Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

انتقام الماهــــون
انتقام الماهــــون
انتقام الماهــــون
Ebook1,217 pages9 hours

انتقام الماهــــون

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

توعدت افراد قبيلة الماهون الناجين من المجزرة التي ارتكبها ملوك الممالك الاربعة (مملكة فليشر-مملكة جنزيل-مملكة اسوريا-مملكة انتبيان) بحقهم على الانتقام منهم ومن شعوبهم شر انتقام , أخذين بثأر اقربائهم الذين ماتوا حرقا او من تمزقت اشلائه بفعل سهام جنود الملوك متى ما تحققت نبوءة قديمة يؤمنون بها ... ان في زمن ما سيأتيهم مخلص من خارج اسوار القبيلة ينصفهم ويرفعهم نحو العزة والمكانة ويقتص من الذين سفكوا دمائهم بدون وجه حق يعينه على تأدية مهامه عرافا اسطوري من بينهم .وبعد عقود من الانتظار انبثق من بينهم شابا يدعى لوزيتو رافضا لعيش الذل والظلم كارها استسلام قبيلته للأساطير والخرافات، صاحب فكر ثوري انتقامي جديد ,ينص على ان المسؤولية تقع على كل فردا منهم لتغيير واقعه ثم النهوض بواقع قبيلته دون الانتظار لعطف الغرباء لتغيير حالهم .. تلك هي الطريقة الوحيدة بالنسبة اليه ليعيد بها هيبة قبيلته والاقتصاص من المجرمين الذين سفكوا دماء اجدادهم بالماضي .

 

فنزل من الجبل الذي اعتصم فيه ابناء جلدته قديما هربا من بطش الملوك مع مجموعة من شباب قبيلته نحو بلاط تلك الممالك ليغزوها سرا, بالصبر والعمل الجاد اخذوا يرتقوا بالمناصب يعينهم على نجاح مهمتهم ايضا مكرهم الشديد وحيلتهم الواسعة ,فاصبحوا كالعثة ينخرون عروش الملوك .. وتحقق اولى انتصاراتهم باعتلاء فردا منهم عرش مملكة انتبيان .

 

طريق انتقامهم لم يكن سهلا ولأجله اريقت المزيد من دمائهم، فقتل مؤسس فكرهم الجديد "لوزيتو" لتحمل شعلة ثأرهم ابنته "كلير"، التي ورثت عن ابيها مكره وسعه حيلته وذكائه وفطنته، فقررت ان تسكن في عاصمة مملكة فليشر، لتكون موطن لها ... موطن انطلاق الدسائس والمكر، لكنها اصطدمت بولي عهد فليشر "الامير ويليام"، الذي كان لتحركاتها بالمرصاد، لتبدأ بينهم حربا غير معلنة يتبارون فيها ايهم قادر على الاطاحة بالآخر.

 

وفي خضم هذا الصراع تتشابك اقدارهم وتتداخل طرقهم فيجدون أنفسهم متعاونين مع بعض في فض أكبر مشكلة صادفتهم وهددت حياة الطرفين ... الماهون وفليشر. لتضطرب احاسيسهم وتهتز اساسات انتقامهم، فتبدأ نفوسهم تهوى السلم بدل الحرب، وراحة البال بدل بركان الانتقام.. ويكونوا امام خيار جديد اخذ يتشكل امام اعينهم .. الا وهو البدء بصفحة جديدة مع حفيد قاتل اجدادهم بالأمس .

 

فهل ستتصافح ايديهم؟ وهل سيتركون طريق الانتقام؟ وهل يتمكن الحب والتسامح من محي الكره والحقد الذي عَمَرَ بداخل قلوبهم منذ عقود؟ 

Languageالعربية
Release dateMay 16, 2021
ISBN9798201205652
انتقام الماهــــون

Related to انتقام الماهــــون

Related ebooks

Reviews for انتقام الماهــــون

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    انتقام الماهــــون - سجى م. كاسب

    كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في هذا العالم

    -مهاتما غاندي 

    شكر وتقدير

    إلى أبوي العظيمين أكثر من أي شخص آخر، محمد وساجدة أبي حارس لي في السماء، وأمي منارة لي بالأرض، شكرًا ...

    الإهداء

    إلى كل الذين عانوا من صلابة أفكاري والتعنت بقراراتي وعنادي وبادلوه بالمحبة والاهتمام

    بقلوب امتلأت بالخوف والترقب اصطف شعب ويلر في باحة القصر أمام شرفة الخطاب صاغرين لأوامر القصر الذي طالبهم بالتجمع بأجساد تجمدت من البرد، وشلت كل حواسهم انشغالًا بآخر أوامر الرعب الملكية التي ستصدر قريبًا.

    لتطل عليهم من شرفة القصر الأميرة كلير (حفيدة الملك المفضلة)، وقفت بمفردها في الأعلى، وأخذت تفترس الجميع بنظراتها القاسية حتى أدخلت الرعب في قلوبهم، وبحركة رشيقة من يدها أخرج جدها الملك يُجر أمامهم يبعد عن أول الصفوف الواقفة بالأسفل أمتارًا قليلة؛ لتعلو الدهشة على الجميع.

    أخرجوه مكبلًا بالسلاسل مقتادًا من قِبَل رجلين موشحين بالسواد؛ ظلال سوداء تتحرك غطت الأقنعة وجوههم، أقنعة حمراء مخيفة تمنحهم منظرًا مرعبًا، ملكهم (الملك أنجين) ملك القسوة والظلم والاستبداد يُجر من قِبَل جماعة كانت تطلق على نفسها لقب رجال الظل ، أولئك الرجال الذين حاربوا الملك وأعلنوا التمرد على سلطته، وكل ذلك يجري تحت أنظار وتأييد تام من قِبَل محبوبته وحفيدته الغالية كلير.

    نظر الرجلان نحو الأعلى منتظريْن أوامرها، وبإيماءة من رأسها تم سحب الملك وصعدا به إلى أعلى القصر؛ ليتم رميه من هناك للأسفل؛ فأخذت صرخات الحشود تتعالى، وتكرر ذات المشهد ستَّ مرات أخرى، عندها طلبت منهم التوقف وأن يتم إحضار الآخرين.

    سافين، جاكر، وليامة، وعشرة آخرون من أغلظ وأقسى وأوفى حراس الملك، وحوش كان الملك يطلقهم لنهش أجساد رعيته. أوقفوهم مكبلين بالسلاسل أمام أشلاءٍ من الدم واللحم، كان قَبْل ساعة من الزمن ملكهم المفدى. أطلق سافين صرخة ملؤها السخط والألم وبدأ يوجه كلامه نحوها:

    كلير، أيتها الخبيثة الخائنة، لا تفرطي بفرحك، لن تهنئي بحكمك أبدًا، فمصير أمثالك معروف، لتحترقي بنيران ثأرك وغيظك أيتها،

    لكن سيف أحد رجال الظل كان أسرع من كلماته؛ لتتوالى ألحان السيوف على رقاب الآخرين راسمة لوحة عنوانها (الوفاء بين جلاد الأمس ورجاله) لآخر لحظة في حياتهم دامجة دماءهم العفنة مع بعضها البعض.

    بعدها تنفست الحشود، وأُطلقت الزفرات، وكأن بشاعة ما حدث قد أطبق على أنفاسهم وكتمتها، وبحالة من اختلاط المشاعر بين الخوف والفزع والفرح وعدم القدرة على التصديق بانتهاء عهد الطاغوت ورجاله متناسين ظهور العهد الجديد الذي يحدق بهم بعمق من أعلى شرفات القصر؛ عندها خطبت بهم بكلمات قليلة زلزلت طمأنينة نفوسهم الفتية مشعلة الرعب في قلوبهم:

    أنا كلير، كلير بنت لوزيتو، كلير بنت ثعلب الجبل، أنا من الماهون، وهؤلاء هم قبيلتي (مشيرة بيدها نحو رجال الظل الذين أخذوا يتوافدون بأعداد كثيرة في الباحة، وأيضًا للذين أخذوا بالظهور في الشرفة: وجوه معروفة لدى الشعب، كانوا من رجال الملك السابق ومن الأركان الأساسية للمملكة أو هكذا خدعوا الجميع).

    صمتت لفترة جاعلة شعبها يتجرع كمية السم التي تصل لمسامعهم وأكملت قولها: أنا أسوأ كوابيسكم، وأنتم الآنَ جميعًا تحت رحمتي.

    الماهون- القبيلة الوضيعة

    إن انتابك الفضول حول هذه القبيلة لمعرفة من هم؟ وكيف يعيشون؟ وكم عدد أفرادها؟ - فستقع في حيرة من أمرك لتصديق حقيقتهم: فإن توجهت بسؤالك عنهم لأحد شعوب الممالك الأربعة (مملكة فليشر، أو مملكة جنزيل، أو مملكة أسوريا، أو مملكة أنتبيان) فسيكون جوابهم موحد وهو:

    هم شرذمة قليلة من البشر مشعوذون عيونهم تنضح بقسوة حادة، بمجرد أن تقع أنظارهم عليك سيسرقون روحك وتكون أسيرًا لأعمالهم الشريرة، هم ببساطة أناس سيئون متى ما وقعت يدك على أحد منهم فأحرقْه كي تسدي للبشرية معروفًا

    أما إذا سألت أحد أفراد قبيلة الماهون سيرد عليك بجملة واحدة:

    نحن ضحايا الملوك، لا يتقبلونا في ممالكهم لأننا مميزون، وأوهموا شعوبهم بأننا سيئون

    أما إذا أردت الحقيقة، فاسمح لي أن أوضِّح لك ماهيتهم، وأستميحك عذرًا للإطالة لأن عليّ أن أذكر لحظة وجودهم من مئات السنين.

    تبدأ قصة وجودهم بحضور عشرة عوائل من الماهون نزحت من مملكة قديمة (اندثرت الآنَ ولم يعد لها أثر) هربًا من الوباء الذي حل بمملكتهم، واستقروا ليعيشوا عند حدود الممالك الأربعة، عُرفوا بأجسادهم الضخمة وقوة بنيتهم، يتكلمون لغة خاصة بهم، ويتزاوجون بينهم فقط، ولا يختلطون مع الآخرين، يتمتعون ببعض الصفات الفريدة عن بني البشر: كقوة السمع لدى البعض، والنظر الحادِّ لدى بعضهم الآخر، والقلة الفريدة منهم كانت تتمتع بالقدرة على رؤية المستقبل والتكهن بأحداثه؛ من يملك هذه الميزة يحظى بمكانة رفيعة وينصَّب كعراف للقبيلة وتكون لكلمته وقع مؤثر في نفوسهم. فإذا أردت أن أصف لكم رجالهم بالعموم فيكون كالتالي:

    رجال ضخام البنية، مفتولو الجسم بطول يقارب المترين، ذووا شعر طويل وكثيف يصل إلى ما تحت الأكتاف بقليل، بملامح حادة وبعيون كعيون الصقر بشراستها وقوتها، لون عيونهم عادة ما تكون بين الأسود والبني وما يشتق من هذين اللونين، ونادرًا ما تكون؛ زرقاء زرقة العينين تجلب لصاحبها العار طوال سنين حياته بسبب وجود اعتقاد سائد بينهم أن من تلونت عينيه بلون البحر يكون مصيره الموت غرقًا، وحسب تقاليدهم تلك الميتة هي ميتة العار والخزي، ببشرة سمراء لتعرضها الدائم لأشعة الشمس؛ فرجالهم لا يحبون العيش تحت السقف يقضون نهارًا وليلهم بالعراء، نادرًا ما يبيتون داخل بيوتهم، فرسان من الدرجة الأولى يعشقون الخيل، وترويض الخيول البرية هو شغفهم. ربما لو عاش الرجل منهم في ظروف أفضل وأكثر رفاهية لاعتُبروا من أوسم الرجال على وجه البرية.

    أما نسائهم بالمجمل فهن ذات بشرة بيضاء شاحبة، فارعات الطول نحيفات، يتشاركن مع الرجال بنفس صفات العيون، لا يختلفن عن رجال قبيلتهم بولعهم بالخيل، ماهرات بركوبها، يمتزن بضفائرهن الطويلة المتدلية وراء ظهورهن، يصعب وصفهن بالجميلات؛ لكن قوة شخصيتهن وحنكتهن تضفي عليهن هالة من الجمال غير المفسر، يقع على عاتقهن تربية الأبناء وتنشئتهم بعيدًا عن الأب المتحرر من أعباء مسؤولية تربية أطفاله؛ لكن بالرغم من ذلك كله نظامهم القبلي يقدِّس الرجل ويُجِلُّه، ويقلل من قيمة المرأة؛ فبالنسبة لقبيلة الماهون الرجال هم وتد القبيلة، والنساء لا تعدو أكثر من ورقه في غصنٍ مائل.

    بالرغم من مظهرهم الخارجي الموحي لهم بالقوة والقسوة فإنهم مجموعة من الأشخاص المسالمين. منطوين على أنفسهم، لا يختلطون بجيرانهم من أفراد الشعوب المجاورين لهم إلّا عند الحاجة للمبادلات التجارية، فكانوا يعيشون على تربية الخيل ومقايضتها بما يحتاجونه من مستلزمات الحياة.

    الانطوائية والعزلة في اختيار أسلوب معيشتهم ترتَّبَ عليهم فيما بعد نتائج وخيمة، دفعوا بسببها دماءهم والكثير من الآلام والمآسي لعقود من الزمن.

    جيرانهم من الشعوب الأصليين أخذوا يتوجسون وتنتابهم الريبة من أسلوب حياة مَن تطفلوا بالسكن قربهم؛ ليزداد قلقهم أكثر وأكثر بمرور الزمن وبالفضول القاتل لدى البعض منهم لمعرفة من هؤلاء! وكيف يعيشون! ولعدم وجود ما يطفئ هذا الفضول وسذاجة الماهون الأوائل بعدم الرغبة بتغير نمط حياتهم والاختلاط مع الغير - نتج عنه عدة حكايات مخيفة وشائعات ملفقة عنهم وعن حياتهم المجهولة، لكن جودة الخيول التي يقومون بتربيتها كانت كفيلة باستمرار التبادل التجاري مع بعضهم البعض إلى أن جاء اليوم المشؤوم.

    في صبيحة يوم غائم استيقظت قرية الناروس (وهي قرية حدودية تقع ضمن حدود مملكة فليشر، تفصلها عن مملكة أسوريا الجبال الممتدة على طول حدود المملكتين) على فاجعة لم يسبق أن حدثت في قريتهم؛ حيث عُثر على فتاة صغيرة مقتولة وقد اُعتُديَ عليها، كانت ذاهبة للبحيرة لملء دلوها بالماء ليُعثر عليها لاحقًا ممزقة الثياب مهشمة الرأس بقطعة من الحجر وُجدت بالقرب من جثمانها، أصداء هذه الجريمة امتدت لتطال القرى القريبة منها على امتداد حدود المملكتين.

    حاكم تلك القرية وجد نفسه بين ليلة وضحاها واقعًا تحت وابل من الضغوط والمطالب من قِبَل أهالي القرية والقرى المجاورة بالعثور على الجاني ومحاسبته على جريمته الشنيعة، ولخوفه من أن يفقد منصبه - بعد أن آلت جميع محاولاته للكشف عن الجاني بالفشل، وما زاد من تعقيد الأمور وصول أخبار تلك الجريمة للبلاط الملكي، والذي أخذ بدوره يضغط عليه للإمساك بالمجرم وتسليمه للقصر ليتم إعدامه بالعاصمة ليكون عبره للجميع- لم يجد سوى اتهام أحد أبناء الماهون بالجريمة ظلمًا وزورًا مستفيدًا ممّا يقال عنهم.

    وبالفعل تم تنفيذ الحكم بالشاب المسكين الذي لم يستطيع أن يدرأ التهمة عن نفسه أمام القصة المحبوكة من قِبَل الحاكم ورجاله، وانطلاقًا من هذه الحادثة بدأت معاناة الماهون مع الحكام، لم تنفعهم طرق معيشتهم المنعزلة عن جيرانهم من البشر من إيقاف سيل التهم والجرائم المنسوبة إليهم، متى ما فشل الحكام بالقبض على الجناة الحقيقيين أصبحوا يمثلون لهم أضاحي بشرية يتم الاستغناء عنها متى ما استلزم الأمر لذلك، ناقلين بذلك صورة زائفة مخيفة عن أشخاص تعشق القتل والإجرام مولعين بالسحر والشعوذة، حتى ترسَّخت تلك الفكرة بأذهان الجميع بمن فيهم الملوك على امتداد الأعوام.

    وبدورهم كان أفراد الماهون عديمي الحيلة غرباء في أرض أجنبية، التجأوا إليها هربًا من الموت ليجدوا الموت قد شرع أبوابه لاستقبالهم، مستسلمين للقَدر وصاغرين له على أملٍ بحياة أفضل في قادم الأيام.

    الملك داميل فليشر والمشعوذ ماني

    استلم الملك داميل مقاليد الحكم بعد وفاة أبيه الملك، داميل كان شابًّا في عقده الثالث طَموح يحلم بتوسيع حدود مملكته وتقويتها، كان يتميز عن سابقيه من آبائه الملوك بالدهاء والمكر والقسوة، لا يعرف الرحمة تجاه مَن يعاديه عُرف بمقولةٍ كان يرددها باستمرار:

    اذا ما خرجت إحدى أغصان شجرة عن طاعتي، فأنا على استعداد لاقتلاع تلك الشجرة من جذورها دون الشعور بذرة من الأسى على فروعها الباقية

    وبهذه العقلية توسعت مملكة فليشر وضمَّت إليها العديد من الأراضي، وأصبحت من أقوى الممالك على وجه الأرض بتلك الحقبة.

    في اليوم الذي استلم فيه الملك داميل الحكم وُلد في قبيلة الماهون "ماني"، استبشرت الماهون بقدومه بسبب ما سبق ولادته من علاماتٍ فُسِّرت بأن المولود القادم سيكون ذا شأن في قادم الأيام؛ ولم يخيِّب ماني التوقعات: كان مميزًا مختلفًا عن جميع أفراد قبيلته كنجمة فريدة تظهر في رحاب سمائنا كل مائة سنة، ومن أكبر ميزاته التي لم يحدث أن تمتع بها فرد من أفراد الماهون من السابقين والحاليين هو تواصله مع الموتى، كان يمثل منبرًا للتخاطب مع الأرواح المعذبة ولديه القدرة على ترويحها من آلامها، وعرف أيضًا بذكائه وفطنته؛ كل تلك المميزات خولته أن يكون عرَّاف القبيلة بعمر صغير، وشعرت الماهون أن أيام الظلم والاستبداد شارفت على نهايتها بسبب نبوءة قديمة كانوا يؤمنون بها تقول:

    يظهر رجل النمر، ويقودهم نحو النور والسيادة في زمن يتواجد بينهم عرَّاف ذو إمكانيات خارقة

    رجل النمر هو رجل غريب لا ينتمي للماهون، يتميز بصفات معينة تُكسبه ود أفراد القبيلة فيطيعونه ويكونون جميعهم مستعدين للتضحية بدمائهم من أجل حمايته، وبدوره يقودهم نحو السيادة والمقام الرفيع أمام بني البشر، عرَّاف القبيلة هو الوحيد الذي يميز رجل النمر بعد أن يقرأ العلامات التي تنطبق عليه من عدمها، وبدوره يبشِّر أفراد قبيلته بحضور زمن رجل النمر، زمن العلو والجاه.

    كان متعارفًا لديهم أن يقوم عرَّاف القبيلة بإطلاق أسماء الحيوانات على المواليد الجدد نتيجة رؤية تراءت له لهذا الطفل؛ حيث يتميز صاحبها بصفات هذا الحيوان، فمثلًا: مَن يتميز بالمكر يُطلق عليه لقب الثعلب، ومَن يتميز بحدة البصر يُطلق عليه النسر، إلخ، وتنقش رسمة الحيوان مع بعض التعاويذ على قطعة صغيرة من الخشب وتعلق برقبة الطفل، ويمكن أن يتشارك أكثر من طفل بنفس صفة الحيوان ماعدا النمر؛ فهذا خاص للرجل الغريب التي ستنطبق عليه النبوءة يومًا من الأيام مهما طال الوقت. أما بخصوص ماني فنُقِش على قلادته رمز البرق، وكان ذلك سابقة لم تحدث من قبل، ويعود السبب في ذلك للرؤية التي تكرّرت في منام عرَّاف القبيلة لثلاثة أيام؛ الرؤية تخص الرضيع ماني إلّا وهي: برق عظيم يضرب شجرة كبيرة لتشتعل الشجرة بنيران هائلة لا يمكن إخمادها، وعليها اعتمدت كتعويذة له.

    كبر ماني وأصبح شابًا ذا تسعة عشر ربيعًا، طويل القامة نحيلًا خلافًا لقومه، له عينان رماديتان ذواتا نظرات ثاقبة وشعر فاحِمٍ منسدل على كتفيه، كان يتنقل بين القرى على الرغم من معارضة قومه خوفًا عليه من مكائد ودسائس رجال المملكة، فإنّه كان يصدهم ويردد:

    متى ما نادتني الأرواح وجَبَ عليّ أن أُلبِّي نداءها، وإلا حدث مكروه بين أناس أحبهم، كل هِبَةٍ يترتب عليها مسؤوليات وعواقب

    لهذا كان يتنقل من قرية إلى أخرى بملابس بالية أشبه بالشحاذ، كان يحدِّث القرويين بما يستشعر به وبما يراه من أحداث مستقبلية غير آبهٍ بما قد يترتب عليه لاحقًا كون قوانين المملكة كانت صارمة تجاه من يمارس الشعوذة والسحر، وعقوبتها كانت الموت حرقًا، وبشكل طوعي عمل كمحقق لقدرته على الكشف عن منفذي جرائم عجَزَ رجال المملكة عن حلها مستفيدًا من هبته بالتواصل مع الأرواح المعذبة التي ترشده للأشخاص الذين قتلوهم، وبفطنته يثبت الجرم عليهم بالدلائل التي يتوصل إليها؛ لكن ذلك لم يعجب البعض خصوصًا من أهالي المجرمين الذين شاهدوا أبناءهم يُشنقون، فأخذوا بعمليات تصعيد واتهامات لماني بالشعوذة والسحر إلى أن وصل الخبر للقصر؛ عندها طلب الملك داميل من رجاله أن يُجلب ماني إليه لمحاكمته بتهمة ممارسة السحر في مملكته.

    أُحضر للقصر، وكان ماني وقتها قد دق مسماره العشرين في سلم عمره؛ لكن منطقه وكلامه يوحي لك بأكبر من سنه غير خائف من المثول بين يدي ملك عُرف ببطشه وقسوته، نحافة جسمه منعته من أن يقاوم الحارسيْن من إذلاله وجرِّه على امتداد قاعة ضخمة مزينة بالتحف والتماثيل المذهبة، انبهر الماهوني الشاب مما تصوره له عيناه، وأخذ يجول بنظره في أرجاء المكان غير مكترثٍ بما سيؤول إليه مصيره، ولا بالملك الجالس على عرش ضخم ينظر إليه بصمت وقد أعجبته شجاعة الشاب الماثل أمامه، فدارت بينهما محاورة صغيرة:

    - هل أعجبك المكان؟ هل تحلم في العيش فيه؟

    - لن أُخفي على جلالتك أنه مكان جميل ومهيب لكني أعشق البراري، رد عليه بكل هدوء.

    بعد فاصل من تبادل النظرات بينهما أخفض الملك بصره منشغلًا بتأمل أصابع كفه الأيمن، وبهدوء قال:

    - أخبروني أنك مشعوذ وأن لك القدرة على سلب أرواح الناس لتستخدمها في أعمالك الدنيئة.

    - ألم يسأم رجال الملك من ترديد ذات الكلام؟ منذ واقعة الناروس حتى اليوم كل شيء من حولنا تغير إلا اتهاماتهم لنا ما زالت باقية راسخة، فها هي المملكة توسعت أراضيها، وأصبحت أكثر قتامة بعد أن تشربت بدماء مَن كانوا عليها، صحيح أنهم أُزيلوا من مساكنهم عدوانًا وجورًا إلّا أن دماءهم بقيت معانقة أراضيهم شاهدة على بشاعة وأطماع الملوك.

    لم يعتد ملك فليشر على محاججته فردًا من العامة، فما بالك بشخص حقير من الماهون، فغضب، لكنه حافظ على هدوئه فرد عليه والكلمات تُطحن من تحت أسنانه:

    - كيف تجرؤ على الرد على بهذه الوقاحة؟

    - الحقيقة دومًا جارحة، نصيحتي لك أيُّها الملك: لا توسِّع أراضي مملكتك على دماء الأبرياء كي لا يدفع أحفادك الثمن غاليًا في المستقبل.

    كاد ينفجر العرق البارز بجبينه من شدة الغضب فصاح به:

    - أتهددني؟

    - من أكون لأهدِّد الملك، أنا فرد من الماهون لاحول لي ولا قوة.

    نهض الملك من كرسيه، وتوجه صوبه واضعًا يده اليمنى على كتف ماني الأيسر قابضًا بقوة على عظامه الناتئة ساحبًا إيّاه إليه بعنف ثم أردف يسأله:

    - أخبروني أنك تحل جرائم يعجز رجالي الحمقى على حلها، كيف تفعل ذلك؟

    - الأرواح المعذبة ترشدني لقاتليها، وأنا بدوري أساهم في إثبات جرمهم بالدلائل التي لا تقبل النقض.

    أفلت قبضته، وتراجع للخلف بضع خطوات محدقًا به وهو يقول:

    - الموتى يساعدونك! وتغضب من العامة لوصفهم إياكم بمشعوذين وسحرة.

    - أنا لست مشعوذًا، وكذلك قبيلتي، إنها هبة أمتاز بها عن غيري وأسخرها لإراحة الموتى، أنا لا أطلب أجرًا عما أقوم به ولا أتربَّح من خلالها، لا أفهم لم البعض مستاء مني!

    - أجل أنت تقوم بعمل صالح، أُقرُّ لك بذلك. قالها بنبرة سخرية وأكمل:

    - ماني أنت شاب ذكي؛ لذا سأشركك بعملية حسابية: أيهما له تأثير أكثر على مملكتي وثبات عرشي، أن أتجاهل غضب العوائل التي تسببتُ بموت أبنائها ومنها عوائل عريقة متنفذة بكل أقطار مملكتي، أم أمحو قبيلة صغيرة متطفلة على أراضي مملكتي؟

    عندها ركع ماني عند قدمي الملك متوسلًا يطلب الرحمة لقومه، وأن يكتفي بالقصاص منه وحده. فتبسم الملك داميل من موقف الضعف الذي حلَّ بالماهوني أخيرًا وقال له:

    - ما العمل يا صديقي، أنا لا أقطع الغصن الملتوي فقط بل الشجرة بأكملها، هيه، يفترض أن تعرف ذلك، أنت الذي تتكهن بالأحداث المستقبلية.

    وبحركة من يد الملك أخذ الحراس يسحبونه خارج القاعة وهو يصرخ بصوت عالٍ:

    - شجرتنا قوية وأساسها متين، قد تتمكن من قطع العديد من أغصانها؛ لكنك أبدًا لن تتمكن من اقتلاعها من جذورها، لا أنت ولا الملوك الذين سيرثون عرش مملكتك، وأكمل كلامه:

    - وأحذرك أنك ترتكب جريمة ستدفع ثمنها أنت والممالك الثلاثة المحيطة بك.

    أوقفوه. صاح بالحرس وقد أغضبه تهديده له.

    - ماذا قلت؟ كرر لمسامعي ما قلته للتو.

    - الشجرة التي تقطع فروعها تنبت لها فروع أقوى من سابقتها.

    عندها استشاط غضبًا صافعًا إياه صفعة أوقعته أرضًا.

    - يؤسفني أنك لا تقدِّر قيمتي، لكن رجل النمر سيقدرها بالمستقبل. قالها ماني ووجهه على الأرض ينزف دمًا.

    - رجل النمر؟ من يكون هذا أيضًا؟ ثم كيف يقدِّرها وأنت ميت؟

    - أنا سأكون ميتًا، لكن خليفتي سيكون حيًّا في زمن رجل النمر، ودعني أخبرك أنه سيكون أفضل مني بمراحل

    ضحك الملك بصوت عالٍ، ثم نظر إليه وقال:

    - لا أرغب بإحباط رجل ميت؛ لكني سأحرص بنفسي ألا يكون لديك خليفة، كن واثقًا أنني سأقوم بتصفية قبيلتك بالكامل.

    - أنا أشفق على جلالة الملك لقلة تدبيره، هذا خليفتي إنه هنا حاضر معنا، أستطيع رؤيته، إنه يتوهج في قاعة قصرك كالقمر في ظلمة الليل، وأطلب منه أن يلتمس لك العذر، فمجد قبيلتنا لابد أن تُسكب لأجله الدماء.

    صرخ الملك بالحراس

    - خذوه من أمامي، لقد جُنَّ تمامًا.

    وفي فجر اليوم الثاني أصدر الحكم بإعدام ماني حرقًا؛ حيث أمر الملك أن يتم تقيده عند الشجرة الكبيرة في أعلى التلة الواقعة في أطراف العاصمة، وأن تُضرم بها النيران كي يشاهد الجميع نهاية المشعوذين والسحرة. أحاط الشعب بالتلة من كل جوانبها وهم يراقبون الشاب وقد بدأت النيران تلتهم جسده وهو يصرخ بأعلى صوته، لم يكن يطلب الصفح والرحمة لنفسه إنما كان يقول:

    ألتمس له العذر، مجدنا قادم على يديك، التضحيات لا بد منها.

    لم تخمد النيران ولم يتمكنوا من إطفائها، واستمرت مشتعلة، وساعد على استمرار لهيبها البرقُ الذي أخذ بضرب الشجرة بشكل متواصل لثلاثة أيام. وما إن حلّ فجر اليوم الرابع حتى خمدت النيران وانطفأت من تلقاء نفسها.

    ومن يومها اعتبرت التلة والشجرة التي صمدت بوجه النيران (والتي أصبحت مجرد شجرة متفحمة ذات أغصان عارية سوداء) مكانَ نحسمسحور لا يقترب منه أحد.

    جبل الموت ملاذنا

    في الوقت الذي كانت فيها النيران مستعرة في أعلى التلة أحاط ما يزيد عن مائة جندي مسلح بمساكن الماهون التي يقطن بداخلها رجال ونساء وأطفال لا يتعدى عددهم الستين في مملكة فليشر، وضعف عددهم مبعثرين هنا وهناك على حدود الممالك الثلاثة الأخرى، قبل أن يصل ماني للقصر أمر الملك بشكل سري أحد قادته المخلصين أن يترأس حملة عسكرية لتصفية جميع أفراد تلك القبيلة، واليوم عند أول خيط للفجر وقف الجنود متأهبين لحصد أرواح لم تفق من نومها بعد؛ فالملك قد سئم كثرة الرسائل التي يرسلها حاكم قرية الناروس الجديد الذي يطلب من الملك أن يأذن له بطردهم خارج حدود المملكة؛ حيث جاء بنص رسالته الأخيرة ما يأتي:

    "سيدي ومولاي الملك داميل،

    بعد أن نلتُ شرف خدمتكم كحاكم لقرية الناروس الحدودية، وبعد اطلاعي على الأوراق التي خلَّفها الحاكم السابق طوال فترة حكمه فيما يتعلق بشؤون إدارة القرية وتنظيم أمورها والمشاكل التي واجهها قبل أن يسرقه الموت منا ويغادر هذه الحياة - تبين لي أن أغلب المشاكل والجرائم التي تحدث هنا يرجع إلى وجود شرذمة شريرة من البشر اندست بيننا جاءت عبر الحدود، وقابلت طيبة قلوبنا بالإجحاف والكره، وارتكبت بحق شعبنا الوديع مختلف الجرائم البشعة؛ لذلك إن أذنت لي أرغب بطردهم خارج حدود مملكتكم العظيمة ليعودوا لأوطانهم التي لفظتهم علينا، ونريح شعبنا من أيّ أذىً قد يأتي من قِبَلهم.

    بانتظار جوابكم على رسائلي

    خادمكم الوفي المخلص"

    كان الملك داميل يخشى إن قام بطرد الماهون خارج أراضيه أن ينزحوا نحو إحدى الممالك المجاورة لمملكته ويستوطنوها، قد يسبب ذلك نوعًا من النزاع والصراع السياسي بينه وبين تلك المملكة المحتضنة لهم بالإكراه؛ حيث اتسمت طبيعة العلاقات بينه وبين الممالك الثلاثة بالعدائية بعد أن استولى بالقوة على بعض الأراضي التابعة لهم وضمها لحدود مملكته، ولخوفه من أن يجد نفسه في حرب ضدهم؛ لأنه من الوارد جدًّا أن يتحالفوا فيما بينهم لمحاربته بعد أن جمعتهم المصلحة الواحدة وهي استرجاع أراضيهم المسلوبة، وقد يستخدمون توغل الماهون ذريعة لبدء تلك الحرب الضروس؛ لذا قرر إرسال الجند للقضاء عليهم وإبادتهم، فبالنسبة إليه تصفية أولئك الغرباء أفضل من خوض بلاده بمعمعة حروب تهدد أمن عرشه وسلامته.

    لم يكن أفراد الماهون قد استيقظوا بعد لتنهال عليهم السهام المشتعلة من كل جانب مخترقة أكواخهم وحارقة أبدانهم لتتعالى صرخات النساء والأطفال التي دمجت مع أصوات قرقعة النيران، وأي شخص يحالفه الحظ ويخرج من جحيم منزله تستقبله سهام الرماة الواقفة لهم بالمرصاد، ومع هذا كله تمكنت جماعة قليلة منهم من الفرار من قبضة جيش الملك، فروا هاربين للجبل القريب من قريتهم. حيث كانت صخوره وكهوفه أحنَّ وأرقَّ من بني البشر عليهم.

    كان يطلق على الجبل الذي اختبؤوا فيه جبل الموت. جبل شاهق الارتفاع في حالة عشق دائم مع السحب يحتضنها بشغف على الدوام، ويتخلل الجبلَ شَق هائل ممتد من قمته نزولًا لأسفل قاعدته قاسمًا الجبل بذلك لقسمين: القسم الأيمن وهو الأكبر كان يتميز بأشجاره العالية والمتراصة فيما بينها فارضًا الظلمة على المنطقة مانعًا أشعة الشمس من الوصول لتقبيل الأرض، أمّا الجانب الأيسر فكان أجرد من النباتات يتميز بصخوره الكبيرة الناتئة والحادة نتيجة لعوامل الطقس التي داعبتها على مر السنين جاعلة حوافها حادة كحدة السكين لتحمي نفسها من أيّ تدنيس يطؤها من قبل أيّ كائن حي، أما بالنسبة إلى الشق فلم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من مدخله عند أسفل الجبل؛ فعلى بعد عشرات الأمتار يصل إلى مسامعك أصوات فحيح الأفاعي التي تسكنه، حيث توزعت المئات من الأفاعي السامة التي تنظر إليك بكل تحدٍّ إن فكرت بالاقتراب من جنتها.

    تُركوا هناك ليعانوا من آلام الحرق والجوع والبرد، فالذين غاروا عليهم فجرًا لم يتكبّدوا عناء مطاردتهم داخل الجبل كونهم كانوا متيقنين أنهم سيلاقون مصير الفناء لكن بشكل أبطأ وأكثر مأساوية، ولم يكن أفراد الماهون في الممالك الثلاثة أوفر حظًّا من أقرانهم في فليشر؛ فهم أيضًا تعرضوا للمطاردة والاعتقالات والقتل بعد أن استخدمهم الملك داميل ذريعة ليُغِير على أراضي جيرانه بحجة إيوائهم لمجرمين هاربين من مملكته؛ وعليه، أمر الملوك الثلاثة (جنزيل وأسوريا وأنتبيان) بتصفيتهم ليقطعوا الطريق عليه ويوقفون زحف جيشه الذي دنا من حدودهم، وأرسلوا إليه رسلًا تخبره بتصفيتهم للماهون، وأنّ أراضيهم تحررت من الغرباء المجرمين.

    لأجل مصالح سياسية للحكام والملوك أُبيدت عوائل الماهون المسالمة الساذجة، كان كل تطلعاتها هو أن تعيش حياتها البسيطة محافظة على تقاليدها وعاداتها بعيدة عن المحيطين بها.

    مضى أكثر من عقد على حرق ماني وإبادة عشيرته، كانت العامة من شعب فليشر لا تزال تذكر قبيلته، تلك القبيلة وأطباعها، ليست لأنهم قد شوهدوا فيما بينهم في الطرقات والأسواق (فهم اختفوا تمامًا وأيقن الشعب بموتهم) لكن الأحداث الغربية التي وقعت بعد تصفيتهم هي التي جعلت اسم الماهون يترسّخ في أذهانهم بصورة لا يمكن محوها، وأخذت تلك الشائعات والأخبار القديمة عنهم تلقى موطن الصدق في نفوسهم باعتبارهم أشخاصًا كانوا بالفعل يتعاطون السحر والشعوذة، حيث آمن الجميع بفكرة أن التلة التي كانت منصة إعدام ذلك الماهوني قد تحولت لمكان ملعون، والشجرة التي رُبط بها هي أيضًا كذلك، وتأكد الأمر بالنسبة إليهم ولم يعد قابلًا للنقض بعد الإصابة التي تعرض لها الملك داميل؛ حيث شُلت يده بعد ما حاول أن يقتلع الشجرة بنفسه ليُخرس الألسن التي تتحدث بوجود لعنة فيها، وباءت محاولات أطباء القصر لعلاجه بالفشل الذريع؛ وبذلك تُركت التلة على ما عليها وهُجرت. أمّا جبل الموت فما زال المارُّون بالقرب منه يسمعون في الليل صراخًا مستمرًّا لأشخاص يتأوهون من الألم، وشيئًا فشيئًا أصبح جبل الموت مكانًا يحيطه الخوف والفزع، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه كي لا يزعج الأرواح المتألمة التي تسكنه.

    وفي يوم من الأيام كان ولي العهد (الأمير وليام الأول ابن الملك داميل) في رحلة صيد مع باقي أمراء العائلة وحاشياتهم، فضلَّ طريقه عنهم بعد أن جرى بخيله بعيدًا عن موكبه نحو غزال كان مارًّا بالقرب منه ليتوغل عميقًا داخل الغابة. وما إن تمكن من اقتناص طريدته حتى لاحظ ابتعاده عن ركبه؛ فأخذ يجول بالغابة محاولًا الخروج منها لكن من دون جدوى، وكأن الغابة قد أطبقت عليه وأغلقت أبوابها بوجه الأمير، أضناه التعب والعطش، وأخذ المساء يستأذن النهار بالحلول محله.

    ترجَّل الأمير من خيله ودار حول المكان يستطلعه مجددًا، تسلق إحدى الاشجار في محاولة منه لاستبيان الطريق من الأعلى لكن من دون جدوى؛ كثافة أغصان الأشجار حالت دون التوصل لشيء، أخذ الخوف يتسلل لقلبه، لم يكن خائفًا على نفسه؛ لكن خوفه الأكبر بما سيحل بحاشيته من قِبَل أبيه إن فشل في العودة إليهم أو أصابه مكروهٌ ما، فقد كان الابن الوحيد لأبيه وأمل مملكة فليشر واستمرار بقائها، فكل إخوته الذين سبقوه لم يكملوا عامهم الثالث إلّا وكان القبر ملجًا لهم، إلى أن رُزقَ به بعد مضي أكثر من خمسة عشر عامًا على زواج والديه؛ لذا كان أبوه يفْرِط في حمايته حبًّا له وحرصًا على استمرار وجود مملكة فليشر بين الممالك. كان الأمير في نهاية عقده الثاني شابًّا متواضعًا ومحبوبًا من الجميع وذا قلب ممتلئٍ بالطيبة على النقيض كليًّا من والده الملك داميل.

    جلس على جذع شجرة وألقى برأسه بين يديه، وأخذت الأفكار السوداء تخيم على تفكيره؛ حتى وإن كان فارسًا ومقدامًا فلا يمكن أن ينجو من هجمات الوحوش التي ستخرج من مخابئها ليلًا، عندها شعر بيدٍ تربِّت على كتفه، رفع رأسه ليفزع بما رأته عيناه:

    امرأة ضريرة مشوهة الوجه أصابع يدها اليسرى (أو ما تبقى منها) كانت ملتصقة مع بعضها ومشوهةً بالكامل، ترتدي ملابس بالية: عبارة عن فستان رمادي يصل إلى أقدامها خفة خامته لا تلائم برودة الطقس الحالي، طويلة ونحيلة بشكل برزت معه عظام وجهها، شعرها الأحمر أو بعض خصلات الشعر المحظوظة التي لم تزل تنمو كانت مصففة على شكل ضفيرة رفيعة طويلة تداعب ظهرها، بسبب التشوه التي تعاني منه كان يصعب على الفرد تحديد عمرها.

    جفل الأمير فقفز واقفًا، وتراجع بخطوات للوراء، واستل سيفه وشهره أمامها، وقبل أن ينطق تكلمت هي:

    - اسمي مندي أيُّها الأمير. آسفة لأني أفزعتك. أعرف أن شكلي مخيف، كما أعرف أنك ضللت طريقك، إن سمحت لي سأرشدك لمكان حاشيتك، اتبعني.

    وبعد برهة من الزمن استعاد الأمير شجاعته المعهودة وردَّ عليها

    - كيف عرفتِ من أكون وأنتِ؟، صمت خجلًا

    - ضريرة! ابتسمت وأردفت قائلة:

    - أنا ضريرة لكني أتمتع بحاسة سمع قوية، سمعت حاشيتك ينادون عليك هناك في اتجاه الشرق من المكان الذي تقف فيه، ليسوا بعيدين من هنا. اتبعني من فضلك. وأخذت تسير متلمسة طريقها تسلكه بكل سهولة وكأنها تتمتع بحاسة البصر.

    تبعها الأمير بتوجس ولم يقم بغمد سيفه، لكنه خفضه لجنبه.

    - هل تعيشين بالقرب من هنا؟ لم أسمع وقع أقدامك تقترب مني؛ لذلك جفلتُ.

    - أجل، أعيش في مكان ما هنا، وجسم نحيل كجسمي يستحيل أن يصدر صوتًا وهو يسير. وأخذت تضحك.

    وبعد مدة قصيرة توقفت عن سيرها، وأشارت بيدها للأمام وقالت:

    - هم هناك، هل تراهم؟ إني أسمع أصواتهم.

    بسبب الظلمة لم يتمكن الأمير من رؤيتهم من بُعد، لكن بعدها لاحظ وجودهم.

    - الوداع أيُّها الأمير. استدارت عائدة للغابة ليوقفها الأمير بصوته قائلًا:

    - لقد ساعدْتِني، ووجب عليّ أن أشكرك، كما إنني يتملكني الفضول لمعرفة أين تعيشين. وهل لديك عائلة؟ واضحٌ أن ظروفك صعبة من ملابسك إلى نحافة جسمك، تعالي معي لقصري، هناك سأكافئك على مساعدتك لي وتخبريني قصتك.

    - سأخبر الأمير بقصتي لكن ليس الآن، الآن وقت العودة لبيتي، لكن إن كان الأمير فعلًا يرغب بمساعدتي ومكافئتي. فإني سأقابلك عند البحيرة التي يقف بقربها حاشيتك الآنَ بعد ثلاثة أسابيع من تنصيبك ملكًا.

    - ماذا؟

    عندها علت أصوات الرجال بعد رؤيتهم للأمير وأقبلوا إليه مسرعين، وأمطروه بالأسئلة مشتتين بذلك ذهن الأمير عن مندي:

    - مولاي هل أنت بخير لم تُصَب بأي مكروه؟

    - سامحنا يا مولاي، . هل أنت بخير؟، نطلب منك محاسبتنا على تقصيرنا بحمايتك.

    - أرجوك يا مولاي، لنسرع عائدين للقلعة قبل أن يحل الظلام أكثر.

    رد عليهم بسرعة لإيقاف سيل الأسئلة الموجهة نحوه

    - أجل، أجل، أنا بخير لم أصَب بأي خدش، أنا على ما يرام. ثم التفت ليكمل كلامه مع مندي؛ لكنها اختفت ولم يعد لها وجود.

    أرسل بعض رجاله للبحث عنها وإحضارها؛ لكنهم عادوا خائبين دون العثور على أيّ أثر لها.

    الحضور عند الموعد

    عاد الأمير للقلعة (قلعة سورانكي) بعد أن أصر رجاله على عودته خوفًا عليه من أن يصيبه أيّ مكروه، ووعدوه أن يقوموا بتمشيط الغابة والمنطقة القريبة منها شبرًا شبرًا ويحضروها إليه.

    لم ينم الأمير تلك الليلة بالرغم من محاولة زوجته الأميرة آن وإلحاحها عليه للخلود للراحة، شيءٌ ما أقلق راحته، وأزعجه منظر تلك المرأة الضريرة المشوهة النحيلة، شعور غريب انتابه عجز عن تفسيره. حدّث نفسه قائلًا:

    لماذا أشعر بالمسؤولية تجاه هذه المرأة؟ إنها ليست الرغبة فقط بشكرها والامتنان لمساعدتها لي، شيءٌ أعمق، شيء لا أعثر على مسمّىً له.

    وفي الصباح وبينما كان الأمير وزوجته جالسين في الحديقة الخلفية للقلعة. أقبل أحد الخدم يخبره بعودة الحراس الذين أرسلوا للتفتيش في الغابة ويستأذنون الأمير بالحضور أمامه.

    - إذن، هل أحضرتها معك. سأل الأمير بتلهف

    - لقد بحثنا في كل ركن في الغابة مولاي ولم يتم العثور عليها، وأرسلت الرجال للقرى القريبة وبحثنا عنها هناك، إلّا أن الريفيين نفوا وجود امرأة بهذه المواصفات تعيش بينهم أو أنهم حتى لمحوها في الجوار.

    قطب حاجبيه الأمير وقال:

    - ما معنى هذا الكلام؟ أتظنني كنت أتخيل، أم أنني أُصِبت بالجنون؟

    - العفو منك مولاي، إنه أمر محير حقًّا، لكن الرجال قضوا ليلة الأمس بكاملها بحثًا عنها من دون العثور على أثر لها، أنا لا أعرف، يقال إن الغابة تصدر بالمساء أبخرة قد تجعل المرء، .

    قاطعه الأمير بعصبية كيف تجرؤ؟

    تدخلت الأميرة لتهدئة الجو الذي تصاعدت حدّته

    - عزيزي، الرجال أمضوا الليل بأكمله بحثًا عن تلك المرأة تنفيذًا لأوامرك، اصرفهم ليأخذوا قسطًا من الراحة، لقد فعلتَ ما يتوجب عليك لشكرها ومساعدتها، لا تلُمْ نفسك من فضلك، أنا على يقين أنها ستأتي للقصر قريبًا. وبإيماءة من الأميرة انصرف الحرس.

    دنَتْ من زوجها الذي كان يغلي من الغيظ وعانقته من الخلف.

    - لم أكن أتوهم، إنها حقيقية، أخبرتني باسمها، مندي، أجل.

    - لكن يا عزيزي، الرجال وجدوك بمفردك هناك، كما أنهم انطلقوا فورًا داخل الغابة لإحضارها، وأنت قلت إنها كانت عمياء أيّ لا يمكن أن تكون قد ابتعدت كثيرًا.

    - لا أصدق ما أسمعه، زوجتي أقرب الناس لي لا تصدقني!

    - اهدأ من فضلك، أنا أصدقك لكن ألا تجد ذلك غريبًا اختفاءها من الغابة، فسِّرْ لي لماذا لم يعثروا على أثرٍ لها.

    نهض من مكانه وقال بصوت مرتفع:

    - لا أعرف، أنا نفسي لا أعرف، لا أجد تفسيرًا لما يحدث لكني رأيتها وتحدثت معها. لم أكن أحلم، إنها حقيقية، لستُ أتوهم الأشياء.

    بهدوء أجابته لتمتص غضبه أجل، أجل، إذا لم تظهر في الأيام القادمة لم يتبقَ لنا سوى أن ننتظر الموعد الذي أبرمته معك.

    ومضت الأيام وانقضت الأسابيع والشهور إلى أن حلّ الخريف ساد جوٌّ من الحزن على الجميع بوفاة الملك داميل، رحل أقوى ملك عرفته المملكة على مر العصور، فبالرغم من قسوته المفرطة فإنه تمكَّن من جعل مملكة فليشر من أكبر الممالك وأغناها، وفرض هيبتها وسطوتها على جميع العروش.

    تُوِّج ابنه الأمير وليام الأول ملكًا للمملكة واستلم مقاليد الحكم، لكن بالرغم من انشغاله الشديد في هذه الفترة الحساسة من انتقال السلطة إليه فإنه لم ينسَ الموعد المبرم بينه وبين تلك المرأة التي كان متيقنًا من أنها حقيقية وليست من نسج خياله، مندي التي لم يظهر لها أيّ أثر منذ ذلك اليوم في الغابة، كان يعُدُّ الأيام المتبقية لموعد لقائه بتلك الضريرة ليثبت للجميع أنهم كانوا مخطئين بظنهم.

    أشرقت الشمس تعلن بدء اليوم المنتظر، وقف الملك وليام عند البحيرة مع ثلاثة من أفضل حراسه وأكثرهم إليه قربًا، كانوا يعرفون بقرارة أنفسهم أن مندي ما هي إلّا أوهام الملك الجديد، لكنهم سايروه ووقفوا هناك منتظرين ظهورها.

    من مسافة بعيدة من مكانٍ ما على جبل الموت يشرف من بعيد على تلك البحيرة وقفت مندي هناك مع اثنين من الرجال يحدقان بالملك وحراسه المنتظرين.

    - عجبًا! لقد جاء بالفعل. قال أحدهم.

    - لو أنك تركتني أقتله عندما سمحت لي الفرصة بالغابة. الآنَ فرصة قتله ضئيلة ومعه ثلاثة من أقوى الحرس الملكي. قال الآخر.

    ردت مندي قائلة:

    - ما كنا سنستفيد شيئًا بقتله، ثم إنك إن نازلته لن تمضي دقائق حتى يصرعك قتيلًا، إنه من أقوى الرجال وأشجعهم، وليس من شِيَم الماهون القتل غدرًا، وكما قلت: لن نستفيد شيئًا من قتله. وأكملت:

    - بالطبع سيحضر، وهو مستعد ليقف هناك منتظرًا لأيام إنه يريد يثبت لنفسه قبل الجميع أني حقيقة ولست وهمًا.

    - تبدين واثقة من كلامك للغاية إذن ما الذي يؤخرك؟ هيا انزلي له

    - لم العجلة؟ دعه ينتظر هناك للمساء، نفس زمن لقائي به في السابق، ثم متى ستحين لنا فرصة لنرى ملكًا في موقف مثير للشفقة كموقف الملك الآنَ!

    وضحكوا جميعًا وهم يحدقون من بعيد في ملك أخذ يقطع البحيرة مجيئًا وذهابًا.

    وعندما اقترب حلول المساء واستعدت مندي للنزول من الجبل سألها أحدهم:

    - أنا مرتاب وخائف، لم المجازفة؟ لا تنسي أنه ابن داميل، إنه يسير على نفس نهج أبيه، لست واثقًا من أنه سيلبي طلبك، ثم ألم تفكري أنه سيكتشف خدعة جبل الموت ولن تنطلي عليه بعدُ لعنة الموتى التي أرعبنا بها القرويون على مدار العشر سنين الماضية، سيعرف أننا كنا نحن مَن يصدر تلك الأصوات التي تُسمع بالليل.

    - بالطبع سيتوصل لتلك الحقيقة، لكن ماذا عن لعنة الشجرة والتلة؟ إنه لن يستطيع أن ينكر وجودها، هو لن يعرف مطلقًا أننا قمنا بإرسال ذلك القزم تيو إلى هناك ليقوم بتسميم كل شخص يقترب من ذلك المكان.

    (تيو فتى كان بعمر الثانية عشرة، عندما باغت رجال الملك الراحل منازل الماهون وتمكن من النجاة وهرب مع مَن نجوا إلى جبل الموت كان قصير القامة مقارنة بأقرانه، لكن يعتبر ذو قوام متوسط بين الفتيان من خارج القبيلة؛ وعليه كان محط الاستهزاء الدائم وسوء المعاملة من قِبَل مَن تبقوا من أفراد قبيلته. يومًا من الأيام جاءته عرافة القبيلة مندي تطلب منه أن يمسح العار الذي لحق به بسبب قصر قامته، وأن يقوم بتضحية لأجل القبيلة التي ستكون مدينة له لشجاعته، تضحيته كانت تتلخص بذهابه للعاصمة، وأن يقوم بحماية شجرة التلة من أيّ تدنيس عن طريق وخز من يقترب منها بسهم صغير مسموم يتلاشى بمجرد دخوله للجلد يتسبب في الشلل للشخص المصاب، لبَّى طلبها بعد أن قص شعره على طريقة أهل العاصمة وأصبح شكله فتى اعتياديًا كفتيان العاصمة لا يجلب الشبهات، ساعدته قامته القصيرة التي كانت تمثل له فيما مضى وصمة عار أن يتحول من شخص منبوذ بينهم إلى بطلٍ ورمزٍ في الماهون بعد نجاحه بمهمته التي كُلِّفَ بها، وهي ترسيخ فكرة ونشرها بين الناس أن هناك لعنة تصيب كل شخص يؤذي فردًا ينتمي للماهون سواء كان حيًّا أو ميتًا).

    - ثم نحن مضطرون للمجازفة، العمل الذي فشل الملك داميل بإنهائه وهو القضاء علينا جميعًا سيتحقق هذا الشتاء إذا لم نحظَ بمساعدة من القصر، سيمر علينا أقسى شتاء مرَّ على هذه المنطقة منذ ما يقارب النصف قرن، سنموت جميعًا من البرد. والآن لا تضيعا الوقت وساعداني للنزول إليه، ولا تُقْدِما على فعل أيّ شيء، وابقيا في مكانكما حتى لو قام الملك بقطع رأسي. مفهوم؟

    وبينما كان الملك يختبر آخر قطرات صبره صرخ أحد الحراس بالملك:

    - مولاي، انظر هناك، أظنها هي صحيح أشار بيده إلى جهة الغرب من البحيرة.

    ابتسم الملك ابتسامة رضًا كبيرة عندما لمح مندي وهي تسير نحوه هرول باتجاهها، وألقى التحية عليها.

    - مندي، كيف حالك؟

    انحنت لتلقي التحية على الملك، لكنه أسرع وأمسك يدها وسار بها ليجلسا على صخرة كبيرة بجانب البحيرة.

    - عاش الملك وليام، ملك الجبال والسهول والوديان، ملك مملكة فليشر العظيمة. رددت مندي جملتها ثلاث مرات. (هي العبارة التي يرددها الشعب عندما يستلم الملك الجديد مقاليد الحكم)

    - أنت كما أنت مندي، لم تتغيري منذ آخر لقاء بيننا، ربما ملابسك أصبحت بالية أكثر. أين كنت طوال تلك المدة؟ لقد أرسلتُ الرجال للبحث عنك واستمر البحث لأيام دون العثور عليك، حتى ظنوا أنك من نسج خيالي.

    ابتسمت وسحبت يدها المشوهة من يد الملك الكبيرة الخشنة نتيجة حملها السيف سنين طويلة.

    - أنا سعيدة لأن الملك لم ينسَ موعدنا.

    - مطلقًا لم أنسَ، كما إنه كان بإمكاني مساعدتك وأنا ما أزال أميرًا.

    - كلا مولاي، ماكنت لتستطيع، أمّا الآنَ فبإمكانك مساعدتي أنا وعائلتي، أنت الآنَ الملك والقرار الأخير يرجع لك مولاي.

    - عائلتك؟ أين تعيشين مندي أنت وعائلتك؟ بحث عنك رجالي في القرى القريبة لكن من دون جدوى، لم يتعرف عليك أحد.

    - لكني أنا وعائلتي لانعيش بالقرى يا مولاي، نعيش هناك. ورفعت يدها عاليًا وأشارت نحو جبل الموت.

    - ضحك الملك وقال: هناك أين؟ فوق السحب!

    - بل جيرانها سيدي، عند جبل الموت.

    ضحك الملك واستمر ضحكاته لدقائق، وبعدها استوعب الحكاية: امرأة مشوهة عليها آثار حرق قديمة. جبل الموت. أساعدها متى ما أصبحت ملكًا بعد وفاة أبي الملك داميل الذي أحرق وقتل الماهون عن بكرة أبيهم. كلا نجا بعضهم بالاختباء عند جبل الموت. لم يلقوا حتفهم هناك. لقد عاشوا. مندي واحدة منهم.

    نهض الملك وأخذ يحدِّق بمندي مطولًا ودماغه يعيش حالة من الصراع بين ما حدث بالماضي وبين ما يرى من نتيجته في الحاضر.

    - أجل أيُّها الملك، أنا كنت من الناجين من جحيم ذلك الصباح مع بعض الأفراد، احتمينا بالجبل، ثم انضم لنا الناجون من الموت من الممالك الثلاثة. تنهدت وأخذت تنساب الدموع من عينيها بالرغم من محاولتها كبتها.

    وأكملت قولها:

    - كنت بالرابعة عشرة عندما استيقظت على صراخ أمي.، كانت النيران تلتهم أمي وإخوتي الثلاثة أجل، شاهدتهم يحترقون، كانوا جميعًا يتراقصون على أنغامها، وما هي إلّا لحظات حتى انضممت إليهم، لهب النيران لم يسرق أمي وإخوتي فقط، بل سرق نظري أيضًا، وبعدها لا أتذكر، استيقظت لأجد نفسي بالجبل، أحدهم حملني معه لحظة فراره، لم يتسنَّ لي أن أشكره لأنه توفي قبل أن أستفيق، مسحت الدموع عن عينيها وأكملت:

    - ساعدتنا ثلوج الجبل قليلًا على تسكين آلامنا: الحروق، الجوع، البرد، الكلمات تخجل من العثور على وصف مناسب لها. كنا دومًا نسأل أنفسنا: يا ترى هل نحن محظوظون لبقائنا أحياء؟ لكن الإجابة جاءت خلال العشر سنوات التي مضت؛ كلا، من مات حرقًا أو بسهام الجند هم المحظوظون؛ محظوظون لأنهم لم يعيشوا ليمروا بكل تلك المعاناة، عشر سنين تجرعنا فيها مختلف أنواع المآسي والآلام والأحزان، كنا كل يوم لابد أن نودع فردًا منا على الأقل، أمّا الأطفال فكانت حصتهم من الموت كبيرة الأم منا أيُّها الملك، كانت تختار من أبنائهما من ترى أنه أقوى بنية وأكثر صحة ليقاوم فصل الشتاء فتهتم به وتغذيه أكثر من باقي إخوته الذين يُتركون لقدرهم بسبب شحِّ الأكل والدواء، كانت الأم مضطرة لاتخاذ مثل هذا القرار القاسي: أن تختار ابنًا واحدًا من دون البقية وتهتم به لينجو أفضل من أن يموتوا جميعًا أمام عينيها، هذا إن كُتب لها أن ترى هي فصل الربيع. أنا لم آتِ هنا لأحاسب الملك على قرارات الملك الراحل أو أطالب بدماء من مات من الماهون، أنا لا أطلب منك أن تعترف بنا كجزء من شعبك وأن تسمح لنا بالنزول من الجبل والعيش في ارجاء مملكتك، فخلال العشرة أعوام الماضية استقررنا بالجبل واتخذناه منزلنا، قطعنا بعض أشجاره وأنشأنا قريتنا هناك بين أحضانه، لكن الحياة في الأعلى صعبة للغاية يا مولاي.

    كل ما أرجوه أن تسمح لبعض منا بالنزول من الجبل بترخيص منك مرة كل شهر لشراء ما نحتاج إليه من ملابس وأدوية ومستلزمات ضرورية، وأن يشتروا منا ما نبيعه، وأن تمنع الحكام ورعيتك من التعرض لهم؛ هذا كل رجائنا وأملنا طامعين بطيبة قلبك وإنسانيتك.

    مسح الملك الدموع التي فاضت من مقلتيه واستغرق فترة من الزمن حتى تمكن من استعادة رباطة جأشه، وأخيرًا تكلم:

    - مندي، لا أعرف بماذا أردُّ على ما سمعته للتو وأنا، صمت الملك يفكر.

    عندها جثَتْ مندي على ركبتيها متوسلة

    - أتوسل إليك مولاي، لا نطلب سوى ما أخبرتك به، الشتاء على الأبواب سنتجمد جميعًا بالأعلى إن لم يوافق الملك على طلبنا، وأطفالنا بالأعلى، قاطعها الملك بصوت مرتجف:

    - مندي، اسمعيني جيدًا، سأسمح لكم بالمرور بأرضي مرتين بالشهر، لكن ستتم محاسبة الذين لا يحملون تراخيص ويُعتقلون، ولا أسمح أن يتسللوا إلى مملكتي خارج هذين اليومين، وفي ذكرى ميلاد ولي العهد سيأتي أشخاص منكم للقصر سنويًّا لاستلام مبلغ من المال يخصص لقبيلتكم؛ وذلك بسبب أنكم لم تحرموه من أبيه عندما ظل في الغابة وكان بإمكانكم أن تقتلوه نكاية بما فعل الملك الراحل بكم، لكنكم لم تفعلوا.

    أمسكت مندي بيد الملك وهي تبكي وتردد:

    - شكرًا لك أيُّها الملك العظيم، شكرًا لك على طيبة قلبك.

    وفورًا سحب الملك يده، وامتطى خيله ومضى مسرعًا مبتعدًا عنها يتبعه حراسه.

    (في مساء ذلك اليوم كره الملك نفسه وكره كرسي الحكم أكثر، ذاك المنصب الذي يتطلب منه أن يصدر قرارات لا تكون نابعة من قلبه ورغبته، شعر لأول مرة بالخزي والعار لعجزه عن بتطبيق جزء من العدالة بحق الماهون وما جرى عليهم؛ لأنه رأى نفسه مكبلًا لا يستطيع أن يطعن بقرارات أبيه الجائرة، لقد كان أسير نهج وجب عليه اتباعه ليحفظ لعائلته العزة والكرامة بعيدًا عن صفة الإجرام التي قد تلتصق بهم إذا هو قرر إنصاف الماهون، وجد نفسه أمام قرار صعب عليه أن يتخذه وأن يمضي فيه مدى العمر، وهو أن يحدد الطريقة التي سيذكرها التاريخ عن أبيه، وأن يختار بين اثنين: إمّا أن يختار درب الإنجازات العظيمة التي حققها خلال سنين حكمه، أو أن يزيد من قائمة الضحايا التي نتجت عن تلك الطموحات السياسية؛ وعليه، مكره اختار انتصارات أبيه وإن لُطَّخت بالدماء؛ لذلك كان مضطرًا لتناسي الماهون وأوجاعهم لكنه عاهد نفسه أن يؤسس نظام حكم مبني على العدالة وتشريع قوانين تحمي حقوق الجميع وتوريثها للملوك الذين سيتعاقبون بعده.

    أما مندي والماهون فكانوا فرحين بحدوث جزء بسيط من التغيير بحياتهم الصعبة متوعدين جميع الملوك بأخذ الثأر متى ما تحققت النبوءة.

    لوزيتو ثعلب الجبل

    حملت مندي الرضيع الذي وُلد لتوه، وأخذت تتلمس تقاسيم وجه بأصابعها المشوهة، وابتسمت ابتسامة عريضة، ثم التفتت باتجاه الأم المتعبة التي أنهكتها الولادة وقالت:

    - إنه رضيع مبارك، أول طفل تُرزق به القبيلة بعد وفاة الملك وليام وانتهاء مدة حكمه الطويلة، أشعر أن الظروف ستتغير نحو الأفضل بيده، انظري كيف هو قابض على يدي بقوة سيكبر ليصبح صبيًّا قويًّا في حُكم ملكٍ ضعيف، إنه صغير ماكر؛ لذلك ستكون تعويذته ثعلب الجبل.

    عندها أطلق الرضيع صرخة، وصمت بعدها محدقًا بوجه مندي.

    - هل أعجبتك تعويذتك؟ أجل أنت سيد المكر أيُّها الصغير لوزيتو، أجل أسميتك لوزيتو.

    وأكملت كلامها للأم: لا تقلقي عليه، سيكبر ليكون قدوة لإخوته الصغار وللماهون جميعًا.

    تنهدت الأم وقالت: إخوته؟

    - أجل ستلدين لنا المزيد من الأطفال يا مارثا، سيكونون رجالا أشداء يشدون أزر أخيهم الأكبر ثعلب الجبل، وسيظلون متمسكين به.

    كبر لوزيتو، وعاصر تدهور وضعف مملكة فليشر في عهد الملك ريناب، حيث سمح هذا الأخير بتجوال الماهون بحرية في أراضيه ضاربًا بذلك قوانين أبيه الراحل الصارمة التي استمرت لمدة طويلة تصل إلى خمسٍ وخمسين سنة؛ ومع هذا تحفظ الماهون على هذا القرار، ولم يغادروا الجبل كما سمح لهم انصياعًا لأوامر مجلس القبيلة (الذي هو عبارة عن خمسة رجال يتم اختيارهم من قِبَل أفراد الماهون يمتازون بالحكمة والذكاء ليتولوا إدارة شؤون القبيلة وإصدار القرارات نيابة عنهم، عرَّاف القبيلة تكون له الكلمة الأخيرة بشأن اختيار أعضاء المجلس، فمن دون موافقته وتزكيته لا يتم اعتبار ذلك العضو منتميًا للمجلس) وأيدت مندي عرافة القبيلة قرار المجلس، حيث أخبرتهم عن رؤياها بشأن الملك ريناب وحكمه ووصفته بما يلي:

    عاصفة شديدة تعصف بالحقل وتختفي سريعًا، لكنها تخلِّف دمارًا يتطلب إصلاحه أعوام وأعوامًا

    ووضحت لهم:

    - لن يطول حكمه طويلًا، وستشهدون اضطرابات وانقسامات في مملكته؛ لذلك لا يجب إغضاب الملك الذي سيعتلي العرش بعده، الزموا أماكنكم ولا تغيروها، وحافظوا على عهدكم للملك الأسبق ويليام.

    وبالفعل جرى مثلما أخبرتهم مندي: فانقلب حاكم ويلر على الملك وعيّن نفسه ملكًا على ويلر، واستغلت ملوك الممالك الثلاثة حالة التخبط التي تعيشها المملكة وأغارت على القرى الحدودية لفليشر وضمتها لأراضيها، انتهى عهد ملك ريناب بعد خمس سنوات من توليه الحكم، مات وهو موسوم بالخزي والعار لتفريطه بأراضي مملكته التي سفك جده أنهارًا من الدماء لأجلها وأفنى أبوه عمره الطويل بتأسيس قوانينها، مخلفًا مملكة ضعيفة نُهشت من كل جانب.

    صبَّ كل ذلك في مصلحة الماهون الذين أخذوا يتجولون ويبيعون مواردهم بحرية أكثر، لكن بشكل محدود، فالتزموا الحيطة والحذر في تحركاتهم، وانتعشت تجارتهم، فقد أدمن الناس (وخصوصًا الأثرياء منهم) على منتوجاتهم من الفراء التي امتازت بالجودة العالية، وعلى خيولهم السريعة والأصيلة.

    كبر لوزيتو وأصبح عمره ستة عشر ربيعًا، فتىً واقف على أبواب مرحلة الشباب، وكله تطلعات وأحلام يسعى لإنجازها.

    لوزيتو يواجه المجلس

    عاد لوزيتو إلى الجبل مع بعض رجال القبيلة الذين خرجوا سويًّا قبل ثلاثة أسابيع لبيع الخيول والفراء في الخارج (خارج الجبل لبعض مقاطعات فليشر). كان لوزيتو قد بدأ بالمشاركة برحلات البيع بمرحلة مبكرة من عمره، فبعد أن بلغ ثلاثة عشر عامًا وجد نفسه مسؤولًا عن تربية إخوته الصغار (ماريانو إحدى عشرة سنة، أندرو سبع سنوات، تيا ثلاث سنوات) بعد وفاة والديه.

    فأبوه مات وعمره عشر سنوات، والتحقت به أمه بعد ثلاث سنوات، تأثر كثيرًا برحيل أمه التي كانت ثمثل له القدوة والمثل الأعلى في حياته، فهي كانت امرأة قوية الشخصية ذكية، ذكاؤها مُزج بمكر وحيل النساء، فأصبح سلاحًا لا يُستهان به تستخدمه لحماية نفسها وأطفالها خصوصًا بعد وفاة أبيهم الدرع الحامي لهم من قرارات المجلس القاسية والعقوبات التي يفرضونها على أفراد القبيلة بالعموم بحكم قسوة المعيشة التي يعانون منها، فأغلب عقوباتهم كانت تفضي للموت، ولا يُستثنى من ذلك طفل أو امرأة، كانت مصدر تشجيع دائم له لطالما رددت على أسماعه وهو صغير بانه سيعانق المجد، وكثيرًا ما حكت له رؤية مندي بأن مستقبل الماهون سيكتب على يده نحو الرفعة والعلو.

    كبر لوزيتو على هذه الكلمات وصدقها وآمن بها، فمعالم شخصيته القوية وتأثيرها على من هم بسنه وأصغر بدأت وهو بعمر مبكر، فكان يسحر الأطفال بكلماته الحماسية فيطيعونه ويمتثلون لأوامره إعجابا وحبًّا شديدًا له، كان أشبه بقائد لهم، وبعد أن توفيت والدته اهتز من الأعماق، وتداخل الشك في نفسه وبقدرته على تحقيق كل ما حلم وآمن به، فعليه الآنَ أن يطعم إخوته وأن يهتم بتربيتهم.

    اختفى التفكير الثوري في نفسه برحيل ملهمها، لكن هذا الحال لم يستمر طويلًا، فمرضُ أخته الصغيرة وعدم قدرته على النزول من الجبل لجلب العلاج لها بسبب الثلوج التي هطلت عليهم بشكل هائل وغير مسبوق أسر الماهون بالأعلى بسور أبيض تراكمت حولهم بلا هوادة طوال فصل الشتاء، عجزه الكامل لمساعدة أخته التي ماتت في حِجْره أيقظت مجددًا الشرارة التي حرصت أمه على ايقادها في نفس ابنها طوال الثلاث عشرة سنة، لتتحول لاحقًا إلى بركان يغلي ساخطًا على الوضع المزري الذي تعيش فيه قبيلته منذ أن وطئت أقدام أجداده الأوائل هذه الأراضي، أخذ يستحث سنين صباه أن تمر سريعًا آملًا في إجراء تغير شامل وجذري ينقذ قبيلته من مستنقع الذلة الغارقة فيه.

    وأول ما قام به بعد أن دفن أخته هو التوجه لمندي طالبًا منها أن تساعده، وقاطعًا لها وعدًا أنه سيحرص على أن تشهد تحقق رؤيتها فيه قريبًا.

    التحق بركب رجال قبيلته التي تمارس التجارة (لعلمه أنه لا يمكن أن يصنع ثورة في قبيلته قبل أن يكتشف ما هو أبعد من صخور هذا الجبل)، في بادئ الأمر عارض أعضاء المجلس فكرة انضمامه لمجموعة رجال التجارة، سنه الصغير كان هو العائق الرئيسي، لتتدخل مندي طالبة منهم أن يجرّبوه في رحلتهم القادمة، وأن الحماسة الشديدة التي تتلمسها في صوته كفيلة بأن تجعلهم يتغاضون عن سنه الصغير. استغل لوزيتو تلك الفرصة أحسن استغلال، طوَّع ذكاءه ومكره وسعه حيلته في عمليات البيع، لم يكن يترك الزبون إلّا وقد اشترى منه أكثر مما يحتاجه، فأسفرت تلك الرحلة عن زيادة بالمدخول مقارنة برحلاتهم السابقة، ليُعتمد عليه بشكل أساسي في طلعاتهم المستقبلية.

    وكعادته بعد كل رحلة تجارة يشارك فيها يعود وقد امتلكه الغضب؛ الغضب من الفوارق الشديدة في العيش لأهل القرى والمدن التي يمرون عليها ليبيعوا بضائعهم فيها إذا ما قورنت بالمعيشة البائسة لأفراد الماهون. فيعتزل القبيلة ويذهب إلى قمة الجبل منشغلًا بأفكاره التي لم يُطْلع عليها أحد من قبل باستثناء مندي، كان جالسًا ينصت لصرير الرياح عندما دنت منه مندي وربتت على كتفه فجفل منها.

    - أفزعتني! اللعنة عليك أيتها الجدة، لا أكاد أصدق أنّ امرأة عجوزًا بسن السادسة والتسعين قادرة على السير بهذه الخفة والرشاقة وتتسلق قمة الجبل وهي ضريرة أيضًا.

    ضحكت وقالت: لقد أعدْتَ لي ذكرى إفزاعي للملك ويليام، آه، واحدة من المرات القليلة التي تمنيت بها لو عاد إلى بصري لثوانٍ قليلة، كم تمنيت رؤية الفزع الذي اعتلى تقاسيم وجهه.

    أطلق لوزيتو زفرة عميقة، وعاد لحالة الصمت الذي كان بها قبل مجيئها. تكلمت مندي بعد أن قرأت ما يجول في فكره:

    - أرى أنك قد اتخذت قرارك.

    - أجل، كنت أعد الأيام والشهور والسنين منتظرًا هذه اللحظة، لقد بلغت قبل يومين السادسة عشرة، أنا الآنَ رجل بمفهوم القبيلة، ويُسمح لي بالتكلم، وسينصت إلى المجلس.

    - إنها مخاطرة قد تؤدي بموتك يا لوزيتو.

    - أعرف تمامًا ما أنا مقبل عليه، وأن لدي من المكر ما يكفي لأتفادى عقوبة الموت، وسأجعل أعضاء المجلس مرغمين على قبول ما سأطرحه، لن أموت الليلة، ما يزال الوقت مبكرًا للحاق بوالدي.

    باستغراب شديد قالت: الليلة! حقًّا!

    - أجل، اليوم مساءً، لا أرى فائدة مرجوة من تأخير هذا القرار بعض أيام أخرى، ويجب أن تساعديني هناك.

    - أمم (صمتت قليلًا) ثم قالت: لكن هل فكرت بماريانو وأندرو؟ ماذا لو لم تجرِ الأمور كما خُطط لها؟ ربما سينالون نصيبهم من العقاب الذي سيقرره المجلس بحقك.

    - هل تحاولين إحباطي، أم تحاولين أن تستشفِّي مدى جديتي بالموضوع؟ اطمئني، أنا بغاية الجدية، ولن أتراجع عن قراري هذا وحتى لو جرت الأمور بعكس ما أخطط له، فلن أغيّر من قناعاتي أبدًا، فأنا لست جبانًا، ولا أخشى الموت ولا أهابه، فمجد قبيلتنا لا بد أن تُسكب لأجله الدماء وإن كانت دمائي ودماء شقيقيّ.

    تراقصت الدموع في عينيها، وقد ذكّرتها تلك العبارة بشخص عظيم سبق أن رددها على مسامعها منذ زمن بعيد، عرفت عندها وأيقنت أنها تقف أمام فتى سيكبر ليصبح رجلًا عظيمًا.

    - سأساعدك بني بنفس الطريقة التي ساعدتُك بها سابقًا. واستدارت مبتعدة عنه.

    ابتسم ثعلب الجبل وقال: بالطبع أنا أثق بك.

    وعند المساء وبينما جميع أفراد القبيلة متجمعين ينصتون للحكاية القديمة التي لا ينفّك أعضاء المجلس يسردونها عليهم، لبَثّ الأمل وإشعال روح التفاؤل في نفوسهم، سميوني أحد أعضاء المجلس الخمسة كان أصغرهم يبلغ من العمر خمسين سنة أو أكثر قليلًا، وها هو يصل لآخر فقرة في حكايته المكررة كل ليلة التي يستطيع طفل ذو أربع سنوات أن يرددها من بدايتها لنهايتها دون أن ينسى فقرة من فقراتها المملة ومن دون أيّ جهد يذكر:

    وبهذا يكون رجل النمر قد قاد القبيلة نحو العلو والجاه يا أحبائي

    أنهى فقرته بابتسامة قوبلت بابتسامات الجميع التي علت على وجوههم لتتكسر بعد لحظة على وقع سؤال وقح وصل لمسامعهم.

    - لماذا يفعل ذلك؟ سأل السائل.

    - من المتكلم؟ رد سميوني بعصبية.

    - أنا. تقدم لوزيتو للأمام مُظهرًا نفسه أمام شعلة النيران التي تجمّع الجميع حولها.

    قطّب سميوني حاجبيه لعلمه بقدرة لوزيتو على التلاعب بالكلام والتأثير في نفوس الفتيان؛ فقرر إنهاء التجمّع سريعًا.

    فليمضِ كل واحد منكم لمنزله، لقد ازدادت برودة الجو.

    عندها تدخلت مندي وطلبت منه أن يرد على سؤاله؛ فأذعن لعرافة القبيلة وردّ عليه:

    - لم أفهم سؤالك، هلّا أعدته مجددًا؟

    - أنا أسألك: لماذا يفعل ذلك؟

    - ماذا تعني؟ رد عليه وهو يحاول أن يسيطر على غضبه.

    ليرد عليه بسؤال أخبث من السابق:

    - أسألك ذاك الغريب: لماذا يساعدنا؟ ما هو مقابل مساعدته لنا؟

    تلعثم العجوز ورد عليه: لا شيء، لا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1