Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ورد جوري
ورد جوري
ورد جوري
Ebook557 pages4 hours

ورد جوري

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يروي لنا ورد بطل العمل في الجزئين أن المحاماة مهنة شرف وأن لا يُخطئ حتى لو جُبر.

Languageالعربية
Release dateJul 15, 2022
ISBN9789933543600
ورد جوري

Related to ورد جوري

Related ebooks

Reviews for ورد جوري

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ورد جوري - Suliman Zidan, Sr

    إهداء

    أهدي هذا العمل مكلاً بالورد الجوري لجمهوري وقرّائي...

    مقدمة

    آخر ما انتهى إليه البحث وأدّاه الحثُّ، وأبدعته القرائح وأنتجته وقوّمته الدخائل وعالجته، وما احتاج إلى حذف وإثبات وقبض وإفلات من غير إفراط ولا تفريط، حيث يجذب القارئ ويشوقه وتطيب له النفس وتروقه بأسلوب الكاتب هذا، فإن اللفظ جاء يقع في حدس المتلقّي.

    * * *

    تنويه

    أحداث هذه الرواية من وحي الخيال، ولا ترتبط الأسماء الواردة في الرواية بأي شخصية حقيقية.

    يُمنع على شوكات الإنتاج أخذ ولو مشهد واحد من دون موافقة وتصريح الكاتب الخطي وبموجب عقد.

    الجزء الأول

    اللحظة

    الفصل الأول

    الوالد القائد

    السّلام على من لا يردون السّلام أنتم السّابقون ونحن اللّاحقون... ألقيت السّلام على من هم تحت الثّرى عندما خطيت الخطوة الأولى نحو قبر والدي, وكلما اقتربت من الصّخرة التي كتب عليها (الفاتحة على روح المرحوم محمّد العربي)... تتثاقل قدميَّ على الأرض و تتسارع دقَّات قلبي و هي تعزف على أوتار الذّكرى والحنين والشّوق الكبير له... خطوت الخطوة السابعة وربما الثامنة, فغرغرت عيوني بالدّموع حتى وصلت القبر... وضعت باقة الورد الجوريّ عند رأسه, وتوجهت إلى ربي بقلبٍ مفجوع وأعين أغرقتها الدّموع, رافعاً كفيَّ نحو السّماء أدعو له الله أنْ يتغمّده برحمته ويجزيه خير ما جازى أباً عن بنيه ووالداً عن ذويه, أرجو له الرّحمة في لحده فقد كان لي خير أبٍ يشدُّ من عزيمة أشباله, ويهوُّن عليهم من مصاعب الزّمان, ويحنو عليهم كما تحنو الأم على رضيعها ويرأف عليهم كما يرأف القوي على ذي الشّيبة الضّعيف, رحمك الله يا أبتاه وأسكنك فسيح جناته، أسهرت ليلك عليَّ وعلى إخواني ولازمت نفسك تعليمي مبادئ مهنة المحاماة وريادة القانون قبل أن أدخل الكليّة وبعدما تخرّجت فيها حتى أوكلت إليَّ المهام التي كنتَ تقودها وما ذاك إلّا ثقة الأب بابنه... فها أنتَ تحت الثّرى ترقد بعد أن أديتَ ما عليك حق التّمام و أنا اليوم أكملُ ما بدأتَ به أتقلّد منصبك في المحكمة و أنا لم أتجاوز التاسعة والعشرين من عمري، عاهدتك على الإخلاص في عملي و الدّفاع عن الضّعفاء وإراحة الحقّ لهم ما بقي في الجسد روح وما أورق الشّجر وأضاء القمر وإنّي على هذا باقٍ و لن أحيد عنه إن شاء الله .

    قد سمّيتني ورداً تيمناً بقوّة أسد الغابة وقدرته على السّيادة وحكمته في القيادة, وها أنا يا والدي أبثُّ إليك خبر نجاح أخي أسامة في مدرسته فقد نشأ وترعرع وبدت طلائع شواربه تظهر جلياً وكما يقال: قد شبَّ عن الطوق وبدا يمتاز عن أقرانه في المدرسة, وإنّي أرى رؤيتك تحقّقت فيه بعد أن سألتك أمي ماذا نسميه, فقلتَ لها: أرى أن نسميه يا عزيزتي أسامة لعل الله يجعل له من اسمه نصيباً, فأسامة اسم من أسماء الأسد وأرجو الله أن يكون أسد عرين وليث غابة, وإنّي مشوق لأن يأتي معي إلى زيارتك في الجمعة المقبلة لعلّه يخبرك بنفسه عن أشياءه و عن طموحاته وأنّه لم يُضِل الطّريق الذي رسمته لنا.

    ويؤسفني أن أكرر لك الجملة نفسها التي اعتدت سماعها مني عن ابنتك مريم لم تُمطر السّماء ولم يَنبُتْ زرع أرضها بعد ... مع العلم أنّ العيب ليس فيها، بل زوجها الحبيب، ومع ذلك ماتزال صابرة.

    قد تكون عاتباً على أمي وفي قلبك شيء ولكن يا أبا ورد إنّ شجرة الورد خضراء ولكن دون وردها... نعم! إنًّ أمي أقعدها موتك وأفجعها نبأ وفاتك... لم يحتمل عقلها ولا قلبها خبر وفاتك... فمنذ أن تلقّت خبرك أُقعِدتْ ولم تنبس ببنت شفة ولم تعد تقوَ على الكلام... ليستْ خرساء لكنَّ حال الأخرس أفضل بكثيرٍ من حالها... قالتْ لي مرّة ونحن نودعك: هذا الشبل من هذا الأسد وقد كانت آخر كلمة سمعتُها منها منذ وفاتك ".

    لستُ أدري يا أبي ماذا أقول عن هذه المرأة التي فقدت من ساندها مدّة... ولا أعرف ماذا يسدُّ مسدَّ الأب لطفل صغير قُدِر عليه أن يعيش اليتم ويعانيه... وإنّي أعجز عن وصف شعور تلك البنت التي فقدت دفء حضن الأب وأي شيء بقدره أن يشعرها بالأمان!... أمّا أنا فيكفي أن أقول لك إنّي مازلت محتاجاً إليك، ولا شيء يسدُّ الفراغ الذي خلّفته في حياتي...

    ليتك تضع يدك على قلبي لتعرف شوقي للأيام التي كنّا فيها تحت سقف واحد صباحاً ومساءاً... آه لو تعرف شوقي لذلك الطّبق الذي تطهيه أمي وتسكبه أنت... شوقي ليوم الجمعة ليأتي الوقت الذي نذهب فيه نزهة بسيارتك، تارةً نأكل وتارةً نلتقط الصور للذكرى، وتارة أتعلم قيادة السيارة... فهو يوم الخلوة العائلي وغسل الدّماغ من الأشغال... لست بصدد كل ذلك الآن فيكفي أن نكون معاً...

    لكم أفتقد إلى تلك النّصائح والملاحظات والتّوضيحات... فاليوم أدركت أنها ميزتني عن غيري من أبناء جيلي... لقد كنتَ السراج الذي أستنير به في ظلام هذا العالم... لكن هل تعلم ما الذي أتمناه حقاً... أتمنى أن أعود طفلاً لا همَّ له سوى أنّه ينتظر عودة والده إلى البيت لعلّه يفوز بلعبة جديدة أو يرتمي في أحضانه ولكن سطوة الأيام يا أبي... وهذه هي الحياة حياة دنّيا.

    لديَّ الكثير في سريرتي أود البوح به ولكني لا أمتلك قدرة البوح بنفَسٍ واحد لأنّ ما بقلبي يحتاج إلى أنفاس عميقة و طويلة... و سأخبرك بشيء أخير لهذا اليوم فلا أريد أن أتأخر في عودتي إلى البيت أكثر من ذلك لابد أنَّ أمي في انتظاري الآن... إنّي أريد الارتباط من فتاة تدعى ليلى وهي محاميّة تعمل في مكتبي الذي يعد اليوم بين أقوى المكاتب القانونية في البلاد... فليلى خضعتْ لفترة التدريبات عندي، قوَّمتها قوام المحامي المتمكّن ودرّبتها على براعة قياس أبعاد القضايا... كنت قد عرفتها في إحدى الصدف منذ سبع سنوات تقريباً... عندما سألتْني عن مسألة مواريث، ساعدتها على فهمها ومنذ ذلك الوقت لا تغيب عني... وأصبحتْ جزءاً مني... نعم يا أبا ورد لقد أحببتها حتى شغفني حبّها و أريد اليوم الارتباط بها .

    اه يا أبتي ليتك كنت هنا... ليتك لم تمت... كلّما فكرت في أنك لن تكون أنت من يطلبها لي رغبت في العزوف عن الزّواج؛ ولكن لا أستطيع!... سطوة الحب يا أبي... الحب الذي غمرتني به ليلى... ليس حبّاً عادياً أو عابراً، بل إنّي أهيم بها عشقاً... ألاحظ جميع تفاصيلها... أخاف عليها من أي حركة أو سكون... وأغار عليها غيرة جنون... للحد الذي دفعني أن أضع بجانبها حارساً يقوم بمرافقتها إلى كل مكان خارج بيتها ويلبي احتياجاتها واحتياجات بيتها وأهلها لأنها يتيمة الأب وليس عندها إخوان شبان... فقط هي وأمها وأختها الصغيرة فريدة.

    وقفتُ على قدميَّ ونهضت عن صخرة القبر لأنني كدتُ أنسى نفسي في الجلوس ومخاطبة أبي... استدرت ومشيت خطوة واحدة بغية الخروج من المقبرة ولكن وعلى نحو مفاجئ توقّفتُ... وجثمتُ على ركبتيّ... ووضعت كفيّ بتراب القبر... وانهمرت دموعي مجدداً وأنا أسأله: أبا ورد... هل تشعر بالبرد؟... هل تشتكي الحر؟... هل تشعر بالجوع؟... هل تود عناقي؟... هل تفكر بشبلك الآخر؟... هل يجتاح الخوف علينا؟... هل تسمعني وتريد أن تتحدث إليّ؟... هل تشتاق حبيبتك أمي؟... هل تود تخليل أصابعك بشعر مريم؟... آه ليتني أعرفي شعورك الآن، وقد أثقلتك بهذه الأخبار كلها، أرجو ألّا أكون قد زدتك ألماً وبعداً وأنت في قبرك.

    استعنت باللّه ولملمت نفسي ونهضت من تراب قبر الوالد القائد وأنا لا أرغب في المغادرة ولكن أمّي وأختي وأخي في انتظار مجيئي لتناول الغداء معاً.

    سلام الله عليك يا أبتاه، أحسن الله إليك يا قرّة العين وبهجتها، وأسأل الله أن يلهمنا الصّبر على فقدانك و إنّي أتمثّل قول القائل :

    الفصل الثاني

    شبل أبيه ولبوةُ أمها

    لم يُخلق الحبُّ للعشّاق فقط، بل الحبّ خُلِقَ لكلّ شيء. حبّ الوالدين وحبّ العائلة وحبّ النّجاح وحبّ الخير وحبّ العمل وحبّ كثير من الأشياء... والتّناغم الرّوحي في الحبّ ليس بين رجل وامرأة أو ذكر وأنثى وحسب، إنما في بعض الأحيان يكون بين الأخوة مثلاً. وهذا التّناغم أشعر بوجوده بيني وبين أخي أسامة على الرّغم من أنّي أكبره بسنوات إلّا أنّني أستشيره في بعض أموري أحياناً... والعطف أيضاً ليس حِكراً على الكبار يدلون به على الصّغار، إنّما هو في جوهر الإنسان يمكنه إدلائه للكبير وللصغير أو للبعيد وللقريب وهذه الحالة هي ما التزمت بها تجاه مريم.

    توفّي والدي وكان عمر شبله أسامة ستّ سنوات تقريباً، فعملت على تلقينه وإتمام تربيته بسبب الوضع الجديد الذي فُرِضَ عليّ آن ذاك، فأصبح أسامة بلا أب وبلا أم أيضاً وبقيت وحدي إلى جانب الصّغير... فعلت لأجله المستحيل كي لا يشعر بالفقد والنقص وعلّمته وأعطيته كل شيء تمنّاه، وحاولت أن أجعله محنكّاً في كل الأمور. لكن استغربت ما تعود عليه بسبب هذا الاهتمام فكان لا ينام إلّا على ذراعي، وكلّما عدت من عملي أقبلَ عليّ راكضاً وألقى نفسه في أحضاني وهو يقول اشتقت إليك كثيراً، وقد كان دليل محبته لي أنّه يأتيني في نومي ليس بعمره الحالي، بل بهيئته عندما كان في الرابعة من عمره وهو يقسم بالله العظيم إنّه يحبني أكثر من أمي وأبي وأما أنا فأشعر بأن الله عوضني عن أبي بأخي أسامة، ولعلّي أجد فيه ريح أبي.

    أمّا أختي مريم التي تزوجت قبل وفاتك وكنتَ قد قَبِلتَ زواجها من الشخص الذي أحبّته وأحبّها فهي لا تزال تشتكي إلى الله قلّة حيلتها بشأن زوجها الذي يعاني من نقص قوّته على الإنجاب... وإنّي أنوي إرسالها وزوجها للعلاج في الخارج لأن العلاجات هنا لم تنفع ولعلّ الله يرزقهما بولد يُقر به أعينهما وينير به حياتهما ويسقط عن قلبهما الحسرة.

    ها أنا عدت من المقبرة إلى البيت... كانت أمي وأسامة ومريم جاءت لزيارتنا في هذا اليوم... أطفأت محرك سيارتي... شبَّ أسامة على قدميه راكضاً نحوي ووجهه يملأه الابتسام فألقى نفسه بين ذراعيّ وقال: اشتقت إليك كثيراً يا ورد. فقبّلته وقلت: وأنا أيضاً اشتقت إليك أيها الشبل الصغير... ثم دخلنا... ألقيت السّلام على مريم و زوجها و قبّلت يد أمي ورأسها وقد تبسّمت لي وكانت الابتسامة تشعرني بأنها تقول لي: رضيَ الله عنك يا ولدي... ثم جلسنا و تناولنا غدائنا... وبعد ذلك جلسنا نشرب الشاي... بالرغم من أنّ أمي لا تستطيع التّحدث إلا أنّ مريم تفهمها بشكل تام أكثر مني و من أسامة... تجلس و تحدّثُ أمي عن أخبارها وتزيدها سروراً... تحدثت إلى أختي وقلت: أود أن أرسلك وزوجك لتلقّي العلاج في مستشفيات أمريكا وستكون هذه الرّحلة للعلاج من جهة و من جهة أخرى سياحة... ابتسمتْ ابتسامة عريضة و عانقتني وقالت: من يكن لديه أخ مثلك سينسى آلامه مهما عظمتْ... شكراً جزيلاً يا ورد على ما تقدّمه لي دائماً.

    بعد ذلك استأذنت منهم لأصطحب أسامة إلى لعبة كرة القدم لأنّه يحبها كثيراً مما جعلها عادة لديه كل جمعة... اتصلت بليلى كي ترافقنا وتشاهد أسامة معي... رافقتنا إلى هناك... كان السّرور يملئ صدورنا عندما جلسنا بين جمهور المشجعين... أمّا سروري فبدا مضاعفاً لأنّي إن نظرت إلى الملعب أرى أسامة وإن نظرتُ إلى جانبي أرى ليلى... وليس لدي ما أحبّه أكثر من هذين الحبيبين إلا أمي... انتهت المباراة بنتيجة التّعادل لأن الخصم لم يكن هيّناً... غادرنا الملعب... أوصلنا ليلى إلى بيتها... وبعد ذلك عدنا إلى البيت... كانت مريم قد غادرت... أخذ أسامة بنفسه كي يستحم... فهو يتبع عادات عدّة غير لعبة كرة القدم... فهو يتلو القرآن الكريم جهراً لأمي لمدة ساعة تقريباً... وقد تعلّم أسامة التّلاوة والتّرتيل وأحكام التّجويد في جامع الشّهداء في حيّينا -الصّالحية- كنت قد وضعته عند إمام المسجد ليتعلّم ذلك... بعد أن أنهى تلاوة القرآن طلب مني أن آخذه كي نتجول في السّيارة في شوارع الشام... لم أتوانى في تلبية طلبه... خرجنا مباشرة من البيت... فبدأت جولتنا من سوق الصالحية و قد اعتدنا شرب عصير الفواكه الطبيعية الطازجة من عند دكان أبو شاكر الشّهير... قال أسامة: سأنزل وأطلب العصير بنفسي انتظرني قليلاً... بقيت منتظراً في السّيارة... ثم عاد إليّ وهو يحمل ثلاث كؤوس, واحد منها مغلّف فقال: جلبت لنا كأسي عصير الفواكه و أمّا الثالث هذا فهو لأمّي لم أنسَها يا ورد... أعرف أنها تحبه كثيراً، أتعلم لما لا أنساها ؟ أجبته: كلّا يا صغيري قل لي أنت فقال: إنّي أفعل كل فعلٍ يرسم ابتسامة أمّي لأن الأم هي أعظم خلق الله في الدّنيا، وقد تعلمتُ في المدرسة أيضاً؛ أن الجنة تحت أقدام الأمّهات، فإنني أحاول أن أكون باراً بها وأمنيتي أن أنال رضاها مني دائماً يا ورد. أكملتُ الحديث أنا وقلت: نعم يا أسامة! ومن مثل الأم؟... إنّها هي من أنجبتنا وأرضعتنا وربتنا وعلمتنا وسهرت علينا فهي المدرسة الأولى قبل أن نتعلم في المدارس ولو حملناها على ظهرنا ما حيينا لن نوفيها جزءاً مما تستحقّ، فابتسم أسامة وقال: أحبُّ أن تفهمني كثيراً، أدام الله وردتي.

    لقد عجبت من فطنته وأسعدني تصرفه ووعيه لمثل هذا الأمر على الرّغم من صغر سنه.

    تناولنا العصير ونحن في السّيارة... درنا في شوارع الشّام القديمة حول باب توما... ثم في طريق المزّة العريض... وبعد ذلك وقفنا على جبل قاسيون نستأنس المناظر من فوقه ونشتمُّ الهواء العليل وهناك شربنا الشّاي اللّذيذ أيضاً... وبعد ذلك عدنا إلى البيت... فألقينا التحية على أمي ودخلت غرفتي كي أنام... لم يمضِ وقت طويل حتى طُرقَ بابي عرفت أنه أسامة جاء لينام في سريري... هذا ديدنه منذ وفاة والدي، لعلّه يجد في ذلك شيئاً من الطمأنينة... غفى على ذراعي.

    الفصل الثالث

    صباح العمل

    تولد القوّة من رحم الخيبة وتولد الهمّة من رحم الحلم، فالجرأة على كسب القوَة تصنع الإرادة والجرأة على تحقيق الحلم تصنع المستحيل، والفوز بذلك يحتاج إلى الصّبر والمصابرة وبرهان ذلك قول الله تعالى إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حساب .

    نهضت باكراً في الصّباح... أعددت القهوة بنفسي لأتناولها مع أمي... وهي عادتي منذ وفاة والدي.

    ثم توجّهت إلى المكتب الذي يقع في حي المالكي... فالمكتب قريب من مكان بيتي في الصّالحية... أظنّ أن جميع العاملون بانتظاري الآن... لأنه يوم السّبت وفي هذا اليوم نتناول الفطور جميعنا في المكتب... عندما وصلت، حيَا بعضنا بعضاً... تبادلنا أحاديث الاطمئنان بيننا... كان الفطور على وشك أن يتجهز... وبعدها أخذنا نتناول الفطور.

    إنّهُ السبت والسّبت هو يوم عطلة القضاء... وأنا أحرص في هذا اليوم على الاجتماع بجميع المتدربين والعاملين لدي لتوجيههم ولمناقشة بعض المسائل معهم... أعضاء المكتب هم: ليلى محاميّة بارعة جدًا وحسام محامٍ متدرب وياسين كذلك الأمر محامٍ متدرب ولميس محاميّة وسائد حارس ليلى وعامل يلبي جميع طلباتي وأحمد أمين سر المكتب... لكن لميس في إجازة الآن. طلبت من أحمد أن يجلب الملفات التي تتطلب الإنجاز... بعد أن اطلعت عليها كان من بينها قضية طلاق سلّمتها لحسام وليلى وأخرى قضية مواريث سلّمت مهمّة إنجازها لياسين... اعتدت أن أشركهم في مثل هذه القضايا والأمور لينالوا فرصة أكبر في ممارسة المهنة... فانشغلوا في تحضيراتهم لإنجازها.

    دخل رائد بائع الجرائد يحمل جريدة الوطن ليوم السّبت وهذا البائع هو موزع الطّبعات اليومية لهذه الجريدة فأنا أحبّه لأنه ملتزم بمهنته... شكرته ودعوته لتناول فنجان من القهوة... فلم يرفضْ طلبي وكان حريصاً على أنْ يعرف عن أموري وكيف تجري... جلس يشرب القهوة وأنا بدأت أقرأ العناوين الرّئيسية والثّانوية، منها أخبار عالمية مثيرة جداً ومنها محلية... لم يلفت نظري في الأخبار المحلية أي خبرٍ؛ لأن الوضع من فضل الله كان بحال جيد جداً؛ أما على صعيد الأخبار العالمية كان هناك الكثير، ولكن ليس باستطاعتنا فعل شيء، لأن المشكلات الكبرى تحتاج قوىً عظمى قادرة على التدخل وإحداث التغيير... فهجوم الجيش الإسرائيلي على أسطول الحرية الفلسطيني الذي يحمل مساعدات غذائية وطبية قد أزعجني وأحزنني كثيراً ولكن ماذا أصنع وحدي!؟... لا شيء!.

    ابتسم رائد وشكرني على القهوة ثم غادر يكمل أعماله.

    أخبرتُ أحمد أنني أنتظر امرأة عجوز ولا أعرف ماذا تريد! وماهي إلا لحظات حتى رن هاتفي... لم أعرف المتصل بدايةً إلّا عندما أجبته... كانت تلك العجوز... طلبتْ مني أن أكون وحدي لأنها لا تريد أن يعرف أمرها أحد ولا سيما حسام... ثم أغلقتْ الهاتف.

    ناديت حسام وقلت له: لو سمحت اترك ما بيدك واذهبْ لتؤمّن لي مكاناً أقيمُ به حفل ميلاد حبيبتي ليلى، قال: على الفور يا ورد. إنّي بذلك أشغله عن أمر العجوز من جهة ومن جهة أخرى يجد لي مكان إقامة الحفل. فاقترح ياسين أن نقيم الحفل في مزرعتنا في دوما، لكنّي رفضت لبعدها عن المدينة... ثم خرج حسام مصطحباً معه ياسين.

    بعد أن غادرا بوقت قصير دخلت تلك المرأة العجوز... أخبرتني أن اسمها فاطمة... بدأت حديثها بكلمات راقية لامست قلبي وأصابتني بالفخر العظيم: لدي وصيّة يا بني ألقي بثقلها عليك، لأنّك أمين ابن الأمين العربيّ، وليس لهذه الأمانة جبل يحملها سواك... طاب لي هذا المدح فقلت لها: سأحملها لو تكفني هذه الأمانة حياتي... ثم تابعتْ حديثها: لدي ولد صغير من ابنتي الوحيدة اليتيمة وأملك مالًا كثيرًا جداً، وأريد أن أترك له كل ما لدي من مال لأضمن حياة مستقرة له، فهو وريثي الوحيد، وكما ترى أنا عجوز ولم يبق من عمري إلا أيام معدودات، لديك هنا في الأوراق وصيّة أخرى تحمل بين طياتها تفاصيل عن مكان دفني وعن قبري وشاهدته... ثمَّ كررتْ: إن أيامي معدودات، ولا أعلم في أيّ لحظة تؤخذ الأمانة التي كِتُبتْ على جميع الناس وأوضع في قبري تحت التراب، رجاءً بُني احرص أن تكون الورثة بأكملها لحفيدي الذي يدعى سوري، وأنت تعلم أنّ ابن الابن قد يكون أحبَّ إلينا من الابن أحيانا... هذه هي وصيتي بني. أردت السؤال عن علاقة حسام بالأمر، ولماذا تحرص ألّا يعرف شيئاً ولكنّها تحدّثت عنه قبل أن أسألها قالت: احرص كذلك ألّا يعرف حسام بالأمر لأنه عم سوري، وأخشى إذا علم أني قد تركت له كل هذا المال أن يسلبه إياه فيبقى حفيدي يصارع الفقر طيلة حياته.

    وعدتها أن أحفظ الأمانة وأن أوصلها لأصحابها... فشكرتني وغادرت.

    لديّ في المكتب خزانة سرّية لا يمكن لأحد حتى ممن يعمل هنا الوصول إليها، لأنّي عادة ما أضع فيها الملفات خاصتي والتي لا أريد لأحد أن يطّلع عليها... قرأت الوصيّة مرة أخرى ثم وضعتها بالخزانة وأحكمت إغلاقها.

    التفتُ إلى ليلى وهي تعمل على الملف الذي وضعته على عاتقها هي وحسام... كنت أراقب عينيها وأغوص فيها كما يغوص الحوت في عمق البحر... ثبتُّ بصري عليها لأنّني أحبّها حبّاً كبيراً يضاهي حجمه كوكب الزّحل... وأنا أفكر في الهدية التي سأقدمها إليها، لابد أن تكون هدية مميزة جداً ولكن لا أدري ماذا سأقدم لها!... كل ما أعرفه أنها حبيبتي ويتوجب عليّ إيجاد شيئاً يدخل السّرور إلى قلبها ويفاجئها.

    كنت أظن أنّها لم تلاحظ نظراتي لأنها كانت توجه لي حديثاً وأنا لست منتبهاً بسبب شرودي بها ثم قالت بصوت عال قليلًا: أراك شارد الذهن يا ورد هل أمر العجوز مربك إلى هذا الحد؟... فتهتُ في عينيها وفي نفسي... أجبتها: لا شيء يربكني في هذه الدنيا مثل عينيكِ... ولا يستطيع أيّ شيء أن يذهلني إلّا وجهك... فأنت ليلتي... ليلتي في كل ليلةٍ، ولا يمكن أيّ أحد أن يحتلني بهذا القدر من الحب غيرك... فحياتي كلها أسامة، وقلبي كله أنتِ. ثم قالت وهي مبتسمة: لقد وصفتك غادة السّمان يا ورد عمري:

    آه صوتك صوتك!

    وأنصت إلى قلبي...

    يا للمعجزة: إنّه يدق!

    ومطر الهمس المضيء.

    المتساقط في هذه الأمسية النادرة ؟!.

    احم! احم!... قاطعنا حسام وياسين بعودتهما... ما إنْ جلسا في المكتب حتى خرجنا أنا وليلى... أوصلتها إلى بيتها بدلًا من أن يوصلها سائد... ثم أكملت طريقي إلى بيتي.

    أوقفت محرك سيارتي... فلمّا نزلت منها باغتني أسامة كعادته وألقى نفسه في حضني... عانقني وقبلني كثيراً؛ لأنني خرجت دون أن يراني... قال لي: أخي أريد منك شيئاً على أن تعدني ألا ترد طلبي... قلت له: تفضل! لك العين وماؤها يا شبلي فلو طلبت مني لبن العصفور لجلبته لك، لا عليك قلّ لي. ضحك وقال: نعم! أريد منك ألّا تتزوج، وألّا تنجب ولداً أيضاً أتعلم لماذا؟! لأنّك ستنساني وتحبّ زوجتك وابنك أكثر مني وأنا لا أريد لأحدٍ أن يحبك مثلي أو أكثر مني، حتى إنّي لا أريدك أن تحب غيري، عدني بذلك أرجوك!

    كان حديثه هذا هو أكبر صدمة تلقيتها منذ وفاة والدي... لقد وخز قلبي بطريقة أسكتتني... لم أعرف لماذا يفكرُ في هذا الأمر؛ بل من أين جاء بهذه الفكرة!... يا إلهي... نظرتْ إليَّ أمي فتوجهت نحوها وقبّلت رأسها ويدها وجلست عند ركبتيها، ويدها بيدي، ثم قلت لها: هل سمعتِ هذا الصّغير ماذا طلب مني!؟... أيعقل هذا يا أمي!؟ ما هذا الطّلب الغريب!؟... ما الذي دفعه لهذا الطّلب!؟

    أغمضتْ عينيها وذرفتْ دموعاً لم أعلم سببها.

    في المساء كنت أنا وأخي... فسألته: لماذا طلبت مني ألا أتزوج؟ وما الذي دفعك لهذا؟ فصرخ باكياً: إنني أحبك أكثر من أمّي ومن -المغفور له- أبي وأنا أعلم أن حبّي لك حبّاً يفوق حبّي لهما حرام... حرام عليَّ أن أحبّك أكثر منهما أتسمع! أتفهم! ولكن هذا هو قلبي فلماذا تريد أن تحب غيري وفوقها أن يصبح لك ولدًا. هل لك ألا تحبّه أكثر مني؟ حتى إنك لن تحبّني بالدرجة نفسها... أنت وردي أنا، لستَ ورد غيري... أرجوك اشعر بما أشعر به... وعزّة الله سيذوب قلبي... أرجوك.

    مسحت دموعه وهو يجلس على ركبتيّ، ضممته إلى صدري وقلت له: أعدك! نعم أعدك أنني لن أتزوّج كفاك بكاءً.

    رباه! إنني بمأزقٍ كبيرٍ جداً.

    حدّثت نفسي مبتسماً تلك الابتسامة الصفراء الشاحبة: أنا الذي استطاع التّغلب على جميع المشكلات الصّغيرة منها والكبيرة... أمّا الآن ليس لديّ حل لمشكلة طفلٍ صغير، ولا أعرف كيف أخرج من هذا المأزق الذي وضعني موضعه هذا الصغير؛ كيف لي أن أرضي رغبة أخي لا أدري... لا أدري.

    الفصل الرابع

    قلبان تحييهما نبضة واحدة

    مهما بلغت قوة المرء في الدنيا لابدَّ أنّه يضعف أمام شيء ما، ومهما كان غنياً لابدّ أنه يفتقر إلى شيء ما، وما من بشر كامل فالكمال لله وحده. وعلو شأن المرء أخلاقه ومن دونها لا شأن له. ولو أراد أحد التوقف عند أي معضلة لانقضت حياته من غير أن يترك خلفه شيء يذكر، ولا بد من تجاهل بعض الأمور أحياناً لأن الحياة مستمرة لن تتوقّف على أي شيء مهما كان.

    لم يغمض لي جفن منذ ليلة أمس حين أخبرني أسامة أنه يريد مني ألّا أتزوج أو أنجب أولاداً لأنه يريدني له وحده... ولا يريد أن يشاركه أحد بي... أمضيت الليل أمسح على رأسه وألاعب شعره وأنا أفكر في كلامه والحسّ الذي حاصرني وكأنني في بيت تتصاعد منه ألسنة النار لتأكلني، حيث أنه لا مفر من هذا الحريق. طالما راودتني فكرة التّضحية، ولا بد لي من أن أضحي الآن إما بأسامة وإما بليلى... وأحلى الخسارتين مرّ فماذا أصنع؟

    لم أتناول أي شيء في الصباح لا قهوتي ولا حتى لقمة فطور... ارتديت الزي الرسمي واستعنت بالله مستقلّاً سيارتي إلى المكتب على غير عادتي... وصلت قبل الجميع... لقد أكل رأسي التفكير بحثاً عن مخرج لا أخسر فيه أخي ولا أتركه فريسة لوسواس الشيطان والأفكار السلبية... جاء حسام أولاً ثم دخل ياسين بعده... فرأيت أن استشيرهما في أمري، لعلّهما يهدياني إلى سبيل يخرجني من هذا المأزق... قال حسام: اترك هذا الأمر فترة من الزمن إلى حين أن يكبر أسامة قليلاً ويغدو عليه النضج... في حين قال ياسين رأيه: سآخذ أسامة في نزهة هنا أو هناك وأبيّنَ له بأن أمر الزّواج واجب على كل شاب... فلا يصح أن يعيش المرء حياته بلا زواج وإنجاب.

    كان رأي ياسين هو الأقرب والأنسب بالنسبة لي... فقبلت.

    جاءت ليلى... ألقت تحية الصباح... ثم قالت: أقرأ عليكم سلام أمّي وهي تدعوكم إلى وجبة العشاء هذه الليلة... أجبتها: وعليك وعليها السّلام... يشرّفنا ذلك يا ليلى؛ لكنّها لاحظتْ عدم اتّزاني فسألتني: ما خطبك يا ورد؟ أجبتها: لا شيء بي يا ليلى فكل شيء على ما يرام.

    أعلم جيدًا أنّها لم تقنع بما قلت ولكن الوقت غير مناسب كي تُصرّ على معرفة خطبي... كان أحمد قد وصل وأعدّ لنا القهوة... فانشغل الجميع كلٌّ في مهمّته وعمله... لدي عادة وهي قراءة كتابٍ إن لم يكن لدي ما يشغلنيِ من قضايا لأن الكتاب هو خير جليس... بعد منتصف النهار استأذنت ليلى بالمغادرة كي تعد العشاء مع والدتها... ثم غادرت مع الحارس سائد الذي كنت منذ مدة قد كلّفته بحماية ليلى وعائلتها وتأمين جميع المستلزمات لهم... وذلك بعد حادثة السّرقة التي وقعتْ في بيت ليلى ولم يكن سواها في المنزل فطلبت مني العثور على حارس أمين يتقاضى مُرتّباً يرضيه فكان ذلك توكيلي سائد بهذه المهمّة.

    بعد انتهاء العمل عدتُ أدراجي إلى البيت كي أرتب أموري... بعد أن استرحت قليلاً اتصلتُ بمريم كي تأتي وزوجها إلى بيتنا... أريد أن أرسلهما إلى أمريكا لتلقي العلاج هناك... وماهي إلّا ساعة تقريباً حتى وصلا... قلتُ: كلّ إنسان في هذه الدنيا لابد من

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1