Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

نساء فى قطار الجاسوسية
نساء فى قطار الجاسوسية
نساء فى قطار الجاسوسية
Ebook458 pages3 hours

نساء فى قطار الجاسوسية

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

" ..يخطئ من يظن أننا نكتب هذه القصص لمجرد التسلية، أو لما فيها من إثارة تفرخها طبيعة الموضوع، ذلك أن الجاسوسية في عالم اليوم أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كل الأنشطة الإنسانية فوق سطح هذا الكوكب..".
هكذا عبر الأديب صالح مرسي عن رؤيته لهذا الكتاب الذي ضم فيه حياة أربع من أشهر جاسوسات العالم، يحاول فيها أن يوضح ملامح المرأة التي تقتحم هذا العالم بكل مخاطره وتحليلًا للظروف التي تدفعها له.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2014
ISBN9789771451389
نساء فى قطار الجاسوسية

Read more from صالح مرسي

Related to نساء فى قطار الجاسوسية

Related ebooks

Reviews for نساء فى قطار الجاسوسية

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    نساء فى قطار الجاسوسية - صالح مرسي

    المقدمة

    لماذا يرتبط وجود المرأة في مجال الجاسوسية بالجنس؟!

    كان هذا السؤال الذي طرحه عليَّ أحد الزملاء ذات يوم أثناء مناقشة حول دور المرأة في هذا الحقل الغريب والخطير! وليس هناك مجال لإنكار هذه الحقيقة وإن كانت، في واقع الأمر، ليست مطلقة، فليس شرطًا أن يقترن وجود المرأة في أية عملية من عمليات الجاسوسية بالجنس كعملية فسيولوجية... وربما كان السبب في شيوع هذه المقولة أو هذا التصور، سواء في عالمنا العربي أو في العالم كله، أن «الجنس» وسيلة من وسائل السيطرة في هذا المجال المحفوف بالمخاطر...

    وإذا كانت وسائل السيطرة تتنوع بتنوع نقاط الضعف من إنسان إلى إنسان... إلا أن الثابت تاريخيًّا، أن «الجنس» هو ملك السيطرة على البشر في كل العصور، وإذا كان للمال -كوسيلة من وسائل السيطرة- تأثير السحر على بعض النفوس، إلا أن الجنس يظل سيدًا بما يحتويه من آثار تفرضها طبيعتـه!

    غير أنه لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان حقيقة أخرى بسيطة وبديهية، هي: أن كلمة «الجنس» لا تعني المرأة وحدها؛ ذلك أن مدلول الكلمة له قطبان أساسيان وإلا انتفى المدلول أصلًا... هذان القطبان هما: المرأة والرجل معًا... وإذا كان التاريخ يحتفظ لنا بأسماء رجال تمت السيطرة عليهم بواسطة نساء وقعوا في حبهن، فهناك أيضًا - ربما ليس على نفس القدر من الذيوع والشهرة - نساء سيطر عليهن رجال بنفس الوسيلة!

    ولقد قادني هذا السؤال - بالتداعي - إلى مجموعة أخرى من الأسئلة:

    فلماذا ارتبط التجسس في كل عصور التاريخ بالرجل كعنصر أساسي والمرأة كعامل مساعد؟!

    ولماذا كانت كلمة «جاسوس» تعني رجلًا ولا تعني «إنسانًا»، بالرغم من ندرة تلك العمليات التي تمت في التاريخ دون وجود المرأة فيها كعنصر من عناصرها الأساسية؟

    غير أن التساؤلات رست في النهاية عند سؤال أردت البحث عن إجابة له:

    كيف كانت تلك المرأة التي ركبت قطار الجاسوسية؟!

    ما هي مواصفاتها؟!

    هل كانت هناك مزايا، أو مواصفات خاصة للجاسوسة مهما تغير موقعها؟!

    ثم... هل هناك اختلاف بين الرجل «الجاسوس» والمرأة «الجاسوسة»؟!

    هل تتميز هذه عن ذاك أو هذا عن تلك بما يجعل للجنس -كنوع- ظواهر معينة تدل عليه؟!

    وراحت الأسئلة تَتْرى بلا توقف، وجدت نفسي أحيا في دوامة من البحث والمقارنات، واكتشفت، ليس فجأة بطبيعة الحال، أن مثل هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة من نوع أكاديمي، دراسة لا بد وأن تبدأ بالبحث عن قصص بعض هؤلاء النسوة اللواتي عملن في حقل الجاسوسية!

    وكان لابد -بداية- من تصور لهذا النوع الخطر من أنواع النشاط الإنساني.

    ولا أعتقد أني - بالخيال - أتجاوز الحقيقة إذا ما قلت إني أتصور الجاسوسية مثل قطار كانت محطته الأولى عند فجر التاريخ الإنساني... قطار يسير بطول هذا التاريخ إلى محطة أخيرة تبدو عند نهاية الجنس البشري وحياته هو فوق سطح الأرض!!

    وإذا كانت بعض النظريات تقول إن التجسس وجد مع وجود الإنسان على سطح الأرض، وحتى قبل تكوين المجتمعات، فإن أصحاب هذه النظرية يردونها إلى تلك الحياة التي عاشها الإنسان الأول عندما كان يشرع في اصطياد فريسة يتبلغ بها هو وأسرته أو قبيلته... إنه في البداية يتقدم نحو الفريسة في بطء وخفة متخفيًا، يعاين مكانها، ومدى قوتها، ووجودها داخل مجتمعها أو قطيعها، شاردة هي أم معها من يحميها، قوية هي أم ضعيفة، وطبيعة الأرض من حولها، ومواطن الضعف أو القوة فيها... إنه هنا «يتجسس» على الفريسة، هو هو نفس التجسس الذي يحدث حتى الآن بوسائل مختلفة وأساليب تقدمت بتقدم الحضارة الإنسانية... حتى إذا حانت اللحظة المناسبة، انقض على الفريسة واقتنصها!

    هذا هو التجسس في صورته البُدائية.

    ونفس الشيء بالنسبة للتجسس المضاد.

    فلقد كان الإنسان، إذا ما استشعر الخطر من حيوان أو عدو... أوى إلى كهفه، وربما تسلق شجرة، وحصن نفسه... إن الخطر القادم عليه في حاجة إلى مواجهة لا تستعمل فيها القوة إذا ما كان الخطر القادم «أسدًا جائعًا» على سبيل المثال... وهو في تحصنه هذا إنما يقوم بعملية تجسس مضاد، أو ما تعودنا أن نطلق عليه خطأ اسم «مقاومة التجسس»!

    لكن المدهش في الأمر، أن هذا التصور يقودنا إلى حقيقة جديرة بالتأمل وهي: أن التجسس والتجسس المضاد، هما منذ بدء الخليقة، عمليات عقلية بحتة... تمامًا، كما أن أجهزة الاستخبارات في العالم كله اسمها «ذكاء»؛

    ذلك أن القوة لا تستعمل إلا بعد أن تستنفد العمليات العقلية تمامًا، وتصبح الفريسة -أو العدو - في وضع يسمح للإنسان بأن يهاجم أو يدافع!

    وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا على جدران المعابد أو فوق أوراق البردي قصصًا للتجسس أو التجسس المضاد، أو ربما عمليات من تلك التي يطلق عليها «الخدمة السرية»، كتلك العملية الباهرة التي قام بها الفرعون «سقنن رع» -أبو أحمس- ضد الهكسوس؛ فعندما دخل الهكسوس إلى مصر، انسحب الفراعنة إلى الصعيد... وكان لا بد من التفكير في سبب انتصار الهكسوس على جيوش الإمبراطورية المصرية... وتوصل الفرعون «سقنن رع» إلى أن التكنولوجيا هي السبب في ذلك الانتصار، فقد جاء الهكسوس بالعجلة الحربية التي تجرها الجياد فتنطلق بسرعة شديدة وسط صفوف الجيش كي تبث الرعب والارتباك في قلوب الجنود الذين تعودوا الحرب وجهًا لوجه، ولا بد أن الحركة السريعة للعجلة الحربية، وقدرتها الفائقة على المناورة، كانتا مثار دهشة القواد المصريين وارتباكهم أيضًا... وهكذا توصل «سقنن رع» إلى أنه لا بد من الاستعانة بتلك التكنولوجيا الجديدة كي يتم طرد الهكسوس... وإذا كان صنع العجلة الحربية في حد ذاتها أمرًا سهلًا، فإن الحصول على الخيول كان هو العقبة... وهكذا، أرسل الفرعون أربع مجموعات من الرجال -الذين نستطيع أن نطلق عليهم دونما تجاوز اسم «الفدائيين» أو «رجال الصاعقة»- كل مجموعة تتكون من أربعة أفراد، وكانت مهمتهم هي الحصول على أكبر قدر من الخيول من ذكر وأنثى كي يتم تهجينها حتى تصل إلى العدد المطلوب... وإذا كان التاريخ يحمل لنا أن الرجل لم يحقق حلمه العظيم وإنما حققه ولده «أحمس» فإن التكنولوجيا المصرية التي نطلق عليها اسم «التحنيط» قد حفظت لنا مومياء «سقنن رع» الذي قتل في إحدى المعارك الضارية بضربة سيف شجت رأسه وحطمت جمجمته... ويستطيع أي زائر للمتحف المصري أن يرى مومياء ذلك الملك الذي مات دفاعًا عن وطنه، مسجاة في تابوتها الزجاجي هناك!!

    كانت هذه واحدة من العمليات التي يطلق عليها في كل أنحاء العالم كلمة «الخدمة السرية»... وربما كان لمثل هذه العمليات اسم أو أسماء لم نصل إليها بعد، لكن الثابت أن كلمة تجسس بحروفها ومعناها ومدلولها لم ترد في البرديات أو على جدران المعابد... إنما كان رجل الفرعون يقول عن نفسه: «أنا عين فرعون»... ثم وردت الكلمة بحروفها ومعناها ومدلولها، لأول مرة في التوراة.

    ففي سفر «العدد» الإصحاح الثالث عشر، سوف نقرأ:

    «ثم كلم الرب موسى قائلًا: أرسل رجالًا ليتجسسوا أرض كنعان»!

    كانت هذه هي المرة الأولى التي ترد فيها الكلمة واضحة جلية... وبالتالي، فإنه من المذهل حقًّا أن نقرأ كيف حدد نبي الله موسى لمن وقع عليهم الاختيار من بني إسرائيل للذهاب إلى أرض كنعان مهامهم وواجباتهم بدقة تبعث على الدهشة والذهول... فلقد جاء في نفس الإصحاح:

    «... فأرسلهم موسى ليتجسسوا أرض كنعان، وقال لهم: اصعدوا من هنا إلى الجنوب، واطلعوا إلى الجبل، وانظروا الأرض ما هي؟ والشعب الساكن فيها أقوي هو أم ضعيف، قليل أم كثير؟... وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها، أجيدة أم رديئة؟ وما هي المدن التي هو ساكن فيها أمخيمات أم حصون؟ وكيف هي الأرض، أسمينة أو هزيلة، أفيها شجر أم... ؟» إلى آخر ما جاء في الإصحاح الثالث عشر من سفر «العدد» حول هذا الموضوع.

    اللافت للنظر هنا أن موسى -عليه السلام- حدد بدقة بالغة مهمة رجاله مما لا يخرج عن نفس المهام التي تطلب الآن لمن يذهبون إلى أرض الأعداء مع اختلاف «المظاهر» الحضارية.. لا أكثر ولا أقل.. إن هذا الذي جاء في التوراة منذ آلاف السنين، ليس سوى عملية تجسس في أدق صورها تبسيطًا وتركيزًا في نفس الوقت.

    كذلك سوف نجد في نفس السفر -سفر العدد- في الإصحاح العاشر، أن نبي الله موسى يطلب من «حوباب بني رعوئيل» أن يمضي مع بني إسرائيل إلى حيث هم ذاهبون... لكن حوباب يرفض قائلًا له: «لا أذهب، بل إلى أرضي وإلى عشيرتي أمضي، فقال -أي سيدنا موسى- لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازلنا في البرية، تكون لنا كعيون»!!!

    وهذا -بالتالي- هو ما نطلق عليه اليوم اسم «التجسس المضاد»... إن نبي الله ينبه حوباب إلى أنه يعرف عن بني إسرائيل كل شيء، فإذا ما جاء الأعداء وسألوه عنهم، فلربما أعطاهم من المعلومات ما قد يضر ببني إسرائيل!

    وإذا كانت هذه هي البداية التي حفظها لنا التاريخ مكتوبة... فإن قطار التجسس يقودنا - بقليل من التفكير - إلى حقيقة أخرى هي:

    أن الجاسوسية نشاط إنساني دائب ودائم لم يكف عن الحركة والتطور ومواكبة الصعود البشري في مدارج الحضارة مواكبة تلتصق به التصاقًا عضويًّا... ذلك أن هذا القطار العجيب قادر على تغيير آلاته وعجلاته ذاتيًّا بتغير المعرفة الإنسانية وتطورها حضارة بعد أخرى، وقرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، وعامًا بعد آخر، ويومًا بعد يوم، وربما وصل الأمر الآن إلى حد أنه يتغير من ساعة إلى أخرى... إنه قطار من نوع غريب حقًّا، هو قادر على استيعاب كل ما هو جديد في العلوم بل والفنون والآداب أيضًا... وإذا كنت أرى -وأرجو ألا أكون مخطئًا - أن علم المخابرات، وهو يشمل الجاسوسية والجاسوسية المضادة وكل ما يندرج تحتهما أو بينهما من أفرع أو مجالات استحدثت مع التطور العلمي، قد أصبح في العصر الحديث هو «علم العلوم»... فمرد ذلك إلى أني أرى أن عباءة هذا العلم تتسع لكل علوم البشرية بلا استثناء... بل قد يندهش البعض إذا ما عرفوا أن جزءًا هامًّا من التطور الإنساني الذي نطلق عليه كلمة: «تكنولوجيا»، مرده أساسًا -في العصر الحديث بالذات- إلى نشاط أجهزة المخابرات وصراعها الدائم من أجل تطوير معداتها وأساليبها وأدواتها لبلوغ أهدافها أو لإبطال أهداف الأجهزة المعادية.

    وهكذا ظلت التجربة الإنسانية تخوض في هذا الحقل حسب ظروف كل مرحلة وتاريخها وإمكانياتها ومدى تقدم العلوم أو تشابك المصالح فيها، حتى قامت الدول والإمبراطوريات وتحددت المصالح ووضعت الحدود... وظل قطار الجاسوسية يحمل في عرباته العديد من الرجال والنساء معًا، يغادره من انتهت مهمته، أو انكشف أمره... وقد تطوي قصته صفحات التاريخ فتنزوي في الأقبية، أو تموت في صدور القلة الذين عرفوها... وقد ينكشف أمره فيلقى مصيره ويصبح غير ذي بال أو خطر.

    لكن القطار دائمًا ما يستقبل ركابًا جددًا، أو دماءً جديدة... يصعد إليه من يلقيه قدره أو قدراته من هذا النفر من الناس الذين نعرفهم باسم «الجواسيس»، فينجزون أو يسقطون، يقومون بواجبهم حيال أوطانهم، أو يخونون هذه الأوطان رغبة في مال أو حبًّا في امرأة أو رجل أو إيمانًا بمبدأ أو عقيدة... ويؤدي هؤلاء أدوارهم إلى أن تنتهي مهماتهم فيعتزلون، أو يسقطون لا فرق في ذلك بين رجل وامرأة.

    غير أني توقفت أثناء البحث والتنقيب في حياة هؤلاء النسوة اللواتي مارسن هذا العمل البالغ الخطر، أمام ظاهرة لافتة للنظر.

    ذلك أن كل قصص الجواسيس من النساء اللاتي اشتهرن في التاريخ أو عرفن بالبراعة والذكاء تكاد أن تخلو من الجنس إلا فيما ندر... وإذا كان البعض منهن قد استعملن الجنس للوصول إلى مآربهن... فإن نسبة لا بأس بها قمن بما قمن به تلبية لرغبة صادقة في أن يلعبن هذا الدور الخطير، وأن يعشن على حافة الجحيم، لمجرد الرغبة في الاستمرار وسط لهيب الخطر ووخزات الخوف المميتة... إنها تلك النشوة الغامضة التي تعتري هؤلاء الذين تعودوا الإحساس بالخطر وأصبحوا لا يجدون للحياة طعمًا بدونه... إن الأمر يبدو في بعض جوانبه -وأرجو ألَّا أكون مبالغًا في نظر البعض- وكأن كل الدوافع تنتفي وتذوب في دافع واحد أسمى هو: الاستمرار في ركوب الخطر!!!

    ولم تكن هذه هي الظاهرة الوحيدة التي توقفت أمامها عند النساء اللواتي ركبن قطار التجسس... فلقد توقفت أمام ظاهرة أخرى تكاد تكون طابعًا مميزًا لقصص هؤلاء النساء المغامرات وهي تلك النهاية المأساوية التي تنتهي بها قصص من انكشف أمرهن.

    إننا نقف أمام قصة «مرجريتا جروترود زيللي» التي عرفت في التاريخ باسم «ماتا هاري»، كي نشاهد نهايتها المأساوية، ليست في فرقة إطلاق النار التي اخترقت رصاصات بنادقهم صدرها الجميل الذي كثيرًا ما أغرى جنرالات فرنسا بالبوح بأسرار الجيش إبان الحرب العالمية الأولى... وإنما نهايتها المأساوية تتمثل في امتدادها إلى ابنتها - ابنة ماتا هاري - التي كانت تبعد عنها بآلاف الأميال... لقد أعدمت ماتا هاري في يوم 15 من أكتوبر عام 1917، وكانت «باندا ماكلويد» -ابنتها التي تحدثنا عنها في السطور السابقة- لا تزال طفلة في إندونيسيا لا تعرف من أمر أمها شيئًا سوى أنها ترسل لها أجمل الهدايا وأفخر الثياب... ولم تكن هذه الطفلة تدري أن ثمة قدرًا تمتد خيوطه من الأم سوف يلاحقها بعد عشرين عامًا ونيف لتخوض في نفس الحقل وإنما بقدرة أكبر وذكاء أكثر حدة...

    إن قصة «باندا ماكلويد» تعتبر شيئًا مذهلًا بكل المقاييس... وإذا كانت «ماتا هاري» قد استعملت سحرها في التأثير على جنرالات الإمبراطورية الفرنسية، فإن باندا، رغم جمالها الصارخ الذي يذهب البعض إلى أنه كان يفوق جمال أمها، لم تلجأ إلى السحر أو الجنس، ولم يكن هذا من وسائلها... رغم أنها انتقلت من معسكر إلى معسكر، تجسست لليابانيين وضدهم، وللأمريكيين، ووصلت إلى زعيم الصين الأسطوري «ماوتسي تونج» وجاء عليها وقت بدت وكأنها تعمل من وحي ذكائها أو إحساسها، وأنها أصبحت بلا رئاسة وبلا ضابط، وانتهت ذات فجر دامس فوق ثلوج كوريا الشمالية، ولولا المصادفة لما عرف أحد مصيرها حتى الآن.

    ولماذا نذهب بعيدًا...

    إن حكمت فهمي كانت من أشهر فنانات مصر في الأربعينيات، ولقد شاركت إبان الحرب العالمية الثانية في واحدة من أعظم عمليات التجسس في ذلك الوقت... ولم يكن الجنس دافعًا، ولا المال أيضًا... إن كل الشواهد تقول إنها اندفعت لمشاركة هانز إبلر أو «حسين جعفر» في تجسسه على الإنجليز في مصر بدافع وطني... شأنها شأن الكثيرين من المصريين إبان الحرب العالمية الثانية... حتى إذا قبض عليها وزُجَّ بها في السجن، خرجت بعد عام واحد دون أن تتفوه بكلمة، أو تقابل صحفيًّا، أو تحاول نشر قصتها التي كانت تعلم علم اليقين أنها سوف تدرُّ عليها مبلغًا محترمًا من المال... خرجت حكمت فهمي من السجن الذي دخلته بتهمة سياسية، ولم يكن في هذا ما يشينها وخاصة أنها كانت تعمل ضد جيش الاحتلال الذي كان الشعب كله يعمل ضده، خرجت من السجن لا لكي تعود إلى الأضواء أشد تألقًا، ولكنها آثرت الابتعاد، بل الاعتزال، والعودة إلى بلدتها في الصعيد كي تنزوي هناك!!!

    بعد نشر فصول هذا الكتاب في عدد من الصحف والمجلات العربية، صدر كتاب بعنوان «مذكرات حكمت فهمي»، من إعداد الأستاذ حسين الملا، والمذكرات في مجموعها تؤيد كل كلمة كتبتها عن هذه الفنانة التي رحلت عن عالمنا دون أن ينتبه أحد إلى حقيقة الدور الوطني الذي لعبته!!

    إن أحدًا ممن أرخوا لعملية حسين جعفر أو «هانز إبلر»... لم يتوقف أمام الدور الخطير الذي لعبته حكمت فهمي، وربما كان السبب في ذلك أن مصريًّا واحدًا لم يتعرض لتسجيل تلك القصة، ويبدو أنهم اعتبروها قصة أجنبية... لم يتعرض لتسجيل هذه العملية سوى كتَّاب أجانب، لعل أشهرهم كان المراسل العسكري البريطاني «ليونارد موزلي» ، والذي كان في القاهرة أثناء العملية، وكان له دور - هامشي بطبيعة الحال - فيها، وله علاقة سابقة ببطلها الشاب الألماني الأصل المصري الجنسية الذي عرف باسم «حسين جعفر»... ولقد وضع موزلي تحقيقه للقصة في كتاب بعنوان «القط والفيران»!

    ولقد تجاهل السيد موزلي الدور العظيم الذي لعبته حكمت فهمي، بل ربما أجرؤ على القول بأنه عاملها في كتاب بتعال ممجوج... وبالرغم من هذا، فلم يجرؤ، لا هو ولا غيره ممن تناولوا العملية، على القول بأنها تقاضت قرشًا واحدًا نظير ما قامت به، ولم يجرؤ أحدهم على القول بأنه كانت هناك علاقة بينها وبين حسين جعفر مما ينفي تمامًا وجود المال أو الجنس كدافع للتجسس... ولا يبقى من عناصر التجسس الثلاثة إلا المبدأ أو الوطنية التي من أجلها فعلت حكمت ما فعلت!

    ... ... ... ...

    ... ... ... ...

    وعلى كل فالتاريخ حافل وممتلئ...

    هناك - مثلًا - تلك السيدة التي كانت تدعى «كارمن ماري موري»، التي عرفت إبان الحرب العالمية الثانية باسم «الملاك الأسود» لفرط قسوتها التي كانت لذتها العظمى!

    وهناك قصة تلك الفتاة الفرنسية التي كانت تدعى «ميشلين كاريه» التي عرفت باسم «القطة»، والتي بدأت حياتها كجاسوسة لصالح الوطن، ثم انتقلت إلى معسكر الأعداء بسهولة لافتة للنظر... لسوف يتقزز الكثيرون من هذه الفتاة، لكنهم بالقطع سوف يرون شيئًا آخر إذا ما أمعنوا التفكير، مثلما فعل الضمير الفرنسي ممثلًا في رئيس الجمهورية، الذي خفف حكم الإعدام عليها إلى السجن مدى الحياة!

    وهناك تلك الفذة «سيبيل ديكلور» التي عرفت باسم «عروس الراين»، والتي أتت من الألاعيب ما دوَّخ رجال مخابرات الحلفاء، فاعترفوا لها بالقدرة والذكاء معًا.

    أما «العميلة استيفانيا» فهذه هي الأستاذة...

    نعم، أقولها وأعنيها، فلقد كانت هذه السيدة أستاذة في فن التجسس، لقد استطاعت، وهي تعمل لحساب مخابرات ألمانيا الشرقية، أن تخترق المخابرات الأمريكية وأن تعمل فيها كي تصبح كل الأسرار بين يديها...

    و...

    ولقد حاولت أن أنوِّع في الأهداف والمرامي لكل جاسوسة، غير أن كل هذا، ليس سوى قطرة في بحر بلا شطآن.

    صالح مرسي

    زهـــرة الشــــمــس

    ... ابــــنـــة مـــاتـــا هــــاري!

    - 1 -

    لم تحظ جاسوسة في العالم بمثل شهرتها، ربما لأنها استطاعت بجمالها الخارق وسحرها النافذ، أن تسيطر على عدد كبير من جنرالات فرنسا إبان الحرب العالمية الأولى... وربما لأنها كانت جاسوسة من نوع خطير -في زمانها- وربما فريد، فلقد نقلت إلى ألمانيا من أخبار الجيش الفرنسي، ما لم تكن تستطيعه كتيبة كاملة من الجواسيس... وربما... ربما لأنها تركت وراءها مع الثروة الهائلة من المجوهرات التي أغدقها عليها المعجبون والمتنافسون على قلبها من ضباط الجيش الفرنسي، أسرارًا لم يستطع أحد أن يفض أختامها حتى الآن!

    اسمها الحقيقي «مارجريتا جروترود زيللي»... راقصة هولندية، ولدت في 7 أغسطس (آب) عام 1876، وتولت فرقة ضرب النار إعدامها في إحدى ضواحي باريس، في فجر يوم 15 أكتوبر عام 1917. بعد اكتشاف أمرها، وبعد أن صنع هذا الاكتشاف دويًّا هائلًا في العالم كله!

    هذه هي ماتا هاري، أشهر جاسوسة في التاريخ!

    ولأنها هولندية، فلقد عاشت جزءًا كبيرًا من حياتها في «باتافيا» عاصمة جزيرة جاوه الإندونيسية... وباتافيا هذه هي التي أصبح اسمها بعد الاستقلال «جاكارتا» وأصبحت عاصمة لإندونيسيا كلها.

    كانت جاوه في تلك الأيام -شأنها شـأن آلاف الجزر الإندونيسية المتناثرة في المحيط- مستعمرة هولندية... عاشت فيها ماتا هاري سنوات ليست غامضة تمامًا، كما أنها ليست واضحة بقدر يكفي لمعرفة الكثير من التفاصيل... غير أن الثابت، أنها تركت وراءها في «باتافيا» أو «جاكارتا» عندما غادرتها إلى باريس في عام 1903، طفلة لا يتعدى عمرها ثلاثة أعوام... تركتها في رعاية رجل إندونيسي كان يعمل ساقيًا في أحد النوادي الليلية... طفلة أضيفت إلى آلاف الأطفال الذين اختلطت في عروقهم الدماء الأوروبية مع الدماء الآسيوية...

    وإذا كان هؤلاء الأطفال «المخلطون»، قد تركوا في الهند -مثلًا- علامات وقصصًا ومآسي تبدو وكأنها جميعًا من نسج الخيال، فإنه في كل مكان في آسيا، ترك الأوروبيون بصماتهم على الآلاف الذين وجدوا أنفسهم لا منتمين... فلا هم أوروبيون، ولا هم آسيويون من أبناء البلاد... ومعنى هذا باختصار، أن والد طفلتنا هذه كان آسيويًّا، وبالرغم من ذلك، فلقد سُجلت الطفلة في شهادة الميلاد تحت اسم: «باندا ماكلويد»!

    غادرت «ماتا هاري» الجزر الإندونيسية إلى فرنسا عام 1903 تاركة طفلتها وراءها في رعاية هذا الساقي وزوجته... كانت وقتها في السابعة والعشرين من عمرها، تتمتع بجمال يأخذ بعقول أعظم الرجال وقارًا!!... أكسبتها الشمس الاستوائية لونًا فريدًا جعل لبشرتها سحرًا من نوع خاص، ولا أحد يعرف -على وجه اليقين- لماذا هاجرت «ماتا هاري» من جاوه بالرغم من مكانتها هناك كواحدة من بنات الجالية المتميزة المستعمرة... كما أن أحدًا لا يعرف أيضًا لماذا هاجرت إلى باريس بالذات، ولم تعد إلى هولندا موطنها الأصلي... غير أن استقراء الأحداث يشي بقصة مشتعلة جمعت بين تلك الراقصة الهولندية بارعة الجمال، وشاب من أبناء البلاد مازال الغموض يحيط باسمه حتى الآن... قصة حب كانت ثمرتها تلك الطفلة التي أطلقت عليها اسم «باندا ماكلويد»... طفلة تنبئ ملامحها بأن الدماء الجاوية تسري في عروقها حارة متأججة... فهل هربت «مارجريتا جروترود زيللي» التي عرفت في التاريخ باسم «ماتا هاري» من قصة حبها تلك؟!... هل كانت قصة الحب هذه هي السبب في هجرها لطفلتها بعد أن سلمتها إلى ذلك الساقي الإندونيسي وزوجته؟!... وهل كانت هذه القصة هي السبب الذي جعلها تهاجر إلى فرنسا بدلًا من

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1