Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ثلاثية المقرن والبحر: معضلة الفقر والحب والطموح
ثلاثية المقرن والبحر: معضلة الفقر والحب والطموح
ثلاثية المقرن والبحر: معضلة الفقر والحب والطموح
Ebook602 pages4 hours

ثلاثية المقرن والبحر: معضلة الفقر والحب والطموح

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

هذا الكِتَاب عبارة عن رواية ثلاثية (ثلاث روايات في كتاب واحد) أحداثها متَّصِلة وبعض شخصياتها الأساسية تنتقل بين الروايات. هي رواية في أَدَبِ السِّيرَة الذاتية، لكنَّها تؤرِّخُ لأحداثٍ حياتية لا ترتبط بسيرة المؤلف الذاتية فقط، وإنَّما تمتدُّ بصورة أساسية للبيئة التي عاش ونشأ فيها المؤلف، وتنتقل بينها، مع التركيز على الحياة الفولكلورية والعادات والممارسات الاجتماعية بصورة يتعمَّد فيها المؤلف محاولة توثيق تلك العادات، والحيلولة دون نسيانها من قبل الأجيال الجديدة في المجتمع السوداني والمصري الإسكندراني، والتي عاش فيهما أحداث الروايات، ويحاول فيها المؤلف وضع القارئ غير العربي البعيد عن البيئة السودانية والعربية على فهم تلك العادات والتقاليد السودانية والعربية. المؤلف يسكب حياته في الروايات الثلاث، ويُبْرِز بصورة فيها إلحاح شديد الجوانب الإنسانية لتلك الحياة؛ لذلك وضع معضلة الرواية الثلاثية هي: الفقر، والحب، والطموح، لذلك تتأرجح أحداث الروايات حول هذا المعنى لتشبعه بين أسطِرها. فبينما نجد المؤلف محظوظاً جداً فيما يتعلق بالحب، نجد هذا الحظَّ يصطدم بمعضلة الفقر فيفسد عليه كل فرصة في مَهْدِهَا، ويصطدم بمعضلة الطموح دائماً، فتجد المؤلف يعمد دائماً  للتضحية بحبِّه من أجلِ طموحه، فتموت براعم حبه دائماً في مهدها، بل ويتحول الحب أيضاً إلى معضلة. هذه الرواية الثلاثية هي أحداث حقيقية حدثت وتضم أسماء من عايشها، غير أن بعض أسماء العنصر النسائي أُسقِطت لظروف خاصَّة، وبعض الأحداث الحساسة تم التحوير فيها قليلاً
Languageالعربية
Release dateOct 28, 2021
ISBN9789948834786
ثلاثية المقرن والبحر: معضلة الفقر والحب والطموح
Author

ود السيمت

عثمان يس محمد علي، سوداني، طبيب متخصص في الطب النفسي، درس الطب في جامعة الإسكندرية، والتخصص مِن المجلس المشترك للكلية الملكية جامعة لندن وجامعة عين شمس. عمل في السودان وعدد مِن دول الخليج العربي، عمل كطبيب نفسي وكمدير تنفيذي وكخبير في التخطيط الصحي بوزارة الصحة. له اهتمامات أدبية وثقافية منذ الأيام الأولى للدراسة بالتعليم العام والتعليم الجامعي، وكان يُصدِر مجلة بِاسْم (كاريكاتير) أثناء فترة الدراسة الجامعية. له مؤلفات عديدة في مجال التخصص في الطب النفسي وبعض الأبحاث المنشورة. له مؤلفات في مجال الإدارة الصحية، منها ما نشَره مكتب منظمة الصحة العالمية لشرق البحر الأبيض المتوسط على نفقته. له مؤلفات في الفكر السياسي. له روايات أدبية أخرى ستوضع تحت النشر. ناشط سياسي، ويقوم بنشر مقالاته بالوسائط بصفة مستمرة. ناشط مع بعض المنظمات في شئون الحفاظ على البيئة.

Related to ثلاثية المقرن والبحر

Related ebooks

Reviews for ثلاثية المقرن والبحر

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ثلاثية المقرن والبحر - ود السيمت

    ثلاثية المقرن والبحر

    معضلة الفقر والحب والطموح

    ود السيمت

    Austin Macauley Publishers

    ثلاثية المقرن والبحر

    ود السيمت

    الإهـداء

    حقوق النشر ©

    شكر وتقدير

    العودي

    البريقدان

    الشاطبي

    ود السيمت

    عثمان يس محمد علي، سوداني، طبيب متخصص في الطب النفسي، درس الطب في جامعة الإسكندرية، والتخصص مِن المجلس المشترك للكلية الملكية جامعة لندن وجامعة عين شمس.

    عمل في السودان وعدد مِن دول الخليج العربي، عمل كطبيب نفسي وكمدير تنفيذي وكخبير في التخطيط الصحي بوزارة الصحة.

    له اهتمامات أدبية وثقافية منذ الأيام الأولى للدراسة بالتعليم العام والتعليم الجامعي، وكان يُصدِر مجلة بِاسْم (كاريكاتير) أثناء فترة الدراسة الجامعية.

    له مؤلفات عديدة في مجال التخصص في الطب النفسي وبعض الأبحاث المنشورة.

    له مؤلفات في مجال الإدارة الصحية، منها ما نشَره مكتب منظمة الصحة العالمية لشرق البحر الأبيض المتوسط على نفقته.

    له مؤلفات في الفكر السياسي.

    له روايات أدبية أخرى ستوضع تحت النشر.

    ناشط سياسي، ويقوم بنشر مقالاته بالوسائط بصفة مستمرة.

    ناشط مع بعض المنظمات في شئون الحفاظ على البيئة.

    الإهـداء

    الإهداء الأول للثلاثية:

    إهداء إلى والدتي ووالدي

    التومة بت عبد الرحمن

    ويس ود السيمت.

    الإهداء الثاني لرواية العودي:

    إلى كلِّ مَن كانت له بصمة في حياتي، وساهم في أن جعل مني أنا.

    الإهداء الثالث لرواية البريقدان:

    إهداء إلى كلِّ مَن رافقني في مشوار حياتي.

    الإهداء الرابع لرواية الشاطبي:

    إهداء إلى عائلتي الصغيرة

    نبيلة

    وعمرو وهند وهالة

    ومرام ومهند

    وريم.

    حقوق النشر ©

    ود السيمت 2021

    يمتلك ود السيمت الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقًا للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة:

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأي وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948834779 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948834786 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب: MC-10-01-0554799

    التصنيف العمري: +21

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن المجلس الوطني للإعلام.

    الطبعة الأولى 2021

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    شكر وتقدير

    شكر وتقدير خاص لابني عمرو للمراجعة والرأي ممَّا ساعدني في تنفيذ هذا العمل، ولنبيلة وهند وهالة لجهدهنَّ المقدَّر في إبداء الرأي.

    العودي

    قبل ظهر ذلك اليوم أرسلتْ أمي أخي موسى للحاجة أمهر القابلات في عصرها، وكنتُ ألحظ تحركات غريبة في البيت؛ فنساء الجيران تجمَّعن وبدأن في تنظيف البيت وساحاته وغسيل العدة، وتطوَّعتْ واحدة منهن بالطبخ.

    كنتُ أراقب كل ذلك وأنا لا أدري ما يحدث أو ما سيحدث، كان سنِّي ثلاث سنوات ونصف، وكنا نسكن الديم في أقصى جنوب شمبات، والحاجة تسكن في شمال شمبات، ولَم تكن هناك سيارات تنقل الناس إلا بص التوم، وكنا نسميه البص الطويل، وبعض الباصات الأخرى الكندة، والفورد الستة وأربعين، وكلها مِن بقايا عتاد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أنها كانت نصيب السودان مِن غنائم تلك الحرب، لكن الحاجة كانت تفضِّل المشي دائمًا وهو ما أبقاها في صحة جيدة رغم تقدُّم العمر.

    كانت امرأة وقورة مهيبة صامتة دائمًا إلا عندما تلقي التعليمات على (النسوان) عندما (يحر الوجع)، ولا تشارك كثيرًا في الونسة، تلبس التوب (الزراق) الثوب الأزرق أو (الطرقة السوداء)، وعندما تُستدعَى للولادة كثيرًا ما تأتي بالثوب الأسود حيث يبدو أنها غير مقتنعة بفكرة لبس (دايات الشنطة)، وهنَّ الدايات المتعلمات خريجات مدرسة القابلات، ويلبسن الفستان الأبيض والثوب الأبيض، أما الحاجة فلا تلبس مثلهن، ويبدو أنها تستنكر وتستهجن الفكرة، حيث إن الأبيض في موروث تلك الفترة كان يلبس للحداد (الدمورية أو الدبلان)، وهي ستدخل على نفساء وقد يسبب لها ذلك (الكبسة)،حيث كان الناس يفرِّقون تفريقًا شديدًا ومشدَّدًا بين طقوس الموت والفرح والولادة، فمَن شهد الجنازة عليه أن يبتعد عن النفساء أو العرسان أو أولاد وبنات الطهور مخافة الكبسة، وهي حالة مرضية جسدية ونفسية في آنٍ واحد تعتري الشخص المكبوس، وغالبًا تكون حمى مصحوبة بخوف شديد ورعشة و(هضربة) وتعني الهلاوس البصرية والسمعية والحسية الأخرى.

    ومفهوم الكبسة مفهوم لَم أتعرف عليه جيدًا إلا عندما دخلتُ كلية الطب، وتعرَّفتُ على فرع مِن فروع الطب النفسي يسمَّى (الطب النفسي عبر الثقافات) Transcultural Psychiatry، والكبسة لا تتعدى أن تكون نوعًا مِن الأعراض تفسر ضمن الموروث الشعبي، وذلك عندما تكون أعراضها نفسية خالصة، ولكن قد تكون الأعراض نفسية وجسمية، وتقترب مِن الذهان العضوي، فالحاجة إذًا لها أسبابها في لبس الأسود والطرقة.

    كانت تسير ببطء، وتتهادى في سيرها، ويحيِّيها كلُّ مَن يراها مِن الرجال على غير العادة مع النساء في ذلك الزمان، فهي تحظى باحترام وتقدير الجميع حتى خضر عبد القادر (سيد الدكان) والذي يهابه الكبير والصغير، كان يحترمها ويكلمها (بنفس بارد)، وعندما تقف أمامه في طرف برندة الدكان ولا تدخل لداخل الدكان يتجه فورًا لعلبة الأمواس ماركة (سيف العرب)، ويناولها واحدة، فهو حينها يدرك أنها في طريقها لعملية ولادة.

    وبالرغم مِن أنَّ خضرًا يسأل دائمًا سؤاله المعتاد لمن يشتري مِن البضاعة غير المعتادة (الليلة عندكم شنو؟) إلا إنه لا يسأل الحاجة، فللولادة خصوصيتها.

    كانت تستخدم موس سيف العرب بمهارة فائقة، ولا تستخدم مقصات الشنطة التي تستخدمها القابلات الأخريات مثل الهجرة (التي وُلدتُ على يديها) والسيدة عمر، وكنتُ دائمًا أسأل أمي لماذا لَم أُولَد على يد الحاجة؟ فتقول لي كانت لديها ولادة أخرى، فهي المفضَّلة، ولا تطلب النساء غيرها ما لَم تكن مشغولة.

    كنتُ أحسُّ عندما عرفتُها لاحقًا أنها تتعمد التأخير، فهي تسلِّم على كل الناس في الشارع، ولها طريقة مميزة في السلام والتحية، فهي تقف تمامًا عن سيرها، وتلتفت رافعةً ذراعها اليمنى، وتلقي التحية ثم تتابع سيرها مرة أخرى، وقد يكون كل الكبار والصغار ممَّن ولدوا على يديها، فهي في نهايات السبعينيات.

    كانت تعرف بيوت شمبات كلها وما على المرسال إلا أن يخبرها بِاسْم التي ستلد ويتركها لتصل للبيت المقصود بمفردها.

    يقال إن نظرها ضعيف، لكنها تعتمد على حاسة اللمس، وطوال ممارستها المهنة لَم تفقد طفلًا أو امرأة، وكانت تعرف التي تحتاج لعملية مِن وقت مبكر، وترسلها (لإسبتالية بحري).

    ومِن مهارتها الشديدة أنَّ قصصًا تُروَى عن أنها في إحدى المرات جاءها شخص غريب لا تعرفه وليس مِن أهل شمبات، وقال لها إنَّ لديه ولادة، ومشى معها حتى وصلا للنيل، وهنا قال لها إنه جني، وطلب منها ألا تقول بِاسْم الله (قال لي ما تقولي المعيليمة) حتى تنتهي مِن مهمتها، فنزل بها تحت الماء، ورأت عالمًا مِن العجائب (شفت دنيا تانية وناس تانيين هناك)، فقامت بتوليد المرأة وقالت: أول ما قطعت حبل السرة قام يجري مع إخوانه)، وحكوا أنهم حملوا لها ما لذَّ وطاب، ووجدتْ بيتها مثل الدكان، فقد كان (التمر والسكر بالشوالات، والسمن والزيت بالصفائح، والشاي بالصناديق، والحلاوة أنواع وأشكال)، لكن في صباح ذلك اليوم كانت دكاكين الحلة كلها تشكو السرقة، فعلمت مصدر الهدايا، وقامت بإرجاعها لهم عندما تعرفوا عليها.

    هذه الحكاية يعرفها كثير مِن الناس في ذلك الزمان، وكنَّا نصدِّقها ولا نشكُّ فيها لمعرفتنا الشديدة بمهارة الحاجة.

    كان اليوم مليئًا بالإثارة لطفل مثلي في ذلك العمر، كنتُ ألعب طوال اليوم أنا وأخي عبد الرحمن داخل البيت وحوله، وهو بيت مستأجر، كنا نسكن الجزء الخلفي مِن البيت، وبه غرفتان وأمامهما (راكوبة) وزريبة للبهائم صغيرة، (وكشاشة صغيرة) للحمارة التي يعتني بها والدي عناية شديدة.

    الشارع أمام البيت كان شارعًا رئيسًا تسلكه الحافلات القادمة مِن بحري، وعددٌ قليلٌ جدًّا مِن السيارات الخاصة والتاكسي، فلَم يكن الناس في ذلك الوقت يقتنون السيارات الخاصة، ولا أذكر في الديم غير سيارة عبد الله موسى (البيبي)، وكانت زيتونية اللون.

    كنتُ أجلس قبل الظهر في ظل الحوش عندما يمتد قليلًا عند عتبة الباب الأسمنتية أشاغل المارة، الراكب والماشي، وأرمي الكلاب بالحجارة، وأنتظر والدي، وكانت أمي تحذرني مِن الجلوس على عتبة الأسمنت في النهار الحار (عشان بيعمل حرارة بول)، وتعني السخونة أثناء التبول.

    الانتظار يبدو طويلًا أحيانًا، فأنا أقيس الوقت بطول ظل الحيطة، وأترقب ظهور أبي على الحمارة مِن أول الشارع عندما يدخل الحلة، فبيتنا لا يبعد عن طرف الحلة كثيرًا، لكن جائزة الانتظار تستحق الجلوس؛ فقد كان والدي يناولني المخلاة (التقيلة) فور نزوله مِن الحمارة، فأُسرِع بها داخلًا، ونخرج أنا وعبد الرحمن بسرعة حاملَيْن الماء البارد لنرش ضرع الحمارة قبل أن يبدأ ولدها في الرضاعة؛ لأن والدي يؤكد أن اللبن الحار يضرُّ صغير الحمارة.

    في ذلك اليوم انتظرتُه كالعادة، وتركتُ الولادة تأخذ مجراها، فلم أكن أعرف ما يدور بالداخل، وآخر ما لاحظتُه أنَّ الحاجة عندما وصلتْ كان صياح أمي قد تعالى، وبدؤوا يغلون الماء في الحلة الألومنيوم التي كانت على ظهر النملية، ولا نراها بين (العدة) كثيرًا.

    - عندما ينزل والدي عادة مِن الحمارة، ويسلِّمني المخلاة يقطع لي مِن العيش الشمسي الساخن والذي يحرص يوميًّا على شرائه من فرن في بحري قبالة كنيسة مار جرجس، ولحسن حظنا أن ذلك الفرن أيضًا يجاور ثلاجة الموز التي يُحفظ فيها الموز حتى يستوي، وتُحفَظ فيها فواكه أخرى مثل البرتقال والمانجو، وهناك عددٌ مِن بائعي الباسطة، وينتهي هذا الشارع في سوق الخضار، وكلها أماكن لها علاقة بمخلاة والدي.

    كان والدي يعمل عاملًا في المخازن والمهمات بعد أن تقاعد مِن الجيش، وعاد مِن الحرب العالمية الثانية، وكانت المخلاة تعجُّ بمفاجآت أخرى تعتمد على الموسم، ففيها البلح الرطب أو الموز أو المانجو، وكانت السلطة من المكونات اليومية الراتبة بالمخلاة، وكان التحذير اليومي (إوعى تقرم العجورة يا ولد).

    عندما اقتربت بالمخلاة وفي يدي الرغيفة سمعتُ صوت طفل يصرخ، إنه المنافس الجديد، فتركتُ المخلاة، وقفزتُ على السرير بجوار أمي، وقبَّلتُه وقاسمتُه الرغيفة لولا أنَّ أمي منعتْني ضاحكة، وألهتني بسؤال (عايز تسميه منو) وفورًا قلت لها (عبد الله حكومة).

    كانت تلك الفترة مِن النصف الثاني من عام 1954 حبلى بأحداث سياسية مفصلية في تاريخ السودان، فقد انتهت للفور أول انتخابات في تاريخ البلاد السياسي لتتشكل الحكومة الوطنية الانتقالية الأولى، وكانت الأسماء تتردد على مسامعنا، مثل اسماعيل الأزهري، وعبد الله بك خليل، فاستهواني اسم عبد الله بك، فأطلقته على المولود الذي قاسمتُه العيشة الشمسية الحارة لولا رفض أمي، وحتى الآن لا أدري كيف أضفتُ لقب حكومة للاسم، وأطلق عليه الاسم، بل وظل اسمه عبد الله حكومة حتى عهد قريب.

    كان الديم عالمًا غريبًا وجميلًا، بل كان رائعًا بالرغم مِن أننا فعليًّا ننتمي لفريق العرب، حيث أهلنا هناك في شمال شمبات، لكن لظروف سكن عمي في بيتنا في فريق العرب اضطر والدي للإيجار في الديم، ولكنها تجربة أثرتْ طفولتي المبكرة، بل وكانت مِن الأيام الجميلة في طفولتي.

    كان الديم يعج بالأشياء المثيرة، فقد تركَّزتْ الكورة في شمبات في الديم، وممارسة لعب الكورة في الشارع كانت ممارسة شائعة، وكل لاعبي نادي شمبات مِن الديم إلا بعض اللاعبين القلائل في فترات متفرقة، مثل الغزالي والهارت.

    كانت العادات في التواصل الاجتماعي حميمية جدًّا، وكنا قبل موعد الغداء نبدأ بتبادل أطباق (الملاح) مع الجيران، فترسلني أمي بطبق لخالتي زكية وآخر لحبوبة ستنا، وعبد الرحمن لأنه الكبير ترسله لبنت عمي التومة حيث تسكن جوار خلوة زين العابدين، وتنطلق الأطباق عائدة بمراسيل معاكسة مِن أولاد الجيران.

    كنا لا ندري ما طبخنا ذلك اليوم، والسؤال المتكرر يوميًّا لأمي: أنتِ الليلة سويتي شنو؟ لأن المائدة دائمًا تحتوي ثلاثة أو أربعة أصناف مِن الطبيخ.

    في ذلك الزمان لَم يعرف الناس مفهوم (مَن بات جاره جائعًا وهو يعلم)؛ فالكل يشارك الكل ما يملك وما يطبخ.

    كانت هناك فتحة بين البيوت تسمى النفاج تسهِّل علينا التداخل بين البيوت، وكانت العادة أيضًا ألا نعلي (الحيطة) بيننا وبين الجيران، فتجد الجارات يتونسن مِن فوق الحيطة بارتياح شديد، ويناولن ويتناولن ما يُردْن بسهولة شديدة تخفف علينا كثرة المراسيل.

    في الديم كنا لا نستطيع الخروج عن دائرة معينة مصرح لنا اللعب فيها لا تتعدى حدود الجيران، إلا إنَّ عبد الرحمن كان مغامرًا، ويجرني معه للمشكلات دائمًا، وكان مَن يكشف مغامراته أخي الأكبر عدلان أو موسى، ويكون نصيبه (علقة معتبرة)، ولا يعاقبونني؛ حيث يعرفون أنني تابع له.

    كانت أول العوالم الخارجية التي بدأتُ استكشافها في الديم هي خلوة شيخ زين العابدين، فهي تجاور بيتنا وليست بعيدة، وكان بين البيت والخلوة دكان عيسى، وكنا نشتري منه الفول والتمر (فول بمليم، وتمر بمليم) كان المليم ما زال هو المليم المصري، والفلوس المصرية هي العملة المتداولة.

    كانت التعريفة أو القرش نوعين، إما أحمر ومشرشر مِن الأطراف، أو فضي ومخروم، والفريني (أبقرشين) فضيٌّ على شكل مضلع.

    كان السكر هو سكر الراس، واشتهر دكان عيسى بسكر الراس، وكان يأتي مِن مصر ملفوفًا في ورق رقيق بنفسجي اللون.

    وكانت بضائع كثيرة تأتي مِن مصر مثل الأرز المميز لسحور رمضان، والزبيب والدقيق الفينو.

    كانت رائحة الدكان مميزة تختلط رائحة الطحينة والسمنة الهولندي مع رائحة العيش (الخبز) عندما يأتي به صاحب الحمار مِن الطابونة، حيث كان يحمله في صندوقين كبيرين مِن صناديق الشاي السيلاني، يحملهما على الحمار بعمودين على السرج، ويغطيهما بالفوطة النظيفة، ولَم تكن الطابونة بعيدة إلا إنَّ التعليمات الصحية كانت صارمة في ذلك الزمان.

    كان عيسى سيد الدكان يقول لك (افتح طرفك)، أي افرد قميصك أو ثوبك، ويملأ طرفك بالفول والتمر بمليمين، وحسب المزاج أحيانًا يزيدك شوية.

    الدكان كانت به (تقاة العيش) ودائمًا كنَّا نخشى أن يطلب منك أحد الكبار مساعدته في (كيل العيش)، وتمسك له الشوال فيصيبك شرا العيش بالحكة والكاروشة الشديدة، وعيننا دائمًا عندما ندخل على شوال التمر والفول وبرطمان حلاوة كارميلا وحلاوة لبن.

    في نهاية ذلك اليوم الطويل والذي قدم لنا فيه عبد الله حكومة بدأتِ الزيارات مِن الجيران تزداد، ولزوم ذلك ذهب عدلان لدكان عيسى، وأتى بزجاجة عصير معلوف، كان عصيرًا غريبًا، طعمه برتقال حقيقي ولا يحتاج لإضافة السكر بالرغم مِن تخفيفه بالماء، ولم يكن هناك عصير غيره، رائحته رائحة البرتقال الطازج، وكان يُصنَع في إحدى ضواحي بحري مِن البرتقال الطبيعي، ولا أعتقد أنَّ هناك عصيرًا اليوم في مثل جودته.

    عادة يتناول الكبار في مثل هذه المناسبات العصير، أمَّا الأطفال فيتجمعون قبل مغيب الشمس في انتظار (شتيت التمر)، والتمر اقترن بالولادة، فالحاجة بعد أن تقوم بالولادة يرسل لها في بيتها ربع تمر وسمن ودقيق فينو، وأجرها حسب القدرة، ولا ترفض أو تطالب بأجر، فمِن النساء مَن تدفع الشلن أو الريال، والمقتدِرات يدفعن الطرادة (25 قرشًا) وهو نادر جدًّا، والنفساء عادة يعملون لها (مديدة التمر)، وتكون بالسمن البلدي، وهذه ميزة للأولاد الذين تكون أمهم نفساء، فتجد أولاد الحلة يلتصقون فيهم علَّهم يفوزون (بلحسة) مِن مديدة التمر والتي أحيانًا تكون معها مديدة الحلبة، ويستمر أكلها طوال أيام النفاس الأربعين، وكنا نتلذذ بإدخال إصبعنا في الحلة ولعقه قبل أن يأتيك سيل الشتائم.

    في ذلك اليوم وقبل شتيت التمر نقوم بنظافة الأرض لزوم شتيت التمر، ويفضلون (الدلجة) وهي الأرض النظيفة الصلبة التي لا تراب أو غبار بها، ويقوم أحد الكبار بتشتيت التمر وهو يردد: كرامة وسلامة، ونحن نتخاتف ونلتقط التمر، وفي ذلك مهارات متعلمة، فالقوي يأكل الضعيف، ومع التمر تأتي زخات مِن (الحلاوة أم ورق)، وكانت أشهرها حلاوة ريا، وعندما تسقط في يدك حبة حلاوة فيكون مكانها الطبيعي فمك بورقتها، وإلا خُطِفَتْ مِن يدك، فالحلاوة قليلة و(المخاتفة) فيها معركة حامية الوطيس، كنا (ندفسها في خشمنا)، ونقشر الورقة مِن داخل الفم ونرميها.

    وأشد ما كنتُ أستغرب له في مناسبات عقد الزواج (الصفاح أو العقد) في خلوة شيخ زين العابدين، أنهم عندما ينتهي الصفاح يمرُّون على الرجال بقفة فيها تمر وعلب الحلاوة، فيأكلون مِن التمر، ويُدخلون الحلاوة في جيوبهم، فأستنكر ذلك، فالحلاوة موضعها الفم وليس الجيب، لكنني أنسى دائمًا أنَّ والدي عندما يعود مِن الصفاح يعطيني حلاوة، ولَم أستطع الربط بين الاثنين إلا بعد أن كبرت.

    كبر الشيء الذي أسميناه عبد الله حكومة، وبدت عليه علامات الشقاوة الشديدة، فلاحظنا وهو في سن الستة أشهر أنه انتهى مِن مرحلة الجلوس والزحف، وبدأ يتطلع للوقوف، كان دائم الضحك، ويقذف بكل ما تصل إليه يده خاصةً في النار، وكثيرًا ما أتلفَ براد الشاي، وقذف فيه حجرًا أو أي شيء فيضطَّرون لتغيير الشاي. كان هناك شيء جديد دخل علينا أنا وعبد الرحمن أصبح عبئًا يعطلنا عن اللعب بمداومة حراسته، وكنا نفشل ويكون نصيبنا العقاب.

    ما لبث أن مشى في سبعة أشهر وهو أمر غريب، فكان يمشي تحت العنقريب الكبير بسهولة مِن قصر قامته، ويعبث بكل ما هو مخزون تحت العنقريب الكبير، وهو العنقريب الذي وُلِدَ فيه، وبعدها بقليل صار يجري، فكانت كارثة حقيقية؛ فبالبيت بئر (ننشل منه الماء بالدلو)، ولو وصل لحافة البئر ستكون كارثة، وأمي ما تنفك تحذِّرنا مِن العاقبة، فما كنَّا نخشى أن يموت بقدر ما نخشى العقاب الأليم الذي نعرفه مِن أمي، فأصبحنا حراسًا لعبد الله حكومة.

    الجزء الأمامي مِن البيت وهو الديوان وكان مِن الطوب الأحمر، عبارة عن غرفة وبرندة حولها على شكل أقواس كان يستأجره رجل أسمر اللون جدًّا، وقسماته حادَّة، ولا يتكلَّم كثيرًا، ولا يخرج مع الناس للصلاة أو العيد أو الصفاح ولا حتى الجنائز، يلبس ملابس حكومية كاكي وبرنيطة كبيرة لونها كاكي أيضًا، ويبدو أنه كان مِن ضباط الصحة أو ضباط المجالس، لَم تكن له أسرة أو زوجة أو أولاد، كان على ما يبدو مِن الشمالية لكنَّ نمط حياته غريب يدل على أنه يخبِّئ سرًّا، فالناس في ذلك الزمان كانوا اجتماعيين جدًّا، ولشدة انعزاله لَم يكن أحد يجرؤ ليرسل إليه ملاحًا أو أي أكل كبقية الجيران.

    كانت نوافذ غرفته مغلقة دائمة، ولَم نرها مفتوحة أبدًا، عندما تراه تشعر بأنه متعلم لا يرجع مِن العمل إلا وفي يده الجرائد العربية والأجنبية أيضًا، ويحمل الكتب والدفاتر أيضًا.

    بدأتِ الحكاوي تُنسَج حوله لتفسِّر عزلته وهو لا يكترث، ويبدو أنه كان مِن كبار الموظفين، فقد كانت سيارة الحكومة تأتي إليه في الصباح وتعود به بعد العصر متأخرًا عن ميعاد عودة الناس مِن الشغل، ولَم نكن نجرؤ أنا وعبد الرحمن على الذهاب لمنزله، إلا إنَّ عبد الله استطاع التسلل للمنزل الغريب ودخل إليه، وافتقدناه وبحثنا عنه، فخرج إلينا مِن البيت العجيب وفي يده ورقة ملفوفة ففتحناها فإذا بها كمية كبيرة مِن البراز!

    كان هذا الرجل فيما يبدو يعاني مِن الخوف من الظلام، ولا يقوى على الخروج ليلًا حتى لقضاء حاجته، فكان يقضيها في الورق داخل البيت، وفي الصباح يتخلص منها، وعندما كشف عبد الله أمره جاء لوالدي يبكي بكاءً شديدًا، ولم نعرف ما دار بينهما، لكنه أفادنا كثيرًا عندما نصح والدي بعمل غطاء (برزة) للبئر، فاسترحنا قليلًا مِن حراسة عبد الله حكومة.

    يبدو أن ذلك الرجل يعيش عزلة اختيارية وربما إجبارية فرضتْها عليه الفجوة التعليمية بينه وبين الناس مِن حوله، فهو لَم يخرج مِن بيته بعد المغرب مطلقًا، ولم يره أحد في الشارع بعد مغيب الشمس، وفي العيد لم يكن يتواجد، ويبدو أنه كان يسافر البلد لأهله.

    بعد عدة محاولات في خلوة شيخ الأمين بالقرب مِن يماني الشجرات (يمني الشدرات) في طرف الديم الشمالي، ثم خلوة شيخ زين العابدين رأت أمي أن ترسلنا لخلوة أكثر انضباطًا، وهذا لا يعني أن الخلوتين المذكورتين لا يتوفر فيهما الانضباط، وإنما كان مفهومها للانضباط مختلفًا، فهي تريد خلوة بعيدة عن البيت ولا يسهل (الزوغان) منها، ويكون فيها الجلد الشديد الحار؛ لأنها تعتقد أنَّ أطفالًا مثل عبد الرحمن وعبد الله في المستقبل يحتاجان (للعين الحمرة)، وكانت محقة تمامًا في ذلك.

    شيخ الأمين كان رجلًا ورعًا في منتهى الطيبة، وكان درويشًا لا تراه إلا وهو يرتل القرآن أو بعض الأهازيج التي لا نفهمها، ويبتسم ابتسامة مَن يراها يظنُّ أنه ساذج، ولَم يكن يملك إمكانيات أن يكون معه (شيخ فقرا) يسيطر على الأطفال، ولَم تكن خلوته بالاتساع المناسب أو الشكل المناسب، وكان كثيراً ما يعاني مِن استهزاء بعض الأطفال به فيبتسم لهم ماضيًا في سبيله.

    أما خلوة شيخ زين العابدين فقد كانت خلوة متكاملة فيها كل شيء، والدروس منتظمة، ولم تكن تبعد عن البيت إلا أمتارًا قليلة، إلا إنَّ أمي كانت تعتقد بضرورة أن نكون مهاجرين، يعنى نتعب لنصل للعلم، وقد كان والدها الفكي عبد الرحمن مِن شيوخ العلم في قبيلتها البني هلبة، لكنه هاجر إلى الحجاز (وجاور)، وانقطعت أخباره، وقد كان كثيرٌ مِن حفظة القرآن ومعلميه والشيوخ يهاجرون ويجاورون في مكة أو المدينة، وقد عايشت الجيل الثاني مِن أبنائهم عندما عشتُ لفترة بالمدينة المنورة للعمل بها ردحًا مِن الزمان، ولَم يقنعني أو يدل سلوك بعضهم أنَّ أباءَهم كانوا مجاورين حملة قرآن، غير أن جميع مَن في المدينة المنورة كانت ألسنتهم تلهج بفضل هؤلاء المهاجرين السودانيين ومِن تلاميذهم بعض الوزراء.

    في إحدى المرات التقيتُ بممرضة فلبينية مسلمة تقول إنَّ جدها اسمه (عبد البر)، وأنه مِن السودان، وأنه هاجر بدايات القرن العشرين هو ومجموعة من السودانيين إلى مينداناو، ونشروا الإسلام، وتزوَّجوا مِن أهل الجزيرة.

    كانت هناك أسرة بهذا الاسم في الديم في شمبات، واسم عبد البر لَم يكن واسع الانتشار، بل لم أسمع به إلا في الديم في شمبات، كما أنَّ هناك أكثر مِن أسرة في شمبات تذكر أنَّ لها ابنًا هاجر لجنوب شرق آسيا في نفس الفترة، وانقطعتْ أخباره.

    إن مفهوم العلم والهجرة إليه هو الذي دفع أمي للبحث عن خلوة نهاجر إليها جيئة وذهابًا؛ ليتحقق عندها مفهوم الإمام مالك ردًّا على الخليفة المنصور (إن العلم يُؤتَى ولا يأتي).

    في انتظاري لوالدي في ضل الضهرية ككل يوم جاء ومعه أشياء غير المخلاة، فقد رأيته يحمل لوحين مِن خشب أعطاني المخلاة، وكان اللوحان ثقيلا الوزن، فلَم يعطني إياهما، ودفع بهما إلى أمي.

    في عصرية ذلك اليوم، وبعد أن تغدَّينا طلبتْ أمي مِن عبد الرحمن أن يذهب لشراء صمغ مِن دكان عيسى، وطلبتْ مني أن (أخرت) بعض (السكن) أي السناج مِن صاج العواسة، ففعلتُ وأخرجتُ صحن الطلس الأبيض الصغير، وكانت لا تخرجه إلا لبعض المناسبات، وكما قالت لي مرة إنه أول صحن أكلا فيه مع أبي بعد الزواج، وهي تتفاءل (تتباخت) به، وتبدأ فيه كل شيء تطمع أن يُكلَّل بالنجاح، ثم تعيده فورًا لمكانه أسفل النملية.

    وضعتِ السكن في الصحن، ووضعتْ فيه الصمغ ونحن حولها نتابع ما تفعل، وهي تونسنا بطريقتها الجميلة المبتكرة، وسألتنا:

    - لما تكبروا بتسووا لي شنو؟

    فبادر عبد الرحمن:

    - حأشتغل سواق قطر عشان أودِّيك الحج بالقطر.

    وقفز عبد الله وكان فصيحًا ولما يتجاوز السنة والنصف، وقال لها:

    - أنا بشتغل سواق سفينة عشان أودِّيك الحج بالسفينة.

    وتعجبت كيف عرف أنَّ الحجاج يذهبون للحج بالسفينة، باعتبار أن عبد الرحمن كبير، ورأى القطار كثيرًا، بل كان مهووسًا بالقطار، ويعرف (السيمافور والتابليت وشنقل قوم)، لكن كيف عرف هذا الشيطان تفاصيل الرحلة؟!

    في الواقع كان شديد الذكاء، بل وذا ذاكرة فوتوغرافية يحفظ ما يسمعه على الفور ولا ينساه، وربما تلصَّص على ونسة الكبار العائدين مِن الحجاز حيث كان والدي يصطحبه لمثل تلك الزيارات عسى الله أن يهديه.

    التفتتْ إليَّ أمي:

    - وأنت بتسوي لي شنو؟

    قلتُ لها:

    - بشتغل سواق طيارة، وبودِّيك الحج بالطيارة.

    الشي الغريب أنَّ حج الطائرات لَم يكن معروفًا في ذلك الزمان المبكِّر في منتصف الخمسينيات، ولَم نكن نعرف كأطفال أنَّ الطائرات تُستخدَم للسفر، وكان الحج بالقطار ثم السفينة، وهي رحلة يبالغ بعض الحجاج في تضخيم أهوالها، وعن سمك القرش في بحر المالح وكيف التهم بعض الحجاج، ونصاب نحن بالكوابيس ليلًا مِن جراء تلك التهويلات الغريبة!

    كانوا يتحدثون كثيرًا عن بحر المالح الذي ليس له ساحل (الما ليهو قيف) كيف خطرتْ على بالي فكرة الحج بالطائرة؟! لا أدري، إلا إنني أوفيتُ بوعدي لها، غير أن هناك أمرًا لَم أستطع التخلُّص منه منذ تلك اللحظة وحتى الآن، وهو ولعي بأن أقود طائرة، وقبل سنوات قليلة طلبتُ مِن أحد الأخوة – ويعمل في دبي – أن يضعني على جهاز (السميوليتر) (المحاكي)؛ لعلِّي أطفئ هذا الظمأ للطيران.

    لَم أستطع إشباع رغبتي في ركوب الطائرة إلا بعد أن بدأتُ السفر بالطائرة، وكنتُ أجد في فترة الرحلة بالطائرة متعة غريبة، ولا أنام كما ينام المسافرون، بل أحرص على أن أجلس بجوار النافذة دائمًا، وأحدِّق في الأرض والأفق البعيد، وكانت أمتع تلك الرحلات عندما عبرتُ البحر الأبيض المتوسط في طريقي لمؤتمر في مونت كارلو، واستمتعتُ بمناظر الجزر الإيطالية الخلابة، فوقتها اجتمع لديَّ رؤية البحر الذي لا ساحل له مِن أعلى وركوب الطائرة.

    عجنتْ أمي الصمغ مع السكن، وصنعتْ منه كرات سوداء صغيرة، وحتى تلك اللحظة لا ندري ما تفعل، ثم رفعتْني على الراكوبة، وطلبتْ منِّي وضْع الكرات لتجف ففعلتُ.

    كان الصعود على الراكوبة متعة أخرى، حيث ترى البيوت المجاورة، وتشاغل أولاد وبنات الجيران، لكن المرة الأكثر متعة كانت يوم رفعني والدي على الراكوبة في الليل لأشاهد الألعاب النارية لأول مرة في حياتي، وكان ذلك عشية تكوين الحكومة الوطنية الأولى، وتكرر ذلك ليلة الاستقلال، وكانت الألعاب على ما يبدو على النيل أمام القصر، وكان منظرًا بديعًا لَم تعكِّره بنايات شاهقة أو إضاءة شديدة كما اليوم، وسألتُ والدي يومها عن السبب فقال لي:

    - عشان مِن الليلة السودانيين يحكموا نفسهم بنفسهم.

    لَم أفهم ولَم تكن تفرق عندي كثيرًا.

    وفي اليوم الثاني رفعتْني أمي على الراكوبة لأنزل الصمغ وقد يبس، وأحضرت زجاجتي ورنيش غسلتهما جيدًا، وكانت مِن الأواني الطفولية المعروفة زجاجة الورنيش تلك، وكان عليها رسم حيوان الكيوي، حيث كنَّا نستخدمها كدواية (دواة)، ومع الورنيش يأتي لماع الأحذية في علبة معدنية معروفة جدًّا لنا كأطفال، وكان عليها العَلم الياباني أو الكيوي، كنَّا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1