Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

قصة الحضارة
قصة الحضارة
قصة الحضارة
Ebook755 pages6 hours

قصة الحضارة

Rating: 5 out of 5 stars

5/5

()

Read preview

About this ebook

قصة الحضارة ‏ كتاب موسوعي تاريخي من تأليف الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت وزوجته أريل ديورانت، يتكون من أحد عشر جزءاً يتحدث فيه عن قصة جميع الحضارات البشرية منذ بدايتها وحتى القرن التاسع عشر ويتسم بالموضوعية، وبالمنهج العلمي
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJun 3, 1905
ISBN9786342298749
قصة الحضارة

Related to قصة الحضارة

Related ebooks

Reviews for قصة الحضارة

Rating: 5 out of 5 stars
5/5

1 rating0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    قصة الحضارة - ويليام جيمس ديورَانت

    الغلاف

    قصة الحضارة

    الجزء 30

    ويليام جيمس ديورَانت

    1981م

    قصة الحضارة ‏ كتاب موسوعي تاريخي من تأليف الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت وزوجته أريل ديورانت، يتكون من أحد عشر جزءاً يتحدث فيه عن قصة جميع الحضارات البشرية منذ بدايتها وحتى القرن التاسع عشر ويتسم بالموضوعية، وبالمنهج العلمي

    يوهان سبستيان باخ

    1685 - 1750

    أ - مراحل حياته

    ولد في 21 مارس 1685 بأيزيناخ في دوقية ساكسيفايمار. وفي الكوتهاوس المشرف على ميدان لوثر كان المصلح الديني العظيم قد عاش صباه، وعلى تل مشرف على المدينة فارتبورج، القلعة التي اختبأ فيها من شارل الخامس (1521 وترجم العهد الجديد، إن أعمال باخ أشبه بالإصلاح البروتستنتي ملحناً.

    واتت أمه وهو في التاسعة، ومات أبوه بعد ثمانية أشهر، وضم يوهان سبستيان وشقيقه يوهان باكوب إلى أسرة أخيهما يوهان كريستوف. وفي الجمنازيوم بأريزيناخ تلقى سبستيان الكثير من تعاليم المسيحية وبعض اللاتينية، وفي الليسية بمدينة أوردروف القريبة درس اللاتينية، واليونانية، والتاريخ، والموسيقى. وكان متقدماً في فرقته، فرقي بسرعة وكان أبوه قد علمه الكمان، وعلمه أخوه كريستوفر البيان القيثاري. وعكف بشغف على هذه الدراسات الموسيقية، وكأن الموسيقى تجرى في عروقه. ونسخ عدداً كبيراً من المؤلفات الموسيقية التي لم تكن ميسرة له بانتظام نسخاً كاملا، وهكذا بدأ الأذى الذي لحق ببصره فيما يظن البعض.

    فلما ناهز سبستيان الخامسة عشرة انطلق ليكسب قوته تخفيفاً عن أسرة يوهان كريستوف المتزايدة. فوجد وظيفة مغن سوبرانو في مدرسة ديرر القديس ميخائيل بلونيبرج، فلما تغير صوته احتفظت به المدرسة عازفاً للكمان في الأوركسترا. ومن لونيبرج زار همبورج، التي تبعد عنها ثمانية وعشرين ميلا، ربما للذهاب إلى الأوبرا، ولكن بالتأكيد للاستماع إلى عزف يوهان ادم راينكن، عازف أرغن كنسية القديسة كاترين البالغ من العمر سبعة وسبعين عاماً. ولم تجتذبه الأوبرا، ولكن فن الأرغن استهوى روحه القوية النشيطة، ففن تلك الآلة الشامخة استشعر تحدياً لكل طاقته ومهارته. فما وافت سنة 1703 حتى كان قد بلغ من البراعة في العزف عليها مبلغاً حمل الكنيسة الجديدة بآرنشتات (القريبة من أرفورت) على استخدامه ليعزف ثلاث مرات كل أسبوع على الأرغن الكبير الذي ركب في الكنيسة مؤخراً، والذي ظل مستعملا حتى 1863. أما وقد أطلق يده في استعمال هذه الآلة لدراساته. فإنه بدأ الآن تلحين أول أعماله الهامة.

    وقد أبقاه الطموح دائم التحفيز للنهوض بفنه. ونمى إليه أن أشهر عازف على الأرغن في ألمانيا، ديترش بوكستيهودي، سيعزف في مدينة لوبيك على بعد خمسين ميلا منه، سلسلة من الألحان فيما بين عيد القديس مارتن وعيد الميلاد في كنيسة مريم. فطلب إلى مجلس كنيسته إجازة شهر، فمنح الإجازة، وأناب ابن عمه يوهان ارنست في أداء عمله وصرف راتبه ثم انطلق راجلا إلى لونيك (أكتوبر 1705). وقد رأينا هاندل وماتيزون يقومان بمثل رحلة الحج هذه. ولم يغر باخ بزواج ابنه بوكستيهودي لقاء وراثة وظيفة، إنما كان يريد أن يدرس أسلوب الأستاذ في العزف على الأرغن. ولا بد أن هذا أو شيئاً غيره قد استهواه، لأنه لم يعد إلى أرنشتات حتى منتصف فبراير. وفي 21 فبراير 1706 وبخه مجلس الكنيسة على مده إجازته، وعلى إدخال تنويعات غريبة في إستهلالات ترانيمه الجماعية. وفي 11 نوفمبر أنذر لتقصيره في تدريب فرقة الترتيل تدريباً كافياً، ولسماحه سراً لعذراء غريبة بالتراتيل في الكنيسة، (ولم يكن يسمح للنساء بعد بالترتيل في الكنيسة). أما الفتاة الغريبة فكانت ماريا برباره باخ، ابنة عمه. وقدم من الاعتذارات ما استطاع تقديمه، ولكنه استقال في يونيو 1707، وقبل وظيفة عازف الأرغن لكنيسة القديس بلازيوس بمولهاوزن. وتقرر أن يكون راتبه السنوي خمسة وثمانين جولدينا، وثلاثة عشر بوشلا من القمح، وكردين من الخشب، وست حزم من الحطب، وثلاثة أرطال من السمك-وهو راتب يعد حسناً جداً بالنسبة للزمان والمكان (42) وفي 17 أكتوبر تزوج ماريا برباره.

    ولكن تين له أن مولها متعبة كأرنشتات. ذلك أن جزءاً من المدينة كان قد احترق، ولم يكن أهلها المرهقون في حال يتقبلون معها هذه التنويعات الغريبة، وكان شعب الكنيسة ممزقاً بين اللوتريين السنيين المولعين بالترتيل، والتقويين الذين يعتقدون أن الموسيقى أقرب الأشياء إلى الكفر. وكانت فرقة المرتلين تشكو الفوضى، وباخ يستطيع إحالة الفوضى نظاماً في الأنغام لا في الرجال. فلما تلقى دعوة ليصبح عازف أرغن ومديراً للأوركسترا في بلاط فلهلم إرنست دوق ساكسيفيمار، توسل إلى رؤساءه أن يخلو سبيله (43). وفي يونيو 1708 انتقل إلى وظيفته الجديدة.

    وكان يتلقى راتباً طيباً في فيمار -156 جولدينا في العام، رفعت إلى 225 في 1713، واستطاع الآن أن يطعم الأفراخ التي كانت ماريا برباره تفقسها. ولم يقنع بحاله تماماً، لأنه كان خاضعاً لرئيس المرتلين في الكنيسة يوهان دريزي، ولكنه أفاد من صداقة يوهان جوتفريد فالتر، عازف الأرغن في كنيسة المدينة، ومؤلف أول قاموس موسيقي ألماني (1732)، وملحن كورالات لا تقل جودة عن كورالات باخ. وبما اضطلع في دراسة الموسيقى الفرنسية والإيطالية باهتمام الآن بفضل فالتر المثقف. وقد أحب فريسكوبالدي وكوريللي، ولكنه افتتن جداً بكونشرتات الكمان التي وضعها فيفالدي، ونقل تسعة منها لآلات أخرى. وكان أحياناً يدخل شذرات مما نقل في ألحانه. ونستطيع أن نحس أثر فيفالدي في كونشرتات برندنبورج ولكنا نحس فيها أيضاً روحاً أعمق وفناً أغنى.

    أما أهم واجباته في فيمار فعزف الأرغن في كنيسة القلعة (شلوسكيرشي). وهناك كان في متناوله أرغن صغير ولكنه مجهز تجهيزاً كاملا. وألف لهذه الآلة الكثير من أعظم قطعه الأرغنية: الباسا كاليا والفوجه في مقام C الصغير، وأفضل التوكاتات، ومعظم الاستهلالات والفوجات الكبيرة. وكتاب الأرغن الصغير (أورجلبوخلاين). وكانت شهرته إلى الآن عازف أرغن لا ملحناً. وقد تعجب المشاهدون، ومنهم ماتزون الناقد، لخفة حركته في استعمال المفاتيح، والدوسات، والضوابط، وصرح أحدهم بأن قدمي باخ تطيران على لوحة الدواسة كأنما كان لهما جناحان (44) ودعي ليعزف في هاللي، وكاسل، وغيرهما من المدن. وفي كاسل (1714) أعجب به ملك السويد القادم فردريك الأول إعجاباً حمله على أن يخلع من أصبعه خاتماً ماسياً ويعطيه لباخ. وفي 1717، التقى باخ في درسدن بجان لوى مارشان الذي ذاع صيته في الأرض عازف أرغن للويس الخامس عشر. واقترح بعضهم مباراة بين العازفين، واتفقا على اللقاء في البيت الكونت فون فلمنج، وكان على كل منهما أن يعزف بمجرد النظر أي لحن أرغني يوضع أمامه. وحضر باخ في الساعة المحددة، ولكن مارشان رحل عن درسدن قبله لأسباب مجهولة الآن، فأتاح لباخ نصراً غيابياً لم يشرح صدره.

    على أن القوم تخطوه في الترقية، رغم اجتهاده وشهرته المتزايدة، حين مات رئيس عازفي فيمار، وأعطيت الوظيفة لابن الميت. وكان باخ في حالة استعداد نفسي لتجربة بلاط جديد. وعرض عليه ليوبولد أمير أنهالتكوتن وظيفة رئيس عازفيه. ولكن دوق ساكسيفيمار الجديد، قلهلم أوغسطس، رفض أن يخلي سبيل عازف أرغنه. وألح باخ عليه، فسجنه (6 أبريل 1717)، وثابر باخ على اصراره، فأطلقه الدوق (2 ديسمبر)، وهرول باخ بأسرته إلى كوتن. ولما كان الأمير ليوبولد كلفنيا لا يوافق على موسيقى الكنيسة، فقد كانت وظيفة باخ أن يدير أوركسترا البلاط، الذي كان الأمير نفسه يعزف فيه الفيولا دا جامبا (فيولا الساق). وعليه ففي هذه الفترة (1717 - 23) ألف باخ الكثير من موسيقى الحجرة، بما فيها السويتات الإنجليزية والفرنسية. وفي 1721 أرسل إلى كرستيان لودفج حاكم براندنبورج الكونشرتات التي تحمل ذلك الاسم.

    تلك كانت في أكثرها سنوات سعيدة، لأن الأمير ليوبولد أحبه، واصطحبه في رحلات شتى، وأظهر في فخر موهبة باخ، وظل صديقا له يوم فرق التاريخ بين طريقيهما. ولكن حدث في يوليو 1720 أن ماتت ماريا برباره بعد أن ولدت لباخ سبعة أطفال ظل أربعة منهم على قيد الحياة. وبكاها سبعة عشر شهراً، ثم اتخذ له زوجة ثانية تسمى أنا مجدلينا فولكن، ابنة نافخ بوق في أوركستراه. وكان الآن في السادسة والثلاثين، وهي لا تتجاوز العشرين، مع ذلك قامت خير قيام بما ناطها به من واجب-وهو أن تكون أماً وفية لأطفاله. أضف إلى ذلك أنها كانت تعرف الموسيقى، فساعدته في تلحينه، ونسخت مخطوطاته، وغنت له بصوت وصفه بأنه سوبرانو شديد الصفاء (45). وقد أنجبت له ثلاثة عشر طفلا، مات سبعة منهم قبل أن يبلغوا الخامسة. لقد نزلت بتلك الأسرة العجيبة فواجع كثيرة. وقد أزعجت باخ مشكلة تعليم أطفاله بازياد عددهم. وكان لوثرياً متحمساً، كره الكلفنية الكئيبة التي تعلم العقيدة الكلفنية. ثم أن أميره المحبوب تزوج (1721) أميرة شابه قللت مطالبها من ليوبولد من اهتمامه بالموسيقى. ومرة أخرى رأى باخ أن قد آن أوان التغيير. لقد كان روحاً قلقة، ولكن القلق صنعه، ولو أنه ظل في كوتن لما سمعنا به قط.

    وحدث في يونيو 1722 أن مات يوهان كوناو، بعد أن شغل عشرين عاماً وظيفة قائد فرقة الترتيل في مدرسة توماس بليبزج. وكانت مدرسة خاصة ذات سبعة صفوف وثمانية مدسين، تهتم بتدريس اللاتينية والموسيقى واللاهوت اللوثري. وكان على الطلاب والخريجين، بإشراف قائد فرقة الترتيل، أن يقدموا الموسيقى للكنائس المدنية. وكان القائد خاضعاً لمدير المدرسة والمجلس البلدي الذي يدفع الرواتب.

    وطلب المجلس إلى تيليمان أن يشغل الوظيفة الشاغرة، لأنه حبذ الأسلوب الإيطالي الذي اتسمت به ألحان تيليمان، ولكنه رفض. فعرضها على كريستوفر جراوبنر قائد فرقة المرتلين في دارمشتات، ولكن رئيس جراوبنر أبى أن يحله من عقده. وفي 7 فبراير تقدم باخ للمجس طالباً الوظيفة، وارتضى شتى الاختبارات التي أجريت عليه للتأكد من كفايته. ولم يشك أحد في مهارته عازفاً للأرغن، ولكن بض أعضاء المجلس رأوا أن أسلوب ألحانه يتسم بروح محافظة شديدة (46). وكان اقتراح أحدهم رجلا متوسط الكفاية (47). واستخدم باخ (22 أبريل 1723) بشرط أن يقوم بتدريس اللاتينية فضلا عن الموسيقى وأن يحيا حياة التواضع والهدوء، وأن يوقع بقبوله العقيدة اللوثرية، وأن يبدي للمجلسكل الاحترام والطاعة الواجبين وألا يغادر المدينة قط بغير إذن من العمدة. وفي 30 مايو أسكن هو وأسرته في جناح المدرسة السكني، وبدأ واجباته الرسمية. وظل يشغل هذه الوظيفة الثقيلة الأعباء حتى مماته.

    وأخذ منذ الآن يلحن مؤلفاته الموسيقية، فيما عدا القداس بمقام ب الصغير، لاستخدامها في كنيستي ليبزج الرئيسيتين - كنيسة القديس توماس وكنيسة القديس نيقولا. وكانت خدمات الكنيسة يوم الأحد تبدأ في الساعة السابعة صباحاً بمقدمة على الأرغن، ثم يرتل القسيس الصلاة الافتتاحية، وترتل فرقة المرتلين كيريا (مطلع صلاة كيرياليسون-أي يا رب ارحمنا)، ويرتل القسيس والفرقة - وأحياناً المصلون - ترتيلة جلوريا (أي المجد لله في الأعالي) بالألمانية، ثم يرتل المصلون ترتيله. ويرتل القسيس الإنجيل وقانون الإيمان، ويعزف عازف الأرغن مقدمة، وترتل الفرقة كنتاتا، والمصلون ترتيلة نؤمن كلنا بإله واحد، ويلي ذلك عظة للقسيس تمتد ساعة، يعقبها الصلاة ثم البركة. وبعد ذلك يأتي تناول القربان المقدس، ثم ترنيمة أخرى. وتنهي هذه الخدمة في الساعة العاشرة شتاء والحادية عشرة صيفاً. وفي الحادية عشرة يتناول الطلاب والمدرسون الغداء في المدرسة. وفي الواحدة والربع بعد الظهر تعود الفرقة إلى الكنيسة لصلاة المساء، ومزيد من الصلوات، والترانيم، والعظة، وتسبحة تعظم نفسي الرب Magnificat في صيغتها الألمانية. وفي الجمعة الكبيرة ترتل الفرقة لحن الآم المسيح. ولكي يؤدى باخ الموسيقى لهذه الخدمات كلها درب فرقتين، كل منهما من نحو اثنى عشر عضواً، وأوركسترا يعزف على نحو ثماني عشرة آلة. وكان المغنون المنفردون جزءاً من الفرقة، يرتلون معها قبل ألحانهم ومقاطعهم الملحونة وبعدها.

    ولقاء هذه الخدمات المعقدة التي أداها باخ في ليبزج كان يتقاضى راتباً في المتوسط سبعمائة طالر في السنة، يدخل فيه نصيبه من صروفات التلاميذ المدرسية، وأتعابه نظير تقديم الموسيقى في الأفراح والمآتم.

    وكانت سنة 1729، التي جاءت ب لحن آلام المسيح كما رواها القديس متي، في حساب باخ سنة سيئة، لأن الجو اعتدل جداً حتى عز الموتى (48). وكان بين الحين والحين يكسب بعض المال الإضافي من قيادة الحفلات الموسيقية العامة للجماعة الموسيقية. وحاول أن يزيد من دخله بالمطالبة بالإشراف على الموسيقى في كنيسة القديس بولس الملحقة بجامعة ليبزج، وعارضه بعض منافسيه عليها، فظل سنتين في خلاف مع السلطات الجامعية وانتهى إلى حل وسط غير مرض لكل الأطراف المعنية.

    ثم خاض معركة طويلة أخرى مع المجلس البلدي الذي يختار الطلبة لمدرسة توماس، ذلك أن أعضاء المجلس نزعوا إلى أن يرسلوا له طلاباً اختيروا بفضل نفوذ سياسي الكفاية موسيقية فيهم، فلم يستطيع باخ أن يصنع من هؤلاء الوافدين الجدد مرتلين لا للسوبراو ولا للمجهز، وفي 23 أغسطس 1730 أودع المجلس احتجاجاً رسمياً، وكان رد المجلس أن رماه بأنه معلم غير كفء وضابط للنظام ضعيف، وبأنه كان يفقد أعصابه وهو يوبخ التلاميذ، وبأن الفوضى تستشري في فرق الترتيل وفي مدرة. (49) وكتب باخ إلى صديق بلوينبرج يطلب إليه أن يساعده في العثور على وظيفة أخرى. فلما لم يفتح في وجهه باب التمس (27 يوليو 1733) من أوغسطس الثالث، ملك بولندة الجديد، أن يعطيه في بلاطه منصباً ولقباً يحميانه مما يلقاه من إهانات لا يستحقها وأبطأ أوغسطس في الاستجابة ثلاث سنوات، وأخيراً (19 نوفمبر 1836) خلع على باخ لقب ملحن البلاط الملكي. وكان المدير الجديد لمدرسة توماس خلال ذلك ينازع باخ حقه في تعيين عرفاء لفرقة وتأديبهم وجلدهم. وطال النزاع شهوراً، وطرد باخ مرتين العريف الذي عينه إرنستي من منصبه الأرغن، وأخيراً ثبت الملك سلطة باخ.

    لم تكن حياته قائداً للمرتلين في ليبزج إذن بالحياة السعيدة. فلقد سكب روحه وطاقته في ألحانه وفي أدائها، فلم يبق بعد ذلك شئ كثير لممارسة التربية أو الدبلوماسية. وقد وجد بعض العزاء في صيته الذائع ملحناً وعازف أرغن. وقبل الدعوات للعزف في فيمار، وكاسل، وناومبورج، ودرسدن، ونقد أجراً على هذه الحفلات العارضة وعلى اختباره للأراغن. وفي 1740 عين ابنة كارل فليب ايمانويل صناجاً في أوركسترا كنيسة فردريك الأكبر. وفي 1741 زار باخ برلين، وفي 1747 دعاه فردريك للحضور وتجربة البيانات التي اشتراها مؤخراً من جوتفريد زلبرمان. وأدهشت الملك ارتجالات باخ العجوز، وتحداه أن يرتجل فوجه في ستة أقسام، فأبهجته استجابة باخ. ولما عاد باخ إلى ليبزج لحن ثلاثية الفلوت، والكمان، والبيان القيثاري، وأرسلها هي وقطعاً أخرى هدية موسيقية للملك عازف الفلوت، بوصفه ملكاً هو محط الإعجاب في الموسيقى كما في جميع فنون الحرب والسلام الأخرى (50). وفيما خلا هذه الفواصل المثيرة، كرس باخ نفسه بإخلاص مضن لواجباته قائداً للمرتلين، ولحبه لزوجته وأبنائه، وللتعبير عن فنه وروحه في أعماله.

    ب - مؤلفاته الموسيقية

    (أ) -الآلية

    كيف نعتذر لاجترائنا على هذا العرض لضخامة إنتاج باخ وتنوعه دون أن تتوفر لنا كفاية المحترفين للقيام بهذه المهمة؟ ليس في وسعنا أن نفعل شيئاً هنا، اللهم إلا أن نقدم للقراء قائمة تجملها المحبة لباخ.

    فلنبدأ إذن بمؤلفاته للأرغن، فالأرغن ظل غرامه المقيم، لم يضارعه فيه أحد غير هاندل الذي فقد وراء البحار. كان باخ يحب أحياناً أن يفك كل ضوابطه لمجرد اختبار رئاته وجس قوته. وكان يلهو به لهوه بآلة دانت لسيطرته تماماً، وخضعت لكل شطحاته. ولكنه في استبداده هذا وضع حداً لأهواء العازفين بتحديده الأوتار التي يجب استعمالها بعلامات الجهير (الباص) المدونة، وذلك بأرقام في أسفلها، وهذا هو الجهير المرقم أو الكامل الذي يعين السلسلة المتصلة التي ينبغي أن يصاحب بها الأرغن أو البيان القيثاري الآلات الأخرى أو الصوت.

    وخلال مقام باخ في فيمار أعد لابنه الأكبر ولغيره من الطلاب كتيباً للأرغن من خمسة وأربعين استهلالا كورالياً، وأهداه إلى الإله العلي وحده تمجيداً له، وإلى جارى لكي يعلم به نفسه. وكانت وظيفة الاستهلال الكورالي أن يكون مقدمة بالآلات لترنيمة جماعية، ليرسم موضوعها ويحدد طابعها. ورتبت هذه الاستهلالات لتؤلف متتاليات ملائمة لعيد الميلاد، وأسبوع الآلام، وعيد القيامة، وظلت وقائع السنة الكنيسية هذه إلى النهاية Alle Menschen mussen sterben (كل البشر مصيرهم الموت)، تلتقي بموضوع من موضوعات باخ التي يعود إليها المرة بعد المرة، ويخفف منه على الدوام عزمه على مواجهة الموت بالإيمان بقيامة المسيح بشيراً بقيامتنا. وسنسمع هذه النغمة ذاتها بعد سنوات في لكورال الحزين Komm, susser tod (تعال أيها الموت الحلو). ويرافق هذه التقوى الغامرة في هذه الاستهلالات، وفي ألحان باخ الآلية بوجه عام، مرح صحي، فتراه يطفر أحياناً فوق المفاتيح في فرحة تنويعات تذكرنا بشكاوى مجلس كنيسة أرنشتات منه.

    وبلغت جملة ما خلفه باخ من المقدمات الكورالية 143، يعدها دارسو الموسيقى أول أعماله وأكملها منم الناحية التقنية. فهي قصائده الغنائية كما أن القداسات وألحان الآلام ملاحمه. وقد طوف بسلم الأشكال الموسيقية كلها، ولم يسقط منه غير الأوبرا لأنها غريبة على وظيفته ومزاجه، ومفهومه عن الموسيقى قرباناً لله قبل كل شئ. ولكي يفسح لفنه مجالا أرحب أضاف فوجة للمقدمة، فجعل فكرة الجهير تتابع نفس الفكرة الرئيسية في الندى، أو العكس، في لعبة متشابكة أبهجت نفسه الولوعة بالطباق الموسيقى. فترى لحن المقدمة والفوجة بمقام E الصغير يبدأ ببساطة مغرية، ثم يحلق في أجواء معقدة من الغنى والقوة تكاد تلقى الرعب في أذن السامع. أما لحن المقدمة والفوجة بمقام D الصغير فهو باخ على أروعه بناءاً، وصنعة فنية، وتطويراً للفكرة الرئيسية، وخصوبة تصورية، وقوة عارمة. وربما كان أروع من هذا إلباسا كاليا والفوجة بمقام C الصغير. وقد أطلق الأسبان اسم Pasacalle على اللحن الذي يعزفه موسيقى عابر بالطريق؛ وأصبح في إيطاليا لوناً من الرقص، أما في باخ فهو فيض جليل من النغم، يجمع بين البساطة والتأمل والعمق.

    وألف باخ للأرغن أو موترة المفاتيح اثنتي عشرة توكاتات tocattas أي قطعاً تستطيع أن تمرن لمس العازف. وكانت تحتوي على ضربات سريعة على لوحة المفاتيح ونغمات عالية جريئة، وأخرى خافتة رقيقة، وفوجه من النغمات يدوس بعضها أعقاب بعض في دعابة وعبث. وقد ظفرت التوكاتا والفوجه في مقام D الصغير، في هذه المجموعة، بأكبر عدد من المستمعين، وبعض، الفضل في هذا راجع لألحان أوكسترالية مكيفة كانت أنسب من الأرغن للأذن العصرية غير الكنسية. ومن بين التوكاتات السبع الموضوعة لموترة المفاتيح أو البيان القيثاري، يتبدى باخ هنا أيضاً في التوكاتا بمقام C الصغير وقد ملك ناحية صنعته في ثقة كاملة - فهي فرحة من مزج الألحان تعقبها حركة بطيئة كلها عذوبة صافية مهيبة.

    وليس من السهل نحن الذين حرمنا الأنامل الماهرة والآذان المرهفة أن نقدر اللذة التي استشعرها ياخ ومنحها سامعيه في مؤلفاته التي وضعها لموترة المفاتيح - التي كانت بالنسبة له تعنى البيان القيثاري عادة. فعلينا أولا أن نفهم مبادئ البناء التي اتبعها في تطوير بضع نغمات فكرة رئيسية إلى بناء مفصل معقد ولكنه منظم - أشبه بقطعة فنية من الطراز العربي في سجادة فارسية أو محراب جامع، تسرح بعيداً عن قاعدتها وكأنها تحررت من كل القيود، ولكنها تفعل دائماً في منطق يضيف الإشباع العقلي إلى لذة الشكل الحسية. ثم علينا أن نستعير سحر يدي باخ، لأنه ابتكر في العزف فناً يتطلب الاستخدام الكامل لأصابع اليدين كلها (بما فيها الإبهام)، في حين قل أن تطلب من سبقوه أكثر من الأصابع الثلاث الوسطى في مؤلفاتهم لموترة المفاتيح. ولقد أحدث ثورة حتى في وضع اليد. فقد نحا العازفون قبله إلى الاحتفاظ بيدهم مبسوطة أثناء ضربهم المفاتيح، ولكن باخ علم تلاميذه أن يحنوا اليد حتى تضرب جميع الأنامل المفاتيح في نفس المستوى. وبغير هذه الطريقة كان يستحيل ظهور عازف مثل ليست.

    وأخيراً، حين اقتبس باخ نظاماً اقترحه أندرياس فركمايستر في 1691، طالب بضبط الأوتار في الآلات ضبطاً متوسطاً متكافاً، بحيث يقسم الجواب إلى أثنى عشر نصف نغمة متساوية تماماً، فلا يحدث أي تنافر عند الانتقال من مقام إلى مقام. وكان في حالات كثيرة يصر على أن يضبط بنفسه البيان القيثاري الذي سيعزف عليه (51). لذلك وضع كتابه البيان القيثاري الصحيح الضبط (الجزء الأول، 1722 والجزء الثاني، 1744): ثمان وأربعون مقدمة وفوجة - اثنتان لكل مقام كبير وصغير - لاستعمال وتمرين شباب الموسيقيين الراغبين في التعليم، ولمن حذقوا هذه الدراسة أيضاً على سبيل التسلية كما نص عليه العنوان الأصلي للكتاب. والقطع ذات أهمية كبرى للموسيقين، ولكن الكثير منها أيضاً يستطيع أن يبعث فينا فرحة باخ أو شعوره المتأمل، وهكذا نرى جونو يقتبس المقدمة بمقام C الكبير، في شكل محور، لتكون لحناً مصاحباً على آلة منفردة (أويلجاتو) للحنه السلام يا مريم. وقد وجدت بعض النفوس العميقة، مثل ألبرت شفايتسر، في هذه المقدمات والفوجات عالماً من السلام وسط ضجيج الصراع البشري (52).

    ثم أصدر باخ، الذي لم يكن لخصوبته نهاية، في 1731 الجزء الأول من كتابه كلافيروبونج (أي تمرينات على موترة المفاتيح) وقد وصفه بهذه العبارة تمرينات من مقدمات، وموسيقى للرقصات الألمانية (المائدة) والكورانت، والسراباند، والجيج، والمنويت، وغيرها من اللطائف، مؤلفة على سبيل الترويح الذهني عن محبي الفن. (53) وأضاف إلى هذين الجزأين أجزاء ثلاثة في سنوات لاحقة، حتى أصبح الكتاب في النهاية متضمناً لأشهر مؤلفاته: مبتكرات و بارتيتات، وسنفونية، وألحان جولدبرج المحورة والكونشرتو الإيطالي، وبعض المقدمات الكورالية الجديدة للأرغن. وذكر المخطوط أنه يقدمالمبتكرات مرشداً أميناً يهدي محبي إلى طريق واضح .. لا لاكتساب الأفكار الجيدة (المبتكرات) فحسب، بل لوضعها بأنفسهم ... ولاكتساب أسلوب غنائي في العزف، و ... ميل قوي إلى التلحين (54). وبهذه الأمثلة كان في استطاعة الطالب أن يرى كيف يمكن تطوير الفكرة الرئيسية، متى وجدت بالمزج بين الألحان عادة، تطويراً منطقياً لتبلغ خاتمة موحدة. وقد لعب باخ بفكراته كأنه حاو مرح، فهو يقذف بها في الهواء، ويقلبها بطناً لظهر، ويقلبها رأساً على عقب، ثم يقيمها على قدميها سالمة من غير سوء. إن الأنغام والتيمات لم تكن طعامه وشرابه والهواء الذي يتنفسه فحسب، بل كانت إلى ذلك تسليته وراحته.

    وكانت البارتيتات تسليات شبيهة بما ذكرنا. وقد أطلق الإيطاليون لفظ بارتيتا Partita على اللحن الراقص ذي الأقسام المختلفة. فالبارتيتات بمقام D الصغير و B الكبير اتخذت خمسة أشكال راقصة: الألماند" أو الرقصة الألمانية، والكورانت الفرنسية، والسراباند، والمنويت، والجيج. ويظهر هنا تأثير العازفين الإيطاليين، الذي شمل حتى مصالبة اليدين، التي كانت حيلة محببة لدومنيكو سكارلاتى وهذه القطع تبدو لنا اليوم تافهة القيمة، ولكن يجب أن نتذكر أنها لم تؤلف للبيانو فورت الجبار، بل لموترة المفاتيح الهشة، وفي وسعها-إذا لم نشتط فيما تطلبه منها - أن تمنحنا بهجة فريدة في بابها.

    وأعسر من هذه هضماً ألحان جولدبرج المنوعة. ويوهان تيوفيلوس جولدبرج هذا كان عازف موترة مفاتيح للكونت هرمان كايزرلنج، السفير الروسي لدى بلاط درسدن. فلما زار الكونت ليبزج اصطحب معه جولدبرج ليهدئ أعصابه بالموسيقى التماساً للنوم. وفي هذه المناسبات تعرف جولدبرج إلى باخ وهو مشوق إلى تعلم طريقته الفنية في العزف على لوحة المفاتيح. وأعرب كليزرلنج عن رغبته في أن يؤلف باخ قطعاً للموترة من نوع يدخل عليه شيئاً من البهجة في لياليه المؤرقة (55). وتفضل باخ بتأليف لحن ذي ثلاثين تنويعاً أثبت أنه علاج للأرق. وكافأه كايزرلنج بقدح ذهني يحوي مائة جنيه من الذهب. ولعله هو الذي حصل لباخ على تعيينه ملحناً لبلاط الملك - النخب السكسوني.

    على أن فن باخ لا قلبه هو الذي كان في هذه التنويعات. فتراه يهدي الموترة بشعور ولذة أعظم، سبعة توكاتات، وسوناتات كثيرة، وففتازيا وفجه ملونة بمقام D الصغير، وكنشرتو إيطالية حاول فيها بحيوية وروح مذهلتين، أن ينقل إلى لوحة المفاتيح تأثيرات الأوركسترا الصغير.

    وثمة شكل موسيقي وجد سبيله إلى جميع مؤلفاته الأوركسترالية تقريباً - وهو الفوجه. وقد وفدت كمعظم الأشكال الموسيقية من إيطاليا، ولاحقها الألمان في مطاردة مشبوبة طغت على موسيقاهم حتى مجيئ هايدن. وأجرى عليها باخ تجاربه في فن الفوجة، فأخذ فكرة واحدة وبنى منها أربع عشرة فوجة وأربعة اتباعات في متاهة فن مزج الألحان تبين كل ضرب من التقنية الفوجية. وقد خلف المخطوطة ناقصة عند موته، فنشرها ابنه كارل فليب إيمانويل (1752) ولم يبع منها غير ثلاثين نسخة. ولا عجب فعصر البوليفوني (تعدد النغمات)، والفوجة كان في طريقه إلى الزوال بزوال أعظم أساتذته، وأخذ فن مزج الألحان يخلى السبيل للهارمونى.

    ولم يكن ولوعاً بالكمان ولعه بالأرغن وموترة المفاتيح. لقد بدأ حياته عازف كمان أحياناً يعزف على الفيولا في المجموعات الموسيقية التي يقودها في نفس الوقت، ولكن بما أن أحداً من معاصريه أو أبنائه لم يذكر شيئاً عن عزمه على الكمان، فلنا أن نفترض أنه لم يكن يتجلى في تلك الآلة. على أنه لا بد كان قديراً في العزف عليها، لأنه ألف للكمان وللفيولا موسيقى غاية في الصعوبة، يغلب على الظن أنه كان على استعداد لعزفها بنفسه. وتعرف دنيا الموسيقى الغربية كلها الشاسون التي اختتم بها بارتيتا بمقام D الصغير الكمان المفرد، فهي آية في الأسلوب الفني ألف كل عازف كمان أن يهفو إليها هدفاً أعظم له. وقد يرى فيها بعضنا استعراضاً كريهاً من الحواية والشعوذة - أشبه بحصان يعذب قطة على مراحل عديدة. أما عند باخ فقد كانت محاولة جريئة ليحقق على الكمان عمق الأرغن وقوته اليوليفونيين. فلما نقل بوزوني اللحن إلى البيانو، أصبحت اليوليفونية أكثر طبيعية، وكانت النتيجة باهرة. (وعلينا ألا نتعالى على هذه المنقولات وإلا وجب أن ندين باخ ذاته).

    فإذا وصلنا إلى مؤلفات باخ التي أعدها لأوركستراه الرقيق، وجدت فيها حتى الأذن في المحترفة الكثير مما يشبه القصائد التي تتغنى للفرح والبهجة. ولا بد أن الهدية الموسيقية التي أهداها لفردريك الأكبر قد أبهجته بألحانها المتألقة وهزته بأنغامها المتألقة نصف الشرقية. وقد كتب باخ بالإضافة إلى البارتيتات أو المتتابعات في تمرينات الموترة خمس عشرة متتابعة لرقصات. وسميت ستة منها بالمتتابعات الإنجليزية لأسباب نجهلها الآن، وستة بالمتتابعات الفرنسية، وهذه التسمية أوضح لأنها نسجت على منوال النماذج الفرنسية واستعملت ألفاظاً فرنسية بما فيها كلمة Suite (أي المتتابعة) ذاتها. وفي بعضها تطغى مهارة الصنعة، فتسمع حتى الآلات الوترية تبعث أنغاماً يغلب عليها النفخ. ومع ذلك فأن أبسط الناس يستطيع أن يحس ذلك لجمال المهيب الذي يفيض به لحنه الشهير أريوزو أو لحن لوتر المقام G الذي يؤلف الحركة الثانية للمتابعة رقم 3. وقد نسيت هذه المؤلفات أو كادت بعد موت باخ، حتى عزف مندلسون أجزاء منها لجيته في 1830، وأقنع أوركسترا قاعة تجار الأجواخ بليبزج ببعثها سنة 1838.

    واقتبس باخ شكل الكونشرتو كما مارسه فيفالدى، واستخدمه في شتى أنواع التشكيلات الآلية. والحركة البطيئة بطئاً مهيباً، عند موسيقى ولد بمزاج معتدل البطء، تجعل كنشرتو الكمان بمقام D الصغير مبهجاً جداً، كذلك فإن الحركة البطيئة في كنشرتو الكمان رقم 2 بمقام E هي التي تؤثر فينا بعمقها الحزين ورقتها المتألقة. وربما كان أعذب هذه القطع الموسيقية هو الكونشرتو بمقام D الصغير لكمانين، والنشيط vivace منهما تصوير خالص دون لون، كأنه شجرة دردار شتوية، ولكن الأريث Largo لقطة أثيرية من الجمال الصافي - الجمال المعتمد على ذاته، دون برنامج أو أي شائبة فكرية تشوبه.

    ولكونشرتات براندبنودج تاريخها الخاص. ففي 23 مارس 1721 بعث بها باخ إلى أمير، نسيه الناس إلا في هذا الأمر، مشفوعة بهذه الرسالة بالفرنسية، التي صاغها كاتبها بأسلوب عصره. قال:

    إلى صاحب السمو الملكي الأمير كرستيان لودفج، حاكم براندنبورج: مولاي:

    بما أنني تشرفت بالعزف أمام سموكم قبل عامين، ولاحظت أنكم استشعرتم شيئاً من السرور بالموهبة المتواضعة التي حبتني بها السماء في الموسيقى، وحين انصرفتم سموكم الملكي شرفتموني بأمر لي بأن أبعث إليكم ببعض قطع من تأليفي، فإني الآن عملاً بأوامركم الكريمة أبيح لنفسي أن أقدم لسموكم الملكي إحتراماتي المقرونة بالتواضع الشديد، مع الكونشرتات المرافقة ... متوسلاً إليكم في تواضع ألا تحكموا على نقصها بدقة ذلك الذوق الموسيقي المرهف الرقيق الذي يعرف الجميع أنكم تملكونه، بل أن تتبينوا في كرم ولطف ذلك الاحترام العميق والطاعة الشديدة المتواضعة اللذين قصدت بهذه القطع أن تشهد عليهما. وفيما عدا ذلك يا مولاي، فإنني بكل تواضع أطلب إلى سموكم الملكي أن تجودوا بمواصلة أفضالكم علي، وبأن تثقوا بأنه ما من شئ أتوق إليه كرغبتي في استخدامي في شئون أجدر بكم وبخدمتكم، لأنني يا مولاي، بغيرة لا تعدلها غيرة، خادمكم المتواضع جداً

    جان سبستيان باخ (56).

    ولا علم لنا هل شكر الحاكم لباخ هديته أو أثابه عليها، ولعله فعل، لأنه كان شغوفاً بالموسيقى، يحتفظ بأوركسترا ممتاز. وعند موته (1734) أدرجت الكونشرتات الستة، بخط باخ الشديد العناية والتأنق ضمن 127 كونشرتو في قائمة جرد وجدها شبيتا في المحفوظات الملكية ببرلين. وفي هذه القائمة قدرت قيمة كل من هذه الكونشرتات بأربعة جروشينات (1. 60 دولار).

    وتتبع كونشرات براندبنورج شكل الكونشرتو الكبير الإيطالي-ألحان في عدة حركات، تعزف على مجموعة صغيرة من آلات غالية (الكونشرتينو) يصاحبها أوركسترا وترى (الريبينو أو التوني). وقد استعمل هاندل والإيطاليون كمانين وفيولونتشيللو للكونشرتينو، أما باخ فقد نوع هذا بجرأته المعهودة، وقدم كماناً، وأوبوا، وبوقاً، وفلوتاً آلات مقصدرة في الكونشرتو الثاني، وكماناً وفلوتين في الكونشرتوا الرابع، وموترة مفاتيح، وكماناً، وفلوتاً في الخامس، وطور البنيان إلى تفاعل معقد بين الكونشرتينو والريبينو في حوار حي - من الانفصال والتعارض، والتداخل، والاتحاد - لا يفهم فنه ومنطقه ويستمتع بهما غير الراسخين في الموسيقى. أما من عداهم فقد يجدون بعض الفقرات مكررة تكراراً مملا، نذكرهم بأوركسترا ريفي يقيس الوقت لرقصة، ولكن حتى نحن نستطيع أن نحس بسحر الحوار ورقته، وأن نجد في الحركات البطيئة سلاماً مهدئاً أنسب للقلوب المسنة والأرجل المتلكئة مما نجده في دوامة الحركات العجلاء، ومع ذلك فإن الكونشرتو الثاني يستهل بأعجل (الليجرو) خلاب، والرابع يضفي عليه البهجة فلوت لعوب، أما الخامس فهو باخ في أوجه.

    (ب-) الصوتية

    لم يستطع باخ وهو يلحن للصوت أن يلقي جانباً كل ما طوره من حيل وخفة يد على لوحة المفاتيح، ولا الجهود الجبارة المعذبة التي طالب بها أوركستراه، فقد كتب للأصوات كأنها آلات لا يكاد يكون لحذقها ومداها حدود، وكان ضنيناً في الاستجابة لرغبة المرتل أو المغني في أن يتنفس. ونهج نهج عصره في تمديد المقطع الواحد ليشمل ستة أنغام (كيرييـ - يليـ - يـ - يـ - يـ - يـ - ييسون)، ومثل ذلك الاستكثار من الأنغام لم يعد أسلوب العصر، ولكن بفضل مؤلفاته للصوت حقق باخ شهرته الراهنة بوصفه أعظم ملحن في التاريخ.

    وقد حياه إيمانه الوطيد بالعقيدة اللوثرية إلهاماً حاراً يعدل أي إلهام وجده باليسترينا في القداس الكاثوليكي. فكتب نحو أربع وعشرين ترنيمة وست موتيتات وفي الاستماع إلى إحدى هذه الست Singet dem Herrn (رنمو للرب) شعر موتسارت أول ما شعر بعمق باخ. وكتب لجماهير المصلين ولكورسه كورالات قوية كانت كفيلة بأن تبهج قلب لوثر الشبيه بقلبه: عند أنهار بابل و حين تشتد الحاجة، وتجملي أيتها النفس المباركة وقد أثر هذا الكورال الأخير في مندلسون تأثيراً عميقاً حتى قال لشومان لو أن الحياة سلبتني الرجاء والإيمان لردهما إليَّ هذا الكورال وحده" (57).

    ولحن باخ لأعياد الميلاد، والقيامة، والصعود، أوراتوريات-كانت تراتيل ضخمة للكوارس، أو المرتلين المنفردين، أو الأرغن، أو الأوركسترا. وقد رتل أوراتوريو Weinachts Oratorium الميلاد، كما يسمى الأورتوريو الأول، في كنيسة توماس في ستة أقسام على ستة أيام بين عيد الميلاد وعيد الظهور (الغطاس) 1734 - 45. وأخذ من أعماله المبكرة نحو سبعة عشر لحناً أو كورساً، مستعملاً حقه فيما يملك، ونسج منها قصة عن ميلاد المسيح استغرقت ساعتين. وكاد بعض ألحانه هذه التي سطا عليها لا ينسجم مع النص الجديد، ولكن كان في استطاعة السامع أن يغفر الكثير من الأخطاء في لحن يقدم، في مطلعه تقريباً، الكورس الذي يبدأ بهذه الكلمات كيف ألقاك اللقاء الجدير بك؟ .

    كانت الأوراتوريات في صميمها تجميعات لكنتاتات. وكانت الكنتاتا ذاتها كورالا تتخلله الألحان. ولما كانت الخدمة اللوثرية كثيراً ما تطلب الكنتاتات، فقد ألف باخ ثلاثمائة منها، بقي منها إلى اليوم نحو مائتين. وقد حدت صلتها الوثيقة بالطقوس اللوثرية من عدد المستمعين لها في زماننا هذا، ولكن كثيراً من الألحان التي تضمنتها فيه جمال يسمو على أي لاهوت. وفي فيمار، في سنته السادسة والعشرين (1711) كتب باخ أول كنتاتاته الرائعة Actus tragieus التي تبكي مأساة الموت ولكنها تفرح برجاء القيامة. وفي 1714 - 17 خلد تقسيمات السنة الكنسية بطائفة من أروع كنتاتاته: فالأحد الأول من الآحاد الأربعة السابقة للميلاد Advent كتب تعال الآن، يا مخلص الوثنيين. ولعيد القيامة 1715 كتب السموات تضحك، والأرض تبتهج التي استعمل فيها ثلاثة أبواق، ونقارية، وثلاث أبواب وكمانين، وفيولنتشيللوين، وباصونا، وسلسلة أنغام على لوحة المفاتيح لتعين الكورس، وتحمل جمهور المصلين، على أن يهتزوا طرباً بانتصار المسيح؛ وكتب للأحد الرابع من الآحاد السابقة للميلاد في 1715، القلب والفم والعقل والحياة مع الكورال الجذل المألوف وأويلجاتو الأوبرا، يسوع، يا بهجة أشواق الإنسان. وكتب للأحد السادس عشر بعد عيد الثالوث الأقدس 1715، تعالي يا ساعة الموت الحلوة. وفي ليبزج لحن تسبحة أخرى لقيامة المسيح رقد المسيح في سجن الموت المظلم. وفي الذكرى المئوية الثانية لـ إعلان العقيدة الأجزبورجي لحن ترنيمة لوثر التي مطلعها إلهنا حصن حصين في صورة كنتاتا تعد الترنيمة في قوتها، ولكن ربما كانت أعنف من أن تكون تعبيراً مناسباً عن الإيمان.

    وكان في باخ إحساس صحي بمباهج الدنيا رغم تدينه وصلته الوثيقة بالتقوى بحكم واجباته، وكان في وسعه أن يضحك، كما يبكي، من كل قلبه. وتسللت عناصر علمانية إلى مؤلفاته الدينية، وقد اكتشف بعض أنغام من أوبرات عصره في القداس بمقام B الصغير (58). ولم يتردد في أن يغدق موارد فنه على كنتاتات علمانية خالصة، بقي منها الآن إحدى وعشرون. فألف كنتاتا الصيد وكنتاتا القهوةو كنتاتا الزفاف وسبع كنتاتات لاحتفالات مدينة. وفي 1725 كتب كنتاتا كاملة بمناسبة عيد ميلاد أوجست موللر الأستاذ بجامعة ليبزج أيولوس المغتبط احتفالا بتحرير الرياح، وربما بمجاز خبيث. وفي 1742 خلع موسيقاه على "كنتاتا الفلاحين الساخرة سخرية كاريكاتورية صريحة، بما فيها عن رقص القرويين الصاخب وشربهم وغزلهم. وبعد عام 1740 لم تعد الموسيقى الكنسية الغالية في ليبزج، وقدمت الحفلات الموسيقية العامة بازدياد ألحاناً علمانية ..

    وقبل ن تدخل الموسيقى الدينية عصر اضمحلالها حلق بها باخ في أجواء لم تبلغها من قبل البلاد البروتستنتية. وكان من مخلفات القداس الكاثوليكي في الخدمة الكنسية اللوثرية ترتيل تسبحة تعظم نفسي الرب في عيد زيارة العذراء (2يوليو). وكان هذا إحياء لزيارة مريم لابنة خالتها أليصابات، حين فاهت العذراء كما ورد في إنجيل البشير لوقا (الإصحاح الأول 46 - 55) بترنيمة شكرها التي لا شبيه لها: Magnificat anima meadominam تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى إتضاع أمته. فهو ذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني. ولحن باخ هذه السطور وما يليها مرتين، ولعله لحنها في صورتها لخدمة الميلاد بليبزج عام 1723. هنا يسمو الدين، والشعر، والموسيقى كلها إلى نفس الذروة في وحدة رائعة.

    وبعد ست سنوات بلغ تلك الذرى غير مرة في ألحان أسبوع الآلام كما ورد في إنجيل متى. ولقد كان تلحين قصة آلام المسيح وموته القرون الطوال جزءاً من الطقس الكاثوليكي. واقتبس كثير من الملحنين البروتستنت صيغة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1