Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

في بلاد البونت
في بلاد البونت
في بلاد البونت
Ebook223 pages1 hour

في بلاد البونت

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

"لم تتقطّع أنفاس الصوماليين على مدى تاريخهم كما تقطّعت أنفاسهم في هذه الحرب، فالكل يلهث لكسبها، وكان لأمراء الحرب أهدافهم التي يعلنونها ويصوّرون وجاهتها لأنصارهم، في حين يخفون الأسباب غير النزيهة التي تدفعهم لإشعالها. لقد جعلوا من البلد جبهاتٍ وفئات يتحارب أفرادُها بمستوى من العنف لا نظير له، وهكذا توسّعت حلقات البلاء لتعمّ البلد."


(بلاد البونت) هو اسم الصومال القديم. ذاك البلد الذي افترسه التعصب القبلي وتنازعه اصحاب السلاح وتوابعهم فأغرقوه في أزمات لا تحصى.


كيف يفقد وطن مناعته؟ وكيف تحول الأخطار والاغراءات ثائراً أراد أن يذود عن سواحله ويحميها من سفن الغرب والشرق التي تطمر فيه النفايات حتى اضحى الصومال (مكانا غير صالح للسكن الآدمي) أن يتحول ذلك الثائر إلى قرصان يطارد السفن.


يعبر هذا العمل الابداعي للكاتب الارتري أبوبكر حامد كهال عن ذلك الجزء من القارة الأفريقية الذي يشبهنا في كثير من خصائص الثقافة والعقيدة والهوية.

Languageالعربية
Release dateFeb 2, 2024
ISBN9781850773641
في بلاد البونت

Related to في بلاد البونت

Related ebooks

Reviews for في بلاد البونت

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    في بلاد البونت - أبوبكر حامد كهال

    (1)

    كلّما لاحتْ لي أضواء المنارة في ميناء مقديشو خطرَ على بالي السيد علي شبيلّي بطولِه الفارع ونحولِه وببنطاله الكنغولي الفاتح وقميصه بكُمَّيْهِ الطويلين وجيوبِه الأربع؛ اثنتان في الأعلى واثنتان في الأسفل؛ فقد ظلّ هو والمنارة الوحيدَين الثابتَين هناك عقب نزوح عمّال الميناء وموظَّفيه بسبب الحرب، واحداً تلو الآخر، إلى أن انقطعت رائحتُهم عن المكان نهائياً. أمّا هو فقد قاوم فكرة المغادرة؛ وكان حسن عبدي والكثير من روّاد مقهى المرفأ القديم يردّدون أن التصاقه بأرصفة الميناء وبالمنارة لن يصمدَ أكثر من صمود طفلٍ يتمرّد على فكرة الفطام.

    بيد أن كلّ تلك التكهّنات التي راهنت على انتصار خوف شبيلّي على إرادة التشبُّث التي يُظهرها تبخّرت مثل فقاعات قصيرة العمر، ولم يعد حسن عبدي ولا جلّاسه من الصيّادين بمقهى المرفأ القديم يذْكُرونها.

    فطوال السنوات التي كان الصومال يفقد عافيته فيها، كانت المنارة ترسل قبسَها إلى السفن لعلّ إحداها ستجيء يوماً، وكانت عينا شبيلّي في الليل تراقبان ضوءَ المنارة العنيد، كمن يعلّق ناظرَيه بمريضٍ يصلّي من أجله الجميع، لكي يعود من حافة الموت إلى الحياة. فالليالي التي سهرَ فيها مراقباً المنارة ليتدخّل في حالِ أصابَها العطب، كانت أكثر من تلكَ التي نام فيها. ومن ناحيةٍ أخرى، مثّل وجودُه كسلْطةٍ وحيدة غير متوَّجة، سلطةً حامية تذود عن الميناء عبثَ الأشقياء الذين ولدتهم الحرب.

    لاحظ شبيلّي أثناء تجواله في مرافق الميناء الصامت ذات عشيةٍ، أنّ الكشّافات التي كانت مسلّطةً على أعناق الرافعات الضخمة انطفأ نورُها، وأن بعضَها بدأ في الاختفاء بفعلِ السُّراق. عندها قال للحارس العجوز المرابط عند البوابة والذي انتقلت إليه هو الآخر عدوى فقدان الأمل في عودة الميناء إلى سابقِ عهدِه؛ فبدأ بالتفكير في مغادرة موقعه نهائياً:

    - إذا شعرَ لصوصُ الآلات أنك تفكّر في ترْكِ البوابة، ستجدهم غداً هنا لسرقة حتى أحجار الأرصفة لاستخدامها في تشييد متاريس عبثهم.

    همهم الرجلُ بعد أن صوّب وجهَه ناحيةَ حديد البوابة المشبّك، بكلامٍ فهمَ شبيلّي من خلاصته أنّ شيئاً ما في نفس العجوز بدأ بالارتخاء بسبب نفاد طاقته في التحمُّل، وأنه مغادرٌ لا محالة.

    وعندما مرّ في «ضحوية» اليوم التالي على البوابة، كان العجوز قد ذهبَ بالفعل، والحسَنة الوحيدة التي أقدم عليها قبل ترك المكان، هي وضع سلسلة على البوابة. أقلّه تَحُول دون ولوج الحمير والكلاب السائبة، التي بات بعضُها يجول في مجموعات بعد أن نفذت إلى الداخل عبر ثغراتٍ أحدثتها القذائف على سور الميناء وهناجر التخزين.

    كان يقلقه وضع الهناجر وثغراتها الكثيرة، حيث ما تزال تقبع داخلها شحناتٌ من السماد ومواد كيماوية خاصة بمكافحة الآفات الزراعية منعت الحربُ الاستفادةَ منها؛ وهي مواد تعَدّ خطِرةً إذا ما وقعت في أيدي العابثين، ناهيك عن أن الكلاب السائبة لا يحلو لها اللعب والمطاردة إلا داخل الهناجر متسلّيةً ببعثرة محتوياتها.

    تجوّل قليلاً على الأرصفة الخالية يبحث عن مواد يمكن الاستفادة منها في سدّ ثغرات الهناجر، وكان كلّما تقدّم لاحظ المزيد مما أوقعه الدهماء من الأضرار فيها، حيث خُلعت ألواح عريضة من الرخام، وكان منظرها يشبه شواهد قبور انتُزعت من أمكنتها عمداً. حمل -على دفعات- كومة كافية، ووضعها قرب ثغرة كبيرة في هنجر تخزين الأسمدة، ثم اتجه إلى هناجر الإسمنت، وحمل كيساً يزن خمسين كيلوجراماً، وهناك أفرغ نصفه تقريباً فوق كومة من الرمل الخشن، وراح يعجن الخليط بالماء، ثم بدأ ترميم الجدار.

    لاح من بعيد حسَن عبدي الذي يستأجر من شبيلّي مركب صيد السمك (جواهر) وهو يخطو فوق الرصيف الرابع ضامّاً بين ذراعيه حزمة خضراء نديّة من نبات القات، مسبوقاً بظلّ المساء الطويل، وقال بصوت ثقيل بسبب امتلاء شدقه الأيسر بأوراق القات:

    - لو كنتُ مكانك لما أتعبتُ نفسي كل هذا التعب.

    - هل ترى ذلك حقاً؟!

    «ستواصل المدافع فعلتَها يا صديقي»، قال حسن، ثم صمت قليلاً قبل أن يواصل: «وسيتهدّم المزيد من الجدران في البلد».

    «هل هو مجرّد توقُّع، أم تتحدث عن معلومة وصلَتك؟»، تساءل علي شبيلّي.

    «نصف معلومة، ونصف توقّع.. ولكن المعلومة الأكيدة هي وصول أسلحة جديدة إلى أيدي المتحاربين»، ردّ حسن.

    سارا صوب الخيمة التي أقامها شبيلّي بالقرب من غرفة لاسلكي الميناء فوق الرصيف الأول، ليتّخذها مسكناً له.

    كانت المسافة قصيرة، ولكن تباطؤ حسن الذي انشغل بحشو فمه بالمزيد من أوراق القات جعلها تتطلب وقتاً أطول من المعتاد.

    دخلا الخيمة، وجلسا على بساط المشمَّع السميك الموضوع على الأرضية.

    أشعل شبيلّي كمية من الفحم، ووضع فوقها برّاد الشاي، ثم نقّى ضمّةً من أوراق القات من الحزمة الموضوعة فوق المشمَّع، في مساحة الأرض بينه وبين حسن، ودفع بها إلى فمه، وراح يلوكها ببطء، ثم دفع بالعجينة إلى زاوية بعيدة في شدقه الأيسر.

    تطرّق حسن إلى موضوع سفن النفايات، الذي لا يفتأ يثيره في الفترة الأخيرة كلما التقى شبيلّي:

    - هناك سفنٌ جديدة دخلت في اللعبة.

    قال شبيلّي:

    - أنا أستغرب كيف اتفقت كلّ هذه الدول على دفن نفاياتها هنا..

    «الأمر غريب فعلاً، ويبدو أن مناعة الصومال المفقودة هي السبب»، رد حسن.

    «سيمتلئ المحيط بهذا الشرّ» قال شبيلّي وهو يُنزل البرّاد من على الموقد.

    سحب حسن مبلغاً من المال من جيبه، وناوله لشبيلّي وهو يقول:

    - تطلّبَ إصلاح المركب أربعمائة شلن، خصمتُها من قيمة الإيجار.

    تناول شبيلّي المبلغ وقال:

    - أريدك أن تذكَّر أنني سأستعيد مركبي لأعمل فيه بنفسي عندما تستتبّ الأوضاع.

    - متّفقان تمام الاتفاق!

    قال حسن هذا، ثم تجرع كوب الشاي في عجالة، وانصرف إلى حيث يقيم مع ثلّة من الصيّادين في المرفأ القديم بـ «عيل معان»، التي تعني «البئر العذبة».

    كانت الرياح تهبّ ثقيلة منذ أول المساء، وظلت طوال الوقت تعاند عينَي شبيلّي، وتمنعه من النظر المريح صوب مياه المحيط المضطربة؛ لقد تمنى أن تثبَ عيناه من مكانيهما وتطيرا بعيداً بعيداً فوق المياه، لترَيا السفن التي تأتي خفيةً لتزرع المواد المشعّة ومستعمرات الزئبق، وتمضي هانئةً كمن ارتكب تواً جريمة نظيفة!

    فإذا كانت هذه حالُ مياه الصومال، فالحال في اليابسة لا تقل سوءاً؛ فمقديشو التي خلف ظهره يتصاعد منها دخان الحرائق، ومبنى البلدية المقام غير بعيد، ينبعث منه هو الآخر عمودُ دخان بسبب النيران التي أكلت كل شيء في حوادث قصفٍ سابقة، ولم تجد قذائف هذا المساء ما تأكله سوى الأعشاب الجافة كانت قد نمَتْ لصقَ الجدران الخارجية.

    لم تتقطّع أنفاس الصوماليين على مدى تاريخهم كما تقطّعت أنفاسهم في هذه الحرب، فالكل يلهث لكسبها، وكان لأمراء الحرب أهدافهم التي يعلنونها ويصوّرون وجاهتها لأنصارهم، في حين يخفون الأسباب غير النزيهة التي تدفعهم لإشعالها. لقد جعلوا من البلد جبهاتٍ وفئات يتحارب أفرادُها بمستوى من العنف لا نظير له، وهكذا توسّعت حلقات البلاء لتعمّ البلد. لهذا كان الحارس يشعر باليأس على الرغم من كلمات شبيلّي المشجّعة، وكان يستقبل دعواته للبقاء وعدم الاستسلام بفتور، لقوّة إحساسه بأن أصابعَ ما في داخل البلد وخارجه تريد استمرار الحرب التي لن تضع أوزارها قبل أن تأتي على الصومال، الذي يبدو أن كلّ شيء فيه يتخلخل كأنما الشعبة التي كانت تسنده نُخرت ولم تعد تتحمّله فغدا على هذه الصورة من الخوار.

    هل تكون ألعابُ الحرب التي يولع بها الأطفال في مرحلةٍ مبكرة من أعمارهم، هي السبب في اندفاع الفتيان والشباب على حمل السلاح وعدم تركه حتّى في أوقات السلْم المتقطّعة؟ أم يكون السبب هو محاكاة فرسان العشيرة والقبيلة وقصص الأجداد الأسطوريين والحكايات عن انتصاراتهم وغزواتهم والغنائم التي كانوا ينتزعونها من الفئة الأخرى؛ العدوّة!

    هكذا هجس شبيلّي في نفسه وهو يشاهد الشقيق الأصغر لصديقه حسن عبدي قرب السور الشمالي للميناء، عائداً من الشاطئ يغالب بندقية سمينة على كتفه، وبيده كيس في داخله بضعُ سمكات اصطادهنّ ليسدّ رمقه.

    أوقف شبيلّي الطفلَ، وقال له وهو يشير إلى البندقية:

    - يبدو أنك غير قادر على حملها!

    «ليست ثقيلة»، رد الطفل، وراح يقاوم ذراعي شبيلّي اللتين امتدّتا للمس حديد البندقية.

    - لاحظْ كتفَ قميصك الممزقة، إنها غير مصمّمة أبداً لمن هم في عمرك!

    - هذا بفعل بندقيتي القديمة؛ كانت ثقيلة جداً. هذه حصلتُ عليها حديثاً.

    تذكّر شبيلّي حديث حسن عن تدفّق السلاح في الفترة الأخيرة.

    - ولكن مَن أعطاك البندقية، لم يفكّر في منْحِك قميصاً جديداً!

    ردّ الطفل وسط خجله:

    - لا أعرف!

    صمت شبيلّي قليلاً، ثم قال في نبرةٍ ودودة أملَ منها أن يقنع الصبي بما سيعرضه عليه من مالٍ مقابل تخلّيه عن البندقية والانسلاخ عن الميليشيات نهائياً:

    - حسناً، لدي صفقة مغْرية لك!

    وضعَ عينيه بعينَي الطفل اللتين ظهر عليهما ما يشبه الفضول:

    - ما هي؟

    - أريد اقتناء بندقيتك؛ أمنحك مالاً كثيراً تغتني به ما تشاء، ثم نحطّم أنا وأنت البندقية هنا، في هذا المكان!

    ردّ الطفل بنبرة حاسمة وهو يتشبّث ببندقيته:

    - لا، لن أبيعها.

    - لا تستعجل! فكِّرْ في الأمر على الأقل.

    تمسّك الطفل بموقفه قائلاً:

    - بندقيتي ليست للبيع.

    قال شبيلّي وهو ينظر إلى ذراع الطفل المشدودة حدّ التوتر بسبب ثقل البندقية:

    - ولكنني أعرف صغاراً في مثل سنّك تخلّصوا من بنادقهم، وهم الآن ينتظرون هدوء الأوضاع من أجل الذهاب إلى المدارس.

    - ومَن سيحارب من أجل العشيرة؟

    لم يأتِ الطفل بهذه العبارة من فراغ، فحتى شقيقه حسن عبدي عندما ناقشه شبيلّي حول موقفه من

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1