Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

Waves Arabic
Waves Arabic
Waves Arabic
Ebook1,069 pages8 hours

Waves Arabic

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

ولد عبد الله إبراھيم وترعرع في كركوك لعائلة تعمل بالزراعة في أرضھا التي تملكھا. ويصف مدينة كركوك كما في طفولته بالمكان المثالي، يعيش فيه العرب والأكراد ويربط بين المسيحيين والمسلمين جيرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولكن تغير الحال مع بداية الحرب العراقية حين تم تجنيد إبراھيم في جيش صدام حسين للدفاع عن العراق. بعد الحرب غادر العراق ھربًا من التوترات السياسية إلى أن انتھى به المطاف أستاذًا للأدب العربي في ليبيا ثم انتقل إلى قطر. وفي رحلته بين ھذه الدول، تتجد د ذكريات إبراھيم عن وطنه وكذلك حزنه إثر موجات العنف المتلاحقة التي تجتاح وطنه.
Languageالعربية
Release dateApr 22, 2020
ISBN9789927118715
Waves Arabic

Related to Waves Arabic

Related ebooks

Reviews for Waves Arabic

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    Waves Arabic - Abdullah Ibrahim

    الموجة الأولى:

    بَيْضةُ الريح

    ١- لكي أكون لم أعرف ما أريد

    كانت حياتي، منذ الطفولة، مزيجًا من أحداث، وأفكار، وأهواء. لم يجهِّز لي أحد مسارها: لا أسرة، ولا مدرسة، ولا قبيلة، ولا مجتمع، ولا دولة؛ فوجدتني أصنع مسارًا لها يقوم على التواطؤ بين رغباتي الشخصية، وتطلُّعاتي الثقافية، وأنماط الحياة العامة، وأتوغَّل فيه، فبدوتُ لنفسي وللآخرين ناجحًا. لكن تنازعًا عميقًا ظل يشطرني جرَّاء سَعْيي للتكيُّف مع العالم، فلم أنتمِ بصورة قاطعة لا إلى ذاتي برغباتها المفعمة بالطموح والفوضى، ولا إلى عالم الجماعة الممتثلة لمنظومة من القِيَم، والعقائد، والعادات؛ فكنت أمزج بين هذا وذاك، مُعْرضًا عمَّا لا أراه يناسبني، وملتذًّا بخرق إجماع الآخرين، حينما أراه نابعًا عن جهل، فأنا غُفْلٌ في منطقة التودُّد، والمداهنة، ولا يُرجى منِّي خيرٌ فيها. ولازمني إحساس بالخطأ مؤدَّاه أنني أمضي في درب ضيق بين طريقين معبَّدَين، ولي الحق في أن أسلك أيًّا منهما وقتما أشاء، دون أن أتخلَّى عن مساري الخاص، وذلك جعلني أتوهَّم، أحيانًا، تميُّزًا استثنائيًّا.

    يعود ذلك إلى غياب التنميط الأُسري، فلم أعهد بناءً عائليًّا متواصلًا بسبب اختفاء الأب ثم الأم في وقت مبكر من حياتي، فدُفعت إلى ممارسة دور أكبر من أن يقوم به طفل، وأصغر من أن يلبِّي خيالاته، فتنامت فيَّ درجة عالية من الصرامة الذاتية، حتى إن أُبوَّتي أمستْ ثقيلة، إذ شرعتُ أرسم لأبنائي قِيَمًا لدور الأبوَّة المفقود في حياتي، ودفعهم للأخذ به، وضمرتْ في أعماقي عاطفة الأبوَّة الليِّنة، والحنان الشفَّاف، وأرجِّح أنهم خاضوا صعابًا في الاقتناع بدوري كأبٍ كرَّس لهم حياته، وأظنهم مثلي، وإنْ بطريقة مضادة، صاروا ضحية الأمر الذي طالما افتقدته أنا. ففيما لم يمهِّد لي أحد مسار الحياة، كبروا هم بين أسوار حياةٍ ارتأيتها أنا لهم. وخلق هذا انطباعًا بأنني حرٌّ فيما أريد، متشدِّد فيما يريدونه، وكنت منقسمًا إلى شخصيتين: أولاهما، أنا الفرد المتخفِّي في أفكاري، ورغباتي التي ما انفكَّت عطشى دون ارتواء، وثانيتهما، أنا الجماعي الذي منح كل شيء في حياته لأسرته، وفيما بعد لطُلَّابه، وقُرَّائه.

    وفي السنوات الرابضة على حدِّ النسيان، ندر أن انخرطتُ في النسيج الصاخب لعالم الصغار؛ وما برحت الطفولة شبه مجهولة عندي، وتضاءلتْ أهميتها، ثم انطفأتْ كوهمٍ مُختلق. وفي المدرسة تأرجحتُ بين إحساس بالتميُّز، ورغبة في تخطِّي قرويتي التي رأيتها تشدُّني إلى الوراء، ولا تفتح لي أية كوَّة على الأمل. وكان يُنظر إليَّ باعتباري أمثولة للتعقُّل، وربما التفرُّد. ويخيَّل إليَّ بأنني تعمَّدت أن أنتبذ مكانًا أرى من خلاله أخطاء الآخرين، وحال ذلك دون أن أرى أخطائي كمن لا يرى ظلَّه إنما ظلال الآخرين. يحتاج المرء إلى أن يتصرَّف حسب عمره، لكنني أحجمت عن تصرُّفات الصبا، أو مُنعت عنها لأسباب أجهلها. لم يُشهر أحد في وجهي حدَّ المنع، وما شُدَّتْ أذني تقريعًا، إنما لم أدرك معنى أن أكون طفلًا ولا فتى، فتقمَّصت دورًا لا يُناسب سنِّي في معظم مراحل حياتي؛ وبذلك انشقَّ إيقاعها عن إيقاع حياة الآخرين، ولم أعرف لي مرفأ أخيرًا أخلد إليه.

    من الصحيح أنني وُصفت بالكبرياء، وربما العنفوان، لكنني ما دنوت من العجرفة، ونأيت عن الصلافة، وكلتاهما ازدهرتا جرَّاء الزهو الأيديولوجي الذي شاع في العراق طوال النصف الثاني من القرن العشرين، ونتج عنه عنف مبهم كان هو البطانة الداخلية للحروب التي شهدتُ ثلاثًا منها، فضلًا عن الصراعات الأهلية. وحينما أستعيد مسار حياتي أجده دأبًا غير منقطع استأثر بجلِّ عمري، وقد مضى في صعود لا ارتداد فيه، وإليه أعزو كل شيء في حياتي الكتابية والمهنية، وهما مرآتان متقابلتان انعكس فيهما ما تشكَّل على سطحيهما. على أن كل ذلك حدث على خلفية من الرغبة في العزلة، والعكوف على العمل الدقيق. وليس من الادِّعاء القول بأنه لا ثمرة لعمل لا يراعي الإتقان في إطار من المقاساة والهمَّة.

    في سنٍّ مبكرة مارستُ ادِّعاء الانسجام مع الآخرين، فليس مفيدًا أن أُظهر إنكارًا للقِيَم السائدة، لكنني ما اقتنعتُ بكفاءتها، وما أشبعتْ رغبتي في حياة انفتحت على العالم عامًا بعد عام، ومع ذلك فلم أفرِّط لا في هذا ولا في ذاك، ومضيتُ ألفتُ إليَّ انتباه أسرتي التي قبلت دوري على مضض في البداية، وظلت ترتاب به إلى ما بعد ثلاثين سنة؛ إذ صار عملي يأتي بمردود مالي واعتباري واجتماعي لها، وتبدَّدت شكوكها حينما رحتُ بداية من العقد الأخير من القرن العشرين، وأنا خارج العراق، أغدق عليها الأموال، والأملاك، والمزارع، وأوفر لها الحماية في مجتمع ضربه الفقر في الصميم، فبرغبة لا اصطناع فيها أعطيتُ أسرتي ما هي بحاجة إليه، وما تستحق، دون منَّة، مدفوعًا بالحس الأخلاقي تجاهها، وبشعور المسؤولية الأبوية، وما أُجبرت على ذلك، ولم يطالبني أحد بشيء.

    أفسِّر انبثاق الشكوك حول جدوى دوري إلى صرامتي في أن أزيح جانبًا أية مغريات تَحول دون مواصلة مساري الثقافي، وأدرك أن أسرتي التقليدية ترى صورتها في مرآة الحياة، وليس في المراهنة الصعبة التي فرضتها أنا على نفسي وعليها، وما كان حسُّ الانتماء الساذج إليها هو دافعي إلى حمايتها في أكثر الحقب صعوبة، حقبة التسعينيات وما بعدها، إذ تفاقمتْ آثار الحروب، والحصار، والاحتلال، والحرب الأهلية، وإنما نوازعي الأخلاقية الصادقة تجاهها. على أن هذا لم يجعلني كائنًا حجريًّا، فطالما تضرَّمتُ حزنًا على أولادي حينما كانت رسائلهم تصلني وأنا في ليبيا، وكم تأزَّمتُ، وقلقتُ، وتوتَّرتُ، وجافاني النوم، حينما كانوا يقتطفون أخطاء المراهقة. وتآكلتُ جرفًا ليِّنًا أمام سيلٍ، حينما انقطعتْ أخبارهم عني خلال الاحتلال الأمريكي، ولم أصدِّق أنهم نجوا من ذلك، إلا بعد أن ترجَّلت من السيارة ظهيرة يوم الجمعة الأول من أيلول/ سبتمبر ٢٠٠٣ أمام المنزل، وتفقَّدتهم واحدًا واحدًا بنفسي. ولازمني خوف مُؤرِّق عليهم خلال الحرب بين القوات الكردية وتنظيم الدولة الإسلامية بداية من صيف ٢٠١٤، نتج عن ذلك تهجيرهم، وتدمير الأكراد لمزرعتنا وبيوتنا، وقلعنا من جذورنا الضاربة في تلك الأرض. ففي نهاية الأمر كان نجاحي مرتبطًا بحمايتهم. وحينما أقارن بين هوسي بالخوف عليهم، وضمور العاطفة الأبوية المباشرة لا أجد وجهًا من الحيرة في أمري، فمهما خضت من تجارب، وأفكار، وعلاقات، فإن دوري الأبوي سما على الابتذال المباشر، وحافظ على المسافة الضرورية بين البنوَّة والأبوَّة.

    بدأت أكتشف أطراف العالم المحيط بي، وأرمِّم قِطَعه المتناثرة، من ذلك صدى مجازر كركوك في عام ١٩٥٩ إذ سُحلتْ في شوارع المدينة جثةُ صاحب الأراضي التي كنا نزرعها، وهو تركماني، واسمه «قاسم بيك النفطجي»، ومُثِّل بجثمانه من طرف الشيوعيين باعتباره إقطاعيًّا. كنا نمرحُ في مزارعه التي ورثها أولاده، ونختلسُ من النسوة العاملات رؤوسًا صغيرة من البنجر نخفيها تحت ملابسنا، وليلًا نشويها في التنور، ونتقافز حول الثمار التي اسودَّت بفعل الرماد والجمر. وقُيض لي أن أشتري جزءًا من تلك الأراضي في النصف الثاني من التسعينيات، وأجعل منها مزرعة كبيرة، طالما حلمت بها، لمَّا عُرضتْ رسميًّا للبيع. قمت بذلك حينما كنت أعمل في إحدى الجامعات الليبية. وقد أعيد الاعتبار، في الثمانينيات، إلى كل القتلى الذين نُكِّل بهم في كركوك، ونُصبتْ لهم تماثيل في الساحات بوصفهم شهداء.

    وقبل ذلك أُخفي ملوك عن جيلي؛ لأنهم يمثلون العهد البائد، وعرفتُ أن أحدهم يدعى «غازي» من السجائر التي تحمل اسمه، وكانت نادرة، نعثر عليها صدفة، بغلافها الذهبي، ملقاة على جانبي الشارع الذي يمرُّ جوار القرية، وعلمتُ أن الحاشية الملكيَّة بُطِشَ بها في بغداد قبل سنة من ذلك، وسُحل بعض أفرادها، وكبار المسؤولين في الشوارع، كالوصي «عبد الإله»، و«نوري السعيد»، أما الملك «فيصل الثاني» فقُتل في قصره. ووصمت الأنظمة السياسية المتعاقبة العهد الملكي بالسوء الكامل، فارتسمتْ له في ذهني، من الكتب المدرسية، صورة قاتمة تتسرَّب الكراهية من سطورها. على أن صورة «عبد الكريم قاسم» ظهرت في مخيلتي عسكريًّا متهوِّرًا رأيت رسمًا له في الدفاتر المدرسية العتيقة التي وزِّعت على الطلاب حينما التحقتُ بالمدرسة، فشَخَص لي عسكريًّا حاسر الرأس، نافذ القسمات، يوحي بالنفور لصرامته. وفي وقت متأخر علمتُ أنه كان زاهدًا، متقشِّفًا، تجاذبته القوى السياسية المتضاغنة في العراق، وتلاعبتْ به، فظهر متقلِّبًا كسائق متهوِّر في حقل ألغام. وكرَّست إذاعة «صوت العرب» في القاهرة، بتوجيه من «جمال عبد الناصر»، صورة الدكتاتور له، فوصف بـ«قاسم العراق» بمعنى مقسِّمه. وحينما قُيِّض لي بعد حوالي ثلاثين سنة العيش في شمال إفريقيا والخليج، فإنه حيثما يرد ذكرٌ له في أي مجلس كانت تطفو صورته الناصرية.

    ولا أتذكر من هزيمة عام ١٩٦٧ غير ما وصفه لي صديقي «سعيد» حينما كنَّا في أحد حقول القمح، فمرَّ فوقنا سرب من القطا، حَجَب جانبًا من ضوء الشمس، وعلَّق هو بأن الطائرات الإسرائيلية فوق مصر تحجب الشمس عنها لكثرتها مثل هذا السرب، فَقَبَعت الصورة المجازية في ذاكرتي، فلم أكن أعرف عن فلسطين سوى نبذ من أحداث عابرة منها وصول بعض الفدائيين إلى قريتنا بملابس المغاوير المرقَّطة، والكوفيَّات الملفوفة على رقابهم، يطلبون التبرُّع من أجل تحرير الأرض المقدَّسة، وقوبلوا بسخاء حيثما حلُّوا، وبخاصة من النساء اللواتي تخلَّين عن بعض حليهنَّ لهم. كانوا شبابًا بلحى خشنة يقفون بحياء أمام البيوت، فنتجمَّع حولهم، يدفعنا الفضول، وحسُّ المشاركة، وتثيرنا ملابسهم العسكرية المبقعَّة بالألوان البُنيَّة، وكوفياتهم الملتفَّة على رقابهم، وأحذيتهم العسكرية الطويلة، ومن وسط كل ذلك تنبثق صورة المجاهدة الجزائرية «جميلة بوحيرد» بحجم الكف، معلَّقة على الجدار في بيتنا، فوق المرآة، جوار صورة أكبر للإمام علي بن أبي طالب بسيفه المنفرج، وذقنه الكثَّة، وعينيه الحالمتين، وعمامته الكبيرة.

    تقع قريتنا إلى الغرب من كركوك، وقد آل مكانها بعد إزالتها إلى ضاحية من ضواحي المدينة، وتعود سجلات الأحوال الشخصية لأسرتي فيها إلى الحقبة العثمانية، فنحن من العرب الأصليين في المدينة، وتعدُّ «الحويجة» و«الرياض» وما يتبعهما من قرى مركز ثقل العرب في كركوك، فيما يقطن التركمان في «طوز» و«تازة» وما جاورهما من المدن، وإلى الشرق والشمال باتجاه السليمانية وأربيل، في «جمجمال» و«شوان» وما حولهما يستقر الكرد، ولكن بمرور السنوات تداخلت الأقوام، وارتبطت بالنَّسَب واللغة والمصالح. أما سكان المدينة، فمزيج من الأعراق الثلاثة، فضلًا عن الآشوريين الكلدان، بتفاوت في النِّسَب حسب ظروف الهجرة والنزوح والإقامة والعمل، ولم تكن نِسبة الأعراق مهمة في البداية، ولكن لما اختُلقت أهميتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين وما بعدها، بهدف تحديد هوية المدينة، بقيت النسبة سرًّا، وأصبحت موضوعًا للادِّعاء، بسبب التنازع السياسي حول أحقية كل جماعة في الاستئثار بمدينة متنوِّعة تعود في أصولها إلى العصور الأولى للحضارات العراقية القديمة.

    بدأت سياسات تعريب كركوك في سبعينيات القرن العشرين، فزرعت الخوف بين الأكراد والتركمان، وأثارت استياء العرب الأصليين فيها، فقد جِيءَ بأعداد كبيرة من عرب وسط العراق وجنوبه، وأسكنوا في المدينة، أو في ضواحيها، وفي بعض المناطق حلُّوا محلَّ أهلها. وحينما استبدَّت بالأكراد الأفكار القومية اعتبروا المدينة كردية، وقد أثار سعيهم إلى تكريدها، بدفع أعداد كبيرة من الكرد إليها بعد الاحتلال الأمريكي في عام ٢٠٠٣، مخاوف التركمان من طمس ما يذهبون إلى أنه هوية تركمانية للمدينة؛ كونهم يمثلون الكتلة الصلبة في قلبها منذ وقت بعيد، ورفض العرب عملية التكريد مع أنهم لم يقولوا بعروبة المدينة. شهدت كركوك إحلال غرباء فيها وإبعاد أصلاء عنها، مما أحدث فوضى اجتماعية محتْ هويتها المتنوعة. قامت بذلك السُّلطات العربية والكردية على حدٍّ سواء بالتناوب. حدث الأمر بسبب التنازع القومي حول المدينة بدواعٍ لها صلة بالسُّلطة والثروة والهوية؛ ولأجل ذلك وقع تزوير المرويات، وتلفيق الأصول.

    ينظر كثيرون إلى كركوك في هَدي الرغبات العِرْقية المتهيِّجة، وخرافات الهوية الصافية، والدعاوى التاريخية المزوَّرة، ولا يعرفون أن المدن تتغيَّر، وتتبدَّل، وتنزع إلى التحولات الدائمة؛ فإلى منتصف السبعينيات افتخرت كركوك بتنوُّعها المدهش، قبل أن يتحوَّل ذلك إلى خطر يتهدَّدها. وكان الاندماج وإعادة تشكيل الأنساب والأعراق شائعًا فيها، فلدينا أقرباء سكنوا المدينة بعد الحرب العالمية الأولى، فلا يعرف الأحفاد غير أنهم من التركمان، ولا يعلمون أنهم من أصول عربية، ولا يهمُّهم معرفة ذلك، وكثير من التركمان أصبحوا كردًا بسبب إقامتهم في أحياء كردية، وكثير من الكرد تعرَّبوا، أو تترَّكوا، واكتسبوا العربية أو التركية بالمعايشة والمزاوجة والاختلاط؛ فالتحولات الدينية، والمذهبية، والعِرْقية، واللغوية، خاضعة للسياق الثقافي الذي يسكنه الفرد، أو الأسرة، أو القبيلة، فلا تمضي إلا أجيال قليلة حتى يذوب الفرد في الجماعة الأخرى، ويصبح جزءًا منها.

    كانت كركوك مثالًا لعالم متعدِّد، ومتناغم، ولم يكن سؤال الهوية الصافية مطروحًا، وكنت أجهل الخلفيات العِرْقية والدينية لكثير ممن رافقتهم في مقتبل عمري. ولكنني لم أنجُ من آثار ذلك بعد الاحتلال الأمريكي، فحينما شرعت في كتابة هذه السيرة، وقد أردتُها مدوَّنة اعتراف وليس تبريرًا، واستعدت فيها شطرًا من حياتي في كركوك، وجدتني أعرِّف أصدقائي بأعراقهم، وربما بأديانهم. على أن ذكر ذلك لم يأتِ إلا على سبيل التعريف، والإشارة إلى الانتماءات الطبيعية، وليس له أية حمولة أيديولوجية، وخشيت أن يكون إغفاله نوعًا من التعتيم على التنوُّعات الخصبة فيها، وعدم اعتراف بخصوصياتها الثقافية، فأنا أروي لمتلقٍّ، لم يَعْلم، في الغالب، أن تعريف الشخص بقوميته، أو دينه، أو مذهبه، يعدُّ خلال سبعينيات القرن العشرين، انتقاصًا وسُبَّة، ولأنني بدأت أيضًا أشعر بأن الحقَّ الأخلاقي للمشاركة في المدينة يفرض عليَّ كشف صورة التنوُّع في مدينتي الأثيرة، كيلا أكون شاهد زور بالتعالي على ذكر الحقائق، التي ما شكَّلت هاجسًا تفضيليًّا في أفكاري، وأفكار مَنْ تعرَّفتُ إليهم فيها.

    ولكن ثمة حقيقة أكبر ينبغي التصريح بها، فقد تنامى في نفسي، عقدًا بعد عقد، ذلك التناقض الذي شطر هوية بلادي أشطرًا، وهي صدوع أخفق العراقيون في رَدمِها، فوجدتُ العراق يضيق بأحلامي، ويطبق على أنفاسي، إذ يتعاقب على حكمه الطغاة، ويسوسه الرعاع، فلا يكفُّون أذاهم عنه، فيما كانت صورته الخيالية ترتسم في خاطري وطنًا ضاربًا في القِدَم باعتباره وارثًا لسومر وبابل وآشور، وحاضنًا للحضارات الكبرى: بلاد الرافدين. ومن الإنكار عدم الاعتراف بأن ذلك الانقسام قد ترك أثره في شخصيَّتي التي لم تمتثل لمعيار ثابت، فبقيتْ تتأرجح بين عراق يعوم على أمواج العنف، والتعصب، والاستبداد، والفرقة، والانغلاق، ومجمل التركة الاجتماعية والسياسية والمذهبية المضطربة التي عاصرت طرفًا منها، وعراق يرتفع بنسبه الذهبي إلى فجر الحضارة الإنسانية، وقد أسهم في كتابة تاريخ النوع البشري، وحظي بالمكانة المرموقة بين بلاد العالم. وكان أن جرى تضخيم مرضي في مضمون تلك الهوية أو خفض قيمته، فانكبح ألَقُها في نفسي، وحلَّ محلَّه شعور بالمرارة والإحباط من حاضر يتعثَّر، فما أفلح العراقيون في صوغ هوية لأمَّة لها حظوة بين الأمم، ولا تخلَّوا عن الادِّعاء بذلك.

    تبعثرَ، فيما أحسب، سيلُ الأحداث الجسام التي وقعت على أرض الرافدين، ولم ينصهر في إطار هوية جامعة، وما رُجحت أيٌّ من الروايات التاريخية والثقافية لسبكها في إطار قومي، أو وطني، وإنما، لكثرتها وتضاربها، فقد قوَّض بعضها بعضًا، وتفرَّقت بين الأعراق والمذاهب، فلم يقع الأخذ برواية متماسكة تصوغ المخيال العام المنتج لأمَّة أو وطن، كما حدث في تركيا وإيران الجارتين؛ حيث لعب الموروث الحربي دورًا في صوغ هوية الأولى، وبلور التراث الأدبي الملامح العامة لهوية الثانية، ولهذا ارتسم التصدُّع في العراق نتيجة لغياب الروادع الاعتبارية الكبرى التي تحول دون أن تختطف التطرُّفاتُ العِرْقية والمذهبية البلادَ إلى غير ما ينبغي أن تكون فيه. ولم تكن كركوك في منأى عن ذلك.

    ٢- مات ولم يُقبِّلني، فيا له من أبٍ استثنائي

    مات أبي في ربيع عام ١٩٦٥، ولم ينطبع من الذكرى في نفسي سوى جمعٍ متدافع من رجال شيَّعوه إلى المقبرة المجاورة لبيتنا. لم يشعرني أبي بالدفء والسكينة، فورثتُ صفاته، وتقمَّصتُ دوره مع أولادي. قضى وهو دون السبعين، حينما كنت في الثامنة، فصورته في ذاكرتي تلوح سرابًا متباعدًا، وهو من مواليد العقد الأخير من القرن التاسع عشر في كركوك. فصلتني عنه هوَّة عميقة، ولم أندرج في عالمه المملوء بأشياء كثيرة أهم منِّي. كان مشغولًا بالمذياع الخشبي ذي البطارية الكربونية الزرقاء الضخمة يصغي إلى إذاعة لندن، وذبالة ما تبقَّى لديَّ من ذلك قرعات ساعة «بغ بن» الكنسية. وبرنامج آخر في الإذاعة العراقية يهدر فيه، مع الموسيقى، صوت المذيع الأجش، وهو يردد: «أمريكا عدوَّة الشعوب». وما خطر لي أنها سوف تحتل بلادي بعد أربعين سنة.

    يمثل أبي أسطورة العائلة؛ فصورته المخبَّأة في طرف الذاكرة ترجِّح أنه كان شيخًا عصاميًّا، نحيلًا، طويلًا، صامتًا، وبلا عاطفة. أنجبني من آخر زوجاته التي حصل عليها بمقايضة ابنته الكبرى بها، ويسمَّى هذا النوع من الزواج بـ«زواج الشِّغَار» وهو محرَّم في الإسلام، كما ورد في حديث للرسول: «لا جلبَ ولا جنبَ، ولا شِغارَ في الإسلام». واختلفت المذاهبُ في أمر زواجٍ يقوم على تبادل الأنفس البشرية ببعضها، ولكنه شائع في المنطقة التي عشت فيها. وعلى هذا فأمِّي تصغر بعض إخوتي، وأينما بحثنا في تواريخ الشعوب نجد رغبة عارمة في النساء الصغيرات. ليس لديَّ فكرة عن طبيعة العلاقة بين أمي وأبي، وبموته انسحب تأثيره من حياتنا، وحلَّتْ هي محلَّه، وصورته المعلَّقة في صدر بيتنا، تظهره شاحبًا، وقد رُمِّمتْ، وصُبغتْ بفرشاة للألوان عن نسخة عثرنا عليها في جواز سفره إلى مكة الذي أصدره في سنة ولادتي عام ١٩٥٧، واحترقت مع إحراق بيتي في ربيع ٢٠١٥. ويخيَّل إليَّ بأن المصوِّر حاول إعادة إنتاج الصورة بالطريقة التي تروقه، فكادت تتلاشى الألوان بمرور الزمن. لكنَّ خيطًا أخضر من الصبغ غطَّى الوجنة اليسرى، فيما نبت شعر خفيف أبيض على الذقن، وغطس العقال على رأس شدَّ باليشماغ، وفي الوجه المتغضِّن عينان حادَّتان، غامضتان، محيِّرتان، وفيهما حنانٌ ناءٍ لم أتمكَّن منه.

    لم يلمس أبي خدِّي بتحنانٍ، وما ضمَّني إليه، وما تسرَّب إليَّ منه أي عطف، فربما أكون ظِلًّا لهُ، بل أنا كذلك. رُوي لي أنَّه لم يكن لأبي سوى أخ وحيد، ضعيف البنية، أكبر منه، استأثر بمعظم تركة أبيهما، إذ ورثا عنه أربعين ليرة عثمانية ذهبية طُمرتْ في رقبة بعير، فاحتفظ الكبير بنصفها سرًّا، واقتسم الباقي مناصفة مع أبي. وبلغني أنَّه عمل لمدة قصيرة في بيع التبغ، ثم تاجر بالخناجر المحدَّبة ذات المقابض الفضيَّة، وربما اشترى وباع بعض البنادق التي تطلق رصاصة واحدة بفتيلة من القطن تعود إلى حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى، فجمع ثروة صغيرة، واشترى أرضًا في إحدى القرى، وتدفقتِ البركة على أمواله، فأكثر من الأملاك، والأراضي، وكان مهابًا لا يتردَّد في رأي، أو عمل، إلى أن أطيح به في واقعة قتل قام بها أحد إخوتي، ونجا أبي بالأسرة هربًا إلى منطقة أخرى من الثأر العشائري الذي لاحقنا نحوًا من نصف قرن، قبل أن نمتثل لشروطه مكرهين. خدم أبي، ورعى أغنامه، شاب كردي، اسمه «الشاعلي»، وهو بطل القصص التي كتبتها، وصدرت في كتابي «رمال الليل». الحكايات المتداولة في عائلتي أظهرت أبي مزيجًا من وليٍّ وطاغية، لكنه تُوفِّي غريبًا خامل الذكر في غير المكان الذي عاش فيه وبنى أسرته.

    نمتْ بنموِّي أسطورة أبي الذي غاب قبل أن أستوعب وجوده، وتضخَّمتْ مزايا العصامية، والثبات، فكلَّما نأينا عن لحظة الحقيقة استعدناها تخيُّليًّا بحثًا عن توازن مفقود. وفي غيابي عن أسرتي خارج العراق حيكتْ أساطير كثيرة أخرى عن أبي يعدُّ التشكيك فيها تجديفًا، ولم أسمع منها شيئًا طوال حياتي من قبل، ولا أعرف مصدرًا لها. ما أعرفه أنه ليس لأسرتي تاريخ مكتوب إنما نتف من مرويات يصعب ضفرها لتكوين حقيقة متماسكة، وما استأثر ذلك باهتمام أحد قبلي، ولست مستعدًّا لاختلاقه من أجل أن يكون خلفية لسيرتي الذاتية، فأنا عنيد، ومتطابق مع أفكاري، وليس من الحكمة أن ينتسب الجميع إلى سلالات خالدة، وما شعرت بالحاجة إلى ذلك.

    لم يستَنْسِب أبي، وحاكيته في ذلك، ولكن حينما كنت أدرِّس الأدب القديم في جامعة قطر خلال خريف عام ١٩٩٩، حدث أن أفضيتُ بذلك على سبيل التفكُّه إلى طالبة قدَّمتْ إليَّ بحثًا قارنتْ فيه بين المتنبِّي وأبي فراس، وانتهتْ إلى تفضيل الأخير الذي عدَّته ضحية الأول، إلى درجة أرفقتْ بالبحث تخطيطًا لأبي فراس خلف القضبان يناجي حمامته في سجن الروم، وقد كُسي بدرع حديدية، فقلتُ لها إنني أفضِّل المتنبِّي على الرغم من أنني أنتسب إلى سلالة الثاني. وكالنار في الهشيم شاع بين طالباتي أنني حفيد أبي فراس، فطالبنني أن أدرسهنَّ شعر الجدِّ المفترض الذي ارتسمت صورته فارسًا وشاعرًا، إذ كنت أعرِّج عليه بوصفه صاحب مكائد ضد أبي الطيِّب، وقد نحتَ لنفسه تمثال الأسير الذي يبثُّ لواعجه إلى حمامة، وما استأثر باهتمامي الأدبي، فقد رفعت شأنه الإمارة والفروسية، لكن عائلتنا في العقود المتأخرة أصيبتْ بالهوس العشائري، وكل وليد ينبغي أن يسمى «فراسًا» ليتماهى أبوه مع السلف العظيم، في نوع من الخداع، والوهم النفسي.

    في إحدى زياراتي للعراق بعد عام ٢٠٠٣ جاء النسَّابة يزورني بعد غيبة طويلة، متَّشحًا بعباءة جديدة، مملوء الأوداج من الولائم، وقد طاف، منقِّبًا، بالحمدانيين من البصرة إلى الموصل، يعدُّ كتابًا في نسبهم، فداعبته، وقد أصبحت القبليَّة والطائفيَّة هوية العراقيين الجديدة، فقلتُ له:

    - كيف تتبع شفويًّا المناسم الغامضة لتعيدني إلى شخص عاش قبل أكثر من ألف سنة؟ وهل ثمة ثقة في انتساب شفوي، إذا كان في الأصل ثمة ثقة في الانتساب؟

    نظر إليَّ، وكأنه فُجع، وخُذل، فهو علَّامة العشيرة، ومؤصِّل هويتها، فغصَّ بلقمته في مضيفنا المُشرع على الأشجار المثمرة، فعاجلته قبل أن يختنق ألا ينسى إضافة أسماء أحفادي إلى الشجرة المثقلة بالبطون والأفخاذ، فقد زدنا رجالًا في القرن الجديد. ولم تتضمن شجرته أيًّا من نساء الأسرة، كأنهن رماد تطاير في عواصف القرون.

    وفي ليبيا، نحو منتصف التسعينيات، زارني صديق جامعي من أسرة النجَّار الشيعية في النجف، متخصِّص في التاريخ العثماني. وفي سياق حديث عابر عن علاقة الأقليات بالوجود الاستعماري كنت أحدِّثه به، سألني عن عشيرتي، فقلت مجيبًا عن سؤال عارض:

    - حمداني.

    فأوقفني فورًا، وقال:

    - يعني أنك شيعي.

    وحوَّل النقاش إلى مسار يوافق رغبته، وقال:

    - الدولة الحمدانية شيعية.

    ولمَّا دقَّقتُ في ذلك، بعد أن غادر بيتي، وجدت قوله صحيحًا، فلم أنتبه إلى ذلك من قبل، ولم أعرف به؛ لأنني لم أقرأ التاريخ من وجهة نظر مذهبية، فأخذتُ بقول عالم الاجتماع علي الوردي الذي فسَّر ظاهرة التشيع والتسنُّن في سياقات اجتماعية وتاريخية، فارتحال قبيلة من طائفة ما وسكنها في ديار قبيلة من مذهب آخر، يدفع بها إلى التحوُّل خلال جيلين أو ثلاثة إلى ذلك المذهب بالمخالطة. وهنا ينبغي اللجوء إلى السخرية المقصودة، فعلى سبيل الاحتمال البعيد، الاحتمال السجالي، فإن تفكُّك دولة آل حمدان خلال القرن العاشر الميلادي في الموصل وحلب، وما جاورهما من ديارهم قديمًا وحديثًا، قد يكون دفع ببعضهم إلى الارتحال جنوبًا، مع أنه لم يثبت أنَّ إحدى القبائل قد ارتحلت فعلًا؛ فالمجموعات التي استوطنت شمال العراق تكون قد تسنَّنت تبعًا للبيئة، مع أنهم من أهلها، هذا بافتراض أنهم لم يكونوا كذلك، والمجموعات التي وصلتْ إلى جنوب العراق ظلَّت على مذهبها إن كانت كذلك؛ لأنها رحلت إلى وسط شيعي، فظهر الانتماء المزدوج للقبيلة كما هو شأن أغلب القبائل العراقية المتصاهرة منذ القدم. على أن المصادر التاريخية تؤكد أن الدولة الحمدانية كانت نسيجًا متنوعًا من المذاهب، والأعراق، والأديان، ولم يتغلَّب فيها مذهب أو عرق على آخر إلى درجة حافظ فيها الآراميون، والسريان، على لغاتهم، ودياناتهم. وحال أهل تلك الدولة، في كل ذلك، أفضل حالًا من ورثتهم في العصور الحديثة.

    لم أعلم بالأغطية المذهبية المهترئة، التي لم تكن سوى أعرافٍ اجتماعية لا تفاضل فيها، كما حسبتُ، إلا في جامعة البصرة، وأنا في نحو العشرين من عمري، حينما استجوبني طلاب من زملائي أحيوا ندبًا على الإمام الحسين ليلة عاشوراء في البيت الذي نقيم فيه معًا، فيما قرفصتُ واجمًا، وغير مشارك في إثراء تلك الفجيعة القديمة، فجافوني كأنني من قتلة أبي عبد الله، وأخبروني بأنني سنِّي، وبيَّنوا لي حجَّتهم بوضوح، وبذلك جرى تصنيفي سنِّيًّا، لكنني لم آخذ بهذا التعريف أبدًا، إنما سخرت منه، وما لاقى صدى في عقلي أي تعريف دون المواطنة. يعود جهلي بالأمر إلى أنني عشتُ في وسط عائليٍّ خالٍ من ثقافة الطوائف والأعراق، ويتعذَّر عليَّ أن أتزحزح عن شيء اخترته واعيًا. في عام ٢٠١٢ وبعد ثلاثة عقود ونصف على تلك الحادثة، نوقشت أطروحة دكتوراه في جامعة البصرة نفسها بعنوان «الخطاب النَّقدي عند عبد الله إبراهيم: دراسة في الأسس المنهجية»، انتهى صاحبها إلى القول بأنني أهملتُ، فيما كتبتُ من دراسات نقدية «كل التراث السَّردي الشيعي» وكأن هنالك سرديات مذهبية أخرى اهتممت بها في «موسوعة السَّرد العربي» وسائر كتبي الأخرى!

    ما خالجني شعور بأنني أنتمي إلى مذهب ما، وحينما أنخرط في سجال تثار فيه هذه القضية أتحدَّث عن إسلام بلا مذاهب، وأعتقد أن أبي وأجدادي كانوا شبيهين بي، فلم يحفلوا بأوهام الانتساب القبلي والمذهبي، وهو أمر مختلف عمَّا وجدته عند الأجيال الصاعدة في سلالتنا العائلية. أقول بالانتماء الطبيعي للإنسان وليس الأيديولوجي، وهذا الإيمان هو الذي قادني إلى التوغُّل في مشروع نقد المركزيات: المركزية الدينية، والمركزية العِرْقية، والمركزية الثقافية، إذ بيَّنتُ كيفية اختلاق المركزيات استنادًا إلى مرويات خادعة، واقترحت تفكيكها؛ لأنها تتلاعب بالانتماءات الطبيعية للإنسان الذي ينتسب بالضرورة إلى عِرْق، أو دين، أو ثقافة.

    ٣- رضيعٌ ما بلغتُ مدى الفطام

    ظهر تأثير أمي عليَّ في حياة أبي، لكن اعتلالها بالسرطان، إثر وفاته، أحدث صدعًا عميقًا في نفسي لم يلتئم. ولما تُوفِّيتْ به، بعد سنوات، كنتُ تآلفتُ مع ذلك الصدع، وتعايشت معه إلى درجة انتظرت موتها بعد أن تحوَّلتْ إلى كومة من العظام، فقد تآكل وجهُها، وتحوَّل ثغرها المشرق إلى كهف مَلِيء بالثقوب والخروم، وكان موتها البطيء عذابًا تمرَّنا عليه، وتقبَّلناه بمرور الأيام، وإن شقَّ علينا الاعتراف به. لم يتمكَّن أحد من تعطيل التقدُّم المتواصل لمرض السرطان الذي علق بها جرَّاء خطأ عابر إلى أن أجهز عليها.

    نَدَرَ أن اهتمَّت أسرتنا بالأبقار، ربينا واحدة للحليب الذي نحتاجه في الإفطار، ومع ذلك كان لها دور مأساوي في أسرتنا، إذ تسبَّبت في مَصرَع أبي وأمي؛ ففي عصر أحد أيام الربيع كان أبي يعين بقرتنا على الولادة في حظيرة المواشي، وقد تعسَّر مخاضُها، فأُغميَ عليه، وانقضى أجله وحيدًا، دون علم منَّا. لا أعرف فيما إذا تعرَّض لرفسة من بقرته أم لا؛ فقد وجد ميتًا جوار عجل صغير بُعثتْ فيه الحياة. وضرب أمي عجلٌ بعد ثلاث سنوات بحافره الخلفي في فمها، فأورم لثَّتها العليا. ويحتمل أن يكون العجل نفسه الذي بعث موتُ أبي الحياةَ فيه. وفي المساء تورَّم وجهها، وازرقَّتْ شفتاها، فسارعت في صباح اليوم التالي إلى كركوك تنشد علاجًا، وهنالك قُدِّمتْ إليها نصيحة مُهلِكة: البلسم الشَّافي عند حلَّاق عُرف عنه قلع الأسنان، وزرق الإبر، والضِّماد، فضلًا عن جزِّ الشعور، يقع محلُّه في سوق الأكراد. طالما رأيت ذلك الرجل الضامر الطويل بإزاره الأبيض المتَّسخ، فيما بعد، كلَّما طفت حول القلعة، وتوغلت في تلك السوق، وما زلت أرجِّح أنه المتسبِّب في موت أمي. اسمه «شكور بربر» وحسب بعض الشائعات، فشهرته تعود إلى أنه عالج عبد الكريم قاسم من رعاف مزمن أصابه قبل أن يقود انقلاب ١٩٥٨ فيطيح بالنظام الملكي، ويؤسِّس الجمهورية.

    ضلَّت أمي هدفها، فقد كانت امرأة عزلاء لا مُعين لها، وبدل أن تذهب إلى طبيب متخصِّص اتَّجهت إلى مُزيِّن متطبِّب خُيِّل إليه أنه قادر على شفاء العلل كلها، وعادت إلينا في المساء ملثَّمة، إذ قُلعتْ أسنانها الأمامية، وصُبغ ثغرها بالمطهِّر البنِّي الداكن، واختفت ابتسامتها إلى الأبد. تحوَّلت أمي، فجأة، إلى عجوز درداء. بُعيد اختفاء أبينا احتوتنا هي، وسعتْ إلى تنظيم حياتنا، فتعلَّقنا بها، فمن المدينة تعود، بين أسبوع وآخر، شجرةً مثمرةً تنوء بصرَّة مملوءة بالجوز، والزبيب، والتمر المحشو بالفستق، وأكياس المملَّحات. تضعها في الصندوق الخشبي المزخرف، فلا يجرؤ أحد على التقاط حبَّة دون أن نجتمع حولها في طقس خاص. تتوسطنا على ضوء الفانوس ليلًا، كأننا جماعة من الرهبان في مغارة، فتخلط كومة مما جاءتنا به، ونمضي طرفًا من ليلتنا بمسرَّة، نتلذَّذ بتلك المأكولات التي يندر وجودها في القرى المجاورة، وهي تنمِّي فينا العزم بعد وفاة أبينا. وقد زرعتْ في نفسي الدور الذي سأتكفَّل به إلى النهاية: رجل البيت. ودفعتْ بي إليه، وكانت تردِّد: «أنت كبير يا صغيري».

    خلال شهر التَهَم السرطان طرفًا من الشفة العليا لأمي، فبانت لثَّتها الحمراء، ونُخر ميناء أضراسها، بعد ذلك، وانتشر التآكل في وجهها حول الفم. نزف فمها نزفًا غزيرًا يوم إصابتها، ولما بدأ الحلاق يعبث بجروحها، وهي تعاوده للعلاج، تورَّم وجهها، فاصطحبتُها إلى طبيب، وحُجبتْ عني أيامًا في المستشفى الجمهوري بكركوك، ومُنعت من زيارتها، وفي يوم رابطتُ منذ الفجر أمام البوابة الحديدية السوداء، ودخلت مع طلائع القرويين مبكرًا، فاحتضنتني كأنها تودعني. عانقتني وشمَّت رقبتي، وكتفي، ويديَّ، وانهمرتْ دموعها سخيَّة على وجهي. في منتصف النهار أخذتني إحدى الممرضات إلى غرفة الأطباء، فأُبلغتُ بأن أمي مصابة بالسرطان، أخبرني الطبيب بأنه يتعذَّر علاجها، وقال لي:

    - اذهب بأمك لا شفاء لها!

    لم أستوعب ذلك إلا بعد موتها. غادرنا المستشفى، وقد حلَّتِ العتمة في قلبي، ومشت هي خلفي تحمل صرَّة ملابسها، فكأننا سنفقد بعضنا إلى الأبد.

    لم يعدْ ميسورًا لي مصاحبة أمي إلى المدينة، ولن أحظى بالنعيم الذي غمرتني به. انطفأ كل شيء بغتة. وفي الليل غرقت في الكوابيس، فخلتني عاريًا، ووحيدًا، وتائهًا، ودرعي الوحيدة تمزَّقت، وأنا في نحو العاشرة من عمري. في تلك الليلة، تداولنا معًا بشأنها، وقررنا أن أذهب بها للعلاج في بغداد، وصباحًا رافقتها إلى العاصمة بحافلة ألمانية عتيقة تعمل بالديزل، قطعت المسافة إلى بغداد في نهار كامل. وصلنا المدينة وقت الغروب. أدخلتها مستشفى عتيقًا يعود إلى العهد العثماني يقع في جزء من المكان الذي بُنيتْ عليه مدينة الطب في الباب المعظَّم، اسمه «المجيدية»؛ نسبة إلى أحد سلاطين آل عثمان. بناء عتيق، كالح، جرَّدته الأمطار من رونقه، وتخالفتْ على نوافذه الأشجار، وتقشَّع بلاط ممرَّاته. وفي أحد الأروقة مكثت أمي سنة كاملة تغالب داءً عضالًا. بدأت أتردَّد على المستشفى بين وقت ووقت، مترحِّلا بين كركوك وبغداد، وقد توارت آمالي بشفاء أمي.

    كان اليأس يطبق عليَّ إثر كلِّ زيارة، وصعب التصريحُ بحال أمي لأختي وأخي؛ إذ كنت أجد جزءًا يختفى من وجه أمي بعد آخر كلما مرَّت الأيام، وكنت الشاهد على ذوبانها، وتلاشي ابتسامتها. وفي إحدى زياراتي، قادتني ممرضة إلى الطبيب الذي أخبرني أنه قرَّر إبعاد أمي من المستشفى، فلا سبيل إلى علاجها، فعدتُ بها إلى البيت، وفقدنا أي أمل في شفاء طبي لها، فتعلَّقنا بالأوهام، وبُلِّغنا، بعد أشهر، بوجود مزار في «مندلي» على الحدود الإيرانية، تشفي مياه العين الآسنة قربه ما عجز عنه أطباء بغداد، فاصطحبتها إلى هناك غير واثق من شيء. انطلقنا من كركوك صباحًا، ومررنا بالطوز، والعظيم، والخالص، ثم انعطفنا شرقًا إلى بعقوبة، فمجموعة من المدن الصغيرة المحاطة بالبساتين، وقبيل الغروب وصلنا مندلي. وهي قصبة محاطة بأشجار النخيل السامقة، نزلنا على مشارفها، ووقفت حائرًا جوار أمي المتداعية أبحث عن سيارة تقلُّنا إلى المزار الذي يقع بعيدًا إلى الشرق. فوجدناه على تلَّة جوار مستنقع داكن يموج بالأجساد الموحلة، ورأينا، ونحن نتحرَّى مكانًا نأوي إليه، النساءَ يملأن أواني نحاسية بالوحل الأسود، يمسحن به أجسادهن المُتغضِّنة، أو كنَّ متكئات على جدار المزار، وقد لوثت سيقانهن وسواعدهن وصدورهن الضامرة بالغَرين الأسحم، فيما غطس الرجال إلى أعناقهم في المستنقع الذي تفوح منه روائح كريهة.

    عثرتْ أمي على مثيلات لها في المصير، وبدأنا ننحدر صباح مساء إلى المستنقع، تمسح هي بيديها فمها ووجهها بالوحل، وأنا أرقبها متأرجحًا بين اليأس والرجاء. أمضيت شهورًا في أسفاري الكئيبة بين كركوك ومندلي، تداعت أمي خلالها، وآلتْ إلى شبح أم، وحيل بينها والتعبير عن عواطفها، وجفَّ عودها، ورقَّت حتى تعذَّر عليها النطق. لم يعدْ لها فم تعبِّر به عمَّا تريد، وتضخَّم لسانها، وبالكلام استبدلت الإيماء. وانتهت تلتمسُ ما تريد توسُّلًا بالإشارة. نبضات كفِّها الواهنة، وهي تأخذ بيدي، كانت وسيلتها للتعبير عن حنان غزير ادَّخرته في فؤادها. وعيناها حائرتان، مغرورقتان بالدمع طوال النهار، تشيان بحزن عميق، وقد ارتسم فيهما قرار الرحيل النهائي، وقد أوكلتْ أمرها إلى الله.

    جئت بها إلى البيت هيكلًا ملفوفًا بالسواد، وقد اختفى معظم وجهها، وبدأت أختي عائشة تسقيها الأطعمة الذائبة، فملأت رائحتها البيت، وانقطع الأقارب عن زيارتنا. ولم يبق من وجه أمي سوى العينين السوداوين، فلا فم لها لتبكي، ولا تأكل فلا أسنان لها. نمدِّدها على ظهرها، ونريق السوائل في جوفها من ثُلمة تتهرَّأ يومًا إثر يوم. كنا شهودًا ذليلين وصاغرين، وقد طوانا الوجوم والأسى في تلك الليالي الرمادية التي لا نعرف لها عددًا، وقد تقبَّلنا أفولها البطيء، وانسحابها المتأنِّي من حياتنا، وانتظرنا موتها كأمر لا مردَّ له. حدث ذلك في أول يوم من عام ١٩٧٠. دفعني موتها إلى مواجهة مصيري، فقد تدرَّبتُ عليه بجوارها، وصرت بعدها أمام الحقيقة، ولكن في أعمق نقطة، نقطة الارتياب والحنين، كنت أعرف أنها مضتْ، وتركتني رضيعًا ما بلغتُ مدى الفطام، كما قال أبو العلاء عن فراق أمه.

    سكن عالم طفولتي وصباي عدد قليل من الشخصيات، وفيه تبوأت أمي المكانة الأولى، فيما انحسر دور أبي، وبمرور السنين مضت أمي في انتزاع الجزء الأكبر من اهتمامي، فيما توارى أبي، فلم أشعر باليتم لمَّا اختفى وأنا ابن ثمانٍ، إنما حينما فلتت حياة أمي من بين يديَّ وأنا في نحو الثالثة عشرة. صار من المأثور عني كثرة الإطراء عمَّا أدين به لأمي من أفضال، ومهما جهدت لأجد في تلك الأفضال نوعًا من السلوى تتيح لي تقدير أهميتها، فإنما وجدتها أفضالًا عاطفية أغدقتني بها صغيرًا في جو عائلي وقروي جافى هذه المشاعر، وتنكَّر لها، وهذا ما كنت بحاجة إليه، ولازمتني تلك الحاجة طويلًا، وما شعرت أنني ارتويت من امرأة غير أمي، وما انفكَّت مشاعري تنقاد إلى ذلك المدار الذي دمغ طفولتي، فكل النساء كنَّ عابرات يتوقَّفن قليلًا في هضابي القاحلة، وما يلبثن أن يرحلن تاركات آثارًا شاحبة سواها.

    في كل صباح، في الأشتية الباردة الممطرة، أو النديَّة، أو الضبابية، وفي الأصياف الملتهبة المغبرة، أو الجافة، كان المشهد الذي أبتدئ يومي به هو المقبرة المقابلة لبيتنا. مقبرة عاصرتِ الأسلاف، والتهمتهم، ترتسم قبورها في غبش الفجر كالأهرام. كتل ترابية متراصَّة تحتجب وراء بعضها، يتوسَّطها مزار مسيَّج لوليٍّ، يعلو قبره عمود خشبي، عُلِّقت عليه خرق خضر للتبرُّك بها، يقتطع منها الرعاة، والحوامل، والعواقر، مزقًا يشدُّونها في المعاصم، وتعلَّق في رقاب الأطفال كتمائم، وفي الزاوية كوم من الفخاخ الحديدية لصيد الأرانب والثعالب أُدرجتْ في حصانة المزار، فلا يجرؤ أحد على خرقها. وطوال عشرين سنة، لم يُفقد شيء من المزار باستثناء المزق الخضر التي تُقتطع للتبرك والشفاعة. أرامل، وعجائز، ونساء ملَلْنَ الانتظار، يحملن نذورًا، ويعلِّقن الرايات الخضر، ويلُذن متضرعات بالمزار. قِطَعٌ خضر سرعان ما تتحول إلى خِرَق بالية، وكثيرًا ما كنت أرقبهن يتضرعن أن يعيد الله إليهن أزواجهن، أو أبناءهن، سالمين من «حرب الشمال» القائمة بين القوات الحكومية والمسلَّحين الأكراد.

    في تلك المقبرة، سمعت لأول مرَّة، اسم «الملَّا مصطفى البرزاني». حينما سيق اثنان من أخوالي إلى الحرب، فكانا في إجازتيهما يسردان عليَّ المعارك الجبلية الرهيبة. في الأعياد الدينية تمتلئ المقبرة بأُسر الموتى. تتزاحم النسوة بملابس سوداء تضفي على نواحهن وقارًا ورتابة، فيظهرن في طيف الفجر سربًا متلازمًا من الغربان. ومع الشروق يدهم الأطفال المقبرة بملابسهم الزاهية يرتجفون، ويتقافزون، ويحملون حلوى العيد. وما إن يتلاشى الضباب حتى يأخذ المزار شكله الواضح محاطًا بالمقبرة التي تزحف ناحية بيتنا عامًا بعد عام إلى أن لاصقتْ جداره، وأحاطت بطرفه الغربي. وبالنواح تستبدل النساء التهاني والقُبلات، فمع شروق الشمس تتبدَّد الأحزان، ويُنسى الموتى، وتحل الأفراح.

    أودعنا أبي في المقبرة، وبُعيد وفاته كنت أتأبَّط المصحف متَّجهًا إلى قبره في عيدَي الفطر والأضحى، برفقة أمِّي، وشعور بالكبرياء يملؤني؛ فأنا أحد القلائل الذين يفكُّون الألفاظ المتشابكة بين دفتَي الكتاب. وفي عجلة آتي على السور القصار متباهيًا، فيما أرتعد فَرَقًا من السور الطويلة في بداية المصحف. ولكنني ما وهنتُ يومًا، ولذتُ بالمزار ضعفًا، ولم أتبرك بخرقه البالية، فثمة شعور يربض في جزء خفيٍّ من نفسي يؤكد لي بأن إضفاء القداسة على تلك الخرق جزء من التقاليد، وليس من الدين، وقد دفعت مبكرًا ثمن ذلك الشعور. كنت أذهب إلى المزار ألهو بالفخاخ، أستعين بيديَّ وقدميَّ لفتح النوابض الصدئة، وأثبِّتها بعصا، وأجهِّزها لصيد وهمي، ثم أدفع النابض برأس العصا، لأحرِّر حركته، فينقضُّ الفخ على نفسه محدثًا صوتًا عاليًا، قافزًا في الهواء، منقلبًا على وجهه، وقاعدته الدائرية الحديدية في الأعلى، خلوًا من أية طريدة، وسهوت مرَّة بلهوي المتعجِّل، فانطبق القوس الأعلى على أصابعي، وكاد يحطمها، فبقيت أتضور ألمًا أسابيع عدة، واعتبرتْ أمي ذلك عقابًا على اقترافي إثمًا بحقِّ المزار، فانقطعت عن دخوله، واللهو في فنائه. بعد أن اعتلَّت أمي توقفتُ عن تلاوة السور القصار، ولم أقرأ أيًّا منها في تلك المقبرة.

    تخيَّلتُ، لزمن طويل، أن المقبرة امتداد لبيتنا، فمن خلف الجدار، وعبر الفناء، تظهر القبور معقودة بشكل دائري حول المزار تزحف نحونا، وصرنا نحرص على دفن موتانا في الجزء المجاور لبيتنا منها. على أن بئرنا قادت زحف القبور إلينا، فكل الآبار في الطرف الآخر من القرية، وما إن يصل ذوو الموتى حتى يتوزَّعوا فريقين، فريقًا يُخرج الماء من البئر لغسل الجثمان، وآخر ينصرف إلى حفر القبر. ولطالما رأيتهم متعجِّلين، متزاحمين، يغسلون جسد الميت، ويحرصون على إبعادنا نحن الصغار، كأنهم يذبُّون حشرات ضارَّة. وبعد نصف ساعة نصغي إلى الملقِّن يوصي الميت بما ينتظره في القبر: ينبغي عليه أن يقرَّ أمام الملائكة بأن الله ربه، ومحمدًا نبيه، والإسلام دينه، والقرآن كتابه، والكعبة قبلته. وتُعقد الصلاة، فنتدافع وراء الرجال في صفوف مضطربة، متربين، مشعثين، خائفين من نهرِهم، وينفضُّ الجمع، ونبقى شهودًا على القبر الجديد بترابه الأحمر الطري، ورائحته الفواحة، فيجاوره آخر، وآخر. طوِّق بيتنا بالقبور، وجاوره الموتى، ثم سوِّيت قريتنا بالأرض، وصودرتْ أراضيها بذريعة التعريب في مطلع الثمانينيات، وجُعلتْ مزارع للقمح، وأعاد الكردُ السيطرة عليها بعد الاحتلال الأمريكي، واعتبروها جزءًا من كردستان. لا يربطني بها سوى أمِّي.

    ٤- كلبٌ خلاسيٌّ مسعورٌ اقتحمني، وغسلني بالدم

    أرجِّح أن أمي أقنعتْ أبي كي يسمح لي بالالتحاق بالمدرسة، فأنا ابنها البِكر الذي كُتبتِ الحياة له بعد أربعة قضوا نَحبهم لسبب غامض قبلي بالتعاقب، فحمتني النذور من الالتحاق بهم، كما جرى تلقيني صغيرًا. كان الفارق في العمر كبيرًا بيني وأختي الوحيدة، وهي الأولى التي أنجبتها أمي، وتساقط صريعًا كل من جاء بعدها إلا أنا، فاستأثرتُ بأهمية لازمتني منذ تلك اللحظة، إذ دشَّنتُ ذِكر أبي من أمي؛ فأنا الابن المبارك. وجدتُني في أول خريف عام ١٩٦٣ ألتحق بحفنة من الطلاب متوجِّهين إلى مدرسة طينية في قرية «المرَّة». وفي اليوم التالي أرسلتني أمي إلى بيت في طرف قريتنا فيه طالب متقدِّم ليرشدني إلى ما يجب فعله، وما إن غادرت بيتهم حتى دهمني كلبهم الخلاسي، وحاصرني في زاوية، ثم اقتحمني هائجًا، فإذا بالدم يغمر بطني، وحُملتُ إلى البيت فزعًا، فقرَّرتْ أمي إيقافي عن شيء تفترسني الكلاب من أجله، فانتهت تجربتي المدرسية الأولى بعد يوم واحد.

    وفي السنة التالية وجدتني تلميذًا في كركوك، في بيت أخ لي من أم أخرى. لا أعرف الظروف التي دعتْ إلى تلك المجازفة للالتحاق بالمدرسة في المدينة. كل ما أتذكَّره هو الصعاب التي واجهتني في لبس البنطال، فقد جرى تحويلي إلى صبي شبه متمدِّن حينما أُدْخِلت في جيب أسود طويل من القماش السميك الذي لفَّني حتَّى بطني، وتفرَّق حول ساقيَّ، كأنه نصف كَفَن، وسخرتُ من نفسي، وتعرَّقت من سوء المصير الذي انتهيت إليه. كانت دشداشتي تحميني، وتضفي عليَّ شرعية القروي، ولكنها انتهكت في ذلك الخريف الذي جعلني أحاول التوفيق بين زيِّ المدينة المشؤوم، وذاتي الطافحة بالخجل التي وجدت أن البنطال يفضحها، ويكشف ملامحها المستترة، فكأن عذريتي قد انتُهكت.

    تقع المدرسة في محلَّة «المصلَّى» التركمانية، وفيها استأجر أخي بيتًا من غرفتين مع أسرة أخرى. نُحشر نحن في غرفة، والأسرة الأخرى في الثانية. لدى جارتنا غزالة صغيرة، وابنة شقراء تدرس في صفِّي، وكنت أداعب الغزالة، وآخذها بين ذراعيَّ بتلطُّف، وأمضي أوقات العصر في تلمُّس وبرها المخملي، أدور حولها متودِّدًا، وأعرض عليها أقداح الماء بسخاء، وأمرِّغ وجهي في نسيجها الذهبي. إلى أن قدَّمت لي جارتنا تحذيرًا بالكفِّ عن مضايقة غزالتها. انبتَّتْ صلتي بالعالم أيامًا عدَّة إثر كبح رغبتي، فرأيتني حزينًا أرنو إليها، وخائفًا، ومترددًا، وعديم النفع، وبعينين حانيتين كانت الغزالة تنظر إليَّ حائرة، والحبل الرقيق يطوق عنقها.

    أخذتُ أكافح من أجل تخطِّي حُبْستي، ومحنة كوني عربيًّا في وسط من الصغار لا أعرف لغته؛ فمعظم أهل المدينة يتحدَّثون التركمانية، وأنا لا أعرفها، فبدوت مُخالفًا بين أقران لم يقبلوا بي كما أنا، ولم أُمنح إذْنًا للاندماج، فانزويت، واعتزلتُ. التلاميذ بسحنهم الشقراء الدالَّة على أصولهم التركيَّة ينظرون إليَّ وافدًا غريبًا جاء من الريف. ربما يكون انفرادي قد زيَّن لي أنني مرفوض من الآخرين، ففي عالم الطفولة تتداخل المناكدات بالنبذ والإبعاد، ولم أنجُ من إحساس برفض الآخرين لي. وما لبث أن انتقل أخي إلى بيت في الطرف الآخر من المدينة، في محلة «القورية». حزنت لفراق الغزالة، ولكنني سررتُ إذ تحرَّرتُ من التمييز في المدرسة. على أن أخي أمرني بالاستمرار فيها على الرغم من بُعد المسافة. كنت صغيرًا، وليس لديَّ مؤهِّلات تجعلني أشعر بالقوة والسعادة، فظهرت مشكلة ما لبثت أن أوقفت تجربتي المدرسيَّة الثانية.

    ينبغي عليَّ أن أجتاز، مشيًا على الأقدام، نهر «خاصة صو» الذي يشطر مدينة كركوك، وأواجه خطر الكلاب السائبة على ضفَّتيه، ثم فيضانه مع قدوم الشتاء. ومضيتُ أواصل الذهاب كل يوم، فحالما أغادر البيت أرى أسراب الخيول في ساحة تقف فيها العربات السوداء المتهيئة للكراء. أمرُّ في طريقي بساحة «السِّبَاع» المملوءة بتماثيل الأسود المنحوتة من الحجر الأبيض، وأشغف بالأزهار الحمراء، يتضوَّع أريجها. وأغافل الحارس، وأقتطف من وراء السياج وردة كبيرة أتنشَّقها في طريقي، ثم أتخطَّى مختالًا مبنى نادي العمال، وأعبر الطريق المفضي إلى بغداد، وأبلغ منطقة مهجورة على ضفة النهر، حيث النفايات، والكلاب، والأنقاض، فأتخلَّص من وردتي، وأعلِّق الحقيبة في عنقي، وأبحث عن الدرب الذي يقودني إلى الضفة الأخرى وسط أكوام القمامة، والحُفر، وقد انطفأ توهُّجي، وذبل زهوي، فأتمكَّن من اجتياز النهر متجنِّبًا الكلاب البُقع بين جِرائها السمينة ترقبني شزرًا، وهي تهرُّ، وتكشِّر، ثم تتثاءب، وتتمطَّى، وتعوي، فتذكِّرني بالذي فتك بي في السنة الماضية، وصورته غمامة عاصفة في ذاكرتي.

    اعتادت أمي على اصطحابي معها نهاية كل أسبوع إلى القرية، لكنها كانت تمضي بي أولًا إلى بيت عجوز قريبة لها تسكن في محلة «الشورجة» الكردية، في الطرف الشرقي من المدينة. استأجرت قريبة أمي، منذ مدة طويلة، بيتًا صغيرًا ملاصقًا لبيت عائلة كردية، ولما تُوفِّي صاحب البيت وزوجته، تعهَّدت تربية أطفالهما، وأصبحت أمًّا لهم. تحسَّستُ أمرًا غريبًا تتهامس به أمي وقريبتها، ثم اتضح القرار: الخطر المحدق بي ليس من الفيضان فقط، ولا من الكلاب السائبة، فحسب- وذكرها يحيي في نفس أمي فاجعتي مع الكلب الذي هرسني قبل سنة- إنما الخوف من «اعتداء» من نوع آخر، اعتداء من السكارى الذين يتسكَّعون في الخرائب المهجورة حيث أمرُّ كل يوم في طريقي إلى المدرسة وعودتي منها. كنت أفهم الاعتداء على أنه ضرب، وعراك، وأرجِّح أن أمي بذلت جهدًا كبيرًا من أجل إفهامي باحتمال أن أتعرَّض لاعتداء من نوع آخر. أُمرتُ بترك المدرسة، وأُرجعت إلى القرية، فقد رُئِي أنني على حافة الخطر، وكيف لأمي أن تتغاضى عن احتمالات خطيرة تتعاظم يومًا بعد يوم! بقيتُ أتذكَّر، وطوال سنوات، أنه في البيت الذي انتقلت إليه عائلة أخي كانت تشاركنا أسرة لديها فتاة عزباء، اعتادت أن تحتضنني، وتشدَّني إلى صدرها، وبطنها، وتضعني حينما نكون وحيدين بين فخذيها، ولمَّا كنت أراها في سنين لاحقة أُحيِّي مستعذِبًا تلك الضمَّات الدافئة إلى الصدر، والحوض الدافئ الذي تربَّعتُ فيه أميرًا صغيرًا.

    جرى استبعادي من المدرسة، واقتِدتُ إلى القرية، ففارقتُ ورودي الحمراء، والحارس الذي بدأ يتقبَّل سرقاتي كل صباح. كجذر خامل انتزعتُ من المدينة، وألحقتُ بعائلتي في القرية. وقرَّرتُ أن ألتحق ثانية بمدرسة القرية التي حال الكلب، قبل سنتين، دون استمراري فيها، وحصلت موافقة أبي بطريقة غامضة، فالأرجح أنه استجاب لطلب أمي التي تصغره بربع قرن، فوجدتني على ظهر بغلتي منتفشًا من السرور برفقة الأطفال في طريقي إلى المدرسة. وحينما دخلتُ الصف، في أول خريف ١٩٦٥، عوملتُ على أنني طالب غير مؤتمن، ولا حظَّ لي في مواصلة الدراسة؛ فأملاك أبي تستدعي، في أي وقت، أن أُجبر على ترك المدرسة للاهتمام بها، كما أن لي سابقتين في هجرها. ذيَّل المدير اسمي في السجل المدرسي، وذهب إلى المخزن، وعاد يحمل رزمة ممزقة من الكتب. تحرَّاني ورماها إليَّ، وأنا منزوٍ في نهاية الغرفة، كما تُرمى قصعة متعفِّنة لأجرب، فأصبحت كتبي؛ وبها أحرزتُ المرتبة الأولى على أقراني في نهاية العام. وبقيتُ متفوقًا طوال السنوات الست دون أن يتخطَّاني أحد، وأغلب الدرجات التي حصلت عليها لم تنزل عن الحدِّ الأعلى، ولسنوات طويلة، احتفظت بشهاداتي الورقية تلك برهانًا على اجتهادي وتفوُّقي.

    في صيف عام ٢٠٠٣ حينما عدتُ إلى العراق، أول مرَّة، فوجئت بجماعة من رفاقي القدامى يدهمون مزرعتنا ليلًا كغُزاة، وهم يحملون السجلات الأصلية لمدرستي قبل أربعين سنة، فدلُّوني على صفحتي فيها، وكانت الدرجات كاملة، وصورتي طفلًا أقرع، بعينين ثاقبتين تطرقان المجهول، ملصقة على صفحة السجل، وعليها ختم المدرسة، وتوقيع المدير. أما الأقران، فجميعهم كهول، وكثير من الذين رافقتهم في طفولتي، قتلوا، أو هاجروا، أو عوَّقتهم الحروب المتتالية التي جُرَّ إليها العراق أو ذهب إليها طوعًا.

    شغفتُ بالقراءة منذ وقت مبكِّر، وفي أسابيع قليلة تعلَّمتُ أشكال الحروف ورسم بعض الكلمات. وجدتني أتقدَّم بسرعة بالغة، وفي درس، يقع في الصفحات الأولى من كتابي الممزق، بعنوان «خالد في الغابة» شرعت أهيم بتخيُّلاتي مع «خالد» في غابته مع الحيوانات التي رُسمت ببراعة: أسود، وفيلة، وزرافات، وطيور، وأشجار كثيفة، وثمار متدلية، وأنهُر، وهو يقف مأخوذًا في وسطها. صمَّمتُ، بعد أكثر من ثلاثين سنة، على شراء أرض كبيرة؛ لأزرع غابة كالتي دُهشت بها في طفولتي، وتحقَّق ذلك كله مع بيت منيف، وطرق معبَّدة. ولما أصبحت تلك الأحلام حقيقة على الأرض قصفت الطائرات الأمريكية بيتي الذي يتوسَّط البستان يوم ٣٠/١/٢٠١٥ ودمرته، بذريعة القضاء على مسلَّحي الدولة الإسلامية، ثم استباحته القوات الكردية، ونهبت ما فيه، وفجَّرت ما تبقَّى منه بما في ذلك سور المزرعة وبوابتها، وأحرقتْ مكتبتي التي سهرت عليها أربعين عامًا، ثم جرَّفت مئات الأشجار المثمرة. كان «خالد» سعيدًا في غابته، وكم سهرتُ أمام صورته على ضوء الفانوس، جوار أمي، وفي حضنها، أشاركه عالمه العجيب، وأحلم أن أكون مثله، ولما تمكَّنتُ من ذلك لم تكن لي أمٌّ، ولا بستان، ولا مكتبة، ولا وطن!

    كأنني

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1