Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

حين يبوح النخيل: Heen Yabuh AlNakhil Arabic book
حين يبوح النخيل: Heen Yabuh AlNakhil Arabic book
حين يبوح النخيل: Heen Yabuh AlNakhil Arabic book
Ebook335 pages2 hours

حين يبوح النخيل: Heen Yabuh AlNakhil Arabic book

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تدفعنا هذه السرة الذاتية إلى تتبع مسار نقطة زئبق، تابعت تدحرجها أمام
عيني الكاتبة عر السنين. انطلقت من المدرسة الابتدائية، وانتقلت إلى جامعة
قطر حيث أجرت الكاتبة أولى تجاربها مع المادة المشعة، ومن ثم وصلت إلى
القاهرة، حيث أكملت دراستها وتفاعلت مع الأدب والمرح وقاعات الفنون.
نقطة الزئبق التي طافت ب الأزمنة والأمكنة، تحثنا عى مواكبة حياة الكاتبة ن
الحافلة بالتجارب الغنية والعميقة، حتى عودتها بحاس إلى عملها وأبحاثها
العلمية في وطنها الأم.
سرة مليئة بالتجارب الذاتية في خضم الأحداث المعاصرة، والحروب، والتحولات
السياسية والاجت اعية في قطر والعالم العربي. ومسار أثَّر وتأثَّر بمعالم الإبداع م
والطموح، والإصرار عى تحقيق التطور. إنها تفاصيل سنوات تُغني سرة كاتبة
تستحق أن تقرأ.
Languageالعربية
Release dateDec 26, 2022
ISBN9789927161520
حين يبوح النخيل: Heen Yabuh AlNakhil Arabic book

Related to حين يبوح النخيل

Related ebooks

Reviews for حين يبوح النخيل

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    حين يبوح النخيل - النعيمي هدى

    Heen_Yabuh_AlNakhil-COVER.jpg

    المحتويات

    بدايات

    في رحاب الجامعة

    بين أروقة المستشفى

    من القاهرة إلى مونبلييه

    الكويت يا حبيبتي

    ٩ شارع دمشق

    عود على بدء

    نيويورك... قصة أخرى

    حول العالم مع الفيزياء

    أمَّا بعد

    بدايات

    «... ويرى وفد بلادي أن التعديل المقترح من شأنه أن يجعل اتفاقية استخدام الزئبق ومشتقاته، ووسائل التخلص من مخلفاته، غير قابلة للتطبيق على نطاق عالمي واسع، وشكرًا».

    أقفلت مكبر الصوت الذي بثَّ صوتي في أرجاء القاعة الكبيرة في مبنى الأمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي. التفتت الأعناق نحوي تتابع سيري على منصة ضخمة ارتصَّ عليها عدد من العلماء والمختصين في الاستخدام السلمي والآمن للمواد الكيمائية الخطرة والسامة، وذلك مثلما صُنف الزئبق قبل سنوات.

    اعتدلت في جلستي أمام لوحة صغيرة كُتب عليها اسم بلادي، متجاهلة مئات الرؤوس التي تملأ القاعة والتي كانت قبل لحظة تلتفت إليَّ لتكتشف من المتحدث، وأمعنت النظر في دفتر الملاحظات أمامي، وكتبت:

    «تم التعليق بالملاحظة السابقة خلال الجلسة العمومية الثالثة قبل التصويت على التعديل».

    ثم غابت أصوات القاعة عن سمعي، وأنا أرسم خرزة من الزئبق تحت الملاحظات المكتوبة؛ دائرة صغيرة لوَّنتُ مساحتها بقلم الرصاص الحاد حتى امتلأت باللون الرصاصي على امتداد البعدين (س، ص). ومع خفوت أصوات القاعة، وامتلاء المساحة الدائرية باللون الرصاصي المائل إلى الفضي، انتفخت الدائرة شيئًا فشيئًا، واكتسبت بُعدًا ثالثًا، وتحولت إلى كرة زئبقية انطلقت خارج الورقة، وتدحرجت على الطاولة دون توقف، لم يعترض دربها شيء يحدد مسارها، ولم يرها أحد سواي، فلاحقتها بنظراتي الصامتة حيثما اتجهت.

    تدحرجت كرة الزئبق على طاولة المختبر، حاولت المعلمة أن تمسك بها رغم علمها بأنها لن تستطيع ذلك. الفصل المكتظ بثلاثين تلميذة، وأنا واحدة منهن، كنا نتابع بدهشة تدحرج كرة الزئبق التي انسكبت من القارورة محكمة الإغلاق. داخل القارورة الشفافة، يبدو الزئبق مادة سائلة ثقيلة الوزن وثقيلة القوام، وعندما سكبت منه المعلمة نقطة واحدة على سطح التجارب المخبرية، سقطت النقطة على شكل كرة أخذت تتدحرج؛ لم تنبسط على السطح الخشبي مثلما تفعل نقطة الماء أو الحليب أو حتى نقطة الحبر، فنقطة الزئبق صنعت من نفسها كرة صغيرة. وظلَّت المعلمة تتابعها بقلم رصاص وورقة حتى استطاعت إعادة بعض منها إلى القارورة، وما تبقى من الكرة الصغيرة التصق بسوارها الذهبي، فلم تعبأ كثيرًا لكنها استمرت في الشرح: «إن الزئبق مادة كيميائية (ثقيلة) متفردة في نوعها، كما رأيتن يا بنات».

    بالنسبة لي لم تتوقف كرة الزئبق عن التدحرج أمامي، ولم يعد جزء منها إلى القارورة الزجاجية، فقد أصبحتُ أرى تلك الكرة داخل كل جهاز لقياس الحرارة عندما تأخذني أمي إلى الطبيب، وتدسُّ الممرضة أنبوبة تحوي شريطًا زئبقيًا في فمي ثم تخرجه بعد دقيقة، تحدق فيه للحظة، ثم تقول:

    «38 درجة ونصف يا دكتور».

    أشعر بتلك الكرة الصغيرة المتدحرجة، وهي تخبر الممرضة بارتفاع درجة حرارتي، بدقة تكاد تحسدها عليها الأجهزة الإلكترونية التي تعددت طرائقها بعد ذلك. وقد تم تصنيف الزئبق بوصفه مادة سامة وخطرة، لذلك يجب حظر التعامل بها قدر الإمكان، والتخلص منها بكثير من الحذر، بحسب رئيس الجلسة العمومية في المبني الأممي في نيروبي.

    في حصة العلوم التالية، جاءت المعلمة حاملة سوارها الذي التصق به جزء من كرة الزئبق، داخل كيس بلاستيكي شفاف، كي نرى تأثير تعرُّض السوار الذهبي للزئبق، إذ تحوَّل الذهب إلى معدن أبيض من دون لمعان؛ معدن هش سهل الكسر. وهكذا خسرت المعلمة سوارها الذهبي لقاء أن تشرح لنا خصائص الزئبق، فقد أرادت أن ترينا ماذا يفعل هذا الساحر مع الذهب. وهكذا مهما ادعينا أن الذهب لا يتغير، ومهما ادعينا أن الناس معادن، وبأن بعضهم من ذهب لن تغيره الأيام، فإذا صادف وجود كرة من الزئبق في طريقهم، فلن تكون النتائج مضمونة، وسيتحول المعدن الأصفر الثمين إلى معدن أبيض هش وقابل للكسر.

    وميزة كرة الزئبق المتدحرجة تضاهيها خاصية الأواني المستطرقة، تلك التي تختلف في أشكالها وأحجامها وتتحد في قاعدة واحدة، وعندما يُصب الماء في إحداها، نجده يرتفع في كل الأواني المستطرقة على مستوى واحد، فلا يمتلئ الإناء الصغير أسرع من الواسع مثلما توقعنا عندما سألتنا المعلمة، بل تساوى مستوى الماء المسكوب في كل الأواني المستوية منها والملتوية. ورغم اختلاف سعة الأنابيب مع اتساع بعضها وصغر بعضها الآخر، فإن سطح الماء ظهر عند مستوى واحد. ولم أعرف لماذا لا يحظى الإناء الصغير بمنسوب أعلى من الماء لكونه يمتلئ قبل غيره من الأواني؟ لم تقدم المعلمة لنا تفسيرًا إضافيًا عن كونها نظرية الأواني المستطرقة التي علينا أن نحفظها ونعيها.

    في المختبر، قسَّمتنا المعلمة إلى مجموعات، كل مجموعة حول طاولة من الطاولات. ووضعت أمام كل مجموعة لوحًا خشبيًا، وأسلاكًا كهربية ملوَّنة وبعدة أطوال، وعددًا من البطاريات بأحجام مختلفة. ووضعت على طاولتها مصباحًا كهربيًا صغيرًا، ومروحة كهربية صغيرة كتلك التي نجدها في لعب السيارات للأطفال، وننزعها لنكتشف كيف تعمل بعد أن نحرك المفتاح الصغير، ونحتفظ بقطعتي المغناطيس اللتين تشكلان سرَّ محرك تلك السيارة. وأعرف أنني لست الوحيدة التي تجمع كمًا كبيرًا من قطع المغناطيس التي تشبه حدوة الحصان، وتتجاذب من أحد قطبيها، وتتنافر من القطب الآخر، دون أن نعرف السبب.

    طلبت المعلمة من كل مجموعة أن تصنع دائرتها الكهربية الخاصة، وتتكون كل دائرة كهربية من بطارية أو أكثر، وتتصل البطارية بالمصباح أو بالمروحة بواسطة الأسلاك، ثم لا بد من مفتاح للتحكم من أجل تشغيل الكهرباء أو قطعها، وإضاءة المصباح أو إطفائه، وتشغيل المروحة أو إيقافها. ويمكن اختيار مصباح أكبر حجمًا إذا استخدمنا بطاريات أكبر لأنه يحتاج إلى كمية كهربية أكبر. حاولنا عدة مرات حتى توصلنا إلى تشغيل الجهاز الكهربي، المصباح أو المروحة، ونجحنا في ذلك بعد نحو ساعتين من المحاولة. واستطاعت كل المجموعات أن تشعل المصباح، في حين لم تتمكن المجموعة التي اختارت المروحة من تشغيلها. كان طموح تلك المجموعة أكبر من تشغيل المصباح الصغير، الأمر الذي اكتفيت به عند تلك المرحلة، لكنني ظللت أتساءل: لماذا لم تتمكن تلك المجموعة الطموحة من تشغيل المروحة؟ ولم أعرف الإجابة، ولم أعرف لماذا تدحرجت كرة الزئبق وما تزال تتدحرج!

    لم يفارقني التفكير في سرِّ الدائرة الكهربية أبدًا؛ وكنت عند قراءتي للقصص المصورة مثل سوبرمان والرجل الوطواط والسندباد وتان تان، أتابع ما تحتويه من صفحات تحمل عنوان «اصنع بنفسك»، وتدعو القراء إلى استخدام خامات البيت لصنع شيء جديد، مثل مزهرية أو علبة مناديل أو لوحة تعلَّق على الجدار وهكذا. وذات يوم، وجدت في أحد الأعداد طريقة لصنع صندوق للسينما. كنت أعرف طريقة صنع الدائرة الكهربية، وكان كل ما أحتاجه صندوقًا من الكرتون المقوَّى محكم الإغلاق كي لا يدخله الضوء، وكان عليَّ، حسب التعليمات المكتوبة، أن أفتح في قاعدته فتحة أثبِّت فيها مصباحًا كهربيًا، وأن أمرِّر أمام المصباح شريطًا شفافًا عليه رسوم بألوان قوية؛ ومع إضاءة المصباح من خلال مفتاح خاص، ستنعكس الصورة المرسومة على الشريط على الحائط. وأخذت أسحب الشريط رويدًا رويدًا لتتغير الصورة بالصورة التي تليها، وهكذا حصلت على سينما حقيقية من صنع يدي بفضل الكهرباء، لكنني لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة ما الكهرباء؟

    بالتزامن مع دروس العلوم التي تطرح الأسئلة تلو الأسئلة أكثر مما تقدم لي إجابات شافية، كان جيلي محظوظًا بدرس قواعد اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، وبحفظ بعض الأبيات من معلقات العصر الجاهلي، ومنها البيتان الشهيران للشاعر عمرو بن كلثوم:

    فيثبت بيت الشعر القديم في ذاكرتي ولا يتركها، مثلما تثبت رائعة الشريف الرضي في الذاكرة لا تنفك عنها، وتعود للحضور كلما مرَّ أمامي اسم «هند» أو «ظبية»:

    وإلى جانب العلوم أيضًا، قدَّمت لي المدرسة ذلك المزيج المعقَّد من علوم بحتة وأدب رفيع، فدرست الجدول الدوري للعناصر، وعلوم الرياضيات الحديثة وما حوت من حساب التفاضل والتكامل، وحساب المثلثات، ونظرية فيثاغورس، ونظرية الجاذبية، مقابل الجناس والتجانس، إلى جانب فنِّ الخطابة، كخطبة طارق بن زياد الشهيرة حين حرق أسطوله البحري ليحث جيشه على القتال؛ وكانت خطبة ابن زياد التي أحببتها ضمن المناهج المدرسية، ووجدت في حفظها لذة وطرافة، وحبًا للكلمات العذبة والملحنة بفعل بلاغة لغة الضاد.

    في مدرستي تعلَّمت الحياكة أيضًا، كانت عملًا فنيًا بالنسبة لي. ورغم سخط الزميلات في حصة الحياكة، إلَّا أنني كنت أستمتع بما تعلمناه من فن التطريز والنسيج، ولاحقًا طرَّزت بنفسي لوحة من الزهور كاملة، وما أزال احتفظ بها مع أنها لا تناسب أيًا من ديكورات بيوتنا الحديثة، إلَّا أنها تذكرني بنفسي في مراحلها الأولى، واستمتاعي الشديد بلعبة «اصنع بنفسك».

    أمَّا المادة التي لم أستطع يومًا أن أتفوق فيها أو أتقنها، فكانت الرياضة البدنية. ما أحببتها يومًا، ولا أعلم إذا كان لتعليمات أبي القديمة بالامتناع عن لعبة نط الحبل علاقة بنفوري من حصة الرياضة! كنت أتمنى ألَّا يحين موعدها أبدًا، أو لو أن المدرسة تكتفي بتركنا نلهو في تلك الحصة بحرِّية. لكن هيهات، إذ كان لا بد من اللعب المنظم؛ ولأنني طويلة القامة، أجبرتني المدرِّسة على الانضمام إلى فريق الكرة الطائرة ثم فريق كرة السلة.

    حاولت مدرِّستي أن تشجعني عبر إقناعي بأنني سأتفوق في اللعبة إذا واظبت على التمارين، وبأنني سأحقق نجاحًا، وسأشترك في مسابقات المدارس. لم يحببني كلامها بالرياضة يومًا، لكنني لم أستطع الرفض، فهي المعلمة.

    مضى الدرس الأول بخيره وشرِّه، ولكن في الدرس الثاني لكرة السلة، دفعت إحدى الزميلات الكرة نحوي بقوة، وحاولت أن أصدَّها مثلما تقتضي قوانين اللعبة، فانكسر إصبعي، وكان كسرًا يستدعي تجبيره لأسابيع.

    وهكذا فشلت محاولات مدرِّسة الرياضة في أن تجعل مني لاعبة كرة سلة متميزة، فقط لأنني طويلة القامة؛ وبعد كسر إصبعي وتجبيره، تركتني المدرِّسة في سلام، لكن الثمن كان ألمًا مبرحًا استمر أسابيع، مع إصبع معقوف حتى اليوم.

    لم تتوقف كرة الزئبق المتدحرجة من دفتر الملاحظات عند حصة البلاغة، ولم تكتف بأن تجرَّني وراءها إلى إعراب ما تحته خط في أحد أبيات القصيدة الشهيرة للمتنبي:

    لكنها عرَّجت بي على الحصص المدرسية الأخرى الخاصة بحفظ القرآن الكريم وتلاوة آياته، حتى أن أجزاء سورة الإسراء ما تزال محفورة كالنقش في ذاكرتي؛ جزء مبارك مما تحتفظ به تلك الذاكرة، فمن مخزونها أطبق قواعد تلاوة المصحف الشريف حتى اليوم، تبعًا لما علمتنا إياه معلمة الشريعة. وقد تلوت أجزاءً مقررة من القرآن أمام لجنة الاختبار الشفوي في امتحانات الثانوية العامة، الذي كان يسبق الامتحان الكتابي.

    كان التوتر الشديد يخيم علينا، نحن تلميذات الثانوية العامة، أمام لجنة الامتحان الشفوي. كانت المعلمة تنادي علينا الواحدة تلو الأخرى بحسب الترتيب الأبجدي لأسمائنا، وحرف اسمي «الهاء» يتأخر في ترتيب الهجاء، فتطول فترة مجالستي للتوتر أكثر من زميلاتي؛ وكلما كانت تخرج إحدانا من غرفة الاختبار، نتجمع حولها ونسألها: ماذا قرأت؟ وعن ماذا سُئلت؟ وهل كان «الإدغام» ضمن الأسئلة؟ فإذا حان دور «الهاء» أخضع للاختبار الشفوي، ذلك الذي لم يستمر اعتماده طويلًا، إذ تم إلغاؤه لاحقًا، مع الاكتفاء بالامتحانات التحريرية.

    بعد مرور أيام على نهاية الامتحانات، يحين موعد انتظار النتائج التي كانت تُعلن بقراءة أسماء الناجحين عبر أثير الإذاعة، على أنغام أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة:

    وحياة قلبي وأفراحه

    وهناه في مساه وصباحه

    ما لقيت فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحه

    كان حلم جميل في خيالنا

    وما غبش في يوم عن بالنا

    وبنا لنا قصور وفرشها زهور

    في حياتنا ومستقبلنا

    ولقيتني في عز هنايا

    والدنيا فرح ويَّايا

    بتهني حبايبي معايا

    وتقول للكل ارتاحوا

    ده مفيش فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحه

    وفي يوم إعلان النتائج في الإذاعة بصوت إذاعي رخيم، ينطق الأسماء نطقًا صحيحًا وسليمًا، يلتف الجميع حول المذياع في البيوت وفي المكاتب. يكون الجميع مهتمون لمعرفة من نجح. وما إن ينطق المذيع اسم المدرسة المنشودة، حتى يعمَّ صمت رهيب ذو هيبة وترقب. وبهذه الطريقة وتلك الأجواء تم إعلان حصولي على شهادة التعليم الابتدائي، ثم شهادة التعليم الثانوي بعد سنوات. نعم، بهذا الشكل المهيب، يعرف النتيجة القاصي والداني؛ فعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان، وفي يوم إعلان النتائج هذا، نعرف ويعرف الجميع ماذا فعلتُ في عامي الدراسي ذاك.

    هبت عاصفة الاختيار الأول في الحياة، عند عتبة الصف الثاني الثانوي؛ فقد توقفت كرة الزئبق أمامي وكأنها تنظر إليَّ، وأنا اليافعة التي أدركت في تلك الآونة أهمية الاختيار بين القسمين العلمي والأدبي. تمنيت لو أتيح لي أن أختار القسمين العلمي والأدبي معًا، لأنني طالما أحببت دراسة اللغة العربية والقواعد والبلاغة، مثلما أحببت الفيزياء والكيمياء التي طرأت على المنهاج في الصف الأول الثانوي. أحببت تلك المواد، ولم أستطع إلَّا أن أختار أن أكون طالبة في الصف العلمي. كنا خمس عشرة طالبة فقط في المسار العلمي، بينما وقع اختيار أربعين طالبة على المسار الأدبي.

    عندما غنَّى لنا عبد الحليم حافظ «وحياة قلبي وأفراحه»، استعدت شوقي لساحة المدرسة القديمة، أول مدرسة داستها قدماي. ذلك الشوق الذي حملني إلى تلك الساحة الفسيحة، وشجرة السنط العجوزة الوحيدة، التي كانت أغصانها تنمو إلى جانب السور، لكن ضعفها كان يمنع الأغصان من الارتفاع عن الأرض، فتستلقي كأنها تزحف، وتجعل لي في داخلها غرفة يتخللها الضوء. ذلك المدخل الخفي كان يصعب على الزميلات الصغيرات اكتشافه؛ وصارت الشجرة شجرتي، والكهف في داخلها كهفي، ومن هناك كنت أراقب قفزات الزميلات فوق الحبل، أو اللعب بالكرات الزجاجية الملونة (البِلْي)، وهناك كتبت أول ما كتبت، وهناك غنيت لنفسي أول ما غنيت، وهناك تناولت قطعة الشوكولاتة التي قدمتها لي المعلمة جائزة للتميز، والتي كانت بطعم الضوء المتسلل من بين الأغصان. تمنيت لو أن لي قطعة أخرى منها بطعم ذلك الضوء العابر للأغصان، لولا أن شجرة السنط صارت كومة من الأغصان اليابسة، بعدها قررت إدارة المدرسة أن لا فائدة لهذه الشجرة في الباحة، فاقتلعوها.

    حفظنا أغنية النجاح لعبد الحليم حافظ عن ظهر قلب، غنيناها معًا بصوت عال، مع الصويحبات مرات، ومع الجارات مرات أخرى، ومع الإخوة مرات ومرات، وكأن ذلك الغناء كان بمثابة هدية النجاح، أو بلسمًا يحث على نجاح قادم.

    أمَّا صندوق الدمى الذي صنعته بنفسي ولنفسي، فكان يحوي عائلة من أب وأم وابن وابنة، كانوا يغنون الأغنية معي، وكنت أغني لهم أغنية النجاح، لأن الابن والابنة كانا يحققان ما أحققه من نتائج في المدرسة. صندوق الدمى كان صديقي في المساء بعد إنهاء فروضي المدرسية،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1