Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أقوالنا وأفعالنا
أقوالنا وأفعالنا
أقوالنا وأفعالنا
Ebook681 pages5 hours

أقوالنا وأفعالنا

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يؤمن الكثيرُ من المفكرين والأدباء أن غاية الأدب هي إصلاح المجتمع وتحقيق رفعته والمشاركة في حل مشاكله. وفي هذا الكتاب يُكرِّس «محمد كرد علي» قلمه لرصد ظواهرَ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ سادت المجتمعات العربية فترة منتصف القرن العشرين، فرأى أنها تُعيق التطور، فكان لزامًا تسليط الضوء على هذه الظواهر وحل المشكلات التي سببتها، كما يعقد المقارنات بين تلك العادات والطباع المرفوضة وبين مثيلاتها الأروبية المستحسنة، فلا يرى غضاضة في الأخذ ببعض من سلوكياتهم وطباعهم التي حققت لهم التقدم، فكانت دافعًا لا عائقًا. كذلك يقدم الكاتب رؤيته لعدة قضايا اجتماعية دار حولها سِجَالاتٌ فكرية — آنذاك — كقضية حقوق المرأة والجمع بين ثقافتين، والوحدة العربية والجامعة الإسلامية.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateOct 3, 1903
ISBN9786965383877
أقوالنا وأفعالنا

Read more from محمد كرد علي

Related to أقوالنا وأفعالنا

Related ebooks

Reviews for أقوالنا وأفعالنا

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أقوالنا وأفعالنا - محمد كرد علي

    تمدننا

    قالوا إن المتمدن من يعرف بعض أسرار القوى المحيطة به، والهمجي هو الذي لا يفهم شيئاً من أمور العالم. ومعرفة الأشياء تستلزم إمكان الانتفاع بها وتطبيقها على حاجاتها. ونكون في عداد المدنين متى عرفنا أن الجدري ينشأ من جرثومة، وأنَ في إمكاننا وقاية أجسامنا إذا اتقينا تلك الجرثومة أخرى، والتمدن جزء من معرفة الأشياء. وهو بالمعنى الصحيح الذي يدل عليه مقدار عظيم من السعادة تحف حياتنا البشريه، ولا تقوم الأشياء واستعمالها المفيد. يضاف إليها ماله علاقة بالأخلاق كالتساند، والإخاء الإنساني، وحرمة الحق .وعرَفوا المدينة بأنها وحدة مركبه من الأفكار السائدة والعادات الراسخة التي يعيش في سلطانها كل إنسان مجتمعاً مع غيره، ويوصف بالمتمدن كل مكان جمع أناساً كانت بينهم علائق مستقرة أو متزلزلة، وكان من هذه الصلات بعض قوة أو ضعف. والفرق بين الشعوب الهمجية والشعوب المدنية ما تمتعت به هذه من أوضاع سياسية وإدارية، وثروة عامه، وثقافة أدبيه وعلميه، واستقلال نسبي، ورقيَ اقتصادي وعقلي وأدبي. والرجل المتمدن هو الذي يرمي ببصره إلى المستقبل، والمتوحش يعيش كل يوم بيومه ؛ويستهلك في الحال كل ما يستحصل، ويسرف في قوته تلذذاً بالإسراف واللعب فقط، وهو أبداً ينظر إلى الماضي ويأخذ بالحضر ولا ينظر إلى المستقبل. وقل بعضهم: تعرفه درجه الأمة المتمدنة من مقدار ما تصرفه من الصابون وطوابع البريد .ولقد توفرت بعض الأقطار العربية وفي مقدمتها مصر على السير في طرائق المتمدنين من أهل الحضارة الحديثة فبلغت بعد ثلاثة أجيال درجة عالية من التمدن، وظل الجمهور الأعظم من بينهما على صبغته القديمة، أي أن مسافة التمدين مازالت شاسعة بين أبن الريف وابن المدينة. وكذلك يقال في الشام فأن المدينة دخلت مدنها وظلت البوادي ومعظم القرى على ما كانت عليه. وإنك تترى في هذين القطرين لعهدنا تمدناً لا يقل عن تمدن الشعوب الأوربية، وإلى جانبه انحطاطاً لا نسبة بينه وبين الترقي الذي بلغه سكان الحواضر .ولا جرم أن مظاهر الحضارة في كل بلد من بلدان الشرق متفاوتة، فأبن المدينة غير ابن القرية أبداً، والتفاوت عظيم بين الحواضر والأرياف وبين القرى والبلدي، وأكثر منه البدو والحضري، والمتعلم والجاهل .قضى العلم الحديث على كثير من الخرافات كان الناس في العصر السالف يعدونها حقائق ثابتة، فيعتقدون مثلاً أن القمر يخسف بفعل حوت يهم بأكله، وانهم إذا ضربوا له بما يهيجه يُفلت من أنياب الحوت، وان الأرض واقفه على قرن ثور، وأنها ثابتة لا تدور. وأن الطواعين الأوبئة من فعل الجن، ولا يعترفون بوجود الجراثيم، مع أن في السيرة النبوية أحاديث تحذر من مداناة المريض، وتقول بالنسمات المهلكة، أي بالجراثيم. وكانوا يتطيرون ويتمنون بالأيام والاخناسي والحيوان والطيور، ويتطببون بالأدعية والتعاويذ، ويحبون بالطلاسم والرقي، ويؤمنون بالمغيبات والكرامات، ويأنسون بالخرافات والخزعبلات .كان الناس، حاشا العلماء، يحسنون ظنهم بالطرق، فبطل هذا الاعتقاد في كثير من المدن والقرى، وإذا ذكرت الآن أمام أناس كانوا ممن أسعدهم الحظ بأن تعلموا التعليم الابتدائي، أو ممن عاشوا في بيئة راقية وسمعوا كلام لا لمثقفين، ضحكوا وسخروا. وعلى هذا غدا الجمهور يستعمل عقله، وكان مدة قرون يسلم بكل ما سمع من كبير، أو ممن يعتقد فيه الفهم. وكان يهون على السذٌّج أن يقضوا أياماً طويلة كل سنة لحضور الموالد وزيارة المشاهد، وكان الناس في الشام ومصر والعراق يعاطلون أشغالهم كل سنة للاشتراك بمولد بعض الأولياء، وندبة أحد الشهداء، فقلَ عدد المعتقدين بذلك بذالك، وأبطلت الحكومات هذه الاجتماعات الضارة فعدَ ذلك من علائم التمدن، وكم من اعتقاد كان راسخاً في الصدور بتسلسل الجهل من الأجداد إلى الأحفاد، فعاق المرء عن التعليم والأخذ بالأسباب ونزع بفعل الحضارة من الصدور، ووقف المعتدلون من المتعلمين عند حدَ من تنارسته الشريعة من المعتقدات، ونبذوا ما زاد عليها، وهذا أيضاً من التمدن .كان معظم الأمة يؤمن إيماناً غريباً بالسحر والتنجيم، واستخراج البخت والفأل، وتأثير العين ونفع الطلسمات والرقي، فغدا اليوم صغار فتيان المدارس ينكرون هذه الامور، ولايسع آباءهم وأمهاتهم إلا أن يقلدهم في معتقدهم، وهذا اعتراف ضمني من الاميين، أو ممن كان في طبقتهم، بأن المتعلم أكثر تمدناً ممن لم يتثقف .كانوا إلى عهد قريب يؤخذون بكلام كل من يقص عليهم غريبة فيعتقدون للحال صحتها ويعظمون أمر روها، فاضمحل أكثر ذالك، وهذا أيضاً من المدنية، حلَ العقل محل الجهل .وإذا جئنا نوازن بين حالنا اليوم وحالنا في أواخر القرن الماضي، من حيث الاجتماع والتنظيم والبعد ما أمكن عن التخريف والاعتقاد بالمجهولات، نشهد مغتبطين .أنا خطونا خطوات واسعة في خمسين سنه في سبيل التمدن، وأنا لنرى ابن الثامنة عشرة ممن درس الدروس الثانوية أرقى بعقله ومعرفته من معظم من يرى التاريخ أخبارهم، ويشير إلى انهم من العلماء والادباء، وعلى هذا ترى أهل الطبقة الوسطى اليوم يعيشون عيشه تقرب من عيش أعظم قدماء الخلفاء، بما اقتبسوه من مقومات المدينة، وحمله العرب إليهم من قوانين وأنظمه وأوضاع ومصطلحات في البيوت والمجالس والموائد والوراسم والملاهي والملابس والآلات وغيرها، وكلما عمت هذه الأفكار والأوضاع، وتناولها الأُمّيون كما تناولها المتعلمون، زادت سعادة المجتمعات .من علائم المدينة ما نشهده من مراعاة النساء في المجالس والطرق والسكك الحديدية والترام المقاهي والمطاعم والفنادق، وكنّ منذ جيل موضع سخريه وامتهان، وهذا لاشك من أثار استمتاع النساء بحقوقهن في هذا العصر، وتبدل عظيم في نظر القول إليهم. ومعنى هذا أن ما تنعم به المرأة من الحرمة والكرامة أكثر مما كانت عليه في الدهر السالف .ذكر المقريزى في السلوك - في حوادث سنه ثمانية وسبعمائة - أن والى قلعه القاهرة الملقب بالمجنون كان يتسلط على النساء فيخرج أيام المواسم إلى القرافة وينكل بهن فامتنعن من الخروج في زمانه إلا لأمر مهم مثل الحمام وغيره .وذكر في حوادث سنه 732 أن الملك محمد بن قلاوون أراد الاحتفال بعرس ابنه فجلس على باب القصر وتقدم الأمراء على قدر مراتبهم واحداً بعد واحد ومعهم الشموع، فإذا قدّم الواحد ما أحضره من الشمع قبل الأرض وتأخر، في ليله العرس جلس السلطان على باب القصر أيضاً وجلس أبنه تجاهه، وأقبل الأمراء جميعاً وكل أمير يحمل بنفسه شمعة وخلفه مماليكه تحمل الشمع فتقدموا على قدر رتبهم وقبلوا الأرض واحداً بعد واحد طول ليلهم، حتى إذا كان أخر الليل نهض السلطان وعبر إلى حيث مجتمع النساء فقامت نساء الأمراء بأسرهن وقبلن الأرض واحدة بعد أخرى، وهي تقدم ما أحضرت من التحف الفاخرة والنقضت تقادمهن جميعاً، ورسم السلطان برقصهن عن أخرهن فرقصن أيضاً واحدة بعد واحدة، والمغاني تضربن بدفوفهن وأنواع المال من الذهب والفضة وشقق الحرير تلقى على المغنيات، وتقبيل الرجال والنساء الأرض على مخالفه للدين أكبر دليل على عبوديته يفرضها مماليك على الأحرار .وذكر ابن الفرات في سنه 793 ه أنه صدر مرسوم الأمير الكبير في القاهرة بأن لا تخرج امرأة من بيتها إلى التربة، وأن كل من وجد منهن في تربة من الترب وٌسَطت هي والمكارى والحمار، وألا يتفرج أحد في مركب في البحر، وأن من وجد في مركب أٌحرق هو والمركب والنوتى، فتحامى الناس ذلك في أيام العيد، ولم يجسر أحد أن يتفرج، ولم تجسر امرأة أن تطلع إلى القرافة ولا إلى الترب .وذكر أيضاً في حوادث تلك السنة أن نائب الغيبة في القاهرة أرسل جماعة من الأُجاقية السلطات ومعهم جماعه من مماليكه، فدراروا الأسواق والقياسر والطرقات بالقاهرة وظواهرها، فقطعوا أكمام النساء الواسعة بسكاكين كانت معهم، وحصل لبعض النساء رجّة عظيمة، لأنهم كانوا يأتون المرأة على حين غفلة ويمسكونها حتى يقطعوا كمها، النساء وضعن حملهن من الرّجة، وسقط بعضهن مغشياً عليه، وامتنع النساء من لبس القمصان بالأَكمام الواسعة وتفصيلها .وقال المؤرخ: ولو تم ذلك لكان خيراً عظيما، لكن النساء أعدن ذلك بعد حضور السلطان من الشام اه .جرى هذا في القاهرة أعظم حواضر الإسلام مدنيةً في القرن الثامن كما شهد بذلك ابن خلدون المؤرخ العظيم .وذكر ابن كثير في حوادث سنة اثنتين وستن وسبعمائة أنه نادى مناد في دمشق من جهة نائب السلطان أن النساء يمشين في تتر، ويلبسن أٌزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهن، ولا يداً .وقال في حوادث السنة التالية وهو مما لا يشعر بضعف المدينة فقط بل يدل على تحكم بارد وتعصب جامد. نودي في البلد أن النساء أهل الذمة لا تدخل الحمامات مع المسلمات بل تدخل حمامات تخص بهن، ومن دخل من أهل الذمة مع الرجال المسلمين يكون في رقابهم علامات يعرفون بها من أجراس وخواتيم ونحو ذلك، وأمر نساء أهل الذمة بأن تلبس المرأة خفيها متخالفين في اللون كأن يكون أحدهما أبيض والآخر أصفر أو نحو ذلك !وقالفي حوادث سنة إحدى وستين وستمائة: إنه ورد كتاب من السلطان بإلزام القلندريه بترك لحاهم وحواجبهم وشواربهم، وإلزامهم بزي المسلمين وترك زي الأعاجم والمجوس، فلا يمكنَّ أحد منهم من الدخول إلى بلاد السلطان حتى يترك هذا الزي المبتدع واللباس المتشنع، ومن لا يلتزم بذلك يعزز شرعاً ويقلع من قراره قلعاً .قال ابن كثير بعد إيراد هذا: وكان اللائق أن يؤمروا بترك أَكل الحشيشة الخسيسة، وإقامة الحد عليهم بأكلها وسكرها .وما ندرى ما الذي حدا السلطان جقمق ملك مصر والشام على أن يرسم سنة 855 بحرق شخوص خيال الظل 'القره كوز' جميعاً وأبطالها كما روي ابن اياس. أبطال هذا الملهى المباح الذي لا يخلو من عبرة وتذكير، بينما كان الغربيون يرتقون في التمثيل الذي منه أنفع الأثر في نهضتهم ونهضة الرومان واليونان من قبلهم .ولك أن تعد في المدنين كل من لا يؤذي جاره ولا موكله ولا رفيقه ولا المارة مهما كانت درجاتهم لا يعبث با القوانين والشرع، وكل من يعرف أين تنتهي حريته الشخصية وتبدأ تندأ حرية غيره. فمن يلزم التؤدة والوقار في الجوامع والبيع ودور التمثيل والموسيقى ولأندية والمتنزهات، ويظهر بمظهر المعتدل في شعوره وحركاته وسمته، ونظافة ثيابه وأطرافه، ويتحرج من إيذاء .مُثافنه بصنُانه وبَخَره يُعَدٌّ من المدنين وكذلك كل من لا يزين له حب الفضول البحث في خصوصيات جيرانه وموطنيه ومساكنيه، إلا إذا كان من وراء ذلك فائدة عامة .وكل من تجمل وتزين، رجلاً كان أو امرأة، على شرط عدم الإفراط في ذلك يعد ممدناً، ومن يهون عليه خرق النظام، فهو في أقصى درجات التوحش. وإذا وقف المرء عند حدود الآداب العامة، وصان لسانه عن استعمال ألفاظ الفحش والبذاءات، واقصر في كلامه على ما إذا أورده أمام العذارى لا يخجلن منه، عُدّ عمله عمل المتمدنين، وكلما أدرك المرء السعادة له ولذويه إلا إذا اهتم للمصالح العامة اهتمامه بمصالحه الخاصة، وأن سعادة غيره سعادة له، وأن شقاء وطنه يزيد إن لم يشارك مشاركة فعليه في إنهاضه، وأنه إذا لم يأت هذا مختاراً عدّ لصاً في أرضه، يستمتع بخيراتها ويُلقى على غارب غيره متاعبها .مثال من تمدننا وتوحش أهل القرون الغابرة. ما أظن إنساناً نظر قليلاً في كتب الأدب إلا ورأى بعض شعرائنا يصدعون الآذان بم قالوه في وصف الخلخال، وما تعزلوا به وأَكبروا من جماله، وما ابدوا من عجبهم من حركته وسكونه. ومن أم يتصور ذاك القيد الثقيل في رجل المرأة لا يدرك مقدار العبودية التي فرضها الرجل على النساء في غابر الأزمان، ولا يعرف مدى قلة الذوق من عدَّ مثل هذه الحديدة اللامعة من المغريات .وما الخلخال في الواقع إلا صورة صادقة من عصور الهمجية الأولى، ومن تأمله حق التأمل يدرك مضرته التي أعجب بها الشعراء، ويحكم على الذوق المتقهقر عندهم .إلى اليوم ترون صورة من الخلخال في أرجل بعض الفلاحات في ريف مصر وريف الشام، كما تجدون الفتيات الصينيات يحصرن أرجلهن في أحذية ضيقه من الحديد حتى إذا شببن بقيت أرجلهن صغيره دليل الجمال !كلما فكرت في هذا الخلخال أجد فيه البشاعة كلها والهمجية كلها، وكلما رأيت كيف بطل استعماله عند ساكنات المدن لا يخامرني شك في أننا قطعنا مراحل طويلة في طريق المدينة .وكذلك كلما رأيت الخزام الذي يخزمون به أنف الفتاة وقد أبطل أيضاً في المدنية، ولم يبطل عند البدويات وبعض القرويات، كما لم يبطل إلى اليوم ثقب أُذني الفتاة ليعلق فيها القيرطان، ولم يبطل الوشم في أكثر الأرجاء العربية، يُسَوَّدون بالزرقة الساعدين واليدين والرجلين والوجه وأماكن أخرى من الجسم، فتظل مشوهة طول حياتها، وتفقد كثيراً من جمالها ويشاركها في هذا التشويه الرجل كلما تأملت هذه التشويهات يحمل بها في الأكثر القوى على الضعيف، حتى أصبحت على توالي الأحقاب من الأمور المتعارفة التي لا تنكر، أحمد اللّه على أن خلقنا في هذا العصر، وخلق لنا عقولاً نميز بها الجميل والقبيح والنافع والضار .ومن الهمجية جرأة في مصر والحجاز على قطع جزء من جسم الفتاة لأمور يتوهمنها إذا شبت وكبرت، يغيرن بذلك صنع الخالق مع مخلوقة لا تملك أمر نفسها .ومن يزر متحفاً من المتاحف أو داراً من الدور القديمة في القرى النائية عن المدن يقع نظرة على ما كان النساء يستعملنه من اللباس وأدوات الزينة. وما طاسات الفضة أو الحديد التي كانت توضع على رؤوس العرائس وتلك الأحزمة والزنانير الغليظة التي يتمنطقن بها الآن، وتلك العمائم الثقيلة التي تلاث على طربوش غليظ يتعمم بها النساء كالرجال في بعض بلاد الريف إلا صورة من تلك الهمجية، تًقَيَّد مع الخلخال والخزام والوشم في جريدة واحدة .والأمة في القديم كما هي في العصر الحديث وقد تخرج عن المعقول في عاداتها كما خرج المتمدنات لعهدنا في صبغ أظافرهن وإطالتها وصبغ شفاههن بالحمرة مثلا .ومن الغريب أن هؤلاء البائسات في تلك العصور كن يألفن هذه العادات ولا يرضين عنها بديلاً شأن بعض المحجبات اليوم يرضيهن حجابهن أكثر من السفور مع ما في هذا من الفرج والحرية لهن .روي الجزري أن نائب السلطنة بدمشق ر سم في سنة 690 أن لا ترجع امرأة تلبس عمامة كبيرة ومن خالفت المرسوم غلظت عقوبتها فامتنع النساء على كره منهن .كانت أدوات الزينة عند النساء في حالة ابتدائية، فمن كان لها في القرون الوسطى مكحلة من بلور وميلمن ذهب وأقراط تعلقها بأذنيها ومخانق وعقود تنيطها بعنقها تعد ممنة. ومن يكون في جملة صداقها زواج أساور ذهب وثوب طريف 'طرفنده' عليه أزرار فضة تعد ممدنة .ومظاهر التمدن تختلف باختلاف العصور فقد رأت مصر في عهد الملك الناصر من المماليك عهد الرخاء. ذكر ابن بردى أن النساء في زمانه استجدت الطرحة كل طرحة بعشرة آلاف دينار. والفرجيات بمثل ذلك، واستجد النساء في زمانه الخلاخيل الذهب والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة والقباقيب الذهب المرصعة والأزر الحرير وغير ذلك. والغالب أن هذا الترف كان خاصاً بنساء الملوك ومن وازاهم .وماذا كان النساء يقلن لو عدن إلى الأرض وشاهدن هذه الأزياء الجديدة عند بنات جنسهن، وهذه الحلي والزينة، ورأين المزركش والمزمك والمقطع، وقسنه بتلك الثياب التي ألفنها وما فيها ما ينم عن ذوق ولا عن رفاهية تذكر ؟لا جرم أنهن كنَ يؤمن بأنهن على غاية من التوحش بالقياس إلى ما حدث بعدهن من رقي الذي كان من انتشار العلم وما تبعه من مدنية .^

    القول في

    وطنيتنا

    الوطن هو البلد الذي يولد فيه الإنسان، أو موطن الإنسان ومحله. وقسموا الأوطان إلى ثلاث أقسام: الوطن الأصلي وهو مولد الرجل في البلد، وقيل ما يكون بالتوطن والبلد، وموطن الإقامة وهو موضع ينوي المرء أن يستقر فيه خمسة عشر يوماً أو أكثر من غير أن يتخذه مسكناً، ووطن السكني وهو الموضع الذي ينوي الإقامة فيه أَقل من خمسة عشر يوماً .والوطنية هي الحب الذي يشعر به من يساكن جماعة في أرض يعيش فيها جمهرة من الخلق مجتمعين، وهي تستلزم رغبة في المعاونة على جلب الخير للبلد، ليكتب له السؤدد في الحاضر والمستقبل، وتكون هذه الرغبة نتيجة عواطف كثيرة منها حب من عاش المرء وارتبط قلبه بالأماكن التي ولد فيها، وقضى جزءاً من حياته في رباعها يضاف إلى ذلك إخلاص لجنسه ولغته ومنازعه وعاداته وقوانينه وأوضاعه وللمجتمع الذي ولد فيه وانتسب إليه .كانت كلمة الوطن ضيقه النطاق لا تعدو منزل المرء وبلده، فلما جاء الإسلام كان الوطن دار الإسلام عامة وما عداه دار حرب، وكان للدين الأثر الأول في الوطن العربي ثم للغة الواحدة، وقلما كان الوطن - كما هو الشأن في الدول الغربية الكبرى إلى اليوم - موحداً في الجملة بأجناس سكانه ولغاتهم، لأن من قواعد الإسلام أن لا يكره أحد على انتحاله إذا عمل بما يأمر به، فيبقى أهل كل دين على دينهم إن لم يحبوا برضاهم الدخول في الإسلام. وكانت هناك رابطتان رابطة الجنس وهي طبيعة في الخلق، لا يستخدمها صاحبها في أغرض عامة، وربطة الدين والغة يدين بها المواطنون كافة .نعم دعا الإسلام إلى جامعته فهي الوطن وهي القومية، وما دعا إلى الجنسية والقبلية، فقد كتب الرسول إلى عامة على اليمين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى اللّه وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى اللّه ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى اللّه. ثم عاد العرب يتفاخرون بالقبيلة والعشيرة لما قامت المنازعات على الملك .وقصد رسول اللّه بألا يكون في جزيرة العرب دينان أن تتألق من العرب وحدة سياسية، فتعذر قيام هذه الوحدة لأن سائر العناصر الأديان أطلق لها حريتها، فشاركت في الوطنية إلى حد محدود. ولولا أن أكل الربا نصارى نجران ويهود خيبر وتيماء، وكان شرط عليهم في العهد الذي منحوه ألا يتعاملون به ما أجلاهم عمر عن جزيرة العرب إلى العراق والشام، ومع هذا أوصي بهم وما اضطهدهم أحد من عماله ولا رعاياه، كما لم يضطهد النصارى ولا اليهود ولا المجوس ولا الصائبة لما انتحلوه من دين، إذا أدورا الجزرة، ورعوا حقوق الوطنية الإسلامية .وكانت تختلف درجة امتزاج الأعاجم بالعرب في الوطن الجديد، بحسب بعدهم وقربهم من الأرض العربية، واختلاطهم بالفاتحين وأبناء الفاتحين، وما كان يسمح - على ما يظهر - أن تنعزل الجاليات عن سكان هذا البلاد الأصلين، كأَن تقتطع لها منطقة خاصة لا تتعداها إلى غيرها، أو إقليماَ بعينه لا تخرج منه. وربما اثر بعض أهل الأديان أن يسكنوا في حيّ خاص ليكونوا على مقربة من معابدهم، ويأنسوا باجتماع بعضهم إلى بعض، ويجمع بين الأصل والدخيل في كل ولاية. ومزح معاوية في الشام القبائل والأديان المختلفة في الساحل والداخل حتى لا يكون النصارى أكثرية، ولئلا تتخذ منهم دولة بيزنطية آلات لأغراضها السياسية. أما في الأندلس وشمالي إفريقية فقد أنزل من جالبوا من القبائل العربية في مقاطعات خاصة، ثم اختلطوا كلهم عربهم وبر برهم مع السكان الأصليين، وبتمازج المواطنين تتألف منهم على الأيام كتلة واحدة وينسى الأعاجم أصُولهم .وما كان لغير العربي أن يتطالّ لأن يكون للغتة شأن مع اللغة العربية، وما حاول أن يتحلل من هذه الرابطة التي أحكمها الإسلام: وقدس لغة كتابه تقديسان: وكان من أثر ذلك تعريب كل قطر بسط الفاتحون سلطانهم عليه بسطاً محكماً، فأصبحت العربية لغة الدين والسياسية والعلم .وقد حاول أحد شعراء الفرس - والدولة العباسية في إبان مجدها - أن يتلو قصيدة له في الحفل فأبى علية أمير الولاية سماعها. ولما ضعف أمر العباسي أصبحوا إذا جاءهم شاعر فارسي بقصيدة يلونها في المجالسهم كما يتلون الشعر العربي .ولم تقو الجامعة الوطنية: أي جامعة أرض معينة الحدود والعلم، جمت بين أهلها المصلحة المشتركة، بقدر ما قويت الجامعة الدينية. وما خرج خليفة ولا سلطان ولا أمير عن حكم هذه الجامعة، ثم امتزجت العناصر بعد الفتح بقليل، وما انتهى القرن الأول حتى أصبح أهل المملكة الأموية يتكلمون بالغة العربية على اختلاف عناصرهم، وأمسى كل مواطن يشعر بأن مصلحته ومصلحة مواطنيه متحدة .شهدنا العباسين يهون عليهم التساهل بحقوق الجنسية، للسياسة التي اضطروا لانتهاجها مع أبناء خراسان الذين قام ملكهم على أيديهم، ولم يفادوا بذرة من حقوق الوطن الإسلامي: أي أنه كان همهم حفظ حقوق الوطن الأكبر، ويغضون الطرف عن بعض العناصر كالفرس، وقد أخذو في القرن الثالث يحيون لغتهم بظهور شعراء فيها، وما تعربت الجبال والقاصية من فارس قط، وظلت في الإسلام محتفظة بفارسيتها .ومن الصعب حصر الوطنية في أقطار واسعة متنائية الأطراف على نحو ما يتيسر ذلك في بلد ضيق معروف الحدود متماسك الأجزاء. وفي أصقاع يتعذر حكمها على غير قاعدة الحكم الذاتي كالأقاليم الإسلامية، لا يسهل أن يربط سكانها إلا برباط واحد، وهو ربطة الدين أولاً واللغة ثانياً، وكيف يرتبط ابن فارس ومكناس مثلاً بابن مسقط وعمان بغير هذا الرباط ؟بسط العثمانيون الأتراك سلطاتهم على ديار العرب، وكانوا إلى آخر أيامهم يؤثرون أبناء جنسهم بالمناصب الكبرى، ولا يشاركون أبناء العرب في سياستهم، وما جاهر العرب بمباينتهم للفاتحين، بل رحبوا بهم لما سمعوا عن عدل ملوكهم الأولين ومنازعهم في سلطانهم، جاءوا باسم الإسلام هو الجامعة الوطنية الكبرى، واستنام العرب وغيرهم للدولة العثمانية، فحكمتهم قرونا باسم الوطنية الإسلامية، ولما قويت في العثمانيين الدعوة إلى الومية التركية، وحاول دعاتها بأَخرة أن ينزعوا العرب من قوميتهم أخفقت دعوتهم. وما استطاعت الدول العربية تحقيقه من تعريب الأعاجم تعذر على الترك إنفاذ مثله، لأن العرب دعاة دين ومدينة وقد نجحوا في الدعوتين، أما الدولة العثمانية فما خرجت عن كونها دولة فتح وتغلب ليس إلا .ولما قتل سليمان بن قتلمش التركي مسلم بن قريش العربي صاحب الموصل وما إليها، انتقل ملك الشام '478' من العرب إلى الترك، ولم يحكم بعدها ألا أترك أو جرا كسة أو أكراد فتأثرت بذلك القومية العربية، ولم يقع حيف على الوطنية الإسلامية، لأن ذاك التركي الغالب جاء يحمل أيضاً تعاليم الإسلام، يكلم القوم بالعربية، ويكاتبهم بالعربية، فمحال أن يخرج العرب عليه، وإنفضلوا حكم العرب .ولقد رأينا المصرين في القرن الرابع يستدعون الفاطمين من شمالي إفريقية ليسلموا إليهم ملك مصر، غير أبهين لما بينهم وبين الفاطمين من احتلال في المذهب، بل نضروا إليهم فقط أنهم أصحاب دولة عربية. قوية ومع أن مصر كانت دار تشيع كما ابن زولاق منذ أيام محمد بن أبيبكر، وكانوا يكاتبون بمسائلهم جعفر الصادق ولا يعدلون عن فتياه، ومع أن الفاطميين نشروا مذهبهم الإسماعيلي فيها أكثر من قرنين ونصف قرن لا نجد لمذهبهم أثراً في مصر ونجد ميلاً إليهم لأنهم عرب مسلمون أنشأوا مدينة عربية بمظاهرها، والقول إلى اليوم يذكرونهم بالخير كما يذكرون الأتراك والجراكسة أبناء مذهبهم .كان من أرباب الدولة إذا اقتضت الحال إجلاء فريق من السكان عن قطر أو عن إقليم أخر، لا يخطر للمهاجر ببال إن كان عربياً أو غير عربي أنه نزح عن أرضه، بل يعتقد أنه انتقلإلى بقعة، ويحتاج فقط إلى زمن قصير حتى يتعرف إلى من نزل عليهم ويألف طبيعة الأرض التي حل فيها. كان هذا شأنهم منذ الفتح، أنزلوا قبائل عربية عظيمة في الشام والعراق ومصر وشمالي إفريقية والأندلس، فعربوا من نزلوا عليهم حتى بدأ نقص محسوس في السكان جزيرة العرب بعد القرن الثاني بهجرة مئات الألوف من أهلها ومنهم حملة الدين وقواد الجيوش. فكان شأن الجزيرة أسبانيا والبرتغال عقيب فتح أميركا، هاجر منها معظم أهل الذكاء والشجاعة من رهبان وجنود، فأثرت هجرتهم في أوطانهم الأولى وانتعت بهم الأقطار التي نزلوها .وقد يرى السلطان نقصا في سكان البلدان التي دانت لحكمه فيدعو من القاصية كل من يختار السكني في مملكة، لهم وسائل العيش فيها، كما فعل الملك العاقل المنصور قلاوون سنة 687 فكتب إلى أكابر السند والهند واليمن والحجاز والعراق والمعجم أن يحضر من يحب التكسب أوالسكني إلى الديار المصرية والبلاد الشامية، وبين لهم ما في مملكته من خيرات. وفي هذا دليل على أن الوطن الإسلامي وأن تعددت حكوماته لا يحتاج المهاجر إلى شهادة بجنسيته، ولا لجواز يمكنه من التنقل في الأرجاء .بلى كان العالم أو التاجر يتنقل في البلدان الإسلامية على ما يهوى، وهو يعد كل بلد ينزله بمثابة بلده، لا يجد فيه أدنى عائق يحول دون استمتاعه بحقوقه ورغائبه، حتى ليتزوج ليلة وصوله إلى البلد الجديد، ولا يسأل إلا عن دينه، أما الجنسية فقلما يعرض لها. وشهدنا الملوك والخلفاء يأتون برجال غرباء عن مملكتهم بحسب عرفنا اليوم ويلونوهم وزاراتهم، ويفوضون إليهم سياسة ملكهم وعلى هذا النحو يفعلون في جيشهم فقد يختارون لقيادته البعيدين عن مراكزه وربما اختاروهم من غير أهل الإسلام .أما القضاء والتدريس وغير ذلك من المراتب الدينية الكبرى فقد توسد في ديار الشرق لمن نشأوا في الغرب، فيقضي العالم ويفتي ويدرس ويعض ويخطب، ويتناول من الأوقاف أو من بيت المال راتباً مقرراً كأنه في مسقط رأسه، وبهذا تمازجت الشعوب الإسلامية تمازجاً غريباً، وكيف لا تتمازج والمحور الذي تدور عليه الوطنية هو الإسلام الذي ساوى بين الأبيض والأسود والعربي والأعجمي والسيد والمولى .لما أخذ الفرس بمخنق الدولة العباسية لأول أمرها، وكاثروا العرب في الحكم ثم تسلل الأتراك إلى مملكة العباسيين وقبضوا على زمام الأمر لم يصب الوطن الإسلامي بما يخالف أصوله لأن جميع هؤلاء المتغلبين كانوا من المسلمين، وسواء حكم العربي أو الفارسي أو التركي أو الدليمي أو البربري فالإسلام كم الأفواه عن التفوه بمسائل الجنس، وأصبح الدين جامعتهم والوطن وطنهم، والقوم قلما تعنيهم جنسية من يحكمهم ولا نحلته إذا حكم بالعدل. ولما سأل هولاكو علماء بغداد هل الحاكم المسلم الظالم أفضل أم الحاكم الكافر العادل أجمعوا في فتواهم على أن الكافر العادل أفضل من الحاكم المسلم الظالم .ولما حدث من مسائل الشعوبية والتفاضل بين العرب والعجم ما كان مما يقره الإسلام، وما خرج في الواقع عن حد مناقشات كل الداعي إليها منافسات ومطامع شخصية طبيعية الحدوث في كل بلد كان أهله أخلاطاً وأمشاجاً، ومع هذا لم يطرأ على الوطن الأعظم أدنى خلل لمكان الدولة من القوة، والعقلاء من جميع العناصر ما كانوا راضين عن هذه المهاترات .أما أبناء الذمة في الملك الإسلامي فكأن شعورهم شعور وطني يحب خير أمته لأنهم هم أيضاً ينعمون فيه كالمسلم وقد تساووا في الحقوق والواجبات مع مواطنيهم المسلمين. وكأن الصالح منهم يرى من عطف حكومته ومن عطف السواد الأعظم ما لا يكاد يرى مثله من ابن دينه، وما عقدت حكومة إسلامية معاهدة مع دولة غير إسلامية إلا ذكرت فيها المعاهدين وحفظ حقوق الذميمين. وكانوا إذا أسر النصراني أو اليهودي أو المجوسي أو الصابئ يفادونهم كما يفادون المسلمين، وإذا كانت لهم حقوق تجارية وارثية في دار الحرب تطالب لهم حكوماتهم بها كما تطالب بحقوقهم لو كانوا من المسلمين، وإذا قتل مسلم ذمياً يقتل به أو يؤدي دية كدية المسلم إذا رضى أهل القتيل، وتكون الدية من أعظم أصناف الدية. وما كنت تشهد الحكومات الإسلامية إلا حريصة على إعطاء أهل الذمة حقوقهم، والمبالغة في حمايتهم من السفلة والغوغاء، حتى أن مسلما إذا قال لمواطنه يا نصراني وأراد بقوله تحقير مخاطبه يعاقبه السلطان على كلمته، فكأن المسيحيون في ديار المسلمين أسعد من أبناء دينهم تحت حكم النصارى في الغرب .يقول بارتولد في تاريخ الحضارة الإسلامية أن الشعوب التي عاشت في حكم المسلمين استفادت من العلاقات التي اتسعت بقيام الدولة الإسلامية الممتدة على قسم كبير من العالم أكثر من المسلمين أنفسهم، كما أن انتشار النصرانية والمأنوية في بلاد غالية، واليهود والنصرانية في القوقاز وشواطئ الفولجة يعود إلى العصر الإسلامي أي إلى عصر التسامح والحرية الدينية .ولما نجا الملوك من ضغط المتعصبين من رجال الدين لأعفوا أبناء الذمة من الكسوة الخاصة التي كان الذميون في بعض العصور يلزمون بالاكتساء بها تميزاً لهم عن المسلمين، ولأبطلوا أخذ الجزية منهم حتى لا يشعروا بشيء من الذل في أوطانهم، وعلى عهد العباسيين الأول امتنعوا عن أدائها وأغضت الحكومة عنهم. قال القرافي: 'أن من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم، وسد خلة فقرائهم، وإطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، وإحتمال أذى الجار منهم، مع القدرة على الدفع، رفقاً بهم لا خوفاً ولا تعظيماً، وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم، ودفع من تعرض لإيذائهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله' .كان من مصلحة أهل الذمة أن يمتزجوا بأبناء وطنهم تحت سلطان الرابطة الوطنية، كما مصلحتهم منذ الفتح أن يتعلموا العربية، فاستعرب السواد الأعظم منهم، ونسى السريان في الشام والأنباط في العراق والأقباط في مصر لسانهم الأصلي وتعربوا بتوالي الأجيال، لكثرة اختلاطهم بالعرب، وتشابك مصالحهم بمصالهم. وفي كل جيل كان الوطن العام وطنهم، وسماحة الإسلام سياجهم وموئلهم. ورأى معظم المجوس والصابئة أن يسلموا فأسلموا، ومنهم من خدم الدولة الإسلامية خدمة صادقة قبل إسلامهم وبعده، وكانت الحكومات كثيرا ما تعتمد عليهم وعلى النصارى واليهود في إدارة الملك، وربما كانت الثقة بهم أكثر من الثقة بالعريقين في الإسلام من العرب، وهذا من جملة ما حبب إلى غير المسلمين الدخول في الإسلام كما وقع بالقبط في مصر، فكأن للذكي منهم ولو ظل على قبطيته صوت مسموع في سياسة مصر وإدارتها، على ما يفوق فيه العربي المسل والتركي المسلم في بعض العهود .وصاحب الشأن ينظر إلى مصلحة دولته، ومصلحته في اصطفاء من يعتقد فيه الغناء في خدمتها، لا فيمن تقل الصفات المطلوبة فيه، ويكون حبيباً إلى قلبه كل من يخلص في خدمة الوطن مهما كانت نحلته، والملك مصلحة لا عاطفة .ذكر آدم ميز في كتابه الحضارة الإسلامية في القرن الرابع: أن من الأمور التي تعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في ديار الإسلام والشكوى من تحكم أهل الذمة في أبشار المسلمين وأموالهم شكوى قديمة. . .وقد قلد ديوان جيش المسلمين رجل نصراني مرتين خلال القرن الثالث فوجه اللوم للوزير لأنه 'جعل أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره' .خفت صوت الوطنية والقومية أجيالاً طويلة على عهد الدولة الأعجمية وفي الأدوار التي استغرقت في الفتن والاضطرابات. وربما كان لانتباه الفكرة الوطنية والقومية في الغرب خلال القرن الماضي تأثير في عقول النابهين من العثمانيين ولا سيما العنصر الحاكم منهم أي الترك. ثم سرت هذه الفكرة إلى العرب باختلاف رجالهم برجال الغرب وبرجال الترك أنفسهم. وبدا انبعاث الدعوة الوطنية من مصر بغزو نابليون وادي النيل، وكانت حملته أول عهد باحتكاك الغربي بالشرقي في عهد ارتقاء الغربيين. ومع أن المصريين كانوا يومئذ قلائل بعددهم وعلمهم تألفوا برباط الوطنية الدينة يريدون ما استطاعوا هجمات الفاتح مستندين إلى قوتهم وتدبيرهم أكثر من استنادهم إلى العثمانيين وبقايا المماليك .أخذت الرابطة القومية تنمو وتستحكم في مصر على نسبة انتشار المعارف وزادت شدة في ثورة عرابي، وكانت ثورة آثارها المصريون الأقحاح على العناصر غير العربية لاستأثارهم بالأمر وحده. وكانت ثورتهم الحجر الأساسي في قيام الوطنية المصرية. وسبق المصريون سائر الشعوب العربية إلى إدراك معنى الوطنية والقومية لسبقهم بالأخذ من علوم الغرب واختلاطهم بأهله .وقال بعض العارفين من المصريين: أن روح الوطنية المصرية عادة إلى الحياة منذ زمن غير طويل إذ لا ترجع إلى أكثر من أربعة أو خمسة أجيال، وكأن محمد علي مؤسس البيت المالك أول من تصور عصر حياة وطنية بعد أن مضت عليها قرون طويلة في ضعف وانحطاط، وبعد ذلك العهد المجيد لم تنم الوطنية المصرية نمواً كبيراً إلى أن تيقضت مرة أخرى في القرن الحاضر وأخذت تقوى وتثبت ويرجع هذا التطور إلى أسباب كثيرة من بينها تأثير الشعوب الأخرى التي جاهدت جهاداً شاقا لا لاكتساب حريتها فكانت قدوة لنا ومثالاً احتذيناه، وكان لإنشاء مبدأ استقلال الأمم في الخمسين سنة الأخيرة وزمن الحرب العظمى على الأخص أثر عظيم في مصر شبيه بأثره في البلاد الأخرى، وينظم إلى هذه العوامل أن مصر كانت خاضعة للاحتلال الأجنبي فكأن لمقاومته الأثر الفعال في إنماء روح الاستقلال المصري، وهكذا نمت وطنيتنا وتكونت وحدتنا القومية في جو المعركة والنضال .كانت الدعوة إلى الوطنية والقومية تقل وتكثر في الولايات العربية العثمانية بمقدار نشر العلم في أرجائها، وربما كانت في الديار الشامية أقوى منها في سائر الولايات كالعراق والحجاز واليمن، لأن الشام تعلم قبل غيره، وهو أقرب إلى عاصمة الملك العثماني وإلى أوربا ومصر، وكانت تشدتد نغمة ترك وعرب كلما كثر عدد طلابنا الذين يأخذون العلم من مدارس الترك العالية، وهذا ما أراد حكام المملكة من الترك أن يقضوا عليه فقتلوا في الحرب العامة فئة من رجال الشام حاولوا نزع قطرهم من ربقة الحكم التركي، أو إعطاءه حقوقه التي تحفظ عليه قوميته، لما كان يخشى من فناء العرب في غيرهم .أتى الدور الحديث في الأقطار العربية على النظم القديمة وأخذ الناس يسمعون نغمات جديدة ما كانت تعرف، ويتغنون بالقومية ويتناغمون بالوطنية، وأخذ كل عنصر من العناصر الإسلامية يدل بعنصريته على ما هو الحال في شعوب أوربا، ولا يعلم إلا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1