Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أليكس وحيد في العالم
أليكس وحيد في العالم
أليكس وحيد في العالم
Ebook419 pages2 hours

أليكس وحيد في العالم

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الوداع، صاحَ أليكس بصوتٍ عالٍ في الهواءِ، ثمَ راحَ يعدو أسفلَ الشارعِ
مبتعداً عن بيتِ خالتهِ الأخضرِ الصغيرِ. وبينما هرولَ مغادراً، غمرتهُ سعادةٌ
وحشيَّةٌ عارمة. ها هو يبدأ الآنَ حياةً جديدةً كليّاً. وعندما وصلَ إلى التقاطعِ
الذي أوصلهُ إلى الشارعِ الرئيس الممتدِّ إلى وسطِ المدينةِ، استدارَ ثُمّ صرخَ
ثانيةً:
- لنْ أعودَ!
هذه الرواية أحداثها واقعية. تتحدث عن انتصار الحياة لذاتها، إنه انتصار
الحياة على الجوع والدموع والوحدة والألم حين يقف الصغير وقفة تأمّل لنفسه
ولمحيطه ليستشفّ الواقع بكلِّ ما فيه من فظاعة سعيًا إلى التكيّف معه، حتى
يستطيع الاستمرار
Languageالعربية
PublisherDar Al-Muna
Release dateMay 13, 2024
ISBN9789189940116
أليكس وحيد في العالم

Related to أليكس وحيد في العالم

Related ebooks

Reviews for أليكس وحيد في العالم

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أليكس وحيد في العالم - مونيكا زاك

    مونيكا زاك:

    كاتبة سويدية ولدت عام 1939، درست الصحافة في جامعة ستوكهولم، ومارست المهنة لسنوات عديدة. أبحرت مع زوجها بقاربٍ شراعيٍّ من السويد عبر المحيط الأطلسي في رحلة قادتها إلى جزر الهند الغربية وأمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى. ولد ابنها الأول خلال تلك الرحلة، وبدأت منذ ذلك الحين في كتابة كتب للأطفال والفتيان، وألفت ما لا يقل عن 25 كتابًا. ترجمت أعمالها إلى 17 لغة.

    استقت مادتها للكتابة من خلال تجولها كصحفية حول العالم منصبة في اهتمامها على الحكايات والتراث الشعبي لمختلف البلدان. وروايتها هذه «أليكس، وحيد في العالم» هي مَثَلٌ واضح على ذلك. تعيش الكاتبة في ستوكهولم، ولها أثرها الملموس في الحياة الثقافية.

    Second Arabic edtion 2021

    Arabic edtion © Bokförlaget Dar Al Muna AB, 2017

    Text : Monica Zak ©

    Originally published in Swedish by Opal

    under the title: Alex Dogboy

    Published in Arabic language by agreement with Opal

    Arabic text: Rawia Murra

    Arabic text © Bokförlaget Dar Al Muna

    All rights for Arabic language are reserved

    Printed by ScandBook 2021

    ISBN: 978 91 87333 71 2

    www.daralmuna.com

    مونيكا زاك

    أليكس، وحيد في العالم

    النص العربي: راوية مرَّة

    دار المنى

    الفصل الأول

    حوارات مع الكلاب

    كان الولَدُ الَّذي يُدْعى أَليكس جالسًا على ضفَّةِ نهرِ المدينةِ ذي الرَّائحةِ الكَريهةِ. كانَ شعرُهُ الأَسودُ الأَشْعثُ ظَاهرًا منْ تحتِ قبَّعةِ بيسبولٍ حمراءَ، وسِروَالهُ مُتَّسِخًا وسترتهُ أَكْبرُ مِنْ حجمهِ. حافيَ القدميْنِ؛ لأنَّ أحَدَ أطَفالِ الشَّوارعِ الآخَرينَ سرقَ حذَاءَهُ الرِّياضيَّ أثَناءَ اللَّيْلِ. فِي حضْنِهِ كلبٌ أَبْيض مائلٌ لونُهُ إِلَى الصَّفارِ معَ بقعٍ سوداءَ، يُربِّتُ ببطءٍ علَى ظَهرهِ.

    أمامهُ تمدَّد كلبٌ آخر، بنِّيُّ اللونِ، أكبر حجمًا، وفِراؤه أكثر غزارةً. ينظرُ الكلبُ الكبيرُ بلا انقطاع إلى وجهِ الولدِ، ويهزُّ ذيلهُ بينَ حينٍ وآخر. فيرتطمُ ذيلهُ الكثيفُ بالأرضِ الجافّةِ بإيقاعٍ رتيبٍ.

    تكلَّمَ أليكس، الَّذي اعتادَ على الحديثِ إلى كلابهِ بصوتٍ عالٍ.

    كانَ يفعلُ ذلكَ عندما لمْ يكن هناكَ منْ يسمعهُ.

    حدَّثَ كلابَهُ مرةً عن اليوم الَّذي غادرَ فيهِ بيتَهُ للحياةِ في الشوارعِ. ذلكَ اليوم الَّذي فقدَ فيهِ قدرتهُ على الانتظارِ.

    - طفحَ الكيلُ وتلاشتْ قدرتي على الاحتمالِ، قالَ وانحنى إلى الأمامِ ليتمكنَ منْ مداعبةِ أُذنَي الكلبِ الكبيرِ. لمْ يبقَ لديَّ قدرةٌ على الانتظارِ. كانت خالتي واقفةً تُعِدُّ الطعامَ، ولمْ ترني حينَ تسلَّلتُ إلى غرفةِ نومِها، وفتحتُ أحدَ أدراجِ خزانَتِها. بحثتُ في الدرجِ حتَّى وجدتُ ما كنتُ أبحثُ عنهُ؛ الصورَ. وجدتُ الصورتينِ المتبقيتينِ لأمِّي، وصورةً لأبي كانتْ عبارةً عن صورةٍ لجوازِ سفرٍ.

    خبَّأتُ الصورَ تحتَ سترتي وخرجتُ إلى الحديقةِ. هلْ تعلمانِ ماذا فعلتُ بعدَ ذلكَ؟ هلْ تستطيعانِ التخمينَ؟ أجلْ، تعلمانِ ذلكَ لأنني حدثتكما عن الأمرِ سابقًا. نعم، أشعلتُ نارًا وألقيتُ فيها الصورَ الَّتي وجدتُها لأمي والصورةَ الصغيرةَ لأبي. بكيتُ حينَ فعلتُ ذلكَ. لكن الكيلَ كانَ قد فاضَ، وتلاشتْ قدرتي على انتظارِهما. على الرغم من بكائي شعرتُ بالراحةِ بعدَ إحراقِ صورِهما. رأيتُ وجهيهُما يلتويانِ ويتقلصانِ ويتحولانِ إلى فحمٍ أسودَ لمْ يبقَ منْهُ في النهايةِ إلا بعضُ الرمادِ الَّذي تساقطَ داخلَ النارِ. لقد اختفيا تمامًا، قلتُ لنفسي. ها أنا الآنَ حرٌّ. ثمَّ قمتُ بعدَ ذلكَ بإحراقِ شهاداتي المدرسيَّةِ ووثيقةِ ولادتي.

    عندَما انطفَأَتِ النارُ الّتي أشعلْتُها في الحديقةِ، نهضتُ وسِرتُ مبتعدًا عن بيتِ خالتي. كان بيتًا صغيرًا أخضرَ اللونِ في منطقةٍ بمحاذاةِ المطارِ. سِرتُ في البدايةِ ببطءٍ، ثم بدأتُ أركضُ. أذكرُ أنني شعرتُ فجأةً بأنني سعيدٌ جدًّا. كنتُ في طريقي للبدءِ بحياةٍ جديدةٍ. سأصبحُ واحدًا منْ أطفالِ الشوارعِ، ولنْ أفكرَ ثانيةً بأمِّي وأبي على الإطلاقِ.

    الفصل الثاني

    أمي الحبيبة

    وُلِدَ الصَّبيُّ الَّذي قرَّرَ العيشَ مع الكلابِ في مدينةٍ صغيرةٍ بمحاذاةِ البحرِ. المرأةُ الَّتي أنجبَتْهُ أنجبت العديدَ مِنَ الأطفالِ غيره، ومعَ ذلكَ استغرقَتْ ولادتهُ وقتًا طويلًا. عندما رفعت القابلةُ مولودًا صغيرًا أحمرَ اللونِ باكيًا قالتْ:

    - لقد أنجبْتِ صبيًّا. إنهُ جميلٌ، ولكنْ...

    ثمَّ توقفَتْ عن الكلام، والتزمَتْ الصمت.

    نظرَت الأمُّ بعينينِ يُثقلِهُما القلقُ إلى مولودِها الجديد. كان الطفلُ يبكي كما يجب، وبدا للوهلةِ الأولى مثلَ جميعِ الأطفال الَّذينَ سبقَ وولدتهُم. كانت لديه أصابعُ يدٍ وأصابعُ قدمٍ وأنفٌ مضحكٌ صغير، ثمَّ رأت الأمُّ أُذنَيه. أُذُنا الطفلِ لمْ تكونا كما يجبُ، بلْ كانَ يغطيهما شعرٌ أسود طويلٌ. نَمَتْ على أُذنَي الولد كتلٌ من الشعرِ. شرابة سوداءُ لكلِّ أُذُنٍ.

    - لهُ أُذنا كلبٍ، همست الأمُّ برُعبٍ جليديٍّ يملأ صوتها.

    - لا، هذهِ ليستْ آذانُ كلابٍ. وجودُ الشعرِ على آذانِ الأطفالِ حديثي الولادةِ ليسَ أمرًا نادرًا. لقد رأيتُ أطفالًا آخرينَ يولدونَ بآذانٍ تُغطيها كتلٌ منَ الشعرِ. تلكَ الشعراتُ السوداءُ الطويلة تتساقطُ تلقائيًّا مع مرورِ الوقتِ. هلْ تعرضت للخوفِ مِن كلابٍ أثناءَ فترةِ الحملِ بمولودك؟

    - نعمْ، قالت الأمُّ.

    - هذا يفسِّرُ الأمرَ.

    عِندَ ولادتهِ، أُطلِقَ اسم أليكس على الصبيِّ الَّذي سُمِّيَ فيما بعد «صاحبُ الكلابِ». كتلُ الشعرِ التي كانتْ تكسو أذنيهِ تساقطتْ فعلًا بعدَ أسبوعٍ من ولادتِهِ، لكن طيلَة فترةِ سُكْناهُ في بيتِ أهلهِ قيلَ لهُ إنَّهُ وُلِدَ بأُذنَي كلب. كان الجميعُ يعلمونَ ذلك، وكان إخوتهُ الكبارُ وأبناءُ الجيرانِ يحبونَ إزعاجهُ ومناداتِهِ باسمِ «أُذُن الكلبِ» بصوتٍ عالٍ. كان يمقتُ اسمَ «أُذُنِ الكلبِ» على الرغم من حُبِّهِ للكلاب.

    لأنَّهُ الأصغرُ بينَ أبنائِها، كانتْ والدتهُ تدعَهُ يجلسُ في حضنها دائمًا. وكانت ذراعاها المكتنزتان الدافئتانِ تغمرانه كلما جلسَ في حضنها. كان شعرُها أسودَ اللونِ لامعًا، ومنِ أُذُنيها يتدلى قرْطان منَ الذهبِ. كانتْ أمُّه تُطعِمُه بملعقةٍ صغيرةٍ، وحينَ يقعُ ترفعهُ، وتنفضُ الغبارَ عنْ ملابسهِ، وتقبِّل خدَّيه أولًا ثم تقبِّل شفتيه. حينَ يؤذي نفسَه كانتْ تنفخُ على المكانِ الَّذي يؤلمه. على أيَّةِ حالٍ، هذا ما خُيِّلَ إليهِ لاحقًا حينَ عاشَ مع كلابهِ. في الحقيقةِ نستطيعُ أنْ نقولَ إنَّهُ لمْ يتذكرْ والدتَه ولا سنواتِ حياتهِ الأولى بمحاذاةِ الشاطئ. لكنَّه ما زالَ يتذكرُ والده وإخوتَهُ. ويتذكَّرُ كلبَهُم الَّذي كان يُدعى «بلوندي». ويتذكَّرُ الدجاجات، وأنَّ للبحرِ وجوهًا كثيرة. في بعضِ الأيام كان البحرُ هادئًا ومُشعًّا بلونهِ الأزرق الفاتح، وفي بعضِ الأيام الأخرى يقذفُ إلى أعلى الشاطئ أمواجًا هائلةً.

    يذكرُ أنَّه كان يرافقُ الآخرينَ إلى الميناءِ حيثُ يعملُ والِدهُ. يتذكرُ أنَّهُ وقفَ على أحدِ أرصفةِ الميناءِ، ورأَى والِدَهُ وهو ينقلُ عثاقيلَ الموزِ الى أحدِ القواربِ.

    لكنْ لماذا لا يتذكرُ والِدتَهُ؟

    ففي كلِّ الأحوالِ، لمْ يكنْ سِنُّهُ أقلَّ مِنْ أربعِ سنواتٍ حينَ غادرتْ أمُّه.

    ألا يجبُ أنْ يتذكَّرها؟ ألا يجبُ أنْ يحتفظَ على الأقلِّ ببعضِ الذكرياتِ عنْها؟ لكنْ لا، ذاكرتهُ خاليةٌ تمامًا منها. ربّما لأنَّ ذكرياته عنها كانتْ مفعمةً بألمٍ لا يُطاق؟ ربُّما كان نسيانُهُ حتَّى لليوم الَّذي غادرتْ بهِ أمرًا إيجابيًّا، نسيانُه اليوم الَّذي اختفتْ فيهِ منْ حياتهِ. مهلًا، ربُّما نُسيءُ اختيارَ الكلماتِ هنا. هيَ لمْ تختفِ بالمعنى الصحيحِ للكلمة. هي تخلَّتْ عنْ عائلتِها.

    يتذكرُ أليكس أنَّ أخاهُ الكبيرَ هوغو كان يقولُ إنَّ والدتَهُم سافرَتْ إلى أمريكا. إنَّها تعيشُ في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ حاليًّا. سافرَتْ إلى هناكَ لتعملَ وتحصلَ على المالِ وإنَّها ستعودُ. ستعودُ يومًا ما وتأخذنا معها، لأنَّ هذا ما وعدَتْنا به. ستفعلُ، ستدخلُ يومًا ما منْ ذلكَ البابِ لتأخُذَنا معها إلى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ.

    انتظرَ أليكس. أوَّل ما كان يفعلُهُ حينَ يصحو كلَّ يوٍم مِنَ النومِ هو النظرُ باتجاهِ البابِ، حيثُ كان منَ المفترضِ أنْ تدخلَ.

    بعدَ ظهرِ كلِّ يوم كان يذهبُ إلى موقفِ الحافلاتِ. كان يعلمُ أنَّ الحافلةَ القادمةَ من أماكنَ نائيةٍ تتوقفُ هناكَ، وهناكَ يترجَّلُ منها القادمونَ من بعيدٍ بعيدْ. تعوَّدَ النظرَ إلى النساءِ اللَّاتي تترجلْنَ مِنَ الحافلةِ الضخمةِ الفضيَّةِ اللونِ. أهذهِ أمُّه يا تُرى؟ أمْ تلك؟

    لمْ يُخبرْ أحدًا عنِ السببِ الَّذي جعلهُ يذهبُ إلى الموقفِ وينتظرُ حافلةً بعدَ الظهرِ. الكائنُ الوحيدُ الَّذي كان يعلمُ أنَّ أليكس انتظرَ أنْ تترجلَ أمهُ منَ الحافلةِ هو الكلبُ، بلوندي. بلوندي كان يرافقهُ دائمًا، وكانا ينتظِرَانِها معًا.

    ما هو شكلُها في اعتقادكَ؟ كان يسألُ بلوندي عادةً. هل هي طويلةٌ؟ أمْ هي سمينةٌ مثلَ جارتنا؟ أمْ تُراها تشبِهُ أحدَ إخوتي يا تُرى؟

    لمْ تترجلْ مِنَ الحافلةِ أُمٌّ مجهولةٌ في يوٍم ما.

    شوقهُ إلى أمهِ لمْ يختف، بلْ على العكسِ، راحَ ينمو ويكْبُرُ، وتحوَّلَ إلى غيمةٍ تحلِّقُ فوقَ رأسهِ دائمًا. كان يراها بيضاءَ وهشَّةً مثلَ غزل البناتِ في بعضِ الأيام، وفي أيامٍ أُخَر كان يراها سوداءَ مفترسةً.

    بدأ الذهابَ إلى المدرسةِ. كان ذاتَ يومٍ يجلسُ إلى طاولةِ المطبخ ليقومَ بواجباتهِ المدرسيةِ. كان حينها في الصفِّ الأولِ، وبينما هو يكتبُ الرقمَ ثلاثة على السطرِ توقفَتْ سيارة تاكسي خارجَ المنزلِ، وترجَّلَتْ منها امرأةٌ مجهولةٌ. وقفتْ في الشارعِ، ابتسمتْ وفتحتْ ذراعيها، ثم هرعَ إليها إخوتهُ صارخينَ:

    - ماما! ماما!

    لقد عادتْ أمُّهُ!

    أخيرًا، عادتْ أمُّهُ.

    ظنَّ أليكس أنَّهُ سينفجرُ مِنَ الفرحِ، راحَ يضحكُ ويقفزُ حولها ويلامسها. ها هي أمُّهُ هنا. أمُّهُ الغاليةُ قدْ عادتْ. لمْ يتمكنْ منَ انتزاعِ نظراتهِ عنها. أخيرًا عرفَ شكلها. شعرها بنيٌّ طويلٌ، ربطتهُ كذيلِ حصانٍ، ووضعت أقراطًا في أذنيها وأساورَ في يديها وملابسَ مزركشةً بالكثيرِ منَ الألوانِ، وحذاءً أبيضَ عالي الكعب. ضحكَتْ كثيرًا، وكان معها حقائبُ سفرٍ، وتذكرَتْ اسمه حيثُ قالتْ:

    - أليكس، صغيري يا أليكس، كبرتَ كثيرًا.

    قامتْ أمهُ بكلِّ ما جرى في مخيلتهِ أنَّها ستفعلُه حينَ تعودُ منَ السفرِ، عانقتْهُ وقبَّلتْهُ وداعبتْ شعرهُ، ثمَّ فتحتْ إحدى حقائبها، وأخرجتْ منها هدايا للجميع.

    حصلَ هو على سترةِ الرجلِ الوطواط وسيارةٍ صغيرةٍ.

    لَعِبَ أليكس بالسيارةِ، وتَبِعَ أمَّهُ في كلِّ مكانٍ. لمْ يدعْها تغيبُ عنْ نظرهِ لحظةً. إذا دخلتْ غرفتها أو خرجتْ إلى الحديقةِ أو ذهبتْ إلى بيتِ الجيرانِ، كان دائمًا خلفها. لمْ يترك المسافةَ بينها وبيْنه تزيدُ عنْ مترٍ واحدٍ.

    بعد فترةٍ وجيزةٍ أدركَ أليكس أنَّ أمهُ لمْ تكنْ تنوي البقاءَ. لقد عادتْ لتبيعَ أرضًا تملُكُها وكي تأخذَ أولادَها. أرادتْ أنْ يرافقوها حينَ تعودُ إلى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ. أدركَ أليكس أنَّ الولاياتِ المتحدةَ بلدٌ آخرُ مختلفٌ. كان يعلمُ أنَّ البلدَ التي يسكنها هو تُدعى الهندوراس. تعلَّمَ في المدرسةِ أنَّ الهندوراس تقعُ في أمريكا الوسطى. وها هي أمُّهُ تنوي أنْ تأخذَهُمْ إلى بلادٍ أكبرَ بكثيرٍ تُدعى الولاياتُ المتحدةُ الأمريكية، وتقعُ شمالًا. سكنتْ أمُّه إحدى مدنِها التي تُدعى لوس أنجلس. تريدهمْ أنْ ينتقلوا إلى هناك جميعًا.

    وهكذا، أخذتْ أمُّه أولادها جميعًا معها حينَ عادتْ إلى الولاياتِ المتحدة.

    إلا هو.

    يظنُّ أليكس أنَّه كان في السادسة من عُمرهِ حينَ وقعتْ تلكَ الكارثة. الحدثُ الَّذي بقيَ في روحهِ جرحًا مفتوحًا ومتقيّحًا. هدرت الكلماتُ داخلَ رأسهِ لبقيةِ عمره، كلماتُ أمِّه:

    - لنْ ترافقَنا إلى هناك.

    بكى وصرخَ وحاولَ أنْ يتشبثَ بها، لكنَّ أمَّهُ، حبيبتهُ، خرجتْ مِنَ البيتِ برفقةِ إخوتهِ الأربعة. لمْ ينفعْ بكاؤُه ولا صراخهُ الحادُّ. لمْ تسمحْ لهُ بمرافقتهم.

    الفصل الثالث

    أيــــن أبـــــي؟

    تقعُ مدينةُ تيلا على ساحلِ المحيطِ الأطلنطي الهادرِ. لمْ يستطعْ أليكس رؤيةَ البحرِ مِنَ البيتِ الصغيرِ المبني منْ ألواحِ الخشب، الَّذي كان يسكنهُ مع والدهِ، لكنَّه كان يسمعُ هديرَ البحرِ أحيانًا. كان يخافُ البحرَ قليلًا؛ ولذلكَ تعوَّدَ أنْ يسبحَ في نهرِ سان خوان. صارَ الآن وحيدًا مع أبيهِ، والكلب بلوندي. بساتينُ الموزِ الشَّاسعَةُ في الجوارِ جعلتْ منَ الموزِ أرخصَ أنواعِ الطعام. سَئِمَ أليكس الموز.

    أحيانًا، حينَ كان والدُهُ في إجازةٍ منَ العملِ، كانا يستقلَّانِ قاربًا صغيرًا بمحرِّكٍ خارجي ويبحرانِ لصيدِ السَّمكِ. حصلا في إحدى المرَّاتِ على ملءِ جردلٍ منَ السَّمكِ خلالَ دقائقَ معدودةٍ. كان أليكس يضعُ الطُّعمَ على السنَّارةِ ويُلقي بها في البحرِ. بقيتْ ذكرى رحلة الصيدِ تلكَ في ذهنهِ كواحدةٍ من أسعدِ ذكرياتِ طفولتهِ، بعد ذكرى عودةِ والدتهِ من السفرِ. يرمي السنَّارةَ ويشعرُ مباشرةً بإقبالِ السَّمكِ إليها. كان جسدهُ يصابُ بنشوةِ الحماسِ حينَ يشعرُ أنَّ السمكةَ التي ابتلعتْ الطُّعمَ كبيرةَ الحجمِ، ويشعرُ بصراعها مع السنارةِ في الأعماقِ تحتَ سطحِ الماءِ الداكنِ، حينَ تسبحُ في هذا الاتجاهِ أو ذاك، باحثةً عن الخلاصِ.

    - تستطيعُ الآنَ أنْ تبدأ بسحبِ الخيطِ، يقول والدُه، لكن اسحبْهُ بحذرٍ حتى لا تُفلتَ منه السمكةُ.

    كانت السمكةُ الخفيةُ في الأعماقِ تصارعُهُ حينَ بدأ بسحبِ الخيطِ العالقِ بالسنارةِ. نظرَ إلى والدهِ الَّذي قالَ له مشجعًا:

    - ما عليكَ إلَّا أنْ تسحبَهُ بهدوءٍ الآن. سوفَ تنجحُ بالمهمةِ.

    رويدًا رويدًا سحبَ الخيطَ الذي جرحَ يديهِ، والّذي تسببَ لهُ بالألمِ، لكنَّه لمْ يتوقفْ عنْ سحبهِ.

    قاومتِ السمكةُ بشراسةٍ تحتَ سطحِ الماءِ. لمْ يتمكنْ من رؤيتِها بعْد، لكنَّه كان يشعرُ أنَّها ضخمةٌ ووزنُها ثقيلٌ. وقفَ أليكس في القاربِ، لفَّ خيطَ السنارةِ حولَ يدهِ وراحَ يسحبهُ نحوه رويدًا رويدًا، سنتيمتراتٍ قليلةٍ كلَّ مرةٍ، شاعرًا طيلةَ الوقتِ بمقاومةِ السمكةِ. لا بدَ من أنَّها سمكةٌ عملاقةٌ. فجأةً انفجرَ الماءُ وظهرتْ أمامهُ سمكةٌ فضِّيَّةٌ ضخمةٌ في غيمةٍ من رذاذٍ، فوقعَ إلى الخلفِ على ظهرهِ في القاربِ، وحطَّتِ السمكةُ الفضيَّةُ الضخمةُ فوقَهُ.

    - رائع! إنَّها سمكةُ «الماهي ماهي»، قالَ والدهُ. مَنْ كان يظنُّ أنَّكَ بهذهِ البراعةِ؟ لقدْ اصطدتَ سمكةً «ماهي ماهي» ضخمةً جدًّا.

    كانتِ السمكةُ ضخمةً بحيثُ كان فيها ما يكفي مِنَ الغذاءِ لإطعامِهِما أسبوعًا كاملًا. سمك «الماهي ماهي» المقلي ألذُّ الأطعمةِ التي تناولها أليكس على الإطلاقِ.

    كان أليكس يتشاجرُ مع رفاقهِ في المدرسةِ مرارًا، وكان يحبُّ الشجاراتِ. فجأةً، في يومٍ منَ الأيامِ تركَهُ والدهُ في بيتِ عمِّهِ في شمالِ البلادِ. هناكَ مُنِعَ مِنَ الذهابِ إلى المدرسةِ، وأُجبِرَ على العملِ. كان عمُّهُ يعملُ سائقًا للحافلاتِ. مُهمَّةُ أليكس كانتْ غسْلَ الحافلةِ ووضعَ الحقائبِ والأمتعةِ داخلها والوقوفَ في المحطةِ والصراخ: إلى حدودِ غواتيمالا! إلى حدودِ غواتيمالا!

    في يومٍ منَ الأيامِ تعرَّضَ عمُّهُ لحادثِ سيرٍ أثناءَ قيادتهِ الحافلةَ وماتَ. كان ذلكَ الحدثُ بحدِّ ذاتهِ محزنًا، لكنَّ الإيجابي في الأمرِ هو قدومُ والدهِ ليأخذَهُ ويعيدَهُ إلى البيتِ. فَرِحَ الكلبُ بلوندي كثيرًا عندَ رؤيتهِ.

    - سوفَ ننتقلُ من هنا، قالَ والدُهُ في أحدِ الأيام عندَ عودتهِ مِنَ الميناءِ حاملًا عثقول موزٍ فوقَ كتفهِ. سننتقلُ إلى حيثُ تسكنُ خالتكَ في تيجوسيجالبا.

    - ما هي تيجوسيجالبا؟

    - هي عاصمةُ هندوراس. سوفَ تُحبُّها.

    لمْ يُسمَحْ للكلبِ بلوندي بمرافقتهما. عندما سألَ أليكس عن الكلبِ أجابَ والدهُ بأنَّهُ أعطاهُ لأحدِ الجيرانِ.

    انتقلا إلى بيتِ الخالةِ «آنا لوسيا»، وهي أمٌّ لعددٍ كبيرٍ مِنَ الأطفالِ. بدأ أليكس بالذهابِ إلى المدرسةِ هناك. وفي أحدِ الأيام، حينَ كان أليكس في الصفِّ الثالثِ، استيقظَ من النومِ ووجدَ سريرَ والدهِ خاليًا.

    - أين أبي؟ سألَ أليكس خالتَهُ.

    - لقدْ سافرَ.

    - إلى أين؟

    - إلى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية. سيحاولُ دخولها بطريقةٍ غيرِ شرعيةٍ للحصولِ على عملٍ هناك. وعَدَ أنْ يرسلَ المالَ حالما يحصلُ على عملٍ.

    - هل سافرَ إلى حيث تعيش أمي؟

    - لا، لقد تزوجتْ أمُّكَ مِنْ رجلٍ آخر.

    لمْ تسألْ أمُّ أليكس عنهُ، وكذلكَ لمْ يسألْ عنه أبوه.

    استحوذَ الصمتُ على أليكس شيئًا فشيئًا. كانَ البكاءُ رفيقَهُ في كثيرٍ منَ الليالي.

    الفصل الرابع

    هل من اتصالٍ منْ أحد؟

    في أحدِ الأيامِ، حينَ كان أليكس وحدهُ في البيتِ، قرَّرَ أن يدخلَ الغرفةَ التي تنامُ فيها خالتهُ مع بناتها؛ لأنَّ في الغرفةِ شيئًا أرادَ رؤيتَهُ. إلى جانبِ أحدِ الأَسِرَّةِ، المرآةُ الكبيرةُ الوحيدةُ في المنزل. أرادَ أليكس أن يرى شكلهُ كاملًا في المرآة.

    أرادَ أنْ يرى بأمِّ عينيهِ ما هو الأمرُ الغريبُ في مظهرهِ.

    أرادَ أنْ يفهمَ السببَ الذي جعلَ أمَّهُ وأباهُ يتركانهِ وحيدًا. لماذا لمْ يصلح ابنًا لهما.

    لا بدَّ من أنَّ هناكَ خطأ ما جعلهما يتخلَّيان عنهُ، لقدْ أدركَ ذلك.

    لقدْ أخذَتْ أمُّهُ إخوتَهُ وتركتهُ هو. أرادَ في تلكَ اللحظةِ أنْ يفهمَ السبب. هل يعودُ الأمرُ إلى قبحِ شكلهِ؟ أمْ إلى غبائهِ؟ أمْ إلى ذنبٍ ما اقترفهُ؟ على الرغم من جميعِ المحاولاتِ، لمْ يتذكرْ أليكس أنهُ اقترفَ ذنبًا ما، أو أنَّهُ كان أكثر شقاوةً وعنادًا منْ إخوتهِ.

    راحَ أليكس يحدِّق في ذلكَ الولدِ الَّذي رآه في المرآةِ. لمْ يكنْ شكلُ الولدِ غريبًا بطريقةٍ ما، بلْ إنَّهُ يشبهُ الأولادَ الآخرينَ إلى حدٍّ بعيدٍ. نظرَ إلى شعرهِ الأسودِ الأشعث، العينين السوداوينِ، الفمِ الَّذي يميلُ بطبعهِ إلى الضحكِ والَّذي كان الآن جدّيًّا إلى حدِّ العبوسِ بزوايا تشيرُ إلى أسفلِ الوجهِ.

    كانت في خيالهِ ذكرى ضبابية لإخوتهِ وهم ينادونَهُ «أذن الكلب» كعادتهم، منذُ مائةِ عام، يوم كانوا يسكنونَ بمحاذاةِ البحرِ. أزاحَ شعرهُ عن أذنيهِ ونظرَ إليهما. ليستا أذنَي كلبٍ على الإطلاقِ. ربما أذناهُ بارزتانِ قليلًا لكنَّهما أذنانِ عاديتانِ جدًّا.

    سَمِعَ أليكس

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1