Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

The Bell and the Minaret Arabic
The Bell and the Minaret Arabic
The Bell and the Minaret Arabic
Ebook382 pages2 hours

The Bell and the Minaret Arabic

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook


تسافر بنا الرواية في عوالم وليد الذي يحبّ السينما ويريد السّفر إلى فرنسا للدراسة، وإخراج أفلام تطرح رؤيته وتساؤلات ه عن الدين والحياة والفقد والعزلة. تقودهُ آماله لى للوقوع في حبّ فتاة فرنسيّة، تقيم إلى جواره ، يجد في حضورها تعويضًا لفقدان أخته المتوفّية. تكشف أحداث الرّواية عن مغامرة ذاتٍ لا تكفّ عن خوض التجارب الفكريّة والحياتيّة، وسط محيط تتعايش فيه الدّيانات والجنسيّات، وتتداخل فيه العلاقات الاجتماعيّة ٠
Languageالعربية
Release dateApr 26, 2020
ISBN9789927129049
The Bell and the Minaret Arabic

Related to The Bell and the Minaret Arabic

Related ebooks

Reviews for The Bell and the Minaret Arabic

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    The Bell and the Minaret Arabic - Nizar Shakroun

    Al_Naqoos_wal_Ma'thana-Cover_(Print).jpg

    الإهداء

    إلى صلاح، الإنسان مشروعٌ كونيّ

    جميع شخصيات هذه الرواية وجزء كبير

    من الأحداث الواردة فيها هي من وحي خيال المؤلّف.

    رعشةُ الرّحيل

    التّائهون وسط غابةٍ من المشاعر يبحثون عن شجرةٍ تحملُ اسماً

    حلّت أسرة مسيو فرانسوا في حيّنا مثلما يحلُّ قوس قزح في أفق يتيم.

    كانت الأُسَر الأجنبيّة تختفي الواحدة تلو الأخرى، الطّليان واليونانيّون والمالطيّون شرعوا في مغادرة المدينة تباعًا، كأنّهم طيور مهاجرة تعود إلى أعشاشها. أمّا الفرنسيّون، فرغم موجة الرّحيل التلقائي، ظلّوا محافظين على تواجدهم في معظم أنحاء المدينة، ثمّ تكاثروا على إثر إعلان سياسة الانفتاح الاقتصادي، وظلّت روائح صابونهم تُعطّرُ الشّوارع الرّئيسيّة للمدينة الفرنسيّة، التي شيّدوها على أنقاض أمواج البحر المنهكة، قبيل الاستقلال.

    كلّ فرنسي استقرّ في المدينة استوطن بيتًا لأجنبيّ مغادر. تناوب الأجانب على الدّيار فبقيت مطليّة بذكريات غربتهم.

    عندما دخل مسيو فرانسوا حيّنا كانَ وحيدًا إلّا من حقيبته البنيّة، ولم تكن عائلته قد غادرت فرنسا بعدُ. شاءت الأقدار أن تسوقه قدماهُ إلى البناية المجاورة لبيتنا، ويستقرّ منزل اليهودي، المسيو عازر، الذي غادره قبل أسابيع قليلة.

    التحق مسيو عازر بابنه اسحاق في باريس، وسط إشاعات تردّد أنّه سافر إلى إسرائيل، بعد أن تلقّى دعوة من أبناء عمّه الذين نشطوا في سوق الصّاغة في المدينة، ثمّ غادروا إلى إسرائيل إثر هزيمة العرب.

    كانت تلك الإشاعات تتكرّر كلّما سمعنا بمغادرة يهودي أحد الأحياء. ولكن، لو أراد مسيو عازر الالتحاق بأبناء عمّه حقًّا، لهاجر معهم في موجة الرّحيل الجماعي، التي شملت أغلب أفراد الجالية اليهوديّة في البلد، غير أنّه مكث في الحيّ لسنوات بعد الهزيمة. كلّما وجدته يرابطُ عند حلاّق الحيّ، سي فرج، سمعته يقولُ: «الولفة تنسّي حتّى الخلفة»، ثمّ يسترسل في الحديث عن علاقته بجيرانه، وكيف أنّه فخور بصداقاته، ولا يفكّر في الالتحاق بابنه... غير أنّ تقدّمهُ في السنّ أجبره على المغادرة، فقد ظلّ وحيدًا في بيْته، لا يغادرهُ إلاّ لمامًا، وخشيَ أن تنفرد الوحدة به فتقضي عليه.

    أذكُرُ صورتهُ حين زارنا ذات يومٍ، وهو يجرُّ قدميهِ كأنّهما متورّمتان، وقد بدا بدينًا أكثر من ذي قبل. قال لأبي: «الوحشة قاتلة، والدّنيا ضاقت عليّ من غير أنيس».

    كانَ قد عزم على ترك بيْته إلى غير رجعة.

    حينَ عاد ليودّعنا، لم يكنْ يحمل معه سوى حقيبة خفيفة، وقد ترك خلفه كلّ ما في البيْت من أثاث قديم، وأوصى بأن يتولّى أبي توزيعها على المحتاجين، كما سلّمهُ توكيلاً بتأجير بيته، على أن يرسل له قيمة الإيجار في نهاية كلّ شهر.

    تعجّبت أمّي من قبول أبي مسؤوليّة «بيت اليهودي»، كما كانت تسمّيه. ولكنّ أبي ما فتئ يذكّرها بأنّه كان جارًا فاضلًا، وأنّ النبيّ أوصى بالجار، وأنّ تأجير البيت وإرسال المال عملٌ خيّر يُزيل الذّنوب، وذكّرها بوقوف مسيو عازر إلى جانبهما أيّام مرض أختي سُهى، وكيف كان ينقلهما إلى المشفى بسيّارته كلّ يوم، قبل أن يبيعها...

    دافع أبي باستماتة عن جاره وصديقه، إلا أنّه لم يُقنع أمّي، التي بقيت لا تحتمل الحديث عنه كثيرًا.

    عمل أبي بالوصيّة، وسارع إلى الأب دومينيك، القسّ الفرنسيّ، لمساعدته على تأجير بيت مسيو عازار، فالأب دومينيك مطّلع على حركة المدّ والجزر في الجاليات الأجنبيّة، ويعرف المغادرين من الوافدين، ولا يخلو بيتُه منهم، كأنّه نقطة عبور لهم.

    لم يطُل انتظار أبي.

    أعلمه الأب دومينيك بقدوم طبيب فرنسيّ، متزوّج من امرأة ذات أصول يونانيّة وله بنتان. وأخبره بأنّ سيرته حسنة، وخبرته في مجال الطبّ ستفيد أهل الحيّ.

    كان مسيو فرانسوا نحيلاً، تختفي عيناه وراء نظّاراته الطبيّة السّميكة، وقد بدت على وجهه علامات الكبر، رغم أنّه لم يتجاوز الخمسين من العمر. حين ظهر لأوّل مرّة، تحدّث الجيران عن عودة اليهودي من باريس بعد فشله في السّفر إلى إسرائيل.

    أوضح أبي لأهل الحيّ: «السّاكن الجديد مسيحيّ فرنسيّ ولا علاقة له باليهود». ولكنّ الجيران بدأوا يتساءلون عن سرّ قدوم هذا الفرنسي إلى الحيّ، وسرّ تأجير البيت لأجنبيّ.

    امتعض بعضُ رجال الحيّ من أبي، حتّى أنّ بعضهم لامَهُ بحنقٍ على الموضوع، كأنّما أجّر البيت لجنيّ وليس لإنسيّ. ولكنّ هذه الألسن كلّت بعد فترة وجيزة من استقرار مسيو فرانسوا في الحيّ، وهدأت الخواطر، تحديدًا بعد أن خصّص عيادة مجّانيّة للمرضى أيّام الجُمعة، والتحقت به زوجته وبنتاه، فأهل الحيّ يخشون دائماً الرّجل الأجنبيّ الأعزب.

    كانت فانيّا، ابنة الطبيب الصّغرى، في العاشرة من عمرها يوم وصولها، وكنت أكبرها بسنتين، لكنّها كانت في طول قامتي تقريبًا، وهو ما أدهشني يومئذ! فبنات الحيّ قصيرات، بل نساء الحيّ أيضًا. لا أعرف لماذا ابتلى اللّه نساءنا بقِصر القامة وأنعم على نساء الغرب بالطّول؟!

    أُمُّ فانيّا طويلة القامة أيضًا، كانت تحني ظهرها قليلًا كلّما تحدّثَت إلى أمّي. ولم تكنْ قامتها تستهويني كثيرًا، ولكنّني كنْتُ أشعر بميلٍ غريب تُجاهها، يشبه ميلي إلى الاختباء وراء جذع نخلة.

    يوم لمحتُ فانيّا تدخل بعسر إلى مدخل البناية، لوهلةٍ تراءت لي سُهى تعودُ إلى الحيّ، متثاقلةً من شدّة المرض. كانت فانيّا ترتدي تنوّرة قصيرة ورديّة وسترةً سماوية اللون، وصندلًا واطئ الكعب، ويعبثُ الهواءُ الطريُّ بخصلات شعرها الأحمر، وتتلفّت يمنةً ويسرةً، متفحّصة بتوجّس العالم الغريب حولها. احتفظتُ بهذه الصّورة الأولى لها في ذاكرتي كمن يقبض على كنز.

    سكنت فانيّا منطقة موغلة في العتمة داخلي، جعلتني أشعر بإحساس هجين بين العطف والحبّ والحيرة، لم أستطع تمييز الخيط الفاصل بيْن كلّ هذه المشاعر. عمَّرتْ مكانًا خاويًا، خلتُ أنّه لن يُعمَّر بعد موتِ سُهى، التي رحلت وهي في اكتمال البدر! لكنّني صرتُ منذُ قدومها، أشعُر بضيق البيت والشّوارع والمدينة والبلد أكثر من السابق، وأبحث عن ملْجئ آخر غير غُرفتي وذكريات أختي. بقيتُ لسنوات أُقلّبُ معنى الوحشَة، فلا أجدُ تعريفًا يقيني من لدغها، وأحتسي كلّ يومٍ رغبة الخروج إلى برٍّ آخر، فلا أجدُ غير صدى الأسئلة التي نبتت في عروقي، منذُ أن رأيْتُ جسد سهى يُوارى التّراب، وأبي يحنو على رأسها، ويودّعها بكلمات أشبه بالتمائم.

    توقّعتُ حينَ استقرّت عيناي وعينا فانيّا على خطّ الأفق، أنّ الغياب سيضمحلّ تمامًا، ورأيتُها سطرًا جديدًا يحلُّ مكان سطر آخر خفَتَ حبرُهُ إلى الأبد.

    طالما أرّقتني وقائعُ الرّحيل، كائناتٌ تغيبُ في الماضي، بينما تتدفّق كائنات من كلّ صوب بألوان أخرى. موتٌ وميلاد في دورةٍ لا تنتهي، لا يكونُ محورها غير وتد النّسيان. وكم وددتُ اقتناص قوس قزح حتّى يؤبّد في سمائي من دون أفول، ولكنّه، مثل كلّ شيء، كان يظهر ليغيب.

    عينُ الكحلة

    الغرابُ لا يُواري إلاّ سوأته

    طرقتْ زخّاتُ المطر زجاج نافذة غرفتي، حتّى أيقظتني من غفوة المساء. نادرًا ما كنتُ أنام بعد الظّهرِ، فكلّما غفوتُ لساعةٍ نهضتُ منزعجًا لا أتفرّس اليوم من الغد.

    هرولتُ إلى قاعة الجلوس لأطّلع على عقارب الساعة وهي تنهش الزّمن، وما لبثتُ أن غادرتُ البيت بصمتٍ، لأنّ أبي وأمّي كانا يغطّان في النوم. أسرعْتُ في اتّجاه مقهى النّرد، المحاذي للسوق المركزيّ، لألتقي بـالكحلة.

    الكحلة واحد من أكثر شباب الحيّ غرابة، فلا أحد يعرف لهُ أصلاً، وأغلبُ الجيران يعتقدون بأنّه لقيط من أطفال بورقيبة، الذين ازدحمت بهم قرية اللّقطاء في طرف المدينة العتيقة. كاد ينحرفُ لولا عناية المسيحيين به، تحديدًا القسّ دومينيك، الذي وفّر له غرفةً بسيطة في حديقة بيت الآباء، واستعان به في خدمات شتّى، حتّى أصبح شبيهًا بالخادم الأمين، يحرسُ البيت ليلاً، ويساعد القسَّ نهاراً في تنظيف الحديقة أو جلب المؤونة من السّوق، ويغتنم المساءات لبيع السّجائر المهرّبة في المبغى خلسةً. ولكنّ الأب دومينيك كان يعرف، ويفضّلُ الصّمت.

    التقيتُ بالكحلة أوّل مرّة وهو يبيع سجائره أمام سينما بغداد، قرب مقهى العمّوص، في مساء يوم جمعة. كنتُ أرابط مع زملائي من نادي سينما هاني جوهريّة لمشاهدة فيلم «الديكتاتور»، بينما كان الكحلة يتنقّل من حلقة شبابيّة إلى أخرى، يعرض بضاعته، ويتحدّث إلى مرتادي السينما كأنّه عليم بفنّها. لاحظتُ عليه سمات حبّ الاطّلاع. كان يُمسك بالورقة التعريفيّة للفيلم ويتمعّنها بشيء من الصّعوبة، كمن يتهجّى الحروف. بقيتُ أراقبه من حين لآخر، إلى أن غاب عن عينيّ، ولم أره ثانية إلاّ وهو يتّكئ على حائط القاعة أثناء انقطاع بثّ الفيلم.

    كنت أجلس في الكراسي الخلفيّة لأنصت إلى صوتِ مضخّم الصّوت، وهو يُحوّل همسات الممثّلين إلى أجراس تقرع طبلة الأذن، وأستمع إلى حفيف صوت آلة البثّ وهي تكاد تتلعثم، مستلطفًا تمتمات تقنيّ غرفة البثّ، وهو يبدّل الاسطوانة، ويلعن الماكينة القديمة.

    ظلّ الكحلة واقفًا طوال الفيلم، لا يتوقّف عن الضّحك والتّصفيق كلّما تحرّك شارلي شابلن في دور الحلاّق، ليحلّ محلّ أدولف هتلر. كنتُ أوجّه له سهام نظراتي بين الفينة والأخرى. صرتُ أتابع فيلمين، وأتساءل عن سرّ وقوف الكحلة طوال الفيلم. بالكاد كنتُ أتفرّس ملامح وجهه بسبب ظلمة القاعة، ولكنّ المصباح اليدويّ لعامل حراسة القاعة كان يكشف هذه الملامح، حين ينهال نوره عليه.

    عند انتهاء الفيلم، اغتنمتُ فترة الاستراحة لأتعرّف على الكحلة، رغم أنّني قليلًا ما كنتُ أبادر أحدًا بالحديثِ. وشعرت يومها بأنّه يُخفي شخصيّة طيّبة العشرة. لذلك استبقيته لفترة مناقشة الفيلم، وأخبرته بأنّ الفيلم لا رائحة له إن لم يُشرّح بالتّفكير، وأذكر أنّه غمزني قائلًا: «الجثّة وحدها قابلة للتشريح».

    أصبح الكحلة يتردّد على سينما بغداد أيّام نشاطنا، واندمج بسرعة في نقاشاتنا كأنّه مهموم بقضايا البلد. امتنع عن بيع السّجائر أمام القاعة واكتفى بمنح كلّ مدخّن منّا بعضًا من سجائره المفضّلة، حتّى أنّه ابتلاني بالتّدخين، رغم كرهي لرائحة التبغ.

    منذ ذلك الوقت، نشأت بيننا صداقة غريبة، لم أجد لها معنى واضحًا. في أحيان كثيرة تنجذب إلى شخص من دون تفكير مليٍّ، وفي غياب رابطة معلومة، فلم يكن الكحلة تلميذًا أو طالبًا، ولم يكن ابنًا لجيراننا... ربّما كان لوجوده في دار الآباء أثره في هذه الرابطة، ولكنّ التفكير في العلاقة نفسها أمر يُخلّ أحيانًا بدفقها، يجعلها قابلة للتشريح، أي «جثّة» برأي الكحلة، لذلك كثيرًا ما استبعدت التّفكير في تفاصيل ما يربطني به.

    عندما اقتربتُ من مقهى النّرد، شعرتُ بانتفاخِ عينيّ من أثر النّوم، فلم أميّز الطّريق جيّدًا بينما الشّمسُ تميل نحو الغروب، فتلفحني بوهجها الخائر. دلفتُ إلى بهو المقهى، كأنّني أقذف نفسي في اليمّ، حتّى أنّني لم أنتبه لوجود الكحلة مستلقيًا على الكرسيّ، وكأنّه يحسبه سريرًا. صاح بي:

    - هاي وليد! ما بالك تأخرّت!

    كانت نظراته حادّة إلى درجة لا يمكن لامرئ أن يحدّق في عينيه البتّة. «هذا ولد عينه تسلخ البدن»، ردّدت أمّي كلّما أتت سيرة الكحلة، بل ما فتئت تقول: «وجهه يشبه الغراب، نذير شؤم. اللّه يحمينا!». غيرَ أنّي لم أهتمّ يومًا لتوجّسها. كنْتُ لا أديمُ النظر إلى عينيْه حين أُجالسهُ، لكنّني لا أخفي تطيّري من نظراته حين يراني في شوارع المدينة، إذ يُداهمني شعورٌ بأنّه يشاركني ما أنوي القيام به، كأنّ عينيه تتبعانني إلى حيثُ أذهب، وتتنصّتان عليّ كلّما تحدّثت إلى أحد. شعورٌ قاسٍ يسلخُك حينَ تشعر أنّ أحدًا يتبعك بمخيّلته، ويتوقّع ما لا تقترفه أصْلاً.

    جلسْتُ قبالته وطلبتُ كابتشينو لعلّني أستفيقَ من لعنة النوم المسائي في الخريف. لمحتُ أصابعه ترتعش، وسيجارته بالكاد تشتعل، شممتُ رائحة منفّرة تنبعث من يديهِ، كأنّه يعركُ شيئًا نتنًا. ناولني سيجارة الهوغار المعتادة، وقال دفعة واحدة:

    - قُبض عليّ صباحاً في مبغى الباب الشّرقي، حملوني إلى مركز الشّرطة وحجزوني لساعتين، ثمّ أفرجوا عنّي بعد أن افتكّوا ما بحوزتي من علب السّجائر، كرتونة كاملة من عرق الأسابيع.

    سكتَ هنيهة متفحّصًا ردّ فعلي، ورمقني كأنّه يرمق جروًا يتعثّر في النّباح. صمتّ قليلًا لأنّني لم أفاجأ بما يقول، فطالما كانت له صولات وجولات مع البوليس، ولكنّني شعرتُ هذه المرّة بنوع من الرّأفة، فقلتُ لهُ:

    - كالعادة، لسانك الفاحش وخصوماتك مع الزّبائن هي السبب لا محالة.

    - لا يا أخي، هذه المرّة مكيدة من شرّ ستّورة، صاحب المقهى.

    كدتُ أهزأ منه، فطالما حدّثني عن عبد الستّار، صاحب المقهى الوحيد في المبغى، والمكنّى بستّورة، فلا أحد يجرؤ في المبغى أن ينادي شخصًا يحمل اسمًا من أسماء الجلالة، وكم نثر الكحلة نوادر ستّورة على مسامع مرتادي المقهى، ولكنّه بدا منزعجًا أكثر من أيّ وقت مضى، وأردف قائلاً:

    - أخبرَ الملعونُ أعوانَ الشّرطة بأنّني أبيع السّجائر من دون رخصة، وزعم بأنّ سجائري مهرّبة من ثكنات الجيش، ولكنّه وشى بي لسبب آخر. أنت لا تعلم تدبير من يتنفّس هواء المبغى. طلب منّي قبل أيّام التّسلّل إلى غرفة «عزيزة»، وتحديدًا إلى خزانتها لسرقة أيّ شيء من ملابسها الدّاخليّة. وقال لي ولسانه يتدلّى كلسان الثّعلب أن أجلب له رائحتها، وإلاّ سيشي بي إلى البوليس. كان يريدني أن أسرق ملابسها ليشمّ رّائحتها! ألف مرّة قلت له عليك بها، عندها تفوز برائحة الجنّة... توعّدني صارخًا إن لم أجلب له رائحتها سيقطع لي ساقي!

    سحبَ الكحلة نفسًا طويلاً، إذ اشرأبّت بعض الآذان حولنا لمتابعة الحديث. غير أنّه لا يعبأ بالمتنصّتين، ففي العادة يتحلّق حولهُ طلّاب الجامعة لينصتوا إلى مغامراته في المبغى، وهم يدخّنون بشهوة من يُجامع النّساء، حتّى يسود المقهى ضبابٌ يحجب رؤية الكحلة المندمج في دور الحكواتي.

    - أنت لا تعرف من تكون عزيزة! هذه بنت تخشاها الفتنة نفسها! كان يوم دخولها المبغى شبيهًا بيوم استقبال المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، يومها هبّ الرّجال من كلّ صوب وحدب، يتهافتون على اقتناص نظرة إلى وجهها، وحتى أظافر أصابعها المصبوغة بالأحمر القاني.

    شردتُ مع حروفه وهي تخرج من حلقه، محدثةً رذاذًا كريهًا مختلطًا بنُفاثات السيجارة، بينما كانت تتهيّأ لي صورة عزيزة. لقد جئتُ لأسترق أنفاسًا من هذه السيجارة المهرّبة وأسأله عن الأب دومينيك، فإذا بي أتحوّل إلى أذن مستنفرة لهذيانه:

    - منذ دخول الزّبون الأوّل إلى غرفتها وصفّ الزبائن يمتدّ من باب الدّار إلى طرف الزّقاق! صوتها كان يملأ المكان حبورًا، يلدغ طبلة أذن الجميع، ويحرّك القضبان المتحمّسة للحظة الدّخول، أمّا ضحكتها فمشتقّة من عصير البرتقال، لها حموضة تجعلك لا تبتلع ريقك إلاّ بصعوبة، حتّى أنّك تلهث في مكانك.

    أتابع كلمات الكحلة كمن يشاهد لقطة سينمائيّة، فأتفاعل مع صورة عزيزة، وأتخيّل قامتها وسعة خصرها... لا أعرف لم تهيّأت لي مهفهفة غير نحيفة، ولها أساور ذهبيّة تتدلّى من معصميها، وجِيدها أبيض مرقّط ببقع النّمش، وقرطاها على شكل هلالين، بينما شعرها مصبوغ بالحنّاء.

    فجأة توقّف تداعي الصّور. انتزع الكحلة من شفتيه ابتسامة غريبة، وقرّعني:

    - صرتَ مثلهم يا وليد، وجهك يحمرّ وأنتَ تسْمع حديثي عن عزيزة! كأنّك خرجت للتوّ من غرفتها!

    واصل حديثه من دون توقّف، مثلَ رتْلٍ لا يعرف غير محطّتَي الانطلاق والوصول:

    - لم يشهد المبغى قبل وصولها صوتًا يندلق من أسِرّة الجماع البالية. لا تسمع في الزّقاق اليتيم إلاّ أصوات السُباب أو قهقهات المومسات مع الزّبائن أو أصوات العراك... ولكنّ صوت غليان الجماع لا يُسمع، فالمومس تشبه الآلة، ولكنّها لا تُحدث أيّ صوتٍ، إنّها تسترخي للزّبون بطواعيّة من ينتظر صدقة، وبعد جسّها لا تنتظر غير إلقاء النّقود في حصّالتها، أمّا عزيزة فكانت من طراز آخر! إنّها ضدّ الجماع الصّامت، وقد كسرت الحياء...

    بدا الكحلة لي حكيم زمانه في كتاب الجماع ومحاسن المومسات، وبدت لي عزيزة امرأة لا ترتوي بسهولة، ولا تنصاع إلاّ بمجاهدة لمن يريدها... ذكر أنّ الزّبائن كانوا يغادرون محمرّي الوجوه من فرط الحشمة! كأنّ الخروج من وطيس عراك عزيزة مآله الخصاء، خصاء العينين وليس الأعور. صوّر الكحلة وضع زبائنها قائلًا:

    - الجميع يطأطئون الرّأس في وضعيّة المهزومين، بدل أن يرفعوا هاماتهم بعد الانتصار... فلتعلم أنّ لزبائن المبغى حياءً وأخلاقاً! فهم مسلمون وإيمانهم يجعلهم يسلّمون بأنّ ارتكاب المعصية يستوجب السّتر، ولكنّ عزيزة فضيحة متنقّلة!

    لم يكفّ الكحلة عن سرد حالة المبغى منذ أن حلّت به عزيزة إلاّ عندما أشحتُ بوجهي عنه، فباغتني بالسّؤال:

    - تريد أن توهمني بأنّك لم تطأ في حياتك مبغى الباب الشّرقي؟

    وبسرعة بديهة غير منتظرة منّي سألتُه:

    - أتريد أن توهمني بأنّك لم تركب مومسًا في حياتك؟

    شعرت برغبة جامحة كي أقهقه، حتّى تلتهم قهقهتي ضحكات عزيزة نفسها.

    - قلتُ لك ألف مرّة، لستُ غير بائع سجائر ولم أقرب في حياتي جسد مومس بل أكتفي بالنّظر، ولا أنكر أنّ حبال الشّهوة تلفّني من أخمص قدميّ إلى آخر شعرة في رأسي. ولا أنكر أنّ الشيطان يسكن في زقاق المبغى، ولكنّه لم يمسسني، ولم يوسوس لي إلاّ صاحب المقهى، الذي لا يتركني لحال سبيلي سوى يوم الجمعة، حين يُغلق المقهى ويتفرّغ للصلاة! عندها أغتنم هذه الرّاحة لبيع السّجائر بحُرّية،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1