Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
Ebook701 pages5 hours

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب في التاريخ والتراجم والسير لحقبة زمنية كبيرة تمتد زمن النبوة حتى القرن العاشر الهجري تقريبا، وهو بهذا الإمتداد الزمني يشمل أحداثا جمة، ووقائع كثيرة متلاحقة ومتعاقبة، وقد أداره المؤلف حول ذكر نسب النبي صلى الله عليه وسلم وما يتعلق به من حوادث كثيرة .
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 15, 1903
ISBN9786388759754
سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

Related to سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

Related ebooks

Reviews for سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي - العصامي

    الغلاف

    سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

    الجزء 5

    العِصَامي

    1111

    كتاب في التاريخ والتراجم والسير لحقبة زمنية كبيرة تمتد زمن النبوة حتى القرن العاشر الهجري تقريبا، وهو بهذا الإمتداد الزمني يشمل أحداثا جمة، ووقائع كثيرة متلاحقة ومتعاقبة، وقد أداره المؤلف حول ذكر نسب النبي صلى الله عليه وسلم وما يتعلق به من حوادث كثيرة .

    خلافة المتوكل

    جعفر، أبو الفضل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور .بويع في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، بعد الواثق. وكان أسمر اللون، مليح العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، إلى القصر أقرب، أمه أم ولد تركية اسمها شجاع .استخلف فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة بالقول بخلق القرآن، وأظهر السنة ونصر أهلها .وقدم إلى دمشق في صفر سنة أربع وأربعين وأعجبته، فعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها. وبنى قصراً كبيراً بداريه من جهة المزة، ثم رجع إلى سر من رأى دار ملكه .قيل إن سبب ميله إلى دمشق: أن إسرائيل بن زكريا الطبيب نعت له دمشق، وأنها موافقة لمزاجه، ومذهبة عنه العلل التي تعرض له في الصيف بالعراق .كان المتوكل شجاعاً كريماً، ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطاه المتوكل. ومن أفعاله الشنيعة أنه هدم قبر الحسين بن علي في سنة سبع وثلاثين، وهدم جميع ما حوله من الدور، وجعل مكانها مزارع، ومنع من زيارته، فتألم الناس لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه بعض الشعراء بقوله: من الكامل :

    تاللهِ إِن كَانَت أُميةُ قد أَتَت ........ قَتل ابنِ بنتِ نَبِيها مَظْلُومَا

    فَلَقَدْ أَتَاهُ بنو أَبِيهِ بِمِثله ........ هَذَا لَعَمرِي قَبرُهُ مَهدُومَا

    أَسِفُوا عَلَى أَلا يَكُونُوا شَارَكُوا ........ في قَتلِهِ فَتَتبعُوهُ رَمِيمَا

    وهذا الفعل السيئ محا جميع محاسنه، وصار ما عذب من إحسانه مغلوباً بأجاجه وآسنه، وعدت هذه الزلة أقبح قبيحة، وهذه الخلة الشنيعة أفضح من كل فضيحة .وذكر ابن خلكان في ترجمة المتوكل عن المتوكل نفسه قال: ركبت إلى دار الواثق أخي في مرضه الذي مات فيه لأعوده، فجلست في الدهليز لأنتظر الإذن، فبينما أنا جالس إذ سمعت النياحة عليه، وإذا إيتاخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران في أمري، فقال محمد بن عبد الملك: نقتله في التنور. وقال إيتاخ: بل ندعه في الماء البارد حتى يموت ولا يرى عليه أثر القتل. فبينما هما على ذلك إذ جاء أحمد بن أبي دؤاد القاضي فدخل وحدثهما كلاماً لا أفهمه، لما داخلني من الخوف وشغل القلب في إعمال حيلة في الهرب، فبينما أنا كذلك، وإذا بالغلمان يتغادون ويقولون: انهض يا مولانا. فلم أشك أني داخل لأبايع لولد الواثق، ثم ينفذ في ما قررا. فلما دخلت بايعوني، فسألت عن الحال، فأعلمت أن ابن أبي دؤاد كان سبب ذلك ثم إن المتوكل قتل إيتاخ بالماء البارد، وابن الزيات بالتنور على ما أشارا إليه في حقه .وهذا من أعجب الاتفاق ؛فإن ابن الزيات هو الذي صنع التنور، وكان يعذب به الناس فعذبه اللّه به جزاء وفاقاً. وهو من حديد داخله مسامير وكان يسجر عليه بحطب الزيتون حتى يصير كالجمر ثم يدخل فيه الإنسان، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. وكان ابن الزيات إذا استغاث به أحد من الرعية فقال: ارحمني، يقول: الرحمة خور في القلب، فلما ألقى هو في التنور قال للمتوكل: ارحمني، فقال له: الرحمة خور في القلب أو في الطبيعة، وكان قد حبسه قبل أن يدخله التنور أياماً فكتب إليه في الحبس بقوله: من البسيط:

    هِيَ السبِيلُ فَمِن يَومٍ إِلَى يَوم ........ كَأنهُ مَا تُرِيكَ العَين في النومِ

    لاَ تَعجَلَن رُوَيداً إنهَا دُوَل ........ دنيَا تَنقل مِن قَومِ إِلَى قَوْمِ

    ووقعت في أيامه عجائب: منها أن النجوم ماجت من السماء وتناثرت كأنها الجراد، فرميت قرية السويداء بناحية مضر أحجار من السماء وُزن حجر منها فكان عشرة أرطال، ومار جبل باليمن عليه مزارع ومدن إلى جبل آخر بينهما نحو أربعة أيام، ووقع طائر أبيض دون الرخمة فصاح: يا معشر الناس، اتقوا الله أربعين مرة، وجاء من الغد ففعل كذلك! فكتبوا خبر ذلك على البريد إلى بغداد، وكتبوا فيه شهادة خمسمائة رجل سمعوا ذلك بآذانهم، وكان هذا في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين ومائتين، وحصلت زلازل، وغارت عيون مكة ؛فأرسل المتوكل مائة ألف دينار ذهباً لإجراء عين عرفات فصرفت فيها إلى أن جرت، كذا ذكره السيوطي .قال العلامة النجم، عمر بن فهد في تاريخه إتحاف الورى، بأخبار أم القرى: في حوادث سنة خمس وأربعين ومائتين: غارت عين مشاش، وهي عين مكة فبلغ ثمن القربة درهمَاً، فبعث المتوكل مالا ثانياً فأنفق عليها حتى جرت. قال ابن الأثير في تاريخه المسمى بالكامل: هذه العين من عمل زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد، وهي عين بازان. قال العلامة القطبي: عين مشاش هي عين مكة موجودة الآن، وهي من جملة العيون التي تصب في عين حنين، وهي تقوى وتضعف أحياناً لقلة الأمطار وكثرتها، ومحلها معروف .ولما كثر الترك ببغداد، ودخلوا في الملك، واستولوا على المملكة، وصار بيدهم الحل والعقد، والولاية والعزل، إلى أن حملهم الطغيان على الفتك بالخليفة المتوكل، لما أراد أن يصادر مملوك أبيه وصيفَاً التركي ؛لكثرة أمواله وخزائنه فتعصب له باغر التركي، وانحرف الأتراك عن المتوكل ؛فدخل باغر ومعه عشرة أتراك وهو في مجلس أنسه وعنده وزيره الفتح بن خاقان بعد مضي هزيع من الليل، فصاح الفتح: ويلكم هذا سيدكم وابن سيدكم، وهرب من كان حوله من الغلمان والندمان على وجوههم، فبقي الفتح وحده، والمتوكل غائب سكران فضربه باغر بالسيف على عاتقه فقده إلى حقوه، فطرح الفتح نفسه عليه، فضربهما باغر ضربة ثانية فماتا جميعاً فلفهما معاً في بساط، ومضى هو ومن معه، ولم ينتطح في ذلك عنزان. وقيل إن سبب ذلك أن ابنه المنتصر باطن عليه الأتراك حتى قتلوه، وذلك أنه كان بايع بالعهد للمنتصر، ثم أراد أن يعزله ويولي المعتز ابنه لمحبته لأمه، فسأل المتوكل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى، فكان يحضره مجلس العامة ويحط من منزلته ويتهدده ويشتمه، وقيل: كان هذا وهذا سبباً لذلك .قال المسعودي: ولم يصح عن المتوكل النصب، حدثنا المبرد قال: قال المتوكل لأبي الحسن على الهادي بن محمد الجواد بن عَلِي الرضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ؛ما يقول ولد أبيك في العباس. قال: ما يقولون في رجل فرض اللّه طاعة نبيه على خلقه، وفرض طاعته على نبيه. فأعجب بجوابه المتوكل إعجاباً. قلت: لا يخفي على الفطن هذه التورية من هذا السيد الجليل وصدقها. وسعى إلى المتوكل بأبي الحسن المذكور بأن في منزله سلاحاً وكتباً من الشيعة، وأنه يريد التَوثّب على الخلافة، فبعث إليه المتوكل جماعة فهجموا على منزله فوجدوه على الأرض مستقبل القبلة يقرأ القرآن، فحملوه على حاله إلى المتوكل، والمتوكل يشرب الخمر، فأعظمه وأجلسه وقال: اشرب. فقال: واللّه ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني، فأعفاه. ثم قال له أنشدني فأنشد: من البسيط:

    بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الأجبَال تَحْرُسُهُمْ ........ غُلْبُ الرجَال فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ

    واسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِز عَنْ مَعَاقِلِهِمْ ........ وَأُودِعُوا حُفْرَة يَا بِئْسَمَا نَزَلُوا

    نَادَاهُمُ صَارخ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا ........ أَيْنَ الأَسِرَة وَالتيجَانُ وَالحلل

    فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُ ........ تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا الدّودُ يَقْتَتِلُ

    قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا دَهْراً وَمَا شَرِبُوا ........ فَأَصْبَحُوا بَعْدَ ذَالك الأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا

    فبكى جعفر والحاضرون وقال: يا أبا الحسن لقد لينت منا قلوباً قاسية، أعليك دين ؟قال: نعم، أربعة آلاف. فأمر له بها ورده مكرماً .ومما يحكى من كرمه أنه دخل عليه ابن الجهم - وقيل النميري - فأنشده قصيدة يقول فيها: من مجزوء الكامل:

    وَإِذَا مَرَرْتَ ببئرِ عُرْ _ وَةَ فَاسْقِني مِنْ مَائِهَا

    وكان بيد المتوكل درتان عظيمتان يقلبهن، فدحا إليه بدرة منهما فقال: استقص بها، فهي واللّه خير من مائة ألف دينار، قال: لا واللّه، ولكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى، فقال: قل، فقال: من مخلع البسيط:

    بِسُرَ مَنْ رَا إِمَامُ عَدْلٍ ........ تغْرَقُ مِنْ كَفِّهِ البِحَارُ

    يُرْجَى وَيُخْشَى بِكُل خَطْب ........ كَأَنَّهُ جَنَّة وَنَارُ

    أَلْمُلْكُ فِيهِ وَفي بَنِيه ........ مَا اخْتَلَفَ اللَيْلُ وَالنَّهَارُ

    يَدَاهُ في الجُودِ ضَرَّتَانِ ........ عَلَيْهِ كِلْتاهُمَا تَغَارُ

    لَمْ تَأْتِ مِنْهُ اليَمِيَنُ شَيئاً ........ إِلاَ أَتَتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ

    قال: فدحا إليه بالدرة الأخرى. قلت: رحم اللّه الكرام المجيزين على دردي النظام بدري النظام .وأجاز مروان بن أبي الجنوب على قصيدته التي يقول فيها: من الطويل:

    فَأَمسِك نَدَى كَفيك عَني وَلاَ تَزِد ........ فَقَد خِفتُ أَن أَطغَى وَأَن أَتَجَبرَا

    فقال: لا أمسك حتى يغرقك جودي، فأمر له بمائة وعشرين ألف دينار وخمسمائةَ ثوب ديباج .قال علي بن محمد النديم: دخلت على المتوكل العباسي وعنده الرضي، فقال: يا علي من أشعر الناس ؟قلت: البحتري، قال: ومن بعده ؟قلت: مروان بن أبي حفصة، فالتفت إلى الرضي وقال: من أشعر الناس في زماننا ؟قال: علي بن محمد العلوي. قال: وما تحفظ من شعره ؟قال قوله: من الطويل:

    لقَد فَاخَرَتنَا مِن قُرَيشٍ عِصَابَةٌ ........ بِمَط خُدُودِ وَامتدادِ الأصابِعِ

    فَلَما تَنَازَعنَا الفَخَارَ قَضَى لَنَا ........ عَلَيهِم بِمَا نهوى نِدَاءُ الصوَامِعِ

    قال المتوكل: وما معنى نداء الصوامع ؟فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه. قال المتوكل: وأبيك إنه لأشعر الناس، ثم أنشده قوله أيضاً: من المتقارب:

    عَصَيتُ الهَوَى وَهَجَرتُ النسَاءَ ........ وَكُنتُ دَوَاءَ فأَصبَحتُ دَاءَ

    وَمَا أَنسَ لاَ أَنسَ حَتى المَماتِ ........ تَرِيبَ الظبَاءِ تُجِيبُ الظبَاءَ

    دَعِينِي وَصبرِي عَلَى النائِبَاتِ ........ فَبِالصبرِ نِلتُ الثرَى وَالثوَاءَ

    فَإن يَكُ دَهرِي لَوَى رَأسَهُ ........ فَقَد لَقِيَ الدهرُ مِني التِوَاءَ

    لَيَالِيَ أَروِي صُدُورَ القَنَا ........ وَأَروِي بِهِن الصدُورَ الظمَاءَ

    وَنَحن إِذَا كَانَ شُربُ المُدَامِ ........ شَرِبنَا عَلَى الصافِنَاتِ الدمَاءَ

    بِلغنَا السمَاءَ بِأَنسَابنَا ........ وَلَولاَ السمَاءُ لَجُزنَا السمَاءَ

    فحسبُكَ مِن سُؤددٍ أَننَا ........ بِحُسنِ البَلاَء كَشفنَا الغِطَاءَ

    يطيبُ الثنَاءُ لآَبائِنَا ........ وذِكرُ عَلِي يَزِينُ الثنَاءَ

    إِذَا ذُكِرَ الناسُ كَانُوا مُلُوكَاً ........ وَكَانُوا عَبِيداً وَكَانُوا الإمَاءَ

    هَجَانِي رِجَالٌ وَلم أَهجُهُم ........ أبى اللّه لِي أَن أقُولَ الهجَاءَ

    فوصله لهذه الرواية بمال عظيم .وفي سنه أربع وأربعين ومائتين قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية ؛وذلك أنه حضر يوماً مجلس المتوكل، وكان يؤدب أولاده، فجاء منهم المعتز والمؤيد، فقال المتوكل: يا يعقوب، أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ابنا علي رضي اللّه عنهم ؟فقال يعقوب: واللّه إن قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك فمات، ثم أرسل المتوكل لأولاده دية أبيهم عشرة آلاف درهم، كذا في حياة الحيوان .وذكر ابن خلكان: كان المتوكل يبغض علياً، فذكر يوماً علي عنده فغض منه، فتمعر وجه ابنه المنتصر لذلك، فشتمه أبوه المتوكل وأنشد مواجهاً له: من المجتث:

    غَضبَ الفَتَى لابن عَمه ........ رَأسُ الفتَى في حِرِ أمه

    فحقد عليه وأغرى على قتله مع ما كان مما تقدم من عدوله بالعهد عنه إلى أخيه المعتز. قلت: هذا يؤيد القول الثاني أن المتوكل ناصبي، خلاف ما قاله المسعودي .وذكر أن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً، قدم على المتوكل أول قدمة فأنشده قصيدة يمدحه بها يقول فيها: من الخفيف:

    أَنتَ كَالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُد _ د وَكَالتيسِ في قِرَاع الخطُوبِ

    أَنتَ كَالدلو لاَ عَدِمتُكَ دَلوا ........ مِن كِبَارِ الدلا كَثيِر الذنُوبِ

    فعرف المتوكل قوته، ورقة قصده، وخشونة لفظه، وعرف أنه ما رأى سوى ما شبه لملازمته البادية وعدم مخالطته، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، وفيها بستان يتخلله النسيم، والجسر قريب منه، وأمر له بجائزة سنية، فلطف طبعه عن أول أمره، وأنشد الأشعار البليغة الرقيقة بعد ذلك .وحكى أن عبادة المخنث دخل يوماً إلى دار المتوكل، فرأى رطبة مطروحة فأكب ليأخذها، فرآه ابن للمتوكل صغير فأشار بإصبعه إلى استه وقال: يا عم من فتح لك هذه الكوة. فقال له عباده: الذي فتح لأمك اثنتين، فسمعه المتوكل فأمر بضرب عنقه، فهرب ولم يدر إلى أين يتوجه، فأخذ يهرب في الصحاري ومعه طبله ونايه، فلما أمعن في الصحراء خاف أن يدركه الطلب، فرأى غاراً مفتوحَاً فدخله وسد بابه بالحجارة، فلما صار إلى أقصاه وجد فيه أسداً عظيماً رابضَاً ففزع منه وهم الأسد أن يثب عليه، فما وسعه إلا أن ضرب الطبل، فلما سمعه الأسد فزع من صوته وهرب يريد الخروج، فوجد باب الغار مسدوداً فربض هناك خائفاً من صوت الطبل. فجعل عبادة تارة يضرب بالطبل، وتارة يزمر بالناي خوفاً من الأسد، ووافق ذلك قدوم الفتَح بن خاقان من نزهة كان خرج إليها، فلما سمع صوت الطبل والناي في الصحراء أنكره، ثم تبعه حتى وقف على باب الغار، وأمر أن يفتح، فلما فتحوه خرج الأسد هارباً على وجهه، فخرج عبادة وهو يبكي ويصرخ، ويقول: هذا دفعه إلى أمير المؤمنين أعلمه ضرب الطبل والغناء بالناي وشردته علي، فقال له الفتح: أنا أرضي أمير المؤمنين، ولك علي ألف دينار، فقال: أخاف واللّه أن يضرب عنقي .فقال الفتح: أنا أستوهبه دمك، فقال: إن فعلت فقد رضيت. ثم أخذه معه، وأتى به المتوكل، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجة، قال: وما هي ؟قال: هب لي دم عبادة فأنا الذي أذنبت وليس هو، فقال: ما كانت نيتي إلا أن أضرب عنقه، وقد وهبته لك، فقبل الفتح يده وقال: أنا الذي أطلقت الأسد وما له ذنب، فلما سمع المتوكل ذكر الأسد سأل عن أصل القصة، فقال له الفتح بما رأى، قال: وزعم أن أمير المؤمنين أعطاه ذلك الأسد ليعلمه الطبل والغناء، فضحك المتوكل حتى فحص برجله الأرض وقال: خدعك واللّه يا فتح، إن الأصل كيت، وأنجز الفتح لعبادة الألف التي وعده بها بوعده السابق. انتهى. كذا في بقية الخاطر لمحمد بن مصطفى الشهير بالكاتي .قال البحتري: اجتمعنا في مجلس المتوكل فنعت له سيف هندي، فبعث إلى اليمن فاشترى له بعشرة آلاف فأتى به، فأعجبه ثم قال للفتح: أبغني غلاماً أدفع إليه هذا السيف لا يفارقني به، فأقبل باغر التركي، فقال الفتح: هذا موصوف بالشجاعة والبسالة، فدفع المتوكل إليه السيف وزاد في رزقه، فواللِّه ما انتضى ذلك السيف إلا ليلة ضربه باكر بالقصر الجعفري، وكان المتوكل مستغرقاً بجاريته التي اسمها قبيحة وهي أم ولده المعتز لا يصبر عنها ساعة. فوقفت له يوماً وقد كتبت على خديها بالغالية جعفر فتأملها ثم أنشأ يقول: من الطويل:

    وَكَاتِبَةٍ بِالمِسْكِ في الْخَدِّ جَعْفَراً ........ بِنَفْسي مَخَط المِسْكِ مِنْ حَيْثُ أثَّرَا

    لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرَاً مِنَ المِسْكِ خَدَهَا ........ لَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي مِنَ الحُب أسْطَرَا

    وكانت ليلة المتوكل يضرب بها المثل في السرور الذي يعقبه ترح، يقال: مات بليلة المتوكل، كان قتله ليلة الأربعاء لليلتين مضتا من شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، وهو أول مقتول بمعرة ولده المنتصر بعد قتل الأمين بمباشرة طاهر بن الحسين، كانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وتّسعة أشهر وثمانية أيام، وكان عمرهُ أربعين سنة وشهراً وقيل إحدى وأربعين سنة.

    خلافة المنتصر باللّه

    محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور أخي السفاح بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، بويع بالخلافة في الليلة التي قتل فيها أبوه، ومن الغد البيعة العامة .ولما ولي خلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد التي عقدها لهما أبوه المتوكل، وأظهر العدل والإنصاف في الرعية، فمالت إليه النفوس والقلوب مع هيبتهم له، وكان محببَاً إلى العلويين، وصولا لهم، باراً بهم، أزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، ورد فدك عليهم، فقال يزيد المهلبي في ذلك يمدحه: من الكامل :

    وَلَقَدْ بَرَرْتَ الطَالِبِيةَ بَعْدَ مَا ........ ذَمُوا زَمَانَاً بَعدَهَا وَزَمَانَا

    وَرَدَدتَّ أُلْفَةَ هَاشِمِ فَرَأَيْتهُمْ ........ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ إِخْوَانَا

    وكان حليماً كريماً. من كلامه: لذة العفو أعذب من لذة التشفي. وأقبح أفعال المقتدر الانتقام .وقال الحافظ الذهبي: ذكر نجيح بن علي المنجم أن المنتصر جلس للهو، وأمر بفرش بساط من ذخائر الخزينة تداولته الملوك ففرش، فرأى فيه صورة رأس عليه تاج، وعليه كتابة بالفارسية، فطلب من يقرأ تلك الكتابة فأحضر رجل من الأعاجم فقرأها، وعبس عند ذلك، فسأله المنتصر عنها فقال: لا معنى لها، فألح عليه فقال: هي أنا الملك شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي فلم أمتع بالملك بعده إلا ستة أشهر. فتغير وجه المنتصر وقام من ذلك المجلس، وترك اللهو الذي أراده، وبات مغتماً وتوعك، ثم رأى في ليلة وعكه أباه فانتبه فزعاً يبكي، فقالت له أمه: ما يبكيك ؟فقال: أفسدت ديني ودنياي، رأيت أبي الساعة يقول لي: قتلتني يا محمد لأجل الخلافة، واللّه لا تتمتع بها إلا أياماً قلائل، ثم مصيرك إلى النار، فاستمر موهوماً من هذا المنام فما عاش بعد ذلك إلا أياماً قلائل، وكان على حذر من الأتراك يسبهم ويلعنهم، ويقول: هؤلاء قتلة الخلفاء ؛فلم يأمنوه ؛فأرادوا قتله فما أمكنهم الإقدام عليه ؛لشدة محاذرته منهم، فدسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند توعكه ليسمه فقصده بمبضع مسموم فأحس بذلك وأراد قتل الطبيب، فقال له: إنك تصبح طيباً وتقدم على قتلي، فأمهلني إلى الصبح، فأمهله فأصبح ميتاً. وكانت وفاته لأربع خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين، وعمره ست وعشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون وأربعة أيام، ومدة خلافته ستة أشهر.

    خلافة المستعين بالله

    أحمد بن المعتصم بن هارون. كان فاضلا ديناً، أخبارياً مطلعاً على التواريخ، متجملا في ملبسه. وهو أول من أحدث الأكمام العراض ؛فجعل عرض الكم ثلاثة أشبار وهو عم المنتصر قبله، أخو المتوكل أبيه. وإنما قدمته الأتراك وعدلوا عن أولاد المتوكل ؛لأنهم كانوا قتلوا المتوكل فخافوا أن يلي الخلافة أحد من أولاده فيأخذ بثأر أبيه ؛فاختاروا من أولاد المعتصم أحمد هذا، ولقبوه بالمستعين باللّه. أمه أم ولد تسمى مخارق، وما كان له من الخلافة إلا الاسم، وكان المماليك الأتراك مستولين على الملك، وكان الأمر جميعه لكبيري الأتراك وصيف، وبغا التركيين حتى قيل في ذلك: من الرجز :

    خَلِيفَة في قَفَصٍ ........ بَين وَصِيفِ وبغَا

    يَقُولُ مَا قَالاَ لَهُ ........ كَمَا تَقُولُ البَبَّغَا

    والببغا: هي الطير المسمى بالدرة، واستمر كذلك وهو مترصد لهما، إلى أن ظفر بوصيف فقتله، وهرب باغر الذي كان سطا في المتوكل وقتله، فتنكرت له الأتراك فخرج عنهم من سر من رأى إلى بغداد، فأرسلوا إليه يعتذرون، ويسألونه العودة إلى سر من رأى، فامتنع منهم، فلما أبى قصد الأتراك خلعه، فأتوا إلى الحبس، فأخرجوا محمداً أبا عبد الله بن المتوكل، ولقبوه المعتز بالله، وبايعوه وعمره تسعة عشر عاماً، ولم يل الخلافة أصغر منه، وجيشوا على المستعين باللّه جيشاً إلى أن خلع نفسه، وأشهد القضاة والعدول على نفسه بذلك، وانحدروا به إلى واسط وحبسوه تسعة أشهر، ثم دسوا إليه سعيداً الحاجب فذبحه في الحبس في ثالث شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وجاء برأسه إلى المعتز وهو يلعب الشطرنج فقيل له: هذا رأس المخلوع. فقال: دعوه هناك حتى أفرغ من اللعب، ثم أمر بدفنه وعمره إحدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر، وخلافته إلى زمان خلعه سنتان وثمانية أشهر وستة عشر يوماً.

    خلافة المعتز باللّه

    محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله كان بديع الحسن جداً ، مليح الصورة ليس في الخلق أجمل منه حسناً ، كان مستضعفَاً مع الأتراك ، وكان صالح بن وصيف مستولياً عليه ، وهو خائف منه ، فاجتمع الجند عليه ، وطلبوا منه أرزاقهم ، ووعدوه أنه إذا أنفق عليهم أرزاقهم ركبوا معه على صالح بن وصيف ، فيقتلوه ويصفو الملك له ، ولم يكن في خزائنه مال يصرفة عليهم فطلب من أمه وكانت تركية اسمها قبيحة لفرط جمالها بين النساء ، فأبت أن تعطيه وشحت عليه بالمال ، وسخت بولدها وكان معها مال عظيم فاتفق الأتراك على خلعه ، وركب عليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا وهجموا عليه وجروا برجله ، وأوقفوه في الشمس ، فصار يرفع رجلا ويضع رجلا ، وعذبوه وهم يلطمونه ويقولون : اخلعها ويتقي بيديه ويأبى ، ثم أجابهم ، وخلع نفسه ؛ فأدخلوه الحمام ، ومنعوه الماء إلى أن مات عطشاً . وقيل : أتوه بماء مالح فشربه وسقط ميتاً ، ثم أخرجوه وأشهدوا عليه أنه لا أثر به ، وصادر صالح بن وصيف قبيحة أم المعتز وعذبها حتى أخذ منها ألف ألف دينار ذهباً ونصف أردب لؤلؤ ومثله زمرد وسدس أردب ياقوت أحمر ، ثم أخرجت إلى مكة وأقامت بها إلى أن ماتت ، وأقل الناس الترحم عليها ؛ حيث إن هذا المال عندها وشحت به عن ولدها عند احتياجه ؛ فكان عليه ما كان .توفي في ثالث شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين . مدة خلافته سنتان وأحد عشر شهراً ، وعمره اثنتان وعشرون سنة وسبعة أشهر .

    خلافة المهتدي باللّه

    أبو إسحاق بن الواثق هارون بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور الخليفة الصالح، ولد في خلافة جده، سنة بضع عشرة ومائتين، وبويع بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وما قبل بيعة أحد حتى أتى إليه بالمعتز قبل قتله، فلما رآه قام له وسلم على المعتز بالخلافة وجلس بين يديه فجيء بالشهود والقاضي ابن أبي الشوارب فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة، واعترف بذلك ومد يده وبايع المهتدي، فارتفع حينئذ المهتدي إلى صدر الديوان، وقال: لا يجتمع سيفان في غمد، وتمثل بقول أبي ذؤيب: من الطويل :

    تُرِيدِينَ كَيْمَا تجمعيني وَخَالِدَاً ........ وَهَلْ يُجْمَعُ السَّيْفَانِ وَيْحَكِ في غِمْدِ

    وكان المهتدي باللّه أسمر، رقيقاً، مليح الوجه، ورعاً متعبدَاً، عادلا، قوياً في أمر اللّه تعالى، بطلا شجاعاً، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الحق والخير. قال أبو بكر بن الخطيب: قال أبو موسى العباسي: لم يزل صائماً منذ ولي إلى أن قتل، قال العباس بن هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشية في رمضان، فوثبت لأنصرف، فقال لي: اجلس فجلست، وتقدم فصلى بنا ثم دعا بالطعام، فإذا طبق عليه خبز وآنية فيها ملح وخل وزيت، فدعاني إلى الأكل فقال: كل واستوف فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى ؛فعجبت، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد أسبغ اللّه نعمته عليك، فقال: إن الأمر على ما وصفت، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، فكان من التقلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم فأخذت نفسي بما رأيت .وقال ابن عرفة النحوي: حدثني بعض الهاشميين، قال: كان للمهتدي سفط فيه جبة صوف وكساء، وكان يلبسه بالليل ويصلي فيه، وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء، وحسم عن الظلم، وكان يشرف على الدواوين بنفسه، ويجلس الكتاب بين بديه، فتبرم به بابك التركي وانحصر، وكان ظلوماً، غشوماً فأمر المهتدي بقتله، فلما قتل هاجت الأتراك، ووقع الحرب بينهم وبين المغاربة ؛فقتل من الفريقين أربعة آلاف، وخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته، والمغاربة معه وبعض العامة، فحمل عليهم طنبغا أخو بابك فهزمهم، ومضى المهتدي منهزماً والسيف في يده وقد جرح جرحين، حتى دخل دار محمد بن أبي داود، فتجمعت الأتراك وهجموا عليه، وأخذوه أسيرَاً، وحمل على دابة، وأردف خلفه سائس بيده خنجر، وأدخل إلى دار بعضهم وجعلوا يصفعونه ويقولون: اخلعها، فأبى عليهم، فسلم إلى رجل منهم فوطئ مذاكيره حتى قتله. وتوفي في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وكانت مدة خلافته سنة واحدة إلا خمسة عشر يوماً، عمره ثمان وثلاثون سنة وأربعة أشهر.

    خلافة المعتمد على الله

    أبي جعفر ، أحمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور .لما قتل متغلبة الأتراك الخليفة المهتدي صبراً عمدوا إلى الحبس ، وأخرجوا ابن عمه أبا جعفر أحمد بن المتوكل ، ولقبوه بالمعتمد على اللّه ، وبايعوه سنة ست وخمسين ، أمه أم ولد اسمها فينان ، وكان له انهماك على اللذات واللهو ، فقدم أخاه طلحة بن المتوكل ولقبه بالموفق باللّه ، وجعله ولي عهده ، ولاه المشرق ، والحجاز ، واليمن ، وفارس ، وطبرستان ، وسجستان ، والسند . وكان له ولد صغير اسمه جعفر ولاه المغرب ، والشام ، والجزيرة ، ولقبه المفوض إلى اللّه ، وعقد لهما لواءين أبيض وأسود ، وعقد لهما البيعة ، وشرط على أخيه الموفق باللّه أنه إن حدث به الموت وولده صغير كان الموفق ولي عهده ، وإن كان حينئذ ولده كبيراً كان هو ولي عهده ،وكتب بذلك معاقدة كتب كل منهما خطة عليه ، وكتب القضاة والعدول خطوطهم عليها ، وأرسلها إلى مكة فعلقت في الكعبة ، وما أفاد مع هذا حذر من قدر ؛ كان الموفق عاقلا مدبراً شجاعاً ، مشتغلا بأمور المملكة ، ملتفتاً لأمور الرعية ، وكان أخوه المعتمد مكباً على لهوه ولذاته ، مهملا أحوال الرعية غير ملتفت إليها ؛ فكرهه الناس وأحبوا أخاه طلحة الموفق ، وظهرت فيه نجابات كثيرة ، وكان ميمونَاً مظفرا في الحروب .وظهر أيام المعتمد طائفة من الزنج ، وتغلبوا على المسلمين ، وكان لهم رئيس اسمه يهبول يدعى أنه أرسله اللّه إلى الخلق ، وادعى علم المغيبات ، وقتل في المسلمين . . . . ، ذكر الصولي أنه قتل ألف ألف وخمسمائة ألف مسلم ، وكان يستأسر نساء المسلمين ويبيعهن في الأسواق بأبخس ثمن ، وينادي على الشريفة العلوية بدرهمين ، وكان عند الزنجي الواحد منهم عشر شرائف يطؤهن ويمتهنهن في الخدم الشاقة ، وكان ذلك من أعظم المصائب في الإسلام . وتملك هذا الكافر مدناً كثيرة للمسلمين ، واستأصل أهلها ، وجعل دار مملكته واسط ورامهرمز وما والاهما ؛ فانتدب لقتاله الموفق باللّه ، وجمع الجموع والعساكر ممن حنكته الحروب ، ووسمته قوارع الخطوب ، فاتخذهم جناناً ويداً ، ورضي بهم ساعداً وعضداً ، فركض بهم إلى الأعداء اللئام ، الكفرة الطغام . فالتقت الفئتان على ضربية الحرب ، وتساقيا كئوس الطعن والضرب ، فجفلت السودان من لامع الصارم الأبيض ، وفروا كما يفر الليل الأسود من النهار المبيض ، وقتل أميرهم يهبول ، ونصر الله ملة الإسلام ، ومحا بنوره ذلك الظلام ، واستردت المدائن التي أخذها وغيرها من البلاد ، واطمأن المسلمون وكافة العباد ، ولقبوه بالناصر لدين اللّه ، وصار له حينئذٍ لقبان : الموفق باللّه ، والناصر لدين الله . ودخل إلى بغداد في عظمة وعلو شأن ، ورأس ذلك الكافر ورءوس أصحابه على رماح ، ودعا له المسلمون ، وقصدته الشعراء بالمدائح ، وأحبه الناس ، وبعد صيته واستفحل أمره .واستمر أخوه المعتمد على حاله منهمكاً في اللهو واللذات وله اسم الخلافة ، وجميع الأمور يتلقاها الموفق باللّه الناصر لدين الله ، فحسده أخوه المعتمد ، لذهابه بالذكر والصيت ، وأراد هضمه ؛ لاستيلائه على المملكة ورضا الناس عنه ، فلم يدر كيف يصنع في ذلك ، فاستعان على هضم جانب أخيه بصاحب مصر يومئذٍ أحمد بن طولون ، وكان ملكاً شجاعاً فاتكاً ، صاحب جيوش وجنود ، كثير الأموال والخزائن ، مستقلا بمملكة مصر يأخذ خراجها ، فكاتبه المعتمد ، وأمره أن يقاتل أخاه ليخف أمره ويهون بذلك ، فجرت بينهما حروب اشتغل بها الموفق عن أخيه المعتمد ، وصار يواليه تارة ويداريه ، ويباعده تارة ويدانيه . ومضى على ذلك زمان والموفق بعد مرهن .وكان للموفق ابن نجيب اسمه أحمد جعله الموفق ولي عهده واستعان به في حروبه ، وظهرت له نجابة وقوة ، فخشي الموفق على نفسه وعلى أخيه المعتمد لما رأى من شجاعته وبسالته ؛ فأودعه بطن الحبس ووكل به من يثق به في أمره ، واستمر محبوساً إلى أن اشتد حال الموفق في المرض فبادر غلمانه إلى الحبس ، وأخرجوا ولده أحمد منه فلما رآه الموفق قال : يا ولدي لهذا اليوم خبأتك ، وكان ذلك قبل موته بثلاثة ، وفوض إليه وأوصاه بعده المعتمد خيراً ، ثم مات بعد ثلاثة أيام .وشمت المعتمد بموت أخيه ، وظن أنه استراح وصفا له دهره ، والدهر ما صفا لأحد من البشر ؛ وإن صروفه تأتي بالعبر والغير . فما حال عليه الحول حتى سلب ذلك الطول والحول ، ولم يكن له بعد خذلانه الناصر من قوة ولا ناصر . وتوفي يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين . وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وعمره أربعون سنة وستة أشهر .

    خلافة المعتضد

    أحمد بن الموفق باللّه طلحه بن المتوكل بن المعتصم .بويع له بالخلافة بعد وفاة عمه المعتمد في تاريخ وفاته المذكور آنفاً. أمه أم ولد اسمها صواب، كان قليل الرحمة، مهيئاً ظاهر الجبروت، وافر العقل، شجاعَاً مظفراً. دانت له الأمور فسالمه كل مخالف ومعاند، شديد السطوة، حسن السياسة، يقدم على الأسد وحده، إذا غضب على أحد ألقاه في حفرة وطم عليه التراب، وله تصرفات شتى في قتل من غضب عليه، أسقط المكوس ورفع المظالم عن الرعية، وأظهر عز الملك بعد ما ذل ووهن، وجدد ملك بني العباس، وفي ذلك يقول عبد اللّه بن المعتز: من السريع :

    أَمَا تَرَى مُلْكَ بني هَاشِم ........ عَادَ عَزِيزاً بَعْدَ مَا ذُللا

    يَا طَالِبَ المُلْكِ فَكُنْ مِثْلَهُ ........ تَسْتَوْجِبِ المُلْكَ وَإِلاَ فَلاَ

    وفيه يقول أبو العباس علي بن الرومي: من الطويل:

    هَنِيئاً بني الْعَباسِ إِن إِمَامَكُمْ ........ إِمَامُ الهدَى وَالْبَأْسِ وَالجودِ أَحْمَدُ

    كَمَا بِأبي العَبَّاسِ أُسسَ مُلْكُكُمْ ........ كَذَا بِأبي الْعَباسِ أيضاً يُجَدَدُ

    إِمَام يَظَلُّ الأَمْسُ يَشكُو فِرَاقَهُ ........ تأسُفَ مَلْهُوفٍ وَيَشْتَاقُهُ الْغَدُ

    وكان مع سطوته وبأسه يتوخى العدل، ويبرز المراء في صورة الجبروت والعسف، وهو في ذلك محق في الباطن، فمن ذلك ما روى عن عبد اللّه بن حمدون قال: خرج المعتضد للصيد يوماً وأنا معه، فمر بمقثاة فعاث بعض جنوده فيها، فصاح صاحبها واستغاث بالمعتضد، فأحضره وسأله عن سبب صياحه فقال: ثلاثة من غلمانك نزلوا المقثاة فأخربوها. فأمر عبيده بإحضارهم، فضرب أعناقهم ومضى وهو يحادثني فقال لي: اصدقني ما الذي تنكره الناس من أحوالي. فقلت له: سفكك للدماء. فقال: ما سفكت دمَاً حراماً قط، فقلت: بأي ذنب قتلت أحمد ابن الطيب. فقال: دعاني إلى الإلحاد فقتلته لما ظهر لي إلحاده ؛لنصرة الدين. فقلت: فالثلاثة الذين نزلوا المقثاة الآن ؟فقال: واللّه ما قتلتهم، وإنما ثلاثة من قطاع الطرق، وأوهمت الناس أنهم هم، ثم أحضر صاحب الشرطة فأمره بإحضار الثلاثة الذين نزلوا المقثاة فأحضرهم وشاهدتهم، ثم أمر بإعادتهم إلى الحبس. وهكذا ينبغي تدبير السياسة، وإظهار النصفة، وتخويف الجند وإرعابهم .ومما وقع في أيام المعتضد من عمارة المسجد الحرام زيادة دار الندوة، وهي الزيادة التي في شامي المسجد وهي أول الزيادتين، والأخرى التي في الجانب الغربي، سيأتي أن الآمر بها المقتدر، وبينهما قريب من عشرين سنة، وليست الزيادة هي عين دار الندوة، بل محلها في تلك الأماكن لا على التعيين من خلف مقام الحنفي إلى آخر الزيادة .قلت: ما سبق بيانه أن قصياً أول من بنى مكة، ثم بنت قريش بيوتها، وأن البيوت كانت محدقة بالكعبة، ولها أبواب شارعة إلى المطاف، وبين كل دارين طريق إلى المطاف، وهو هذه البقعة المرخمة - يقتضي أن دار الندوة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1