Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

صانع الاحلام
صانع الاحلام
صانع الاحلام
Ebook624 pages3 hours

صانع الاحلام

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لم يكن يعرف ويليام والكر أن حياته سوف تنقلب رأسًا على عقب حينما يقابل سكارلت ولم يكن يتخيل أنه في يوم من الأيام سوف يصبح كابوسيًا مطاردًا من قبل صيادي مدن الأحلام ولم يكن أبدًا يعرف أنه خلال وقت قصير سيصبح طرفًا في صراع يجمع بين الصيادين والكابوسيين والثوار.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2014
ISBN9789771451426
صانع الاحلام

Related to صانع الاحلام

Related ebooks

Reviews for صانع الاحلام

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    صانع الاحلام - معتز حسانين

    DreamsMakerLogo

    إشـراف عـام: داليــا محمـــد إبراهيــم

    جميع الحقوق محفوظـة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 9789771451426

    رقـــم الإيــــداع: 2014/16057

    الطبعـة الثانية: إبـريــل 2015

    DreamMaker1.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون : 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس : 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    DreamMaker2.xhtml الإهــــــداء DreamMaker2.xhtml

    إهــداء إلـــى..أمي.. لصبـرك الجميـل ولدعمك الذي لا حدَّ له.

    أبي.. لأنـك كنـت أكبـر دافـع لـي عنـد الكتابــة.

    أخي.. لأنك بقصدٍ أو دون قصد منك أرشدتني

    إلى عالم هاري بوتر.

    شكـر خــاص للأصدقــاء والقــراء الأوائـــل..

    أحمد رضوان، أحمد عزت، مصطفى عمار، أحمد شاهين، أحمد صلاح، عمار جمال، مصطفى سلامة، بسام الحسون، إبراهيم جمعة، أميرة حسين، جهاد مصطفى، مريم النعيمي، سماح محمد، إكرام، ديانا أبو شعر، ضحى صلاح، آية والي، حسناء مراد، ندى علاء، آية عبدالرحمن.

    DreamMaker4.xhtml

    عـِنْـــدَ حَانَــــةِ العَـصَافِيـــرِ الصَّفْــــرَاءِ 

    DreamMaker4.xhtmlDreamMaker4.xhtml

    ربَّما منذُ ثلاثينَ عامًا أو أكثرَ بقليلٍ كانتْ تعتبرُ قريةُ الريشِ الأزرقِ محلَّ حسدِ وغبطةِ الكثيرِ منَ القرَى الأخرَى؛ ويرجعُ ذلكَ لقربِها وملاصقتِها لمدينةِ الأحلامِ، حيثُ يعيشُ الملكُ ويديرُ شئونَ مملكتهِ وقطاعاتِها السبعةِ والبلادِ البعيدةِ الأخرَى التي تفصلُها بحارٌ ومحيطاتٌ كاملةٌ. وإحقاقًا للحقِّ فقريةُ الريشِ الأزرقِ يفصلُها الكثيرُ منَ الغاباتِ والكيلومتراتِ عن مدينةِ الأحلام؛ِ ولكنَّها في نظرِ سائرِ القرَى تعتبرُ الأقربَ للملكِ من بعدِ قرَى ومساكنِ خدمِ النبلاءِ، وعلى أيٍّ لمْ يعدْ موقعُها يشكلُ فارقًا كبيرًا تلكَ الأيام؛ حيثُ أصبحَ حالُها مثلَ حالِ البقيةِ، وأخذَ الظلامُ يزحفُ ناحيتَها تدريجيًّا حتى لم يعدْ يفصلُه عنها غيرُ النهرِ المكتظِّ نارًا؛ إذْ يُطلُّ منَ الطرفِ الآخرِ على القريةِ غابةُ العجوزِ ديجريك؛ حيثُ تخفي في جوفِها الكثيرَ منَ الوحوشِ الشريرةِ الرابضةِ والمتلهفةِ، والتي تهجمُ في مراتٍ كثيرةٍ على تلكَ القريةِ البائسةِ لتسرقََ مواشِيَهم تارةً، وتارةً أخرى تخطفُ الأطفالَ الصغارَ لتقايضَهم بغنائمَ أخرَى؛ ربما لأنَّهم يكرهونَ لحمَ البشرِ عامةً، وربما يثيرُ ذلك الدهشةَ قليلًا ولكنْ هناكَ حيواناتٌ متكلمةٌ وعاقلةٌ في تلكَ النواحِي -ولكنَّ ذلكَ لا يمنعُها منْ تلكَ الممارساتِ- وعندما تكونُ طلباتُهم غيرَ معقولةٍ بالمرةِ وباهظةً على القرويِّين، فعندَها كانَ القرويُّون يلجئون قديمًا إلى مَلكِ الملوكِ سيفال العظيمِ الذي كانَ يرسلُ إليهمُ العديدَ منَ الصيادينَ الأشداءِ منْ حراسِ المملكةِ لتخليصِهم من بؤسِهم، ولكنْ بتولِّي ملكِ الملوكِ فيكتور السابعِ الحكمَ من بعدِه لم يعدْ يهتمُّ بشكواهمْ بلْ تجاهلَهم تمامًا، ولم يكنْ يلقِي بالًا إليهم إلا عندَما يزيدُ منْ جمعِ الضرائبِ، أو يزيدُ من حجمِ جيشِه، فتكاسلَ الصيادون عنِ القدومِ إلى تلكَ النواحِي يومًا بعدَ الآخـرِ حتى باتَ ظهورُهـم نادرًا، وعندَها لا يجدُ القـرويُّ البائسُ الذي خُطِفَ ابنُه أو ابنتُه سوى اللجوءِ إلى أحدِ الكابوسييـن؛ ليساعـدَه في ذلك آملًا أن يكونَ أجرُه معقولًا وأقلَّ منَ الفديةِ بكثيرٍ.

    وفي هذهِ الليلةِ، ولمَّا كانَ الجوُّ باردًا، شرعَ الظلامُ في التثاؤبِ عدةَ مراتٍ فما كانَ إلا أنْ صارَ الجوُّ أكثرَ إظلامًا، والغماماتُ الرماديةُ الثقيلةُ لمنتهَى الشتاءِ قدْ حجبتْ نورَ القمرِ الأزرَق الباهِت.

    وبالقربِ منَ الميناءِ النهريِّ الوحيدِ للقريةِ، وهو ميناءٌ بائسٌ تراصَّ فيه اثنا عَشَرَ مركبًا كانَ أحدُها مركبًا بخاريًّا قديمًا متهالكًا عَلَا الصدأُ أجزاءً كبيرةً منْ هيكلِه، بينما كانتِ البقيةُ مجردَ مراكبَ شراعيةٍ، كانَ أفضلَها الغزالُ الواثبُ؛ إذْ كانَ له شراعٌ هرميٌّ كبيرٌ أبيضُ متينٌ يتجِهُ بشموخٍ ناحيةَ الشرقِ. كانَ يهتزُّ في مكانِه اهتزازًا خفيفًا على أَثرِ هباتِ الريحِ المتواليةِ، وكانَ هناكَ ضوءٌ أصفرُ باهتٌ قادمٌ منْ خلفِ نافذةِ القُمرةِ.

    وفي الناحيةِ المقابلةِ له كانَ هناكَ طوفٌ خشبيٌّ صغيرٌ يتقدمُ ببطءٍ شديدٍ ناحيةَ الميناءِ، ولم يكنْ هناكَ أحدٌ يُسيرُه، كانَ يتقدمُ بقوًى خفيةٍ، ويحملُ على ظهرِه شابًّا طويلَ القامةِ ممشوقَ القوامِ، يرتدِي بذلةً ناصعةَ البياضِ كما يغلفُه الضبابُ ويلتفُّ حولَه كحيوانٍ أليفٍ افتقدَ سيدَه، وقبعةً طويلةً مستدقةً، بدَا كأنَّه شخصٌ مرفَّهٌ قادمٌ منْ مدنِ الأحلامِ. وبالرغمِ منْ بعدِ القاربِ وكونِهِ أكثرَ قربًا من الضفةِ الأخرى عنْ تلكَ الضفةِ، فقدْ تعرَّفَه أغلبُ مُريدِي حانةِ العصافيرِ الصفراءِ على الفورِ، وتهللتْ ملامحُهم أكثرَ عندَما رأَوْا جورين ابنةَ صاحبِ حانةِ العصافيرِ الصفراءِ هيريليك، وتنفسُوا الصعداءَ لرؤيتِهم لناري متكئًا عليها وبدَا أنَّ هناكَ خطبًا ما في قدمِه اليمنى.

    وتعودُ الحكايةُ إلى فجرِ ذلكَ اليومِ عندَما ظهرَ «أوزير» بسحنتِه المميزةِ: الطولِ الفارعِ، والجسدِ الممشوقِ، والعينينِ الزرقاوينِ، والشعرِ الأسودِ، والبشرةِ القمحيةِ، وحُلَّتِه البيضاءِ، وسيفِه بغمدِه المميزِ، أبيضَ رخاميِّ اللونِ مزخرفٍ بزخرفةٍ لطيفةٍ وهادئةٍ تتناسبُ مع حُلَّتِه عندَ مدخلِ حانةِ العصافيرِ الصفراءِ المطلَّةِ على النهرِ، عندما كانَ هيريليك يستعدُّ ليومٍ جديدٍ منَ العملِ بوجهٍ بائسٍ وحزينٍ، حيثُ كانَ يرشُّ مدخلَ الحانةِ بالماءِ ليغسلَ بِهِ الأرضيةَ منْ آثارِ الليلِ منْ ترابٍ أسودَ باهتٍ قادمٍ من بعيدٍ محمولًا على الرياحِ، أو بواسطةِ أحذيةِ المسافرينَ القادمينَ منْ أماكنَ بعيدةٍ عنْ هُنَا.

    وبينما هو يتململُ في وقفتِه، وينظرُ إلى الأفقِ بعينٍ خاويةٍ، وجد «أوزير» واقفًا كتمثالٍ أبيضَ ناصعٍ يُحدِّقُ به ويتحدثُ إليه:

    صباحُ الخيرِ، إنه لصباحٌ جيدٌ حقًّا، بهذا الهواءِ الباردِ المنعشِ الذي يمـلأُ رئتيــكَ، مـنَ العسيرِ أنْ تجــدَ هواءً بهيجًـا مثلَ هــذا في المكانِ الذي جئتَ منْهُ، إنه يداعبُ الوجهَ ببرودةٍ لا يمكنُ نعتُها بأنَّها برودةُ شتاءٍ قارسٍ أو شتاءٍ سيئٍ ، بل برودةٌ مبهجةٌ.. أنتَ تفهمُ أنَّ قصدِي صحيحٌ.

    تعجبَ هيريليك منْ هذَا الزائرِ، فعدَّلَ منْ وضعيةِ ظهرِهِ المنحنِي، وسندَ بيدِه إلى إفريزِ الحانةِ، وواجهَ أوزير، ثمَّ تأملَه قليلًا ونظرَ إلى سيفِه دونَ أن يبديَ أيَّ اهتمامٍ ملحوظٍ بِه، وردَّ عليهِ التحيةَ:

    صباحُ الخيرِ يا سيدِي، إننِي حقًّا لا أفهمُ ما الذِي ترمِي إليهِ؛ ولكنَّ هذَا الهواءَ هوَ ذاتُ الهواءِ الذي أستيقظُ وأنامُ عليهِ طيلةَ الخمسينَ عامًا الفائتةِ منْ عمرِي، ولأننِي بحكمِ عدمِ فراقِي لهذَا المكانِ الذي ولدتُ فيهِ، فلا يسعُنــي التفرقـةُ بيـنَ هذَا الهواءِ وهواءٍ آخرَ، إنَّهُ الاعتيادُ الذِي يجعلُكَ تشربُ حساءَ الدجاجِ كلَّ أربعَاء طيلَةَ عشرينَ عامًا وتتساءلُ كيفَ كانَ مذاقُه أولَ مرةٍ، هكذَا الأمرُ بالنسبةِ لي، ولكننِي سعيدٌ لأنَّكَ ترَى في هوائِنا شيئًا مختلفًا وجديدًا عنِ المكانِ الذي جئتَ منْهُ.

    تبسمَ أوزير وقالَ:

    معكَ حقٌّ أيها الرجلُ الطيبُ، أتذكرُ أنني عندَمَا كنتُ صغيرًا أطاردُ خيالي معَ رفاقِ الصبَا وأحاولُ أنْ أطأَ بقدمَيَّ عليه، ولكنْ دونَ جدوَى؟ وبتكرارِ المحاولاتِ، والتقدمِ في العمرِ، أصبحتُ لا أجدُ الوقتَ لأنظرَ إليهِ أَوْ أداعِبَهُ، كانتْ أيامًا رائعةً، وعندَما أنظرُ إليها الآنَ فإنني أحسدُ نفسي عندَما كنتُ صغيرًا.. أنتَ تعلمُ قصدِي.. هؤلاءِ الصيادونَ، والكابوسيونَ، والملكُ وحاشيتُه.

    بدَا التأثرُ جليًّا على وجهِ هيريليك، فقالَ:

    كلنا نشعرُ بهذا الشعورِ يا ولدِي، فالصغارُ لا يوجدُ في عالمِهم أيُّ شيءٍ غيرُ صورِ الصيادِ البطلِ، والكابوسيّ الشريرِ المنتهزِ، والمتمردينَ الذين نعجزُ عن فهمِ دورِهم أو هدفِهم حتى تلكَ اللحظةِ.

    وضحكَ أوزير وقالَ:

    كلُّ ما نتمنَّاه هو العيشُ في إحدى مدنِ الأحلامِ في تلكَ الأوقاتِ، وساعتَها لن يكونَ هناكَ شيءٌ لنقلقَ بشأنِه، فقطْ لندخلْ هناكَ ولنتركْ كلَّ المنغصاتِ علَى كاهلِ الصيادينَ الشجعانِ الأبطالِ.

    اندهشَ هيريليك قليلًا وقالَ:

    ما لي أشعرُ بأنك لا تريدُ الحياةَ هناكَ، إنني أودُّ بالفعلِ العيشَ هناكَ، أو على الأقلِّ أنْ أمنحَ أبنائي ميزةَ العيشِ هناكَ، عندها لنْ أكونَ قلقًا عليهمْ وأنَا في مكانِ عملِي، ومعَ ذلكَ لنقلْ إننا محظوظُونَ هنَا.. فنحنُ بجوارِ إحدَى تلكَ المدنِ، وهذا أمرٌ يوفرُ لنا القليل منْ حمايتِهم لنا بالرغمِ من تغيرِ الوضعِ كثيرًا بعدَ تولِّي هذا الحقيرِ فيكتور السابعِ الحكمَ، ولكنْ.. هَهْ الوضعُ هنا أفضلُ بكثيرٍ ممَّا لَوْ قارنَّاه بالأماكنِ القديمةِ والعميقةِ في الظلامِ بعيدًا عن مدنِ الأحلامِ وسيطرةِ الصيادينَ.. أعتقدُ أننِي، بعدَ كلّ شيءٍ، محظوظٌ لأننِي هَنَا بالفعلِ.. الحياةُ رائعةٌ هنَا.

    رفعَ أوزير حاجبَه فيما يشبهُ التعجبَ، ولاحظَ عدمَ ثقةِ هيريليك فيما قالَه، إذْ بدَا كأنَّه يحاولُ إقناعَ نفسِه بما قالَه، وتمتمَ أوزير بعدَ فترةِ صمتٍ قصيرةٍ:

    الأمرُ سيانِ أيُّها الشيخُ.. الأمرُ سيانِ، ففِي هذا الزمنِ لمْ تعدْ هناكَ فروقٌ كبيرةٌ بينَ الصيادينَ والكابوسيينَ والمتمردينَ.. .

    ثُمَّ قطعَ كلامَه فجأةً، وتنهدَ تنهيدةً طويلةً وقالَ:

    - «صدعتُكَ بحديثِي الصباحيِّ هذَا، اعذرْني، ولكننِي كنتُ أحاولُ الوصولَ إلى حانةِ العصافيرِ الصفراءِ، قيلَ لي إنها قريبةٌ من تلكَ الأرجاءِ».

    ضحكَ هيريليك على الرغمِ من حزنِهِ الدفينِ، وقالَ:

    لقد أجادُوا وصفَهَا لكَ، مرحبًا بِكَ في حانةِ العصافيرِ الصفراءِ، وأعرفُكَ بنفسِي، أنا هيريليك، صاحبُ الحانةِ.

    ثمَّ أشارَ إلى مدخلِ الحانةِ. فوجدَ أوزير لافتةً خشبيةً نُحتَ عليها «حانةُ العصافيرِ الصفراءِ» كمَا نُحتَ عليهَا أيضًا رسمٌ لثلاثةِ عصافيرَ صغيرةٍ تقفُ على فرعِ شجرةٍ غليظٍ.

    تبسمَ أوزير، وخلعَ قبعتَه وقالَ:

    وأنا أوزير –وهوَ بالمناسبةِ اسم يسببُ لي الكثيرَ منَ المشاكلِ في تلكَ الأرجاءِ- قادمٌ منْ بلادٍ بعيدةٍ، وأرغبُ في الاسترخاءِ طوالَ اليومِ في الحانةِ، وإنْ أمكنَ النومُ أيضًا، فالطريقُ كان طويلًا - وقدْ أجهدَنِي كثيرًا الوصولُ إلى هُنَا.

    وفي تلكَ اللحظاتِ أقبلَ صبيُّ الحانةِ «روسي» وبدَا كأنَّهُ يمشِي نائمًا، ويخبئُ عينيهِ كثيرًا بواسطةِ يديه هربًا من نورِ الصباحِ، وكادَ أن يصطدمَ بأوزير لولَا أنَّ هيريليك عنفَهُ قبلَ أن يفعلَ ذلكَ.

    وتمتمَ فيه بفمٍ يقذفُ الكثيرَ منَ اللعابِ:

    - «تنبهْ أيُّها الوقحُ الصغيرُ، تأتي متأخرًا وتجعلُ شخصًا عجوزًا يقومُ بعملِكَ، آهٍ منْ شبابِ تلكَ الأيامِ، سوفَ أفصلُك في المرةِ القادمةِ، ولن تهمَّنِي توسلاتُ عمِّك ياريو، أتفهمني؟».

    حملقَ روسي في أوزير بعيونٍ واسعةٍ وخائفةٍ كأنهُ يحاولُ أن يتأكدَ منهُ أنَّ ما سمعَهُ صحيحٌ، فتحدثَ سريعًا وبلعثمةٍ واضحةٍ:

    - آسفٌ حقًّا يا سيدِي، لقد كنتُ قادمًا في الطريقِ، ولكنَّ العمَّ ياريو أوقفَني كثيرًا ليعرفَ آخرَ أخبارِ جورين، ولكننِي لم أخبرْهُ شيئًا في المرةِ الأولى، وبدلًا من ذلكَ أخبرتُه بأنني تأخرتُ في عملي، وأنكَ لن تتهاونَ معِي، ومعَ ذلكَ فقدْ أصرَّ على أن يعرفَ، ولم يتركْنِي إلا بعدَ أن أخبرتُه بقصةٍ كاذبةٍ، كانَ عليَّ فعلُ ذلكَ؛ فإنني أعرفُ أنكَ ستكونُ غاضبًا لو أخبرتُه بشيءٍ.

    بصقَ هيريليك وتمتمَ:

    تبًّا لكَ وتبًّا لهذا العجوزِ الفضوليِّ، أكنـتَ تريدُني أنْ أعـدَّ الفطـورَ للنزلاءِ وأنْ أوقظَهُم أيضًا، يا إلهي الرحيمَ.. حسنًا، كفى ثرثرةً وقُدْ هذَا السيدَ المهذبَ إلى الداخلِ ونفذْ ما يطلبُه منكَ، إنه قادمٌ من بعيدٍ فاعرضْ عليه الحجراتِ المتوافرةَ لدينَا، والتي تطلُّ على النهرِ، فإنه يحبُّ الهواءَ المنعشَ، وبعدَ أنْ تفعلَ ذلكَ تعالَ إليَّ ثانيةً لتخبرَني بكلِّ شيءٍ.. مفهومٌ! وكذلكَ لا تنسَ إيقاظَ سيروف وماليس فنوبتُهما بدأتْ من نصفِ ساعةٍ.. يا إلهي لماذَا أحْظَى بأولئكَ العمالِ الكُسالَى؟! هيا اذهبْ، ما الذي تنتظرُه بحقِّ الجحيمِ؟

    تمتمَ روسي بعدَ أن تنفسَ الصعداءَ، ومرتْ نوبةُ غضبِ سيدِه بأمانٍ:

    - بكلِّ تأكيدٍ يا سيدِي.

    ثم وجَّهَ حديثَه إلى أوزير الذِي كانَ يراقبُه في تلكَ اللحظاتِ مما جعلَه يجفلُ لثوانٍ؛ لأنه شعرَ بأنَّ هناكَ من يطلُّ على روحِه ويتفحصُها وربما يحاولُ تدنيسَها!

    فقالَ سريعًا، وبلهجةٍ حاولَ أن تكونَ مهذبةً بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ:

    - مِنْ هنَا يا سيدِي.

    ولما اختفى أوزير في الداخلِ، فكَّر هيريليك بأنه قد عثرَ على زبونٍ أكثرَ من رائعٍ وسيدفعُ الكثيرَ، فمن يمتلكُ سيفًا مثلَ سيفِه هذَا لا بد أنه يمتلكُ الكثير، وربما يكونُ من النبلاءِ وهوَ لا يدرِي! لكنَّه كانَ متوجسًا قليلًا منَ اسمِه الذائعِ الصيتِ، ولكنَّهُ سريعًا ما صرفَ انتباهَهُ وعادَ يتابعُ عملَه مجددًا.

    ****

    فِي تمامِ الثانيةِ والنصفِ ظهرًا توجَّهَ روسي إلى الحجرةِ الثالثةِ بالدورِ الثاني، على الناحيةِ اليمنَى للطرقَةِ، ليوقظَ أوزير كما طلبَ منهُ.

    كانتِ الحجرةُ تطلُّ على الميناءِ والغاباتِ، وكذلكَ الشرفةُ تمكنُ القاطنَ فيها منْ أن ينظرَ إلى طرفِ القريةِ من خلفِه، وهيَ أفضلُ حجرةٍ بهذهِ الحانةِ على الإطلاقِ، وليسَ في وسعِ أغلبِ الزوارِ تحمُّلُ تكلفتِها، فهِيَ باهظةٌ جدًّا؛ لذلكَ فهِيَ شاغرةٌ معظمَ أوقاتِ العامِ.

    ولم يترددْ أوزير عندَمَا علمَ بسعرِ قضاءِ ليلةٍ واحدةٍ هنا، وعلَى كلِّ حالٍ فهوَ سيقضِي ليلةً واحدةً، وهذَا أسعدَ السيدَ هيريليك كثيرًا؛ إذْ إن هذَا سيدرُّ عليهِ دخلًا أكثرَ منْ دخلِ الليلةِ أمسِ، وهو فِي أشدِّ الحاجةِ للمالِ في تلكَ الأوقاتِ.

    طَقْ.. طَقْ

    كان طرقٌ خفيفٌ، أتبعَهُ روسي بحديثٍ خفيضٍ:

    سيد أوزير.. لقد جئتُ لإيقاظِكَ كما أخبرتَنِي.

    جاءَه صوتُ أوزير:

    أهذا أنتَ يا روسي؟ إذنْ فلتدخلْ.

    فتحَ روسي البابَ، ثم دخلَ بحركةٍ آليةٍ، ووقفَ فوجدَ أمامَه أوزير بكاملِ ثيابِه، وتفرسَ في ملامحِه، فوجدَه لمْ يذقِ النومَ؛ بل إنَّ أثرَ الإرهاقِ بدَا جليًّا على وجهِه مما جعلَه يعتقدُ بأنه لم يحظَ بأيِّ فرصةٍ للنومِ على الإطلاقِ.

    وهذا سبَّبَ هلعًا لروسي، فتساءلَ بدهشةٍ:

    ألمْ تعجبْك غرفتُنا يا سيدي؟! إنها أفضلُ حجرةٍ في هذِهِ الحانةِ كلِّها، بلْ أكادُ أجزمُ بأنَّها أفضلُ حجرةٍ في الأنحاءِ، وأنَا لمْ أكنْ لأقولَ هذا لولَا أننِي قدْ لاحظتُ احمرارَ عينيكَ يا سيدِي، واغفرْ لي وقاحتِي في هذَا الأمرِ.

    ابتسمَ أوزير وقالَ:

    يا لكَ منْ عاملٍ دءوبٍ يا روسي، ولكن لا يوجدُ سببٌ للقلقِ، فالحجرةُ جيدةٌ، وإنني أصدِّقُكَ في أَنها أفضلُ حجرةٍ في الأنحاءِ، ولكنَّ السببَ ليسَ الحجرةَ، ولكنَّه أَنَا. عَلى كلٍّ، لا تشغلْ بالَكَ بهذَا الأمرِ.

    هزَّ روسي رأسَه في عدمِ فهمٍ لبرهةٍ، ولكنه قررَ ألا يزعجَ السيدَ أكثرَ من ذلكَ، لذا قالَ:

    الفطورُ جاهزٌ يا سيدِي، أتودُّ أن نحضرَهُ إليكَ هنَا، أمْ أنكَ تفضلُ تناولَه في الأسفلِ؟

    فأجابَه أوزير:

    سيكونُ رائعًا لو كانَ بالأسفلِ، إنني أتوقعُ قدومَ أحدِهم، ربما ليسَ الآنَ، ربما في وقتٍ متأخرٍ من الليلِ، ولكننِي أودُّ الجلوسَ بينَ روادِكُم قليلًا.

    حركَ روسي رأسَه للأسفلِ قليلًا بحركةٍ آليةٍ وقالَ:

    لكَ هذا يا سيدِي.

    ثم تابعَ بصدرٍ منتفخٍ:

    إنه فطورٌ معدٌّ خصيصًا لكَ يا سيدي، فالوقتُ هو وقتُ الغداءِ في تلكَ الأنحاءِ كما تعلمُ، ولكنَّ السيدَ هيريليك أخبرنَا بأن ننفذَ كلَّ شيءٍ يمرُّ على خاطرِكَ وترغبُ فيهِ.

    رسمَ أوزير ابتسامةً صغيرةً رغمَ إجهادهِ الواضحِ وقالَ:

    وإنني شاكرٌ لصنيعهِ هذَا.

    ****

    أثارَ أوزير دهشةَ القرويينَ والصيادينَ من خلالِ تصرفِه بتناولِ الفطورِ في ذلكَ الوقتِ، ولكنَّه كانَ شاردًا ولم يعبأْ كثيرًا بما يدورُ حولَه، وكانَ ينظرُ فقطْ إلى كوبِ القهوةِ الذي يتناولُه، أوْ إلى الخارجِ حيثُ المياهُ الجاريةُ للنهرِ المكتظِّ نارًا، كما كانَ يمضغُ الخبزَ ببطءٍ شديدٍ.

    وعندمَا انتهَى منْ ذلكَ؛ أخذَ يقرأ أحدَ الأعدادِ القديمةِ للجرائدِ القادمةِ من مدينةِ الأحلامِ، والتي كانتْ تُدعَى منذ زمنٍ طويلٍ جدًّا جدًّا لندن!

    وفي الرابعةِ تململَ أوزير وكادَ يصعدُ إلى غرفتِه لولا ظهورُ رجلٍ عجوزٍ جديدٍ أمامَ بابِ الحانةِ، وتوجَّهَ ناحيةَ هيريليك الواقفِ خلفَ البارِ في خطواتٍ غيرِ متوازنةٍ بالمرةِ فأثارَ انتباهَهُ، وبخاصةٍ حديثُه الذي كانَ مسموعًا لمنْ يمرونَ على الضفةِ الأخرَى من النهرِ، فلمْ يشعرْ أوزير ساعَتَهَا بالحرجِ لتطفلِ أذنيهِ على الحوارِ الدائرِ بينَ هيريليك وياريو.

    قالَ ياريو بصوتِهِ الحادِّ وهو ينثرُ الكثيرَ منْ لعابِهِ:

    أوه يا هيريليك، لقدْ أفسدتَ ابنَ أَخي روسي، أتصدقُ أنه لم يعدْ يخبرُني بالصدقِ في أيِّ شيءٍ؟! هذَا الوقحُ الصغيرُ يكذبُ عليَّ!

    أخذَ هيريليك يمسحُ كوبًا جافًّا بمنشفةٍ، وحدَّقَ في ياريو، وقالَ محاولًا كظمَ غيظِه:

    ربما فعلَ ذلكَ لأنه وجدَك تتطفلُ بأنفِك الطويلِ هذَا في شئونِ الآخرينَ.

    ضحكَ ياريو بشدةٍ، وأخذَ يشربُ منَ الجعَة التي قُدمتْ لَهُ، ثمَّ قالَ:

    اللعنةُ عليكَ، إنني بالرغمِ من سنِّي هذه أشعرُ بأنَّ أنفِي يجعلُني أكثرَ وسامةً، ولكنْ تبًّا، هذا ليسَ شأنَنَا الآنَ، ما أقولُه إننِي أَشعرُ بالحزنِ لذلكَ، إنكَ صديقِي، وهذا لا يعنِي أننِي أتطفلُ عليكَ. إني قلقٌ لحالِكَ؛ بل إنني أكثرُ قلقًا عليكَ من نفسِي وزوجِي في هذِه الأوقاتِ.

    قالَ هيريليك في حينِ ضاقتْ عيناهُ منَ الحزنِ:

    أعلمُ ذلكَ يا ياريو، ولكنْ يضايقُني أنْ يُشعرَني الجميعُ بذلكَ، بلى إنني في مصيبةٍ الآنَ، ولكننِي لنْ أشعرَ بالتحسنِ عندما أجدُ الجميعَ يعرفُ ذلكَ، وينظرُ إليَّ بتلكَ العيونِ الحزينةِ وأرى شفقتَهم ترتسمُ على وجوهِهِم، لا أريدُ أنْ تكونَ أخبارِي على كلِّ لسانٍ، وما حدثَ لجورين، بلْ إنني أراهنُ الآنَ على أنَّ هذَا الشابَّ المهذبَ القادمَ من نواحٍ بعيدةٍ قد علمَ بالكثيرِ الآنَ منْ حديثِكَ الصاخِبِ.. أترَى يا صديقُ!

    شعرَ أوزير بالحرجِ، وبخاصةٍ عندَمَا لوحظَ أنَّه تركَ قراءةَ الصحيفةِ، وانتبه بكلِّ حواسِّهِ للحديثِ الدائرِ، لذلكَ لم يجدْ من بدٍّ غيرَ أن يتحدثَ ويتمتمَ:

    آسفٌ على تطفِلي، ولكنَّنِي بالفعلِ لا أستطيعُ منعَ أذنيَّ منَ التقاطِ الحديثِ، ربما لو صعدتُ لأعلَى أو خرجتُ لتفاديتُ ذلكَ.

    تبسمَ هيريليك بأسًى وقالَ:

    لا عليكَ أيُّها الشابُّ، لا عليكَ، فالكلُّ يعلمُ ذلكَ الآنَ، لقدْ خُطِفَتِ ابنتِي درةُ قلبِي جورين منذُ ثلاثةِ أيامٍ، وهذِه المَرةُ على يدِ أكثرِ الذئابِ المتكلمةِ شراهةً في هذِه المنطقةِ.. ديجريك.

    نطقَ باسمِ الذئبِ بكراهيةٍ شديدةٍ، وتوقفَ ليلتقطَ أنفاسَه ثمَّ استطردَ قائلًا:

    هذَا الجشِعُ يريدُ خمسينَ ألفَ جنيهٍ، لَوْ كانَ لديَّ مثلُ هذا المبلغِ لما جعلتُ ابنتِي في هذَا المكانِ البائسِ، إنهُ رقمٌ هائلٌ جدًّا لشخصٍ مثلِي.

    وعلَّقَ ساسكيف من الطرفِ الأبعدِ للقاعةِ:

    بلْ جدًّا جدًّا يا هيريليك، إن أكبرَ مبلغٍ يطلبونَهُ لا يتعـدَّى سبعـة آلافِ جنيهٍ.. إنه يريدُها لنفسِه يا هيريليك.

    حرَّكَ أوزير رأسَه باتجاهِ ساسكيف، ولما وقعَ نظرُهُ عليهِ، شعرَ بالكراهيةِ ناحيتَهُ، عضَّ أوزير علَى شفتَيهِ محاولًا تجاهلَ ما سمعَه منْ أفكارٍ دنيئةٍ، وعادَ لينظرَ باتجاهِ هيريليك مرةً أخرَى.

    كزَّ هيريليك على أسنانِهِ، وكأنَّه لمْ يسمعْ قولَ ساسكيف وتابعَ:

    حتى لو بعتُ تلكَ الحانةَ، فإنَها لنْ تأتِيَ بنصفِ ما طلبَه، إني أحاولُ جاهدًا الوصولَ إلى أحدِ الصيادينَ، حاولتُ رشوةَ أحدِ حراسِ عُمدةِ القريةِ؛ ومعَ ذلكَ فقد أخذَ المالَ ولم يفعلْ شيئًا، أولئكَ الملاعينُ.

    لم تتبدلْ ملامحُ أوزير عندمَا علمَ بأمرِ تلكَ المحاولةِ، وبدلًا منْ ذلكَ سألَ:

    وماذا عنِ الكابوسيينَ؟ ألم تستطعِ الوصولَ إلى أحدٍ منهُمْ؟!

    تنهَّد هيريليك وقالَ:

    همْ كالحشراتِ هنَا، يخشَوْنَ الصيادينَ كالطاعونِ بالرغم من أنني عرضتُ مبلغًا يسيلُ له اللعابُ وتأكيدِي لهمْ بأنَّ آخرَ مرةٍ شُوهدَ صيادٌ هنا كانَ منذُ عامٍ ونصفِ العامِ لكنَّ كلَّ الكابوسيينَ الذينَ أرسلتُ إليهم فِي الخفاءِ رفضُوا ذلكَ، تبًّا لهمْ وتبًّا للصيادينَ أيضًا، إنني أحاولُ أن أصيحَ فيهمْ وأخبرَهُم أنني أتعاملُ مع الكابوسيينَ حتى يأتُوا ويقبضُوا عليَّ؛ ليفعلُوا ذلِكَ، ليحبسونِي بتهمةِ التعامُلِ معَ كابوسيينَ، لن أهتمَّ، ولكنْ لينقذُوا ابنَتِي، ومعَ ذلكَ لمْ يأتُوا! وذلكَ العمدةُ اللَّعِـ...

    قاطعَه ياريو سريعًا:

    اصمتْ يا هيريليك.. اصمتْ، أنتَ لستَ في حاجةٍ إلى أن تزيدَ منْ مشاكلِكَ مرةً أخرَى.

    أجابَه هيريليك على مضضٍ، وبحزنٍ شديدٍ:

    أعلمُ، ولكنْ يا ياريو هذَا اللَّعِينُ..

    ثمَّ سكتَ وكظَمَ غيظَه وألمَه.

    فكَّرَ أوزير أنهُ لو أبدَى أسفَه وتعاطفَه فربما أغضبَ ذلكَ السيدَ هيريليك؛ لذلكَ آثرَ أن يحافظَ على جمودِ وجهِهِ ولو مؤقتًا، فهو ربما الشخصُ الوحيدُ في هذِهِ الحانةِ الذي يدركُ مدَى الألمِ والأسَى الذي يعْترِي السيد هيريليك الآنَ.

    قالَ هيريليك وهوَ يحاولُ أن يرسمَ ابتسامةً بالرغمِ منْ تلألؤِ عيونِه بالدموعِ:

    لا تشغلْ بالَكَ يا سيدِي.. لا نريدُ أن نكدرَ صفوَ زبائنِنَا.. اعذرنِي على ذَلكَ.

    لم يستطعْ أوزير أن يمنعَ نفسَه هذِه المرةَ، فوقفَ على قدميهِ، وحركَ كرسيَّهُ الخشبيَّ بضعَ بوصاتٍ مما استحوذَ على أغلبِ انتباهِ الحاضرينَ في ذلكَ الوقتِ، وتمطى، ثمَّ ضغطَ على أصابِعِه التي أصابَهَا التيبسُ قليلًا، وارتـدَى قبعتَهُ المستدقَّةَ، ثـمَّ توجَّـهَ ناحيةَ البارِ، وتحدثَ إلى السيدِ هيريليك:

    هلْ تعذرُ وقاحتِي إذا ما طلبتُ منكَ صورةً لابنتِك؟

    هزَّ هيريليك رأسَه، وبدتْ في عينيهِ نظرةُ دهشةٍ ممزوجةٍ بالتساؤلِ، لكنهُ قالَ:

    لا توجدُ مشكلةٌ.

    وتركَ زجاجاتِ الشرابِ والكئوسَ من يديْهِ، ثم جعلَ يحركُ يمناهُ إلى البطانةِ الداخليةِ لملابسِه، ثم أخرجَ محفظةً جلديةً، فتحَهَا هي الأخرَى، وأخرجَ منها صورةً من ورقٍ أصفرَ باهتٍ، وناولَهَا أوزير.

    لم يكنْ أوزير في حاجةٍ إلى أن ينظرَ إلى الصورةِ بالمرةِ؛ لأنهُ ما إن ألقى نظرةً على عينيْ هيريليك الحزينتينِ حتى تمكنَ من رؤيةِ العديدِ من الذكرياتِ الخاصةِ به وبابنتِه جورين، حينمَا كانتْ رضيعةً في المهدِ، ومرةً حينَما كانتْ طفلةً تلهُو في المروجِ الخضراءِ، ثمَّ شابةً بديعةَ الجمالِ تفتنُ الناظرينَ، ثمَّ ذلكَ الفتى ناري الذي خُطبتْ إليهِ في الصغرِ، ولكنَّ ما أثارَ انتباهَ أوزير هو تلكَ الذكرَى الحديثةُ – ربما كانتْ منذُ ثلاثةِ أيامٍ على أقصى تقديرٍ- كانَ هناكَ عراكٌ ضخمٌ نشبَ بينَ هيريليك وشخصٍ آخرَ، وكانَ محاطًا بالعديدِ منَ الحراسِ، كانتْ ذكرى سيئةً حينما وقفَ أمام عجوزٍ بدينٍ يمتلكُ نظرةً شامتةً متشفيةً وإلى جوارِهِ شابٌّ يشابِهُه في نفسِ الملامحِ والنظرةِ الأفعوانيَّةِ.

    قالَ البدينُ لهُ بضحكتِهِ القاسيةِ:

    حتَّى لو وافقتَ الآنَ، لم يعدْ يهمُّنَا أمرُها، فهذَا هو مصيرُ كلِّ من يرفضُ ابني العزيزَ ويفضلُ عليه الحثالةَ، انسَ أنني سأساعدُ شخصًا مثلَكَ وأنْ أطلبَ أحدَ الصيادينَ من المدينةِ.

    كانَ هذَا الرجلُ هو عمدةَ القريةِ، فخمَّنَ أوزير ما تعرضَ لهُ هيريليك من ابتزازٍ ومهانةٍ، فشَعَرَ بالأسَى عليْهِ أكثرَ وأكثرَ، لكنَّهُ سريعًا ما رسمَ ابتسامةً واسعةً أزالت آثارَ إرهاقِهِ وتعبِهِ، ثمَّ قالَ بلهجةٍ ودودٍ:

    إنها سيدةٌ صغيرةٌ جميلةٌ حقًّا، وهذا يجعلُني أودُّ أنْ أراهَا أمامِي فِي الواقعِ ولأنَّ ..

    وفجأةً قطعَ حديثَه دخولُ امرأةٍ عجوزٍ إلى الحانةِ، وبالرغمِ من كبرِ سنِّها فإنها كانتْ تهرولُ ناحيةَ هيريليك وتصرخُ، وتبكِي، وعندما حاولَ هيريليك فهمَ ما تودُّ إخبارَه بِه لمْ يفهمْها، وكذلكَ بقيةُ روادِ الحانةِ عدَا أوزير الذي أدركَ من الوهلةِ الأولَى سرَّ هلعِهَا، وكانَ على البقيةِ أنْ يتابعُوا محاولاتِها لاستعادةِ إيقاعِ تنفسِها وعودةِ صوتهِا إلى نقطةِ الوضوحِ، ولكنَّهَا لم تتخلَّ عنْ نبرتِها الزاعقةِ:

    أَنجدونِي، هذا المغفلُ ناري ذهبَ إلى غابةِ ديجريك، لقدْ خدعَنِي بعدمَا وعدَنِي بعدمِ الذهابِ إلى هناكَ.

    اصفرَّ وجهُ هيريليك وباتَ في لونِ الموتى، وكذلكَ كانَ حالُ وجوهِ من سمعُوا هينس بالطبعِ ما عدَا أوزير، فجميعُ أهلِ القريةِ يعلمون أنَّ جورين لناري وناري لجورين.

    تمتمَ هيريليك وبحنقٍ بالغٍ:

    هذا الأحمقُ.

    ضجتِ الحانةُ بالكثيرِ منَ الأحاديثِ الخافتـةِ التى تأسفُ لحالِ كلٍّ منْ جورين وناري، ولكنْ فجأةً توقفتِ الأحاديثُ وعمَّ الصمتُ عندما توجهَ أوزير ناحيةَ هينس، وربَّتَ على كتفيْها وقالَ:

    لا تقلقي، سأذهبُ أنا لإيقافِه واستعادةِ جورين، فهذَا ما كنتُ أنوِي فعلَه قبلَ دخولِك إلى الحانةِ.

    حملقتْ هينس فيهِ بشدةٍ، ورأتِ الصدقَ في عينيْ أوزير فترقرقتْ عيناهَا بالدموعِ، بينما فَغَرَ جميعُ روادِ الحانةِ أفواهَهُمْ وعَلا ملامحَهُم الكثيرُ منْ علاماتِ التعجبِ والاستفهامِ.

    فقال أوزير ليؤكدَ لهمْ ما قالَه:

    كلُّ ما عليَّ الذهابُ إلى الضفةِ الأخرَى لأجدَ ناري وجورين وذلكَ الذئبَ، أليسَ كذلكَ أيُّها السيدُ هيريليك؟

    أومَأَ هيريليك برأسِهِ وقد ألجمتْهُ الصدمةُ، وبالكثيرِ من الجهدِ تمكَّنَ من قولِ:

    هلْ أنتَ...!

    تبسمَ أوزير وتمتمَ:

    لا يا سيدي..ألمْ أخبرْك من قبلُ بأنَّ اسمِي يسببُ لي الكثيرَ منَ المشاكلِ في هذِهِ الأنحاءِ.. أنا لستُ ضمنَ هؤلاءِ أو هؤلاءِ.. والآنَ أظنُّ أنَّه منَ الأفضلِ أنْ أذهبَ قبلَ أنْ يحلَّ الظلامُ، ورجاءً هلْ تصنعُ لي معروفًا؟

    تساءلَ هيريليك وقدْ غمرتْهُ الدهشةُ والصدمةُ معًا:

    أيُّ معروفٍ؟!

    ابتسمَ أوزير ابتسامةً هادئةً وقالَ:

    لي صديقٌ ربما يأتي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1