Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الفهامة
الفهامة
الفهامة
Ebook758 pages5 hours

الفهامة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في كتابه «الفهامة»، يُقدّم الكاتب شهاب الخشَّاب مقالات حول الفلسفة والظواهر الجماهيرية المرتبطة بها والثقافة الشعبية المتأثرة بها بطريقة تربطها بالحياة اليومية وتُبطل فكرة أن الفلسفة تضييع للوقت (ما تِتفلسِفش يا أخي..) أو مجرد عقيدة شخصية (فلسفتي في الحياة هي...)، وأنها عبارة عن نظريات مفارِقة تضُر بأكل العيش والأخلاق. فالكاتب يرى أن الفلاسفة غارقون في عالم النصوص، بعيدون عن الواقع اليومي، يستخدمون لغة معقدة ومصادر غامضة، وطموح «الفهَّامة» أن تُعيد شرحها وشرح أهميتها.
Languageالعربية
PublisherDiwan
Release dateFeb 22, 2024
ISBN9789778732924

Related to الفهامة

Related ebooks

Reviews for الفهامة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الفهامة - شهاب الخشاب

    المحتوى

    المشروع١٣

    الفصل الأول: الفرد والمجتمع٢١

    –الذات٢٣

    –الشخص٢٥

    –الأقلية٢٧

    –المستضعف٢٩

    –المتوحد٣٢

    –الجماعة٣٣

    –التقاليد٣٦

    –الطقس٣٩

    –الهابيتوس٤٣

    –التميُّز٤٦

    الفصل الثاني: العرق واللون والجنس٤٩

    –أوروبا٥١

    –البياض٥٢

    –التمركز اﻷوروبي٥٦

    –الاستشراق٦٠

    –الفن البدائي٦٢

    –الزنجي٦٥

    –النسوية السوداء٦٩

    –كولونيالية النوع الجنسي٧٢

    –الأدائية٧٥

    –التقاطع٧٨

    الفصل الثالث: الجغرافيا٨١

    –المكان٨٣

    –السكن٨٥

    –الأماكن الأخرى٨٧

    –اللامكان٩٠

    –التكتيك٩٢

    –المنفى٩٤

    –أماكن الذاكرة٩٧

    –المنطقة٩٩

    –الحق في المدينة١٠١

    –البنية التحتية١٠٤

    الفصل الرابع: التاريخ١٠٩

    –التاريخ١١١

    –المنشأ١١٣

    –الصيرورة١١٥

    –المبتسرون١١٧

    –الانتساب١٢٠

    –العالم المدني١٢٢

    –الوضعية١٢٤

    –المادية الجدلية١٢٦

    –المدى الطويل١٢٨

    –العمران١٣٠

    الفصل الخامس: سياسة الدولة١٣٣

    –الدولة١٣٥

    –تأثير الدولة١٣٧

    –اختبار الدولة١٤٠

    –أسرار الدولة١٤٤

    –سيادة العين١٤٧

    –الاستدعاء١٥١

    –الحكوماتية١٥٣

    –حالة الطوارئ١٥٧

    –الحياة المجردة١٦١

    –القيادة١٦٥

    الفصل السادس: سياسة الحكم١٦٩

    –الهيمنة١٧١

    –الانضباط١٧٣

    –التحكم١٧٥

    –السياسة الحيوية١٧٨

    –سياسة الموت١٨٢

    –كولونيالية السلطة١٨٦

    –القومية١٩٠

    –الشرعية١٩٢

    –اسم الشعب١٩٥

    –تقسيم المحسوس١٩٩

    الفصل السابع: اقتصاد اﻹنتاج٢٠٣

    –الطبقة٢٠٥

    –الشغل٢٠٧

    –العمل المقلقل٢١١

    –الصنعة٢١٥

    –العمل الإدراكي٢١٧

    –العمل المنزلي٢٢١

    –الرعاية٢٢٥

    –الحكم المتطفل٢٢٩

    –التراكم الأوَّلي٢٣٣

    –فائض القيمة٢٣٥

    الفصل الثامن: اقتصاد الاستهلاك٢٣٩

    –السوق٢٤١

    –السلعة٢٤٣

    –الهدية٢٤٥

    –التشيؤ٢٤٨

    –الاستهلاك٢٥٠

    –الاستهلاك التفاخري٢٥٤

    –نظام الأشياء٢٥٦

    –الاستعراض٢٥٨

    –الاحتياج٢٦٠

    –الدخل٢٦٤

    الفصل التاسع: اللغة والعلامات٢٦٩

    –العلامة٢٧١

    –الخطاب٢٧٣

    –الاصطناع٢٧٦

    –ما بعد الحداثة٢٧٨

    –التناص٢٨٢

    –الاختلاف والتأجيل٢٨٤

    –الأيديولوجيا اللغوية٢٨٦

    –الأيديولوجيا العلاماتية٢٨٩

    –القراءة٢٩١

    –الشفرة٢٩٤

    الفصل العاشر: اﻷدب والنقد اﻷدبي٢٩٧

    –القصص٢٩٩

    –الأساطير٣٠٢

    –علم التشكُّل٣٠٤

    –الزمكان٣٠٦

    –الحوارية٣٠٨

    –تأثير الواقع٣١٠

    –الريزومة٣١٢

    –خطوط الانفلات٣١٦

    –التفكيك٣٢٠

    –الدنيوية٣٢٤

    الفصل الحادي عشر: الصورة٣٢٩

    –الصورة٣٣١

    –الصورة الحركة٣٣٣

    –السير٣٣٦

    –الصورة الجسدية٣٣٨

    –الإلهاء٣٤٠

    –التخصيص المتحرك٣٤٤

    –النظرة الذكورية٣٤٦

    –النجوم٣٤٨

    –الثقب٣٥٠

    –الآخرون٣٥٢

    الفصل الثاني عشر: الفن٣٥٥

    –علم الصور٣٥٧

    –عالم الفن٣٥٩

    –الحقل الفني٣٦٢

    –عين الفترة٣٦٤

    –الاستنساخ٣٦٦

    –صناعة الثقافة٣٦٨

    –الثقافة٣٧١

    –الشعبي٣٧٥

    –الإبهار٣٧٨

    شكر خاص٣٨١

    المصادر العربية٣٨٣

    المصادر العربية والترجمات (مختارات)٦٨٣

    المشروع

    من سنة ٢٠١٦، بدأت أكتب سلسلة مقالات على موقع التحرير ثم على موقع كتب مملة كان عنوانها «الفهّامة»، وكتبت مقدمة قصيرة للسلسلة بتعبّر عن هدفها الأساسي رغم إنها عمرها ما اتنشرت:

    «عادةً الفلسفة تبدو وكأنها نظرية بعيدة عن المهام اليومية، وكأنها أثر من الماضي زي الأهرامات وأبو الهول، يعني عظيمة لكن بدون فائدة، خاصةً في العالم الرأسمالي التكنولوجي الأكل عيشي الحديث. الفلسفة تبدو كإنها تضييع وقت («ما تتفلسفش يا أخي...») أو عقيدة شخصية («فلسفتي في الحياة هي...»). في أحسن الأحوال الفلسفة عبارة عن نظرية قديرة لكن مش متقدرة، وفي أسوأ الأحوال بتضر أكل العيش والأخلاق. في رأيي إن كل الآراء دي خاطئة، لكن الخطأ نفسه مُعبِّر. لما نعتبر إن الفلسفة نظرية عاجزة سهوكية عقائدية كونية، ده مش مجرد عشان إحنا جاهلين ومش فاهمين، وإنما كمان عشان الفلاسفة غرقانين في عالم من النصوص، واحد فوق التاني، بدون أي صلة بالواقع اليومي. اللغة معقدة، والمصادر غامضة، وأحياناً النصوص نفسها مش مترجمة ولا متاحة. ده مش معناه إن الفلسفة ما عادتش تبقى مهمة، بس إننا لازم نشرحها تاني ونشرح أهميتها. وده طموح الفهّامة.»

    كلمة «الفهّامة» كانت إشارة لسلسلة الكاريكاتير الشهيرة للشاعر والفنان والرسام صلاح چاهين. في رسوماته، الفهّامة كانت عبارة عن آلة وهمية تقدر تخلّي الموظف الضئيل أو المواطن الصالح يفهم الدنيا والنظام من غير ما يتعب، ورغم كل محاولات الآلة إنها تفهّم الموظف أو المواطن، برضه ما بيبقاش فاهم حاجة. أول مرة شفت الآلة دي، كان في كتاب وولتر آرمبرست عن «الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر». الكاريكاتير عجبني ساعتها لأن چاهين بيتّريق على الموظفين اللي مش فاهمين حاجة، والمجهود الضخم المطلوب عشان الواحد يفَهِّمهم. إنما قراءتي للكاريكاتير وبالتالي لفكرة المقالات اللي كتبتها اتطورت مع الوقت.

    الفهّامة بالنسبة لي ما بتفترضش إن الشخص اللي بيقرا وعايز يفهم مش فاهم حاجة، وإنما بتفترض إن الناس عايزة تفهم بس مش قادرة تفهم بالآليات الميكانيكية اللي اتعوّدوا يشوفوا العالم عبرها. الآلة اللي اخترعها چاهين مضحكة تحديداً لأن الفهم مش ميكانيكي؛ ومهما اشترينا وضبطنا الفهّامات، عمرنا ما هنفهم بالشكل ده. بالتالي هدف الفهّامة مش ممكن يتحقق من أوله حرفياً، لأن مافيش أي مقالات بسيطة تقدر تفهّم الناس بشكل ميكانيكي أي شيء عميق عن الكون. بعد ما القارئ يقرا المقالات دي، برضه هيبقى فيه جزء مش مفهوم ولازم يتعمّق ويتبحّر فيه أكتر. ولكن بقدر الإمكان، المقالات اللي كتبتها بتحاول تفتح أسئلة جديدة وإجابات جديدة للقارئ، حتى لو في الآخر ما زال مش فاهم، وتفضل عملية البحث جارية (وده مش عيب إطلاقاً في زمن محتاجين نقاوم فيه اليقين المطلق والتفكير السلطوي).

    باختصار، الفهّامة عبارة عن محاولة للرد على نوع الأسئلة اللي بتخلّي الناس عايزة تفهم أكتر، بغض النظر عن نجاح أو فشل الفهم في حد ذاته.

    الفهّامة عبارة عن سلسلة مقالات قصيرة عن أفكار فلسفية ونقدية بالعامية المصرية. كل مقالة بتقدم مفهوم معيّن عند فيلسوف أو ناقد معيّن، وبتشرح أهمية المفهوم والسؤال الإشكالي الأساسي اللي بيطرحه الفيلسوف أو الناقد ده. من المفترض إن كل سؤال يؤدي إلى نقاش بخصوص المفهوم وأهميته، ولذلك كل مقال بيبدأ بسؤال. الصيغة دي كانت ولا زالت متأثرة برؤية الفلاسفة جيل دولوز (Gilles Deleuze) وفيليكس جواتاري (Félix Guattari) في كتابهم «ما هي الفلسفة؟».

    دولوز وجواتاري كانوا ضد تصورين شائعين عن الفلسفة: الأول إن الفلسفة مقتصرة على التأمل والتفكير، والتاني إن الفلسفة عبارة عن وسيلة إعلامية لتمرير المعلومات في الساحة العامة. في التصور الأول، الفيلسوف بيتحوّل إلى مجرد عقل مفكِّر في الهمايون؛ وفي التصور التاني، بيتحول إلى مجرد مذيع شاطر. التصورين بيقصّروا في حق الفيلسوف حسب دولوز وجواتاري، لأنهم مش منتبهين لإن ممارسة الفلسفة تستدعي الإبداع بشكل جوهري. الإبداع الخاص بالفلسفة هي صناعة المفاهيم (concepts)، والمفاهيم دي ما بتسِدّش خانة جوه نظريات جاهزة، ولا بتمتَّع الناس بجمالياتها الخاصة، وإنما بتتصنع للرد على إشكالية محددة (problématique). اكتشاف ملامح الإشكالية دي هي من أمتع وأصعب الإبداعات الفلسفية الممكنة.

    بمعنى تاني، المفاهيم عبارة عن منتجات فلسفية مصنوعة للتفاعل مع إشكاليات العالم، مش بمعنى إنها لازم تحل مشاكل الناس اليومية فوراً، وإنما إنها بتفتح مجال للتفكير في الظروف اللي سمحت بتواجد المشاكل دي. المجال ده لا هو تأملي ولا هو إعلامي، وإنما هو إبداعي أساساً، وقائم بناءً على صَنعة فلسفية لازم يتقنها الفيلسوف بالممارسة. الفيلسوف هو اللي بيستخلص الإشكاليات الفكرية وبيصنع مفاهيم عشان يرد عليها. الصنعة دي بتاخد مجهود مادي بين التفكير والقراءة والكتابة، عكس التصور الشائع عن الفلاسفة بوصفهم ناس كلامنجية بتحفر في السحاب.

    التفكير في الإشكاليات هنا غير التفكير الاستنباطي أو الاستقرائي المعتاد في المناهج الفلسفية الكلاسيكية. الاستنباط هو الوصول إلى وقائع محددة من قواعد عامة، بينما الاستقراء هو الوصول إلى القواعد دي عبر التجميع التدريجي للوقائع الخاصة. الطريقتين دول في التفكير ما بياخدوش الجانب الإبداعي للفلسفة في الاعتبار، وبيحصروا العمل الفلسفي في إطار حسابات شبه رياضية عن المنطق العقلي الصميم أو الدراسة الميدانية للوقائع.

    هنا تفكير دولوز وجواتاري عن الفلسفة بوصفها فعل إبداعي بيتحرك في اتجاه تفكير الفيلسوف تشارلز ساندرز پیرس (Charles Sanders Peirce)، واللي أثّر هو كمان في كتابة الفهّامة.

    پیرس اقترح إن بين الاستنباط والاستقراء، فيه منطق فلسفي تالت وهو الافتراض (abduction). الفيلسوف ما يقدرش يستنتج كل شيء من قواعد عامة ووقائع خاصة، وإنما لازم ساعات يبدع ويخمِّن؛ يطرح أطروحة جديدة ويمشي وراها؛ يفترض فكرة ويتابع تداعياتها. الافتراض أو الطرح هو البداية الواقعية لأي رحلة بحث حسب پیرس، ومافيش إنسان بيتولد إلا وكان عنده قدرة الافتراض دي. پيرس كان غاوي يفكّر في نفس المسائل باستخدام مصطلحات جديدة ومتجددة كل مرة، ولذلك أفكاره اتطورت مع افتراضاته المستمرة. طبعاً الافتراض لازم يصُب في نوع تاني من التفكير بعد شوية، زي التفكير في القواعد والوقائع والإشكاليات اللي ذكرناها، وإنما الشرارة الإبداعية الأولى بتيجي مع حب الاستطلاع وإرادة التخمين والانفتاح على العالم، اللي هو أوسع بكتير من التصورات الضيقة واليقين المطلق.

    لذلك كان ضروري إني أكتب عن مفاهيم جديدة ومختلفة ومتشعبة في الفهّامة كل أسبوع، مش بس عشان رغبتي الشخصية في التنوع وحب الاستطلاع، وإنما كمان عشان أقدم نوع تاني من العلاقة بالمادة الفلسفية. ما كنتش حابب أكرر صيغة المدرس الجامعي اللي بيدرّس من الملازم والكتب الدراسية، وكأن الواحد لازم يكون شارب تاريخ أكاديمي كامل قبل ما يتفاعل مع الفلسفة. في مجاز استخدموه دولوز وجواتاري في كتاب «الألف هضبة»، نمط مدرس الفلسفة كان بالنسبة لي هو بالظبط نمط الشجرة، اللي بتبدأ من جذورها العميقة في تاريخ من النصوص والجدود، لازم الواحد يدرسهم بتسلسل في جميع الفروع الفكرية اللي طالعة من الشجرة عشان يذاكر الموضوع كويس زي التلميذ الشاطر.

    أما نمط الفيلسوف المبدع في رأي دولوز وجواتاري وفي رأيي، فهو بيتبع نمط «الريزومة» (rhizome). الريزومة عبارة عن نوع من الجذور النباتية اللي بتنتشر بشكل يبدو عشوائي وفوضوي، زي الجنزبيل والكركم وبعض الزهور من ضمنهم السوسن واللوتس مثلاً. الريزومة بتتشعب عبر علاقات جزئية بينها وبين بعضها؛ عبر علاقات ما بتأديش إلى شجرة قوية راسخة، وإنما إلى نباتات حية معقدة متدفقة. كذلك المفاهيم بتتشعب زي الريزومة، والعلاقات اللي بينها مش شرط تبان عن طريق التأريخ الأكاديمي الرصين، وإنما في التفاعلات المتشعبة المتدفقة. التفاعلات دي مش شرط يكون لها أساس خطي، ومش شرط تتقري في كتاب بتسلسل محكم، ويمكن تبدو وكأنها شظايا من الفكر، نقدر نلقطها من هنا وهناك عبر الدخول والخروج المستمر من نفس الكتاب. لذلك عرضت مفاهيم متنوعة في الكتاب ده عشان حركة التدفق المفاهيمي هي جزء من عملية صناعة المفاهيم وطرح الأسئلة الإشكالية من أساسه.

    لأسباب مرتبطة بالوضوح والتبسيط، معظم المقالات في الكتاب ده بتناقش نص بعينه لمؤلف بعينه. بشكل عام، المضمون متأثر بالفلسفة والعلوم الإنسانية الأوروبية في القرن الـ١٩ والـ٢٠، فمعظم الأسامي المذكورة مرتبطة بالتراث ده: جيل دولوز وميشيل فوكو (Michel Foucault) وكارل ماركس (Karl Marx) وپییر بورديو (Pierre Bourdieu) وجان بودريار (Jean Baudrillard) وميشيل دي سيرتو (Michel de Certeau).

    طبعاً اللستة معظمها رجالة، وبالتالي يغلب طابع ذكوري على الكتاب. لكني حاولت محاولة طفيفة إني أقدم بعض الفيلسوفات والناقدات زي كيمبرلي كرينشو (Kimberlé Crenshaw) وجاياتري سپيڤاك (Gayatri Spivak) وسوزان سونتاج (Susan Sontag) مثلاً، اللي قدموا إساهمات فكرية مهمة ولو إنها مش دايماً مترجمة بالعربي. كتبت كمان مجموعة من المقالات عن مفكرين أساسيين في التراث الإسلامي: ابن باجة وابن خلدون مثلاً. سبب القرار ده إني حبيت أقدم بعض معالم التراث الفلسفي الإسلامي بالتوازي مع التراث الأوروبي، بما إن لهم إشكاليات مشتركة، وبالتالي ممكن نفترض علاقات بين عالمنا الحاضر ومفاهيم اتأسست في زمن بره زمننا خالص بشكل جديد.

    الكتاب متقسِّم إلى ١٢ باب: الفرد والمجتمع، العرق واللون والجنس، الجغرافيا، التاريخ، سياسة الدولة، سياسة الحكم، اقتصاد اﻹنتاج، اقتصاد الاستهلاك، اللغة والعلامات، اﻷدب والنقد اﻷدبي، الصورة، وأخيراً الفن. كل باب جواه عشر مقالات بالظبط، وكل مقال بيرد نوعاً ما على المقال اللي بعديه؛ بيمدّه أو بينتقده؛ بيورّي إزاي الشظايا الفكرية بتطوّر زي الريزومة. حبيت أقسم الأبواب بالشكل الشامل ده عشان القارئ اللي عايز يقرا في موضوع غير التاني يقدر ينط بسهولة بين كل باب وباب، أو بين كل مقال ومقال. أثناء تجميع الكتاب من مقالات الفهّامة الأصلية، أعادت الصياغة عشان أوحّد الأسلوب من ناحية، ومن ناحية تانية عشان أوضّح بعض النقط اللي ما كانتش واضحة بما يكفي سابقاً. ولكن عموماً المقالات محتفظة بملامح الكتابة الأسبوعية والالتماس بالأحداث الجارية، ولو إنها مش متنظمة بنفس تسلسل كتابتها الحقيقي.

    في آخر الكتاب، جمعت لستة المصادر العربية والأجنبية اللي تم الاعتماد عليها أثناء كتابة الفهّامة، وأينما توفرت، جمعت الترجمات العربية المتاحة للكتب اللي باناقشها. للأسف جزء كبير من الكتب والمقالات اللي كتبت عنها غير متوفر بالعربي، وإنما غرض الكتابة عنهم بالعربي كان إني أشجع القراء على إنهم يكتشفوا مناطق فكرية جديدة ومش شرط تكون متاحة بحكم حاجز اللغة. كنت حابب كمان إني أشجع المترجمين ودور النشر على إنهم يهتموا بمجالات فكرية بره النطاقات العادية للترجمة، مثلاً فيما يخص الدراسات الأكاديمية عن اللغة والصورة. أرجو إن كتاب زي ده يساهم في تنشيط حركة الترجمة في المجالات دي.

    أخيراً لازم أشرح إشمعنى اخترت إني أكتب بالعامية في التحرير وكتب مملة، وليه باواصل الكتابة بالعامية إلى الآن. كان عندي افتراضين زقوني في الاتجاه ده أول ما بدأت أكتب. الافتراض الأول هو إني ما كنتش متمكن بما يكفي من اللغة العربية الفصيحة عشان أكتب مقالات أسبوعية تبسيطية عن الفلسفة، وبالتالي اختارت أكتب بالمستوى اللغوي اللي باتقنه أكتر في حياتي اليومية، وهو العامية المصرية القاهرية. الافتراض التاني إن الكتابة بالعامية هتكون قريبة من واقع القارئ أكتر، بمنطق إن القارئ اللي كان في ذهني زيه زي الناس اللي باشرح لها المفاهيم دي في حياتي اليومية كطالب وباحث ومدرس.

    الافتراض الأول كان ممكن يكون صحيح نوعاً ما عشان سرعة الكتابة والتصحيح في ظروف النشر الأسبوعي، وإنما ما بقيتش مقتنع بالافتراضين دول في المجمل دلوقتي. بعد ما ابتديت النشر، حسيت إن تفكيري كان جاي من تصور لغوي ساذج بيفترض إن العامية أبسط بالطبع، وإن اللي بيقرأ هيتفاعل أكتر مع المادة للسبب ده. ولكن التجربة أكدت لي شيء أهم فيما يخص اللغة اللي بنشرح عن طريقها الفلسفة والنقد والعلوم الإنسانية بشكل عام.

    الحقيقة إن الكتابة بالعامية مش أبسط ولا أسهل لأن العامية ممكن تكون تقيلة ومعقدة برضه. كذلك انتبهت من الكلام مع بعض الأصدقاء إن الناس اللي بتقرا بانتظام متعوّدة تقرا بالعربي الفصيح. الفصحى هو المستوى اللغوي المتداول من المغرب إلى العراق، وبالتالي الكتابة بالعامية ممكن تخسَّر الواحد جمهور عربي عريض ومهتم بنفس القضايا اللي باناقشها. مع ذلك، اكتشفت مع التجربة إن العامية بتفتح إمكانيات تعبيرية مش موجودة بالفصحى. الإمكانيات دي ممكن تتوظف في أنواع أدبية غير الشعر والسرد؛ في الفلسفة والعلوم الإنسانية مثلاً، عشان تنوّر مناطق تانية من العالم عن طريق المجازات اللي بنستخدمها عشان نفهم العالم ده. فيه ناس طبعاً بتعادي الرؤية دي، وشايفة إن العامية لغة ضئيلة وسهلة، ولكني أعتقد إن الكتاب ده تحديداً بيثبت قدرة اللغة العامية على إحداث تفكير جديد عن المفاهيم الفلسفية بشكل لا يقل جدوى وتأثيراً عن استخدام اللغة الفصحى لنفس الغرض.

    شهاب الخشاب

    أكسفورد، أبريل ٢٠٢٢

    الفصل الأول

    الفرد والمجتمع

    «كون إننا شايفين نفسنا عن طريق المعيار الغالب، معيار الشخص اللي كسب الانتخابات واللي خسرها، بيخلينا نفكّر في الأقليات على أساس إنهم خسروا انتخابات الحياة.»

    الذات

    أنا مين؟ السؤال ده أساسي في تاريخ الفلسفة الأوروبية والإسلامية والآسيوية. الجميل في السؤال إنه مالوش رد فلسفي وبس، وإنما كمان إن كل واحد فينا سأل نفسه السؤال ده في مرحلة ما من حياته، لأنه سؤال جذري في عالمنا الرأسمالي الحالي. إذا فكرت إزاي تختار الأكل الصح والاتجاه السياسي الصح والماركات الصح والبرامج التلفزيونية الصح والشيوخ الصح والأصحاب الصح، لازم تفكر أولاً في السؤال ده: أنا مين؟ الواحد ما يقدرش يعرف هو مين بالويم، وكأنه بيدوّر على حاجة تاهت منه وهو بيحاول يلاقيها، وإنما لازم يكوّن نفسه عبر ممارساته اليومية. وهو ده معنى «الذات» في تعريف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (Michel Foucault).

    فوكو كان مشهور بكتاباته عن الخطاب ومؤسسات الدولة الأوروبية الحديثة، إنما في أواخر حياته بدأ في مشروع جديد عشان يدرس الذات (the self). المشروع ده موجود نوعاً ما في كتاباته الأولى. مثلاً في كتاب «نظام الخطاب»، فوكو اقترح إن من ضمن الضوابط اللي بتحكم الخطاب الرسمي العام إن الشخص اللي بيخاطب لازم يكون عاقل ومش مجنون، وبالتالي الذات المُعترف بها ولها وزن هي الذات العاقلة. كذلك في كتاب «المراقبة والمعاقبة»، فوكو شرح إزاي المستشفيات والسجون والجيوش بتضبط أجسام البشر بحيث تفرّقهم عن باقي المجتمع، وبالتالي بتنتج ذوات مضبوطة ومحترمة ومتربيّة في إطار مؤسسي محكوم.

    فوكو ما كانش عنده رد مباشر على سؤال «أنا مين؟» في كتاباته الأولى، لأنه ما كانش مهتم بالذات في حد ذاتها. كان أولاً مهتم بالخطاب اللي بيشكّل ذات المخاطب، وثانياً بالمؤسسات اللي بتشكّل ذات المجنون والمسجون والعسكري مثلاً. إنما فوكو ماهتمش في الكتابات دي بالإحساس الذاتي اللي عند الناس، وكان بيعرَّف الذات البشرية بشكل خارجي، باعتبارها الحاجة اللي بتظهر كنتيجة لعوامل خارجية بتشكّل البني آدم وكأنه مصنوع من الصلصال. الخطاب والمؤسسات ممكن تعرّفني إذا كنت مجنون ولا عاقل، مجرم ولا مش مجرم، مدني ولا عسكري، بس ما تقدرش تدخل في أعماق إحساسي بذاتي.

    في مقال قصير عن «تقنيات الذات» في نهايات حياته، فوكو بدأ يهتم بإنه يشرح إزاي كل واحد مننا بيرد على سؤال «أنا مين؟» بنفسه. فوكو كان شايف إن تكوين الذات نتيجة تقنيات محددة، وهي نوع من بين أربع أنواع من التقنيات في العموم. أول نوع هي تقنيات الإنتاج، اللي بتسمح بإنتاج وتغيير الحاجات اللي بنستعملها في حياتنا اليومية، زي الإنتاج الصناعي والزراعي مثلاً. تاني نوع هي تقنيات النظم الرمزية (sign systems)، اللي بتدّي معنى لكلامنا وتفكيرنا زي الكتابة والإعلام مثلاً. تالت نوع هي تقنيات القوة، اللي بتحكم وبتضبط أجسام البني آدمين زي في السجن والجيش. ورابع نوع هي الحاجة اللي سمّاها فوكو تقنيات الذات، اللي بتسمح للواحد بإنه يكوّن هويته بنفسه.

    أول تلات تقنيات بتحصر البني آدم في خانة معيّنة، وبيبقى صعب عليه إنه يغيّرها. أما التقنيات الأخيرة، فهي متاحة لكل بني آدم، وكل واحد مننا يعرف يستخدمها عشان يكوّن نفسه. المهم في كلام فوكو إن الذات مش حاجة موجودة وممكن نلاقيها في الحياة، وإنما إنها حاجة بتتكوّن كل يوم عن طريق أفعال عادية. الأفعال دي ممكن تتسمّى «تقنيات» زيها زي تقنيات صناعة التلاجات والكتب والجيوش. والتقنيات دي مش هدفها إن الواحد يعرف نفسه وخلاص، وإنما كمان إنه ياخد باله من نفسه، ويحاسب على اللي بيقوله واللي بيعمله عشان ما يقصّرش في حق نفسه.

    فوكو كان أساساً مهتم بتقنيات الذات عند الإغريق والرومان والمسيحيين الأوائل، وشرح الفروق الدقيقة بين تقنياتهم اللي مالهاش دايماً صدى واضح في واقعنا الحالي. إنما ضمن التقنيات اللي لسة ممكن تسمّع معانا هي تقنية الكتابة عن الذات. فوكو قال إن التقنية دي اتأسست عند فلاسفة زي سينيكا وماركوس أوريليوس، اللي كانوا بيكتبوا مذكرات يومية عشان يعرفوا يسترجعوا الحاجات اللي عملوها ويفكروا في اللي ممكن يتعمل عشان ياخدوا بالهم من نفسهم ومن أفعالهم ومن أخلاقهم ومن تعزيز ذاتهم.

    في عصر الفيسبوك، ممكن نعتبر إن كتابة البوستات اليومية هي شكل من أشكال الكتابة عن الذات. كلنا عندنا أصحاب بيستخدموا الفيس عشان يكتبوا عن مشاعرهم وأفكارهم، وعن الحاجات اللي ممكن يعملوها عشان يحسّنوا نفسهم وأخلاقهم وذوقهم. كذلك بعض الأصحاب دول بيهتموا بتنمية الدين والإيمان والـ«شير في الخير». المهم إن الكتابات دي مش مجرد خواطر هامشية، إنما جزء من ممارسة يومية بتكوّن ذات الشخص اللي بيكتب. كلنا عارفين إن فيه فرق كبير بين البوست والحياة، زي ما فيه فرق بين الكتابة عن الذات والبني آدم اللي بيكتب. ولكن الفرق الكبير ده تحديداً بيوضّح إزاي الذات ماهياش حاجة طبيعية، ماهياش كيان مُنزَل ما بيتغيرش، وإنما جزء من ممارسة خلّاقة.

    يعني ممكن نوصف أي شخص بأكتر من طريقة، ولكن ذاته حاجة تانية خالص؛ حاجة خاصة ومكوّنة بتقنيات معيّنة بتشكّلها. فلما عبد الباسط حمودة غنّى في فيلم الفرح «أنا مش عارفني، أنا تهت مني، أنا مش أنا»، الرد الساذج كان ممكن يكون إنه لازم يوقّف المخدرات عشان يفوق ويلاقي نفسه. وإنما إذا انتبهنا إلى كلام فوكو، اللي بنسميه «أنا» النهارده مش زي «أنا» بكرة، لأن معرفة الذات والاهتمام بيها بيحتاج ممارسة مستمرة، والممارسة دي بتغيّر من طبيعة الذات كل يوم.

    وحتى لو أنا عارفني وما تُهتش مني، أنا برضه مش هبقى أنا.

    الشخص

    ده مين؟ فاكر كويس أبويا وهو بيتفرج على صورُه القديمة من التمانينات، والنضارات السودا والجينز الضيق والشعر الأفرو، وعمّال يدعك في رأسه اللي ما عادش فيها شعراية وهو بيسأل نفسه: مين ده؟ مين الشخص اللي شايفه في الصورة؟ أكيد فيه ملامح وحركات لا يمكن تتغيّر، إنما فرق التلاتين سنة واضح، وهو نفسه مش مصدق إن الشاب اللي شايفه في الصورة هو اللي بقى أب وولاده شباب (إنما من غير الأفرو طبعاً). بعيداً عن الشكليات، إيه اللي بيجمع الصورة والبني آدم بعد الزمن ده كله؟ الحقيقة بساطة إن الإتنين نفس الشخص، حسب تعريف عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس (Marcel Mauss).

    الإجابة دي تبدو ساذجة لأقصى درجة، إنما في الواقع بتكشف عن اعتقاداتنا المترسّخة فيما يخص طبيعة البشر. موس كان شايف إن الشخص حاجة والذات حاجة تانية. كل واحد فينا عنده إحساس معيّن بذاته، إحساس وكأنه بني آدم وحده بدماغه والعالم بتاعه، إنما الإحساس ده مالوش دايماً وجود واضح في المجتمع اللي هو عايش فيه. يعني مثلاً المواطن المثلي بيبقى عنده إحساس معيّن بذاته، إنما إذا المجتمع اللي هو عايش فيه ما بيعترفش بوجود شيء اسمه «شخص مثلي»، الإحساس ده بيتترجم بشكل تاني، والواحد بيتصنّف كأنه «شخص مريض» أو «شخص زاني» أو «شخص بيهوى الغلمان».

    يعني الفرق بين الذات والشخص هو فرق بين الفرد والمجتمع: من ناحية فيه أفراد عندهم إحساس معيّن بنفسهم، ومن ناحية تانية فيه تصنيفات عامة بتحط كل واحد في خانته. لكن موس مش بس عايز يقول لنا إن كل مجتمع عنده تصوّر مختلف عن أنواع الأشخاص اللي فيه. حسب موس، فكرة إن كل واحد فينا عبارة عن «شخص» بتختلف من مجتمع للتاني، بحيث إن اللي بنسميه «شخص» مش شرط بيتسمّى كده في مجتمعات تانية أو في ظروف تاريخية تانية.

    موس حلل تاريخ مفهوم «الشخص» في مجتمعات قديمة، زي الإغريق والرومان وقدماء الهنود، وبيوصلنا لإن مفهوم «الشخص» في أوروبا في وقته جاي بشكل واضح من التراث الإغريقي ثم الروماني ثم المسيحي. في التراث ده، كل «شخص» جواه روح مالهاش علاقة بجسمه وهتعيش بعديه ولازم ياخد باله منها عشان يعرف يعيش ويموت في أفضل الظروف. فالروح اللي جوه الشخص هي اللي بتوصفه في جوهره، والفرق بين أبويا وصورته مش هيبقى إشكالي لأن الإتنين فيهم نفس الروح.

    إنما في مجتمعات تانية، تعريف الشخص بروحه مالوش معنى. في بعض الثقافات في الغابات الأمازونية، الشخص مش شرط يبقى عنده روح واحدة في جسم واحد، إنما روح واحدة في كذا جسم. الشعوب دي ما عندهاش فكرة إن أبويا هو شخص في ذاته، إنما إن أبويا جزء من أجسام كتيرة بتشترك في تعريفه كشخص، وكأن الجسم هو اللي بيعرّف البني آدم مش العكس. وفي ثقافات الجزر الميلانيزية في المحيط الهادي، الشخص ما عندوش روح واحدة إنما دايماً روح ناقصة، واللي بيخليها تكتمل هي التعاملات بين الرجالة والستات (وبالمعنى ده البني آدم بيبقى نتيجة لتفاعلات بين جزء أنثوي وجزء ذكوري).

    المهم في الآخر إن مش كل المجتمعات بتعترف بفكرة الشخص الموحّد اللي عنده روح واحدة في جسم واحد، وده ما بيأثرش بس في حاجات يومية زي التشابه بين أبويا وصورته في التمانينات، إنما في طريقة تفكير كاملة عن علاقة الواحد بالعالم اللي عايش فيه. إحساس الواحد بنفسه ما يفرقش طالما المجتمع بيصنفه كشخص، وحتى لو أبويا مش مصدق إن هو اللي في الصورة، ما حدش عنده شك إن الأفرو ده هو بالمللي.

    الأقلية

    فين أغلبية الشعب؟ أكيد قاعدين في بيوتهم.. إلا اللي ما عندهمش بيوت. الشاب اللي مش لاقي يشتري شقة، والأم اللي عايشة مع ابنها عشان معاشها ما يغطّيش الإيجار، واللي عايشين في عشوائيات، واللي مش قادرين يعيشوا فيها أصلاً، واللي واللي.. إزاي نقدر نعرف فين الأغلبية؟ في أوروبا وأمريكا مثلاً، الناس مهووسة بالإحصائيات، وبيحاولوا يعدوا السكان في أي حاجة –سواء كان عدد الستات والرجالة، عدد الفقراء والأغنياء، عدد الأطفال في كل بيت، عدد السواقين والعاطلين، وإلخ. الإحصائيات في مصر مش دقيقة للدرجة دي، بس ده ما يمنعش إننا نحدد فين الأغلبية بشكل بسيط؛ مش عشان إحنا أجمد من أوروبا وأمريكا، وإنما عشان مافيش حاجة اسمها أغلبية أصلاً حسب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (Gilles Deleuze).

    يعني إيه مافيش أغلبية؟ هتكون راحت فين؟ اختفت امتى؟ أكيد لو الواحد عرف يعِد، هيلاقي إن فيه ناس أكتر من ناس تانية، وهيعرف بالعقل والمنطق مين الأغلب ومين الأقل. يعني أي بني آدم عاقل عارف إن الديانة الغالبة في مصر هي الإسلام، وإن أي حد عاقل بيعِد الناس لازم يلاقي إن فيه مسلمين أكتر من المسيحيين واليهود والبهائيين. وكذلك اللغة الغالبة هي العربي، وفيه ناس بتتكلم عربي أكتر مما فيه ناس بتتكلم إنجليزي أو فرنساوي أو عبري. والحزب الغالب في الانتخابات هو الحزب اللي بياخد أصوات أكتر، إن شالله كان الحزب الوحيد. التفكير ده يبدو وكإنه عين العقل، إنما العين ما تقدرش تشوف نقطة بسيطة، وهي إن الإنسان اللي بيعِد ده عنده تصور ضمني عن اللي بيتعَد. التصور ده بيخلق توقعات عن نوع الأفراد اللي المفروض يتعَدوا، والتوقعات دي ممكن تخلّي الكتير قليل والقليل كتير.

    يعني مثلاً لو كنا عايزين نعرف عدد المسلمين في مصر، واللي بيعد واحد وهابي لطيف، ممكن يقرر إن المتصوفين والشيعة وكل البشر اللي بيشاركوا في الموالد مش مسلمين قوي، فيقلل من أعدادهم لدرجة إن «المسلمين» يبقوا صفوة من الأعداد الغالبة. طبعاً التوقعات دي ساذجة بالنسبة لعلماء الاجتماع اللي المفروض يطبقوا مناهج علمية رزينة ناضجة عشان يجمعوا المواد الإحصائية. إنما مشكلة تعريف البني آدمين اللي المفروض يكونوا جوه العدد والبني آدمين اللي المفروض يكونوا براه لازالت موجودة مهما كان الشخص اللي بيجمع الإحصائيات. إذن الأغلبية مش مجرد عدد، ده عدد مبني على توقعات الشخص اللي بيعِد.

    في السياق ده، الأغلبية بتتحوّل إلى معيار حسب تعبير دولوز، يعني أداة بنقيس أي حاجة على أساسها، حتى لو المعيار ده مالوش محتوى واضح. اللي عايز يعرف إذا كانوا «المسلمين» أغلبية في مصر ممكن يلاقي إجابات مختلفة إذا كان وهابي لطيف أو عالم اجتماع ناضج، لأن فكرة «المسلم» الضمنية في الحالتين هتؤدي لعددين مختلفين. إنما أياً كان العدد، فيه توقع إن اللي بيتقال عليه «مسلم» هو الشخص الغالب، زي ما اللي بيتقال عليه «رجل» أو «مصري» هو المعيار اللي بيتقاس عليه باقي الشعب. وده نوع من أنواع التوقعات اللي خلِّت دولوز يقول إن مافيش أغلبية لأننا كلنا أقليات.

    كده دولوز شقلب الترابيزة على دماغنا. بدل ما نقعد نعِد مين الأكتر ومين الأقل، سواء كان فيما يخص الديانة أو اللغة أو الانتخابات، لازم نبتدي نفكّر في المواصفات اللي بتخلّي كل واحد منفرد بذاته وبحياته. يعني بدل ما نهتم بالأغلبية اللي قاعدة في البيت، نهتم بحالات بعينها، زي الأب المسيحي اللي بيودّي عياله دروس كمبيوتر في الكنيسة، أو الأم اليونانية الشقراء اللي مربية عيالها في المنتزه ولكن جيرانها شايفينها خواجاية، أو الفلاح الفيومي اللي عايش مع خالته الكبيرة في الدقي عشان يساعدها في الطلوع والنزول، وإلخ. الناس دي ما ينفعش تتقاس بمعيار الأغلبية، لأن المعيار ده محدود الأفق، وبيولّد كلام عن الأقليات من نوعية إن المسيحيين إخواتنا (على أساس إننا مسلمين ومحتاجين إخوات تاني) أو إن الأم المصرية فاضلة (على أساس إننا رجالة وبنسمح للأم إنها تبقى كده) أو إن الفلاحين متخلفين (على أساس إننا سكان مدن آخر ستايل).

    الأقلية ما ينفعش تتمسك وتتعد في رأي دولوز، لأنها عبارة عن تحول ذاتي مستمر في الحياة اليومية. كون إننا شايفين نفسنا عن طريق المعيار الغالب، معيار الشخص اللي كسب الانتخابات واللي خسرها، بيخلينا نفكّر في الأقليات على أساس إنهم خسروا انتخابات الحياة. بس لو فكّرنا إننا كلنا جزء من أقلية ما، بمعنى إن حياتنا اليومية بتدفعنا في تحولات وممارسات زي إننا نبعت عيالنا دروس كمبيوتر في الكنيسة أو نساعد خالتنا العيّانة، خانة الأغلبية كمعيار عام هتفضى شوية بشوية. وفي الحالة دي، ما ينفعش نصنّف المسلم باعتباره الغالب أو الرجل باعتباره الغالب، لأن اللي فاضل هيكون أقليات في أقليات في أقليات.

    وكذلك سياسة الأغلبية مجرد معيار بيتفرض على البشر، ولكن السياسة الحيّة والفعالة لازم تكون سياسة للأقليات.

    المستضعف

    هل المستضعف يقدر يتكلم؟ عكس اللي ممكن نتوقعه، السؤال مالوش دعوة بقدرة البني آدم المطحون المقهور على إنه يفتح بقه في ظروف ما بتسمحش بإن أي حد يعبَّر عن رأيه. السؤال في الواقع عنوان لمقال مؤسس للناقدة جاياتري سپيڤاك (Gayatri Spivak)، واحدة من مؤسسي دراسات ما بعد الاستعمار في الجامعات الأمريكية، بالتوازي مع إدوارد سعيد (Edward Said) وهومي بابا (Homi Bhabha). الدراسات دي مهتمة بالبلاد اللي عاشت تجربة استعمارية وفضلت تحت سيطرة نخبة قومية قوية بعد التحرر، زي مصر والهند وأندونيسيا.

    السؤال اللي سألته سپيڤاك هو إزاي المثقف بيفكر في البني آدم المطحون المقهور اللي ما بيظهرش صوته في كتابات المثقفين. أول سبب إن تعريف المستضعف مرتبط بالنخبة. المستضعف مش مجرد أي بني آدم مطحون مقهور في الوجود، وإنما أي بني آدم ما هوّاش جزء من النخبة الحاكمة. الفرق ده واضح في التعبير الإنجليزي الأصلي: subaltern. التعبير متّاخد أصلاً من كتابات الفيلسوف أنطونيو جرامشي عن علاقة النخبة السياسية بالمثقفين وبالشعب، اللي هم «مستضعفين» بمعنى إنهم مش من النخبة. بالصدفة، نفس نوع التفرقة واضحة في أصول المصطلح العربي، «المستضعف»، اللي كان بيُستَخدم في حالة المسلمين اللي عايشين في بلاد الكفار قبل الفتوحات الإسلامية.

    في السياق ده، أي بني آدم –غني أو فقير، كبير أو صغير، رجل أو ست– ممكن يُعتَبر مستضعف طول ما هو مش كافر وعايش بره بلاد الإسلام. مفهوم الاستضعاف هنا ما بيوصفش التقاطع بين كل أشكال القمع الموجودة جوه المستضعفين ككتلة، زي مثلاً إن الفقير مقهور أكتر من الغني، أو إن الست مقهورة أكتر من الرجل، أو إن العمال اللي عايشين في بلاد ما بتحترمش حقوق العمل غير العمال اللي عايشين في بلاد عندها نقابات قوية. بالتالي حسب سپيڤاك، مفهوم الاستضعاف ما بيسمحش للشخص المستضعف بجد بإنه يتكلم، واللي هينطق في الغالب مش هيبقى أكتر واحد مطحون ومقهور في تقاطع كل البنيات القمعية دي.

    إذن المستضعف بجد مالوش مساحة للكلام في رأي سپيڤاك. ولو افترضنا إن المساحة موجودة، إيه اللي يخلّينا نفتكر إن كل المستضعفين هيتجمّعوا تحت راية واحدة؟ إيه اللي يخلّينا نقول إن المستضعف يقدر يتكلم بصفته مستضعف ضد النخبة؟ هنا الواحد لازم يفرّق بين المصالح الموضوعية لأي طبقة ووعي الطبقة دي بنفسها. مش معنى إن الواحد مطحون ومقهور إنه هيوعى بالمطحونين والمقهورين زيه، ولا إنه هيوعى بمصالحهم ومطالبهم المشتركة. لذلك ما ينفعش إن المثقف يتكلم عن المستضعفين أو النخبة وكأنهم كتلتين مستقلتين في ذاتهم.

    سپيڤاك فسرت النقطة دي عبر مثالها المعروف عن «الرجل الأبيض اللي بينقذ المرأة السمراء من الرجل الأسمر». سپيڤاك كانت بتتكلم تحديداً عن قانون بريطاني في الهند وقت الاستعمار بيمنع ممارسة الـ«ساتي»، يعني حرق الأرملة بعد وفاة الزوج. الممارسة دي بقت جريمة في القانون الاستعماري، لأن المستعمرين البيض كانوا شايفين إنها ممارسة غير متحضرة. لذلك الحكومة البريطانية فرضت المنع تحت دعاية إنهم بيحرروا المرأة الهندية من طغيان الرجل الهندي، اللي كان بيتشاف على إنه رجل شرقي عنيف ما يقدرش يتحكم في أعصابه.

    ولكن سپيڤاك شرحت إزاي الممارسة دي ما كانتش منتشرة في الهند بحالها، وكان فيه هنود كتير ضدها؛ وإزاي الاستعمار هو اللي خلق المناخ اللي سمح للمتطرفين بإنهم يشجعوا الساتي بصفتها ممارسة ضد الاستعمار. ثم إن كلمة «ساتي» أصلاً معناها «الزوجة الفاضلة»، وبالتالي لما بيستخدمها المستعمر البريطاني، الكلمة بتعبّر عن تصور ذكوري زيه زي التصور الذكوري بتاع الهنود المتطرفين بالظبط. وفي الآخر، ولا واحد فيهم سمع كلام الستات المطحونة المقهورة بالفعل، واللي قال يعني كان المفروض ننقذهم من ايدين الرجالة الهنود قبل ما ننقذهم من القمع الاستعماري.

    باختصار، المثقف ما يقدرش يتكلم عن «شعب» واحد مستضعف بسبب إن الناس اللي بتتسمّى «المستضعفين» بيختلفوا جذرياً حسب نوعهم وعرقهم وديانتهم. واللي بيعرف يتكلم منهم دايماً بيتكلم من خلال وضع اجتماعي خاص، وبحكم الوضع ده، نادراً ما بنقدر نسمع أكتر واحد مقهور ومطحون، ونادراً ما آراء المستضعف بتبقى موجودة في الكلام المكتوب عنه. وبالتالي، صوت المستضعفين بجد مش مسموع لأنه مدفون تحت الكتابة عنهم.

    المتوحد

    أنا مالي؟ أنا شاب بيخلّص دكتوراه في جامعة أجنبية ومهتم بالفلسفة والثقافة ومصر وناسها والوضع الحالي. ليه ما أقعدش بره مصر وأنا ساكت؟ أنا مالي ومال مصر؟ السؤال ده على بال الشباب والشُياب، في الجامعات والمعارض والقهاوي، جوه مصر وبراها. كتير منهم سابوا مصر أو بيفكروا يسيبوها، واللي ناوي يقعد قاعد ساكت، وبيتفرج، وعمّال يقول لنفسه: أنا مالي؟ الإحساس ده طبيعي، وممكن نقارن إحساسنا الحالي بتجارب مثقفين وفلاسفة تانيين، مثلاً في كتاب «تدبير المتوحد» للفيلسوف الأندلسي أبو بكر ابن باجة.

    كتاب ابن باجة بيبدأ بالتأمل في معنى التدبير. الناس بتتكلم عن الله

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1