مدفوعة التكلفة، والعيش في نيويورك باهظ النفقة. وسرعان ما انفلتت من يدي ألفا دولار كنت قد ادخرتها خلال العام الدراسي وحتى مع عملي في المطاعم وجليسة أطفال في المساء، فكنتُ بالكاد أدبر أمري.

    أتخيل الآن مستقبلي – مستقبل مديد لكنه خاوٍ- يأتيه الخوف من كل جانب. فكانت اللحظات التي سمحتُ لنفسي أن أحلم فيها بالمستقبل، لحظات تهنأ لها نفسي. فتوقعاتي عما أصير عليه وأين سترسو سفني منحتني إحساس لا يضاهيه إحساس، وكأني لفافة شريط تتدحرج إلى ما أبعد أن تصل إليه عيني، أو يخطر على قلبي. فرأيتُ في أحلام يقظتي أني مراسلة أجنبية في شمال أفريقيا حيث موطن أبي الأصلي، ونشأتْ طفولتي. لعبتَ الأحلام بعقلي وراودتني فكرة كلية الحقوق التي أراها طريقاً للحكمة، والحق أني كنتُ بحاجة للمال. فلم أقدر إلا على الالتحاق بإحدى كليات رابطة اللبلاب¹ لأنني حصلتُ على منحة كاملة. غير أني في الواقع لم يكن لدي عناصر الأمان نفسها – حساب ادخار أو أقارب أو وظائف في وول ستريت برواتب من ستة أرقام- مثل كثير من زملاء الدراسة.

    كان القلق بشأن مستقبل غامض أسهل من مواجهة تحول آخر أكثر إثارة للقلق. ففي أثناء الفصل الدراسي الأخير، تجرعتُ مشروبات الكافيين حتى أواجه الألم والإعياء. وعندما يتوقف مفعول هذه المشروبات أعطاني شاب، كنا نتواعد لفترة قصيرة، بعض حبوب أديرال² حتى أُنقِذ ما تبقى من الفصل الأخير في السنة الدراسية. ولكن هذا أيضاً توقف مفعوله. كان الكوكايين عنصراً أساسياً في حفلات دائرة الأصدقاء، وكان يوجد بعض الشباب المتسكعين يعرضون الكوكايين مجاناً هنا وهناك. ولما بدأتُ المشاركة لم يندهش أحد لفعلي، فبعض رفيقاتي في الغرفة في شقة شارع القنال قد اتجهن إلى الحفلات الصاخبة رقصاً وثمالة. وبدأتُ أنا أتناول المنشطات تماماً كما يزيد بعض الناس من تركيز جرعة قهوة الاسبريسو– وسيلة أنهي بها آلامي، وطريقة أتوسل بها كي أتجنب التعب والإنهاك. فكتبت في دفتر مذكراتي: اصمدي.

    في آخر أيام الصيف كنت بالكاد أعرف نفسي. فصوت المنبه المكتوم يقتلني بسكين غير مشحوذ ليوقظني من نوم خال من الأحلام، وفي كل صباح يلفظني السرير متعثرة فأقف أمام مرآة بطول الأرض أُحصي ما تضرر في جسدي؛ خدوش وآثار تجمد الدم تغطي أماكن جديدة في قدمي. وشعري يتدلى إلى خصري على نحو معقد وتالف حتى أنني لا أستطيع تمشيطه. وهالات سوداء تحولت إلى أهلةٍ مظلمة تحت عينين تحتقنان بالدماء. كما أنني كنتُ أحترق تحت أشعة الشمس، وبدأت أحضر التدريب؛ ثم توقفت عن الحضور تماماً.

    لقد كرهت الحالة التي أصبحت عليها –كرهت تلك الفتاة التي تسقط باندفاع كل يوم ويتكرر ذلك باستمرار من غير وعي إلى أين أتجه؛ فتاة تمارس الغموض والتعتيم ليلة وراء ليلة تماماً مثل المحقق الخاص؛ تتخلف عن التزاماتها؛ وتتأفف من الرد على مكالمات والديها. ولا أبالغ القول بأنني لست تلك الفتاة التي أنظر إليها الآن باشمئزاز، فأنا أريد أن أتخلص من تلك الأفعال، أحتاج وظيفة ثابتة تدفع لي راتباً. كنتُ أرغب في وضع مسافة بيني وبين زملائي بالجامعة ورفيقاتي في غرفة شارع القنال، كما تمنيت لو أخرج من جحيم نيويورك، وفي أقرب وقت.

    في صباح أحد أيام أغسطس، بعد أن تركت التدريب بأيام قليلة، استيقظت مبكراً وأخذت حاسوبي الشخصي إلى السلم الجانبي للشقة وبدأت أبحث عن وظيفة. كان الصيف شحيح المطر، وغدت الشمس كأنها لسان من اللهب أحالت جلدي إلى لونين، تاركة بقعاً بيضاء ككتابة برايل على قدمي حيث كانت الخدوش بارزة. انجذبت إلى وظيفة مساعد قانوني في شركة محاماة أمريكية في باريس، وفي لحظة عوزٍ قررت التقدم لتلك الوظيفة. قضيت اليوم بأكمله في إعداد خطاب التعريف، وأكدت فيه على أن اللغة الفرنسية هي اللغة الأم مع قليل من اللغة العربية، إذ كنتُ أبحث عن ميزة تنافسية. لم تكن وظيفة مساعد قانوني هي الوظيفة المثالية التي رسمتها في أحلامي – لم أكن أعلم حتى متطلباتها – إلا أني ألفيتها عملاً يناسب شخصاً رقيق المشاعر. كنت أرى في تغيير الوضع الخلاص من السلوك الأهوج الذي يتضخم على نحو متزايد. كذلك لم يكن الانتقال إلى باريس حلم حياتي، بل خطتي للهروب.

    قبل أن أترك المدينة للأبد ببضع ليالٍ، وجدت نفسي في ثالث حفلة ليلية لي في تلك المدينة، حيث جلس المصرفيون الاستثماريون وياقات قمصانهم مقلوبة، تنحني رقابهم على خطوط الكوكايين السميكة، ويتصبب العرق من جباههم أثناء حديثهم عن المحافظ الاستثمارية، والإيجارات الصيفية في مونتوك، وغير ذلك من الأحاديث الجادة. بلغت الساعة الخامسة فجراً، فلم يكن ذلك الذي كنت أبحث عنه، فرغبت في العودة إلى المنزل.

    وقفت وحدي على الرصيف غارقة في دخان سيجارتي، أشاهد طلوع النهار بعد أن كسر عتمة الليل، كان سكان مانهاتن نائمين في ساعة عابرة من الهدوء بعد أن أنهت شاحنات القمامة جولاتها، وقبل أن تفتح المقاهي أبوابها. انتظرت سيارة أجرة لمدة عشر دقائق حين كان يتمشى شابٌ تعرفتُ عليه في الحفلة، وطلب مني سيجارة، أعطيته آخر سيجارة معي، وأشعل السيجارة مكوراً يديه مثل الكأس، كقفاز كرة البيسبول عند الإمساك بها. ابتسم الشاب وهو ينفث دخان سيجارته، وتقدم كلانا خطوة يرمق كل واحد منا الآخر بنظرة فيها خجل، ثم حدقنا النظر في الشارع الفسيح.

    سألني حين جاءت سيارة أجرة وحيدة تتجه نحونا: ’’أتريدين المشاركة؟‘‘، وكان في سؤاله براءة جعلتني أتمتم بالموافقة، فصعدنا السيارة سوياً، أعطيتُ للسائق عنواني بعد أن خطر ببالي أن الشاب طلب مني اقتسام الأجرة ولم يعرف إلى أين أتجه.

    أعرف أنه من الحكمة ألا أركب سيارة مع رجل غريب. فأبي، الذي عاش في إيست فيلاج في الثمانينيات عندما اجتاحت الجريمة المدينة، كان سيعترض بشدة على هذا الفعل. ولكن في هذا الشاب شيء أحسست معه بالأمان، إلى وسامته. فشعره كثيف قد صبغته الشمس بحمرتها، وله عينان زرقاوان يتألق فيهما السحر، وفيهما حدة وذكاء، جسمه رشيق كمنحوتة فنية، وفكه السفلي مربع الشكل، وعلى خديه غمازتان، فكان بارع الحسن له مُحَيّا طفل، غير أنه يتظاهر بالتواضع بأنه لا يعلم عن حُسنه شيئاً.

    ‘‘أعتقد أنك أطول شخص قابلته في حياتي‘‘، قلتُ له ذلك وأنا أتأمله بطرف عيني وأتبعه النظرة النظرة. الطول ستة أقدام وست بوصات، فجلس يسند ركبتيه على ظهر مقعد السائق.

    رد قائلاً: ’’هذا صحيح‘‘، كان في كلامه رقة، وفي حديثه لطف على رغم كبريائه.

    ‘‘سعيدة بلقائك، أنا –‘‘

    ‘‘تحدثنا معا قبل ذلك، أتتذكرين؟‘‘

    أومأت بكتفي، ثم ابتسمتُ له ابتسامة تومئ بالاعتذار. ’’كانت ليلة سهرنا فيها للصباح‘‘.

    فقال مازحاً: ’’ألا تتذكرين عندما حاولتِ أن تريني ما بداخل جفنيك؟‘‘ أو عندما غنيت ’ماري عندها خروف صغير‘ باللغة اللاتينية؟ أو عندما كنت تنثرين نشارة القلم الرصاص على رأسك وتقولين كاسكارونيس!³ على نحو مخيف؟ ألا تتذكرين من ذلك شيئاً؟‘‘

    ‘‘ها ها، هذا مضحك جداً‘‘، قلت له ذلك وأنا أداعبه بلكمة في ذراعه. حينها أدركت أن ما حدث بيننا ضربٌ من الغزل.

    مد يده ليصافحني ’’أنا ويل‘‘.

    وبينما كنا نتحدث طيلة الرحلة، زالت الحواجز بيننا عند مرورنا بكل مربع سكني في المدينة. وعندما وصلنا مبنى شقتي، نزلنا من سيارة الأجرة ووقفنا على الرصيف: أفكر لو أنني دعوته إلى شقتي، أما هو فكان مؤدباً منعه حسن أدبه أن يطلب ذلك. لم يسبق لي أني اختليتُ في السرير برجل غريب – على رغم بعض القرارات التي أخذتها بمجرد رفع الحاجب إيماءً بالرفض، إلا أنني رومانسية قليلاً وأميل إلى الزواج الأحادي التسلسلي – غير أني كنت مغرمة به. فكرت في ذلك لبرهة. سألني ويل’’أنتِ جائعة‘‘.

    ‘‘جائعة جداً‘‘ أجبته برد وجيز؛ وبارتياح، وقدته بعيداً عن مدخل المبنى الذي أسكن فيه. مشينا بطول شارع القنال، ومررنا بمحلات مغلقة لنسج الشعر، وبط مشوي معلق في نوافذ محلات الأطعمة اللذيذة، وبائعي الفواكه على الأرصفة وقد نصبوا قوائم من الورق المقوى. دخلنا إلى مقهى الحي، فكنا أول زبونين في هذا اليوم.

    وبينما كنا نتناول البايجل⁴ والقهوة، حكى لي ويل عن انتقاله من الصين مؤخراً، حيث كان يعمل في تنظيم الألعاب الرياضية يقود برامج التوعية الرياضية للشباب المحليين. زاد إعجابي عندما علمتُ أنه يتحدث اللغة الماندرية. وفي الوقت نفسه، كان يمكث في المنزل ليرعى أبويه بالمعمودية، وظل يفكر لأسابيع طويلة في خطواته التالية. وكانت شخصيته تجمع بين الجد والهزل، بإلقائه النكات القصيرة. ولكن وراء سمته الهادئ ظهر على وجهه الهم والقلق، وقرأت في وجهه ما يخفيه من الهم والأسى. وبقينا لساعتين في المكان نفسه، نتحدث ونتحدث. ولما نوينا المغادرة، وقع في روعي أن أقول له أنا أحبك حقاً، وجاء بخاطري أيضاً: أتمنى لو لم أنتقل إلى قارة أخرى.

    بعد أن تناولنا فطورنا، مشيت مع ويل عائدين إلى المبنى الذي أسكن فيه، ورقينا في السلم إلى غرفتي. قضينا اليوم كله في السرير وأخذنا قيلولتنا نتحدث ونمزح ونمرح. كنت قد ألفت فتياناً يتقدمون بقوة، مسلحين بترسانة من الوسائل المحترفة لالتقاط الفتيات، ولكن بدا ويل راضياً بالاضطجاع إلى جواري. فلما مر الوقت ساعة بعد ساعة ولم يحاول تقبيلي، انقلبت متدحرجة ليقابل وجهي وجهه وأطلقت أنا شرارة الخطوة الأولى. وفي النهاية، تكرر هذا الموقف ليلة واحدة – ثم ليلتين وثلاث ليالٍ. لقد كان الوضع معه مختلفاً؛ تركت الأنوار مشتعلة، إذ لم أكن مضطرة لأخفي أي شيء. فكان من الرجال الذين يجعلونك تشعرين برضا عما تكرهيه في ذاتك، هو ذلك الشخص الذي لو تغيرت الظروف لقضيت معه أغلب الوقت للتعرف عليه.

    في صباح آخر يوم في نيويورك، وبينما كنت أحضر القهوة، أطلت أشعة الشمس ذات اللون الليموني إلى المطبخ، وإلى ذلك أصوات سيارات الأجرة الغاضبة وأنّات الحافلات التي تُسمَع من الأسفل. دخلتُ إلى غرفة النوم على أطراف أصابعي أجمع بعض قطع الملابس الأخيرة وأضعها في حقيبتي. وبينما كنت أشد سحاب الحقيبة لأغلقها، نظرت إلى جسم ويل الهزيل الملفوف داخل الملاءة، ووجهه الصافي المتألق أثناء النوم. بدا بريئاً وهو مضطجع فأحببت ألا أوقظه. فطفولتي التي قضيتها متنقلة من مكان لآخر جعلتني أخشى لحظات الوداع، ولما هممت أن أخرج تركت رسالة قصيرة وضعتها في حذائه، قلت فيها: أشكرك على هذه اللحظات السعيدة التي لم أكن أتوقعها، وسنلتقي عما قريب إن شاء الله.

    2

    المترو والعمل والنوم

    إذا كان الناس في مانهاتن ينتقلون إلى وظائف سريعة، ففي باريس يعيشون متعة الحياة المختلفة، وهذا ما نويت فعله حقاً. أخرج من المترو إلى شوارع حي ماريه وأحمل على ظهري حقيبة حمراء ضخمة تصدر صوت الطقطقة، أقف كل بضع خطوات لألقي نظرة سريعة على مقاهي الأرصفة والمخابز وواجهات المباني التي تتدلى منها أوراق الكروم في الحي الذي أسكن فيه. إن الحظ السعيد قد أصابني حين ساعدني صديق لأحد أصدقائي في أن أجد شقة بغرفة واحدة ومجهزة، استأجرتها في مبنى يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر في شارع دوبيتيه توار. صعدتُ الطابق الثالث في مصعد قديم متهالك مصنوع من الحديد المطاوع. ولمّا فتحت باب الشقة، كدتُ أرقص فرحاً عندما لاحظت الفرق بين شارع القنال ومقر إقامتي الجديد. الضوء! الهدوء! الخصوصية! الأرضيات الخشبية! حوض استحمام وردي اللون على شكل صدفة! لم تتجاوز مساحة الشقة أكثر من أربعمائة قدم مربع ولكني كنت أراها قصراً ملكياً، وهذا كله لي وحدي.

    قضيت عطلة نهاية الأسبوع في الاستقرار قليلاً وتفريغ الأمتعة وفتح حساب بنكي وشراء فُرُشٍ جديدة ومؤن المطبخ. وفي صباح يوم الاثنين ركبتُ المترو إلى شركة المحاماة والتي تقع في الدائرة الثامنة. تلقيت التحية من مجموعة كبيرة من المساعدات القانونيات في الممر، وبينما كنت أسير معهن في جولة داخل الشركة، سمعت صوت كعوب نعالهن على أرضيات الرخام اللامعة. وما تجدر الإشارة إليه أنني عملت في وظائف كثيرة تتسم بالغرابة منذ كنت في سن الرشد – مرافقة كلاب، ومساعداً شخصياً، ومعلمة كونتراباس، ومضيفة في مطعم – ولكن تلك هي المرة الأولى التي أعمل في بيئة عمل مؤسسية. فكان للمكتب سقوف تبلغ ارتفاعها عشرون قدماً مزينة بقوالب تسمى (كرانيش)، ولوحات ذات إطارات ذهبية، ودَرَج ملتو هائل. يجلس المحامون على مقاعدهم الخشبية يضعون السيجارة في يدٍ وفي الأخرى يحملون الاسبريسو، فذُهلتُ من الأناقة الفرنسية. وعند الظهيرة ذهبت مجموعة منّا إلى مقهى قريب نتناول وجبة غداء خفيفة فطلبنا شرائح لحم وزجاجتي خمر، هذا كله على حساب الشركة. ولما عدتُ أعطوني هاتف بلاك بيري لاستخدامه في العمل وعرفوني مكان مخزن التوريدات. فسلموني مجموعة ورق ملاحظات ذات اللون الأصفر وأقلاماً فاخرة، ثم جلست على مكتبي أشعر بكبرياء كلما رجعت بالمقعد إلى الخلف وأشعلت سيجارتي، فأرمق بيئتي الجديدة بنظرة غامرة بالسعادة.

    وبعد انتهاء اليوم الأول في العمل، آثرت السير مشياً إلى المنزل على أن أستقل المترو. وقُبيل الغروب، تأخذ أزقة حي ماريه الضيقة والمتعرجة طابع العصور الوسطى. فأضاءت مصابيح الشوارع نورها، وفكرت في الشخص الجديد الذي تحولت إليه كلما تجولت في الشوارع. ذهب الأصدقاء الذين لم يكونوا أبداً أصدقاء – مجرد أناس لديهم ميول للفساد وشهوة نحو ليالي السهر. حتى الحكة يبدو أنها هدأت. ومع وجود فرق شاسع بين كل ذلك، تصورت نفسي أقضي عطلة أسبوع هادئة وفي عزلة عن الآخرين أكتشف فيها المدينة وأتنزه في حديقة التويلري، وأقرأ كتاباً ماتعاً في مقهى صغير اكتشفته بالقرب مني. وسأستقل دراجة مزودة بسلة أملأها بمشتريات البقالة في كل يوم أحد من السوق من ميدان الجمهورية. سأضع أحمر الشفاه وسأنتعل أحذية ذات كعوب مثل المساعدات القانونيات الأخريات. وسأتعلم طهي الكسكسي المشهور مثل عمتي فاطمة وأقيم حفلات الغداء في بيتي الجديد. عزمتُ كذلك على أن أتكلم قليلاً عن الأشياء التي أود فعلها وأن أبدأ في التنفيذ فعلاً وليس قولاً، وإلى ذلك سأسجل في ورش عمل أدبية في مكتبة شكسبير أند كومباني، وهي مكتبة مشهورة لبيع الكتب على الضفة الغربية لنهر السين. ربما أقتني أيضاً كلباً، كلب سبينلي الملك تشارلي وسأسميه تشوبين.

    ولكن وقتي لا يسمح لي بذلك، ذلك أن بعض أيام الآحاد كنت أقضيها في السوق، لأن الطعام يمكث في الثلاجة حتى يتعفن. غير أني كنتُ أميل إلى الحياة التي يصفها الفرنسيون ’’المترو والعمل والنوم‘‘. فبحلول نهاية الأسبوع الأول من عملي، كان من الواضح أن

    مهنة المحاماة غير مناسبة لي. فكنت أحب الكتابة الإبداعية عن جداول البيانات، ولبس حذاء خفيف من ماركة بيركنستوكس أحب إليّ من الكعوب العالية. كان مكتب المحاماة مختصاً في التحكيم الدولي الذي بدا لي في البداية ممتعاً، ولكن كلما حاولت قراءة التقارير الموجزة التي تأتي إلى مكتبي، ألفيتُ المصطلحات القانونية غامضة، والمحتوى ممل يكاد يذهب بالعقل. قضيتُ غالبية أيامي في الطابق السفلي للمكتب في التدقيق والطباعة وجمع آلاف المستندات في مجلدات منظمة بدقة حتى يتمكن المحامون من مساعدة الشركات الجشعة لتصبح أكثر ثراءً. وكان من المتوقع مني أن أبقى على اتصال 24 ساعة يومياً خلال أيام الأسبوع، نمتُ وهاتف العمل تركته على الوسادة وضبطتُ المنبه كي أستيقظ في منتصف الليل لأتحقق من رسائل البريد الإلكتروني العاجلة. في الغالب، لم أتمكن من مغادرة المكتب على الإطلاق؛ فالمساعدون القانونيون يعملون طوال الليل حتى بدأنا في تسجيل أهداف. وفوق كل هذا كان لدي مدير شهواني يُخفي في درج مكتبه كتالوج لأحذية نسائية، ورأيت على هاتفه، عندما ظن أني لا أراه، صوراً التقطها لقدمي. بعد مرور أسبوع آخر بلغ التسعين ساعة، كنت أتناول كرواسون الشوكولاتة وأذهب للرقص كي أتخلص من ذلك وفي نهاية إحدى الليالي المتأخرة، كنت أصطحب من كنت أرافقه إلى نادٍ قديم لموسيقى الجاز يسمى أو تروا مييتس حيث نغني على صوت البيانو ونشرب الخمر حتى تستحيل شفاهنا إلى اللون الأرجواني.

    لم تكن حياتي في باريس كما تخيلتها، ولكني شرعتُ في خلق حياة مختلفة. بدأت مراسلاتي مع ويل على نحو مفاجئ، فتحولت الرسائل النصية القصيرة: مرحباً - كيف حالك - كيف تجري الأمور، إلى رسائل طويلة، كتبادل رسائل البريد الإلكتروني التي تبعتها المظاريف التي تنطوي على خطابات مكتوبة بخط اليد، وقصص جريدة نيويوركر المشروحة بعناية. وأرسل لي ويل بطاقة بريدية من غرفته في جبال وايت بولاية نيوهامشير حيث ذهب مع أصدقائه يقضون عطلة نهاية الأسبوع: لا توجد كهرباء، إلا موقد لحرق الأخشاب يعود لبداية القرن العشرين، والصمت يسود المكان إلا من نعيق البوم وحسيس النار وهزيز الرياح، وكتب أيضاً: كل ذلك جعلني أحب السفر في الطرق الخلفية في الولايات المتحدة. هل ترغبين في رحلة على الطريق؟ إن فكرة القيادة معاً في أنحاء الولايات جعلت قلبي يرقص طرباً.

    اعتدنا أن نوقع في آخر الخطابات بطريقة مشابهة – لا حاجة في أن ترد على الرسالة بعدد الكلمات نفسها – ولكن تعمقت رسائلنا وتكررت بمرور الأيام والشهور. قرأتُ كل رسالة من رسائله مراراً كما لو أنها خرائط مشفرة تقدم ألغازاً سرية وتصور عن كاتب الرسالة. حكيتُ لويل رحلتي الشاقة منذ التخرج وحياتي الجديدة بالخارج: قضيتُ أول 36 ساعة في باريس في عزلة تامة، فأغلقت حاسوبي الشخصي وهاتفي المحمول. وتجولت في المدينة بأكملها، حتى انكسر كعب حذائي واضطررت إلى أن أستقل سيارة أجرة. وعلى رغم محاولاتي أن أعيش في عزلة، إلا أنني اتخذت رفاقاً جدد – لاهورا، أرملة تمارس اليوجا؛ زاك، زميل قديم منذ أيام الجامعة وكان يتدرب على التمثيل الصامت؛ وبدر، رجل أعمال شاب مغربي يحب الرقص؛ وديفيد، وهو مغترب كبير في السن يعيش حياة مستهترة ويقيم حفلات صاخبة. فرد ويل: لا يمكنك فرض العزلة على نفس تهوى الطيران. أحسست بنشوة بعدما قرأت تلك الكلمات.

    وإلى ذلك أخبرت ويل بحلمي في أن أصبح صحفية وأرسلتُ له مقالاً عن الصراع العربي الإسرائيلي كنت أعمل عليه منذ شهور. فيا للقدر! إذ كان رده أنه أيضاً لديه طموحات صحفية. فقد استلم مؤخراً وظيفة باحث مساعد لأستاذ جامعي وكان يرغب في أن يعمل محرراً، وأرسل لي ملاحظات مهمة حول طريقة مراجعة المسودة. ومع الوقت الذي قضيناه سوياً في آخر أسبوع لي في نيويورك، جاءت تلك اللحظات القصيرة من التواصل فجأة، فكانت بدايتها كتابة خطابات تعرفنا أكثر على بعضنا، فطريقة المراسلة القديمة كانت أكثر أماناً، وبديلاً وفياً عن المواعدات التي تشبه مطاردات القط والفأر. وفي وقت قصير صرت مغرمة بصديق المراسلة، فصار يشغل تفكيري كله؛ أحلم به وأتحدث عنه كثيراً. تمنيت لو أن الشخص الذي يقبع وراء تلك الصفحات فيه من الجمال مثل ذلك الذي يظهر لي من الحبر.

    *      *      *

    وفي أصيل إحدى أيام الخريف، إذ كان اليوم يمر في المكتب بطيئاً، كنت أناقش كاميليا، وهي مساعدة قانونية أشاركها المكتب نفسه، عن دعوة ويل لزيارة باريس. لم أكن واثقة من اللمحات الرومانسية التي تضمنتها خطاباتنا، فهي حقاً تشغل عقلي، ولكن خشيت لو أني لم أبادر في أقرب فرصة أن تنقطع مراسلاتنا. وعلى مدار ساعة كاملة من حديثنا، كتبتُ مسودات مختلفة لرسالة بريد إلكتروني إلى ويل، حاولت فيها أن أضبط أسلوب رسالتي، ما بين الحماس الجاد والهدوء الفاتر. ’’استمري يا عزيزتي، كوني شجاعة، بهذه الطريقة ستبقين هنا طوال الليل‘‘، قالت لي كاميليا ذلك وهي تداعب خدي قبل أن تغادر.

    انطفأت الأنوار وخلا المكتب إلا مني قبل أن أصل إلى النسخة النهائية للرسالة. أحسست كأني طائشة حين بدأت العد إلى عشرة أحاول أن أضغط على كلمة إرسال. ولما تجرأت وفعلت ذلك شعرت بالتشويق – وسرعان ما طغى على ذلك قلق انتظار رده. مر الوقت بطيئاً، وفي التاسعة ركبت المترو عائدة إلى البيت. راجعت رسائل البريد الإلكتروني، لم تصل أي رسالة، شعرتُ بالقلق وأنا أُعِد لنفسي الخبز المغطى بالنوتيلا، هل تجاوزت أو أخطأت في فهم الوضع؟ استحممتُ قبل أن أنام، وإذا لم يصلني منه رد سأخرجه من عقلي.

    راجعت البريد الإلكتروني في منتصف الليل للمرة الأخيرة، وصلتني رسالة وفتحتها فإذا هي تأكيد رحلة طيران متجهة إلى باريس، فرنسا.

    *      *      *

    وصل ويل بعد أقل من شهر، قُبيل عيد الشكر. قضيت عطلة الأسبوع في التجهيزات، فنظفت حوض الاستحمام حتى صار لامعاً، وكنستُ الأرضيات من الأتربة، وأرسلت الفُرُش إلى المغسلة. ذهبتُ إلى سوق إنفانتس روجيه واشتريت رغيف خبز وجبن كامامبير وخيار مخلل وزهور اللافندر الجافة. وفي عودتي إلى البيت اشتريت قنينة نبيذ، ودخلت سريعاً إلى صالون تجميل لبعض احتياجات المظهر. وفي صباح يوم وصول ويل، استيقظت فجراً وغيّرت ملابسي ما لا يقل عن ست مرات قبل أن ألبس الجينز الأكثر أناقة، وقميصاً بياقة سوداء ضيقة مستديرة الشكل، وأقراط من الذهب تجلب الحظ. وعندما حان وقت ذهابي إلى المطار، كنت قد تأخرت ساعة كاملة.

    اجتاح الضباب شارع دوبيتيه توار وأنا أسير بكعبي حذائي بسرعة وقوة على الرصيف المكسو بالمطر. سمعت هاتفي يرن وأنا على مقربة من المترو، كانت رسالة من ويل يخبرني بأن الرحلة وصلت مبكراً وأنه استقل سيارة أجرة قاصداً عنوان منزلي؛ دلّه شخص على المبنى الذي أسكن فيه فانتظر خارج باب شقتي. عدتُ مسرعة إلى المنزل، كنت أخطو خطوتين في خطوة واحدة، توقفت لبرهة لما وصلت الطابق الثاني حتى أهيئ نفسي. خفق قلبي لهذا اللقاء، وتصبب العرق من وجهي، وكادت أنفاسي تتوقف. وقد بدا لي في الأسابيع الأخيرة أنني أجد صعوبة في التنفس. دونت تلك الملاحظة الذهنية تطلعاً إلى الاشتراك في عضوية الجيم. رفعتُ شعري المتطاير على وجهي وأخذت نفساً عميقاً متجهةً إلى زاوية الطابق.

    ‘‘مرحباً، مرحباً‘‘ ناداني ويل عندما لمحني، بقامته المعتدلة وابتسامته المشرقة. ترددنا لبرهة قبل العناق، توقف كلانا فجأة خجلاً من التقبيل، ولو على الخدين. شعرتُ لأول مرة منذ شهور أنني أقف على أرض ثابتة وأنا بين ذراعي رجل ليس غريباً بالكلية، بل لم يكن أكثر من ذلك.

    حييته بالفرنسة بعد أن تعانقنا، ثم دعوته للدخول إلى الشقة التي كانت صغيرة بجانب المطبخ والحمام، إذ لم تكن أكثر من غرفة لكل الأغراض. أشرتُ له إلى سرير ذي طابقين وقلت له ’’هذه غرفة النوم‘‘، ’’وهذه غرفة الطعام‘‘ مشيرة إلى صندوق كبير أستخدمه كطاولة للقهوة ومكتب وخزانة. وكان هذا أول مكان أعيش فيه وحدي، ومع بساطته وأنني لم أجد وقتاً لأشتري ستائر، إلا أن الرضا ملأ قلبي به. ’’وانظر هنا‘‘ قلت له ذلك وأنا أكمل معه الرحلة وفتحت النوافذ لتظهر شرفة صغيرة.

    أبدى ويل إعجابه قائلاً: ’’أجمل ما فيها‘‘.

    بدا باقي اليوم مبهماً لنا، وجاء كلقطات من فيلم: أحاديث ملؤها القلق في غرفة المعيشة ونحن نحتسي القهوة، عشرات الهدايا الملفوفة كل منها على حدة وضعها ويل على الصندوق، ومشينا على طول نهر السين من غير هدف نضحك على منظر الطلاب الأمريكيين الذين يدرسون بالخارج، يرتدون القبعات ويتحدثون الفرنسية الأنيقة. حذرته ونحن نعبر جسر الفنون، حيث ربط العشاق الأقفال على شبكة الجسر: ’’لا تفكر في تقبيلي هنا‘‘. فلم يفعل ذلك إلا في وقت متأخر من تلك الليلة، بعد أن هدّأتْ زجاجة النبيذ الأحمر أعصابنا.

    تبعني ويل إلى السرير العلوي، وهو سرير ضعيف، زهيد الثمن مصنوع من أربعة أعمدة خشبية ومنصة من الخشب الرقائقي الضعيف جمعها المستأجر السابق، وإن في الأمر لشبهة وريبة. وبينما كنا نضطجع جنباً إلى جنب، أحسست بشعور اختلف عن تلك الليالي التي قضيناها في نيويورك. حدث ارتباك قليل في المكان ونحن عاريين، سكب القمر نوره من النافذة محولاً الندبات الموجودة في ساقي إلى اللون الفضي. كل هذا وأعمدة السرير تتمايل تحتنا.

    قلتُ: ’’لعنة الله على إيكيا‘‘.

    بدا القلق على ويل فقال: ’’ماذا لو سقط بنا؟‘‘

    ‘‘تخيل لو أن أبي قرأ في عناوين الأخبار غداً: العثور على جثتي عاشقين أمريكيين عاريين تحت كومة من حطام أثاث إيكيا‘‘.

    قفز ويل من السلم وهو يقول: ’’ثانية واحدة، أريد فحصه‘‘، وجد أن المسامير مربوطة على نحو سليم، وهو يهتز ويهز الإطار وأنا أضحك على ذلك. ’’هذا فحص زلزال‘‘.

    عاد ويل إلى نيويورك في نهاية زيارته التي استمرت أسبوعان، عاد ليحزم أمتعته ويترك وظيفته. وسوف ينتقل إلى باريس ليبقى بجانبي – كتبت ذلك في مذكراتي مراراً حتى بدأت أشعر أنه حقيقة. وبينما كنت أجلس في المترو في طريقي إلى العمل، إذ ارتسمت على وجهي ابتسامة بلهاء. فأضفت إلى الصفحة نفسها عبارة الفرح شعور مخيف، لا تثقي به. ذلك بأن ما وراء الفرح تأتي عواصف قوية، وإحساس بوجود نذير، إذ ينتظرني تحت جلدي وحش لا يبقي ولا يذر.

    3

    قشر البيض

    لم يسبق لي من قبل، منذ أن بلغت السابعة عشر من عمري، أن عشت وحيدة بلا رفيق لأكثر من شهر أو شهرين، لم أتفاخر بذلك، ولا أرى أن ذلك كان صحيحاً. فأغلب الوقت أيام الجامعة، دخلت في علاقة جادة مع مختص بارز في الأدب المقارن البريطاني والصيني. وكان أول رفيق مخلص، صحبني معه لتناول العشاء في المدينة في عطلة على شاطئ وايكيكي، ولكن بنهاية الفصل الدراسي شعرت بعدم ارتياح، إنما أردتُ أن يكون لدي خبرة أكثر قبل لقائه. انتهت تلك العلاقة في الصيف الذي سبق سنة التخرج عندما انطلق سهم العشق تجاه شاب أثيوبي يعمل صانع أفلام، وأعقبه شاب من بوسطن قابلته حين كنت أُعِدُّ بحثاً أثناء العطلة الشتوية في القاهرة؛ كانت لديه ميول للمزاح والنشاط، قُبض عليه لأنه أسقط العلم الفلسطيني الذي يبلغ ارتفاعه ثلاثون قدماً بجانب أحد الأهرامات. وبعد أسبوع، وبينما كنا نشرب الويسكي المغشوش في حانة تطل على البحر الأحمر، اتصل بوالديه وأعلن لهما ’’قابلت الفتاة التي سأتزوجها‘‘، ثم أعطاني الهاتف قبل أن أبدي اعتراضاً. فقطعت معه العلاقة بعد مدة قصيرة. وقبيل التخرج بدأت أتعرف على كاتب سيناريو طموح من تكساس المكسيكية. تواعدنا لشهرين من أسوأ الشهور في نيويورك، فكنت أتدرب وكان هو يقدم الطلبات على طاولات في فندق حديث يقع في وسط المدينة. كان عندما يسكر يفقد وعيه ويسوء أدبه، وكان دائماً في حالة سكْرٍ متواصل.

    والواقع في أمر هذه العلاقات أنها لم تكن أبداً علاقات جاءت

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1