Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

بلاد الله عباد الله عشاق التغيير
بلاد الله عباد الله عشاق التغيير
بلاد الله عباد الله عشاق التغيير
Ebook488 pages2 hours

بلاد الله عباد الله عشاق التغيير

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تقتحم الكاتبة الصحفية نشوى الحوفي عالم أدب الرحلات بمنظور مختلف ورؤية جديدة فهى تنقب داخل الشخصيات التى تلتقيها عن شيء ما يؤكد انطباعها أن التغيير إرادة داخلية بعضها فطرى.. وأغلبها مكتسب يمكن تفجيرہ كطاقة خلاقة تبعث على تجديد أنسجة الحياة والشعوب. إنها تبحث عن الأمل.. عن الرغبة فى التغيير.. عن دوافع جديدة قد تهب لنا حياة سعيدة.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2012
ISBN9782425480827
بلاد الله عباد الله عشاق التغيير

Related to بلاد الله عباد الله عشاق التغيير

Related ebooks

Reviews for بلاد الله عباد الله عشاق التغيير

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    بلاد الله عباد الله عشاق التغيير - نشوى الحوفي

    الغلافBeladALLAH-Title02.png

    نشـــــــــوى الحوفـــــــي

    إشـــراف عـــــام: داليــــا محمـــــد إبراهيـــــم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    977-14-4476-X :الترقيم الدولي

    رقم الإيـداع: 2012/1762

    الطبعة الأولــى: فبرايــــر 2012

    Arabic%20DNM%20Logo_Colour%20Established.eps

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    Ehdaa_fmtMokadema_fmt

    في سنوات عمري الأولى مد لي أبي يده بالكتاب.. أي كتاب. كان ـ رحمه الله ـ موظفًا حكوميًّا شأنه شأن جميع موظفي مصر، ولكنه كان مختلفًا في روحه ورؤيته وطريقة سيره في الحياة. كان يعشق القراءة ويمتلك أدوات الكتابة ولكنه لم يحترفها أبدًا. ورغم حياتنا في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، قبل ذلك الانفجار في القنوات الفضائية وبعيدًا عن ضجيج المدن الكبرى وحياتها، فإن أبي كان يعيش عبر قراءاته في عوالم أخرى لم تطأها قدماه، ومنذ اللحظة الأولى لإدراكي ما حولي أخذني معه لأعيش تلك العوالم. بدأ معي بالحديث عبر الحكايات غير التقليدية. فبدلًا من الشاطر حسن وسندباد كان هناك حكاية عن الهند وأخرى عن الكهرباء وثالثة عن جراهام بل ورابعة عن النبي موسى عليه السلام.. وهكذا تنقلت معه من زمان لآخر ومن مكان لغيره وهو يحتضنني على سريري، يأخذ رأسي على صدره في حنو أفتقده. وحينما كبرت بعض الشيء منحني أبي كتابًا بغلاف أحمر مقوى كان عنوانه «حول العالم في 200 يوم» يحمل اسمًا لم أكن أعرفه وقتها في سنواتي التي لم تتجاوز الحادية عشرة، كان اسم الكاتب «أنيس منصور». استكبرت حجم الكتاب يومها وقللت من قدرتي على قراءته لأبي ولكنه طلب مني أن أبدأ ولو عجزت فلا يهم. بدأت ولم أفرغ منه، كنت أعيش مع حكايات السفر لأديبنا الرحَّال، تأخذني رشاقة الكلمة والوصف قبل غرابة الحكاية وشرح المكان. يومها تمنيت لو كان باستطاعتي أن أكرر ذات الرحلة لأرى العالم وحكايات البشر فيه.

    تمر السنوات وأكبر ويرحل أبواي لعالمهما الآخر، أبدأ عالمي الخاص في الحياة وألعب أدوار الصحفية والزوجة والأم، تأخذني الحياة أكثر في تفاصيل تسرق العمر يومًا وراء الآخر، أنسى فكرة الترحال وأستبعدها من عقلي لاهتمامي بأداء دور الأم مدعومة في قراري برؤية زوجي في عدم تفضيله سفري بمفردي. ولكن فجأة تأتي حادثة مقتل مروة الشربيني في الأول من يوليو عام 2009 في مدينة دريسدن الألمانية على يد متطرف ألماني من أصل روسي. يتطلب عملي متابعة القصة مع أهل مروة في الإسكندرية، تتطور الأحداث ويتحدد وقت المحاكمة ونقرر في برنامج «العاشرة مساءً» - الذي أقوم بإعداده - السفر لمتابعة المحاكمة التي شغلت العالم. كنت أول المرشحين للسفر.. أتردد.. أسأل زوجي وأنا أعلم الجواب مسبقًا، ولكنه يفاجئني بتشجيعي على السفر مؤيدًا حديثه بالقول إن الوقت حان لأرى عوالم أخرى لأكتب عنها. وهكذا بدأت الرحلات دون أن تتوقف، وفي كل رحلة كانت هناك رؤى جديدة تمنحك التركيز لتعرف أن البشر متشابهون، وأن معاناتهم واحدة، وأن تغيير الواقع هو حلم الجميع الذي لا ينجح فيه سوى من يمتلكون الرؤية للتغيير والإرادة المخلصة لفعل ذلك. ففي حياة الراغبين والساعين للتغيير لا مكان لكلمة نقص الموارد ولا قلة الإمكانيات ولا ضيق الوقت. في حياة الساعين الجادين للتغيير مفردات أخرى تقودها الإرادة والتصميم وتحدي المعوقات والالتزام. ليس هذا فحسب.. بل إن معاني الديمقراطية والحرية والعدالة وغيرها من التعابير التي تلهم النفوس بالحلم، تظل نسبية غير قابلة للتحقيق بحياد.. وتظل الخدمة المقدمة للشعوب هي أساس الرضا عمن يمتلكون أمرهم. ومن هنا تأتي أهمية الإبحار في التجربة البشرية أيًّا كان موقعها وحجمها.. فمن محاكمة قاتل مروة الشربيني في عاصمة الإقليم الساكسوني «دريسدن» بألمانيا، إلى تجربة البرلمان الألماني في برلين.. ومن جنيف عاصمة تخزين الأموال في سويسرا والعالم إلى طهران في إيران.. ومن مخيمات اللاجئين السوريين في هاتاي في الجنوب التركي لإستانبول العاصمة الاقتصادية لتركيا، ومنها لجنوب إفريقيا للاقتراب من تجربة ماديبا، الشهير بنيلسون مانديلا ساحر القلوب هناك. وهكذا شخصيات ومدن تختلف في مزاجها العام واتجاهاتها وثقافتها، البعض قرر التغيير وعبور أزمته في الزمن دون الالتفات لكبواته وأخطائه، وسعى في خطوات حثيثة للأمام مع النظر لتجارب الآخرين للتعلم وتفادي تكرار الأخطاء. والبعض أصر على عناده والتشبث برؤيته الخاصة دون السماح لأي شخص آخر، مهما كان، بالاقتراب منه أو تصحيح فكره.

    لديَّ اعتقاد راسخ بأن الإنسان منذ أن خلقه الله لم يتغير في أسلوب تعاطيه مع الحياة، فقابيل وهابيل نموذج متكرر مع اختلاف التفاصيل رغم مرور الزمن.. هناك ملايين من قابيل الذي قتل أخاه وعلى عينيه غشاوة حرمته رؤية غيره ورؤية حقيقته، وهابيل الذي اجتهد للعمل في الدنيا وإعمارها ونيل رضا الله يتكرر بصورة أو بأخرى.. يتكرر نموذج قابيل وهابيل مع تغير الأسماء والأماكن والشخصيات، ومع تكرارهما علينا أن نتخذ القرار، أيهما نريد أن نكون في تلك الحياة؟ لن أطيل عليكم ولكنني أقدم لكم مشاهداتي في بلاد الله وخلق الله؛ علها تساعدنا في رسم صورة أخرى للمستقبل الذي نبحث فيه عن التغيير.

    نشـــوى الحوفــي

    سبتمبر 2011

    الفصل الأول

    دريسدن.. الإصرار على الحياة

    هناك وجه للشبه بين دكتور علوي عكاز زوج مروة الشربيني، وبين «دريسدن» المدينة الألمانية التي اختار أن يحصل من جامعتها على الدكتوراه مفضلًا إياها على عواصم أخرى متوسمًا فيها الأمان. وجه الشبه يتمثل في إصرار كل من علوي عكاز ودريسدن على الحياة رغم تفاصيل الموت والألم والانكسار. من يرى دريسدن بعد الحرب العالمية الثانية لا يصدق أن تلك مدينة يمكنها الحياة مرة أخرى.. ومن يتابع علوي عكاز بعد حادثة مروة يتعجب من صمود الرجل وإصراره على البقاء.

    تحدد موعد محاكمة قاتل مروة الشربيني أليكس فينز الألماني من أصل روسي بيوم السادس والعشرين من أكتوبر عام 2009. يعلم الصحفيون مشقة السفر في مهمة إعلامية، لا بسبب الإعداد الخاص بالمعلومات فحسب، ولكن لأنك تهبط على بلد غريب ليس لك فيه مصادر محددة تساعدك في الحصول على المعلومة أو تتيح لك لقاء شخصية تمتلك الأخبار؛ لذا فمهام السفر، على الأقل بالنسبة لي، دائمًا ما تحيطها مشاعر الترقب والقلق خوفًا من العودة بخفي حنين. فما بالك وأنا أسافر لبلد يفضل أهله التحدث بالألمانية، بالإضافة إلى حساسية الحادثة التي قتلت فيها شابة مسلمة ومحجبة على يد متطرف يكره الإسلام والمسلمين ووجودهم في ألمانيا؟!

    المهم.. سافرنا أنا وزملائي في البرنامج إسلام ماهر وجومانا جودت وحاتم خيري وجاءت بعدنا في اليوم التالي منى الشاذلي. كنت قبل السفر قد نسقت مع سفارتنا في برلين، وتحديدًا المستشار الإعلامي هناك طلعت سنجر ومساعده محمد عباس، وللحق كانا قد أعدا كل شيء اتفقنا عليه على الهاتف. ووجدناهما في انتظارنا في مطار برلين عند وصولنا. وصلنا برلين يوم السبت 24 أكتوبر بينما كانت المحاكمة ستبدأ يوم الإثنين في التاسعة صباحًا. قضينا الساعات الأولى لوصولنا في التأكد من شركة المونتاج التي سنعد بها ما نقوم بتصويره ثم إرساله للقاهرة. واتفقت أنا وحاتم على التحرك إلى دريسدن في الخامسة من صباح الأحد لتصوير بعض التقارير عن المدينة وبيت مروة الشربيني والتسجيل مع جيرانها وأصدقائها في المدينة من المبتعثين المصريين والعرب، بالإضافة لتصوير مبنى المحكمة وساحتها الأمامية والاستعدادات التي تمت لتلك المحاكمة التي كانت تثير نوعًا من القلق غير الخافي لدى الألمان. لم نكن نعرف أحدًا هناك ولكننا قررنا الذهاب ثم العودة في نفس اليوم بعد إنهاء التصوير لعمل مونتاج تلك التقارير لتكون معدة لإرسالها وإذاعتها على قناة دريم يوم بدء المحاكمة، بينما قرر إسلام وجومانا انتظار منى في برلين.

    في الخامسة من صباح الأحد مر علينا أنا وحاتم سائق السيارة التي أعدتها لنا السفارة المصرية في الفندق لاصطحابنا في رحلتنا لدريسدن. «عم حبيــب» هذا اسمه، لبناني في مطلع الخمسينيات من عمره، ترك وطنه في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وقت اشتداد الحرب الأهلية هناك، وجاء ليقيــم في ألمانيــا بعد أن اكتشف أنه لا جدوى من البقــاء في بلد أضحى القتل فيه أبسط من التنفس. بدأنا رحلتنا في طقس قارس البرودة، درجـة الحرارة كانت تقترب من الصفر والشمس تبدو بعيدة ترسل شعاعًا على استحياء بينما السماء تمطر زخات من قطرات المياه. ركبت بجــوار عم حبيب وركب حاتم في الخلف. ومع انطلاقنا على الطريق أخبرنــي عم حبيب أن المسافة بين برلين ودريسدن تستغرق ساعتين، ولكــن في ظل هذا الطقس من الممكن أن تستغرق ساعتين ونصف الساعة لأننا سنضطر لإبطاء سرعة السيارة على الأرض الزلقة.

    وفي تمام السابعة والنصف وصلنا دريسدن.. مدخل المدينة قريب من محطة القطارات بها، تفرض عليك ملامح المدينة نفسها بمجرد عبورك في شوارعها. يلفت نظرك ذلك اللون الرمادي الذي يقترب من السواد في بعض الأحيان، ويغطي جدران المباني التاريخية في دريسدن، في ذات الوقت يعلو قمم المباني تمثال ذهبي يتناقض مع سواد الجدران. أطرح سؤالي على عم حبيب عن سر ذلك التناقض فيخبرني أن المدينة كانت قد دكت في الحرب العالمية الثانية بقنابل قوات الحلفاء، ودمرت مبانٍ كثيرة فيها وقدرت الأرقام عدد من ماتوا من سكانها بنحو 35 ألف مواطن ألماني؛ لذا ومع إعادة بنائها، قرر سكانها الاحتفاظ بلون المباني التي لم تتهدم على حاله مع تجديدها من الداخل فقط، حتى يذكرهم بويلات الحرب التي مروا بها ويكون دافعًا لهم لتحقيق نهضة تعوضهم ما تعرضوا له في تلك الحرب. في نفس الوقت قرروا وضع تمثال ذهبي يعبر في الغالب عن جسم ملاك فوق تلك المباني؛ لكي يذكرهم بما يجب عليهم تحقيقه وأنهم يجب أن يسيروا دومًا للأمام.

    عرفت من «عم حبيب» أن دريسدن عاصمة الإقليم الساكسوني واحدة من أهم المدن الألمانية بل أجملها، وأنهم كانوا يطلقون عليها في الماضي لقب «لؤلؤة عصر الباروك». وكيف أنها كانت تقع ضمن حدود ألمانيا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وكيف عانت من القسوة في ظل سيطرة الاتحاد السوفيتي عليها حتى عام 1989 حينما انهار سور برلين، ثم كيف بدأت خطوات التغيير للأفضل بعد إعلان الوحدة بين شطري ألمانيا الشرقي والغربي في عام 1990، لتتحول من مدينة ينظر سكانها دومًا لنظرائهم في الشطر الغربي لألمانيا نظرة انكسار عند مقارنة حالهم معهم ـ لمدينة يبلغ حجم ناتجها القومي اليوم 88.71 مليار يورو. هكذا في 20 عامًا يحدث التغيير الذي تلمحه عيونك رغم إصرار المدينة على الاحتفاظ بملامحها التاريخية. شوارع واسعة ومنظمة ونظيفة، وسائل مواصلات حديثة ومريحة. مبانٍ سكنية يغلب عليها ملامح أوروبا الشرقية، ومبانٍ تاريخية تأسرك تصميماتها. أسرح في دريسدن وشوارعها وسيارة عم حبيب تتجه بنا نحو المركز الإسلامي للمدينة حيث كانت تذهب مروة للقاء أفراد الجالية المسلمة في المناسبات. ورغمًا عني أجدني أقارن بين حالنا في مصر وحال دريسدن. لقد بدأت المدينة خطواتها نحو النهضة منذ 20 عامًا، لم يكن حالنا بأسوأ منها بأي حال من الأحوال. ويبقى السؤال: لماذا نجحت وتقدمت، وفشلنا نحن وتراجعنا؟ إنه الإصرار على البقاء.. لا.. إنه القانون والنظام.. هكذا أردد لنفسي. لقد وضعت المدينة لنفسها قانونًا ونظامًا وبإصرار سار الجميع عليه؛ رؤساء ومرءوسين. حددوا الهدف ورسموا الخطة وبدءوا التنفيذ دون النظر للوراء، ودون التهاون في حق المخطئ أو غير الملتزم أيًّا كان.

    تواصل سيارة عم حبيب السير في شوارع دريسدن. أشعر وقتها وكأن المدينة تغرق في حالة من الغموض والترقب في انتظار بدء جلسات المحاكمة الخاصة بواقعة قتل الصيدلانية المصرية «مروة الشربيني» -32 سنة- على يد المتطرف الألماني ذي الأصل الروسي «أليكس دبليو فينز»-28 عامًا-؛ تلك الجريمة التي هزت الرأي العام العربي والألماني في ذات الوقت، وجعلت الجميع كما لو كانوا في مواجهة مع الواقع الذي يؤكد، مهما حاولنا تجاهله، وجود متطرفين يرفضون الوجود الإسلامي على وجه الخصوص، والعربي بشكل عام، في المجتمعات الغربية، حتى ولو كانوا من القلة كما يرى البعض.

    نصل للمركز الإسلامي في دريسدن ونعلم أنه لا يبعد عن بيت مروة سوى محطتي أتوبيس. تحول اسمه بعد الحادث وصار يحمل اسم «مركز مروة الشربيني» وبات يرأسه دكتور مصري يدعى سعد الجزار وهو أستاذ في الطبيعة النووية ويقيم بدريسدن منذ عام 2000. لا تلمح في المركز فقط حالة من محاولة لفت النظر لحال الجالية الإسلامية فحسب، ولكنك تستطيع أيضًا ملاحظة أن جزءًا من مشاكل المسلمين في العالم بصفة عامة هم المسلمون أنفسهم، فالمركز هو البناية الوحيدة في المنطقة التي تبدو «كالحة» فقيرة يوجد في حديقتها القمامة ومخلفات إعداد المركز الذي أنشئ منذ نحو ثلاثة أشهر بعد قرار من الجالية المسلمة هناك. يعجز مبرر قلة الإمكانيات عن إقناعك بوجود مخلفات المبنى في الحديقة التي يختفي منها الزرع. أستمع لكلمات دكتور سعد الجزار وهو يؤكد لي أنهم كجالية كانوا يشعرون بحاجتهم لمكان يقدم لهم ولأبنائهم بعض الخدمات المفقودة كتعليم العربية والقرآن وأداء الصلاة، وأنا أتساءل في نفسي: لماذا نعجز كمسلمين عن التعبير بشكل جيد عن حقيقة الإسلام الجميلة، وبخاصة في الغرب؟ بمعنى آخر: هل من العدل أن نترك حديقة في مركز يحمل اسم «إسلامي» غير مهندمة ولا مزروعة بينما الحدائق حولها تشرح القلب الحزين؟ وقس على هذا أمورًا أخرى كثيرة لا بد أن نبدأ في التوقف عندها.

    أنظر حولي فأرى تجمعًا لبعض أفراد الجالية الإسلامية هناك. غالبيتهم من المبتعثين في جامعة المدينة جاءوا من أنحاء عدة من العالم العربي بما فيها مصر. نقترب من سيدة كانت تمسك طفلًا لم يتجاوز عمره الخامسة. كانت ترتدي إيشاربًا ملونًا على رأسها وبالطو تحاول أن يقيها برودة الجو. عرفت منها أنها جزائرية تعيش في دريسدن منذ عدة سنوات مع زوجها الذي يدرس الدكتوراه، وأبنائها الثلاثة. تشير لمروة في حديثها وتقول إنها تعرفت إليها بحكم الجيرة في السكن وترددهما على المركز. تتحدث بطريقة خجولة تمنحني الإحساس بما تواجهه تلك السيدة من مشقة. تؤكده لي بحديثها ما يواجهه كل المبتعثين العرب في تلك المدينة الباردة البعيدة عن بلادهم ودفء أسرهم. وكيف أن عليهم الحياة هنا وتدبير نفقاتهم التي تزداد بمرور الوقت في الوقت الذي تبقى فيه رواتب أزواجهم ثابتة.

    يظهر على بوابة المركز المهندس طارق الشربيني شقيق مروة الأكبر الذي كان قد حضر خصيصًا لمتابعة القضية. يتحدث معي قائلًا إنهم كانوا يفكرون في تأجيل المحاكمة لبعض الوقت، إلا أنهم قرروا المُضي قدمًا فيها ورؤية ما ستنجم عنه الأحداث، رغم طول فترة المحاكمة التي حددتها المحكمة بعدد 11 جلسة. كان طارق وأسرته يخشون التلاعب في القضية، لم يكن لديهم ثقة في القضاء الألماني بل على العكس كانت لديهم اتهامات واضحة وصريحة للأمن داخل قاعة المحكمة وكيف قصر في التعامل مع القاتل، والأكثر من ذلك أن أسرة مروة كانت - ولا تزال - تتهم أمن المحكمة بأنه أطلق النار عمدًا على علوي عكاز زوج مروة أثناء محاولته إنقاذها من يد القاتل.

    كانت مخاوف أسرة مروة مشروعة، فماذا تفعل أسرة تلقت نبأ قتل ابنتهم الوحيدة في المحكمة أثناء إدلائها بشهادتها ضد متهم ألماني متطرف تقدم محاميه قبل بدء الجلسات بشهادة من الحكومة الروسية يثبت فيها إعفاء المتهم من الخدمة العسكرية لاختلال في صحته النفسية؟ كانت ملابسات الحادث كئيبة وتفاصيله تثير في النفوس الشجن والألم. زوجة شابة محجبة تتنزه مع طفلها في الحديقة المجاورة لبيتها يوم الإجازة، يصر طفلها على اللعب على أرجوحة يجلس عليها شاب ألماني، تتجه له مروة لتسأله القيام ليلعب طفلها فيبدأ في سبها بصوت عالٍ ويصفها بإسلامية إرهابية متطرفة تتبع أوامر الشيطان الذي أمرها بوضع الحجاب على رأسها. يحيط بها الألمان الموجودون في الحديقة ويقوم أحدهم باستدعاء الشرطة للشاب الذي أهان السيدة التي لم ترد عليه. تأتي الشرطة وتأخذ أقوال المتهم والشهود ومروة وتصدر قرارها بحرمانه من الوجود في الحديقة لمدة يومين. ينصرف الجميع وتظن مروة أن القصة قد انتهت. ولكنها تتفاجأ بالشرطة تتصل بها هي وزوجها وتعلمهما أنه تم تحويل الواقعة لدعوى قضائية تحددت لها جلسة في الأول من يوليو في مبنى المحكمة العامة في دريسدن. تذهب مروة وزوجها وطفلهما مصطفى في الموعد المحدد وتدلي بأقوالها أمام القاضي وبحضور المتهم الذي كان يحمل على ظهره حقيبة صغيرة. وعند خروجها من الباب ممسكة بطفلها ينقض عليها بسكين فينهي حياتها بعد عدة طعنات لتسقط فوق طفلها الصغير غارقة في دمائها. يجري زوجها نحوها ويمسك بيد القاتل في محاولة لنزع السكين منه، يطلق الأمن النار على الزوج والمتهم ولكن تصيب الرصاصات علوي في أعلى ساقه. فيسقط هو الآخر غارقًا في دمائه ويتم القبض على المتهم. هكذا دارت الأحداث التي لم تترك لدى أسرة مروة سوى عشرات التساؤلات الغاضبة المتعلقة بتفتيش المترددين على المحكمة وكيفية دخول المتهم بسكين دون ملاحظته وأسباب عدم استدعاء القاضي للأمن بسرعة بمجرد رؤيته المتهم وهو يمسك بمروة وإطلاق الأمن النار على علوي بدلًا من المتهم.. تساؤلات كان لهم فيها كل الحق في مصابهم هذا. ولكن يبقى للأحداث وجه آخر لا نعرفه إلا برؤية بقية الأطراف. كان الجميع بمن فيهم الألمان يدركون عمق الحادث ومدى أهمية التعامل معه بحرص وحكمة وعدالة في ذات الوقت دون التأثـر بأطراف القضية. وتناولت الصحف الألمانية الحادث بالتحليل في تلك الأيام، وكتبوا أنها من أصعب القضايا التي واجهتها المحاكم الألمانية لأن الحكم بعقوبة مشددة على المتهم سيغضب المتطرفين اليمينيين في ألمانيا، بينما منح المتهم عقوبة مخففة سيغضب المسلمين داخل ألمانيا وخارجها؛ ولذا كان الإصرار على الهدوء للوصول لحكم عادل وفقًا للقانون الألماني.

    بعد انتهاء حديثي مع المهندس طارق شقيق مروة، قادتنا السيدة الجزائرية - أنا وحاتم - لرؤية ذلك الحي الذي كانت تعيش فيه مروة الشربيني مع زوجها علوي وابنهما مصطفى. يحمل الحي جزءًا من صورة المدينة الساكسونية.. «دريسدن». كانت مروة تعيش في شارع «إليزنا» في البناية رقم 44. يغرق الشارع مثل كل أحياء دريسدن في حالة من الهدوء الصامت، تزين طرقاته أشجار ذات ألوان مختلفة تتدرج بين الأصفر والأخضر، ومبانٍ متراصة بعناية ونظام شديدين بناها الروس وقت أن

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1