Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الإنجاد في أبواب الجهاد
الإنجاد في أبواب الجهاد
الإنجاد في أبواب الجهاد
Ebook623 pages5 hours

الإنجاد في أبواب الجهاد

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ، أبو عبد الله بن المناصف الأزدي القرطبي توفى 620. محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ، أبو عبد الله بن المناصف الأزدي القرطبي توفى 620. محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ، أبو عبد الله بن المناصف الأزدي القرطبي توفى 620. محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ، أبو عبد الله بن المناصف الأزدي القرطبي توفى 620
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2019
ISBN9786601452783
الإنجاد في أبواب الجهاد

Related to الإنجاد في أبواب الجهاد

Related ebooks

Related categories

Reviews for الإنجاد في أبواب الجهاد

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الإنجاد في أبواب الجهاد - ابن المناصف

    كتاب

    الانجاد

    في أبواب الجهاد

    تصنيف

    الإمام المجاهد

    أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي القرطبي

    المعروف

    بابن المناصف -رحمه الله تعالى-

    (563-620هـ)

    ضبط نصّه وعلّق عليه ووثق نصوصه وخرّج أحاديثه وآثاره

    مشهور بن حسن آل سلمان ومحمد بن زكريا أبو غازي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    بسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم

    صلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله وسلَّم تسليماً

    الحمد للِّه ربِّ العالمين، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت؛ وإليه أنيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

    ونسألُ الله الصلاة على رسول الله وخاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الإمام المهدي (¬1) ، وعن الأئمة الخلفاء الراشدين.

    أمَّا بعد:

    فإن تقوى الله والتزام أمره هو جماع الخير، ومِلاكُ الأمر، وفوزٌ في الدَّارين، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] .

    ولمَّا آتى الله في ذلك عبده: السيّد الأجل، المجاهد في سبيل الله، الحريص (¬2) في التزام حدود الله أبا عبد الله ابن السيّد الأجلِّ أبي حفصٍ ابن الإمام الخليفة أمير المؤمنين -رضي الله عنهم-، أوفر حظٍّ، وهداه من ذلك إلى أرشد سبيل، فاعتصم -في مراقبة حدود الشرع فيما يأتي ويذر (¬3) - بالعُروة التي لا انفصام لها، وكان مما يسَّره الله له واستعمله فيه ملازمة أجلّ الأعمال، وأفضل أنواع الطاعات: جهاد عدو الله في عقر دورهم، وحراسة المسلمين في أقصى ثغورهم، تقبَّل الله قصده وعمله، وأبلغه من مراتب السعادة أمله؛ أجدّ في العزم، وأحفى في الإرشاد على تقييد مجموعٍ في الجهاد وأبوابه، وتفصيل فرائضه وسننه، وذكر

    جُملٍ من آدابه ولواحق أحكامه، استظهاراً على ما يخصه من ذلك فيما وليه وأخلص فيه عمله، وسباقاً لإحراز الأجرين والجمع بين الحسنيين.

    فانتدبت لذلك موجهاً قصدي وعملي في سبيل الله، ومشاركاً قدر وسعي ولو بالنية والقول في جهاد عدو الله، وأضرع مع ذلك إلى الله ربنا -جل جلاله- في قبول ذلك لوجهه الكريم، وأن يوفر (¬1) الأجر، ويجزل المثوبة لسيدنا المبارك، فيما دعا من ذلك إليه، ودلَّ برأيه الموفق عليه، فجمع له بكرمه -تعالى- فضيلة

    العلم إلى الجهاد، وتوخّي القول في الطاعة إلى العمل {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت: 33] .

    ومِنَ الله ربِّنا جلَّت قدرته نرجوا الإجابة وكمال الزُّلْفَى (¬2) بِمَنِّه.

    ولمّا توخيتُ أن يكون هذا المجموع مبنياً على دلائل الكتاب والسُّنّة، مُنزَّهاً عن شبه التقليد واتباع مذهبٍ بغير دليل، قدّمت في عُمَدِ أبوابه، وأصول مسائله، ذِكْرَ ما بُنِيَتْ عليه من الكتاب والسنة وتجرَّد، وما يكون فيه من ذلك خلافٌ سَوْقَ (¬3) المشهور من مذاهب العلماء، والإشارةَ إلى مستند كل فريقٍ من وجوه الأدلة، بأقرب اختصار يمكن، وربما نَبَّهتُ في مواضع من ذلك على الأرجح عندي، ووجه الترجيح متى أمكن، مالم تدع في كشف وجهِ الترجيح الضرورة لإطالةٍ، أو لم يظهر عندي للترجيح وجهٌ، فأترك القول فيه، وقد أقْتَصِر تارة في فروع المسائل، فلا أتعرض في بعضها لذكر الخلاف، إمّا لأن المذكور أظهر دليلاً، وتتبع الخلاف فيه يُفْضي إلى التطويل، وإما لأن خلافاً في ذلك لا أقف عليه، وهو مع ذلك حَرِيٌّ أن يكون؛ لأن ما لا خلاف فيه: إما لأنه إجماع، أو لأنَّ الخلاف في مثله غير معروف عند أهل العلم، فقد أُنبّه على أنه كذلك -إن شاء الله-.

    ومهما ذكرت دليلاً أو توجيهاً لقولٍ فهو على ضربين: منه ما وقفت عليه نقلاً، ومنه ما استدللت عليه انتزاعًا من أصولهم (¬1) ، وإنما نبهت على هذا رفعاً لعمدة الحمل فيه.

    وأكثر ما أوردته دليلاً في هذا من حديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو حجّة ثابتة؛ لأني قد خرَّجته من «الصحيحين» : البخاري ومسلم، أو مما هو صحيحٌ من غيرهما، وإن كان قد يكون في بعضها اختلاف بين أهل الحديث في إثبات القول بصحَّته؛ لاختلافهم في بعض رجال سنده، إلاّ أن ما هذه سبيلهُ، مما لم يَتَرقَّ إلى الصِّحَّة المتفق عليها عندهم؛ فله مع ذلك درجة في العلو والحُجَّة عن كثير مما يتسامح به بعض أصحاب المذاهب في كتبهم، ثم أرجو أن يكون وقوعُ هذا النوع الذي اعتذرتُ منه في هذا المجموع قليلاً جداً، وأكثر ما يقع إن وجد في أبواب الرَّغائب والآداب، مما لا يقع مواقع الفصل في الأحكام من الحلال والحرام، والواجب والمحظور (¬2) .

    ومع هذا؛ فأنا -إن شاء الله- أنسبُ كل حديثٍ إلى الأصل الذي نقلته منه، كالبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبي داود، والترمذي، وغيرهم؛ ليكون ذلك سهلاً لمن أراد الوقوفَ عليه هنالك، بحول الله وقوّته، وسَمَّيْتُ هذا المجموع، ملاءمة لِقصدي، وملاحظةً لما أرجو أن تبلغ به عند الله نِيَّتي:

    كتاب «الإنجاد في أبواب الجهاد» .

    وقَسَّمتُ فصوله ومسائله على عشرة أبواب:

    الباب الأول: في حدِّ الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه: من فرضٍ على الأعيان، وعلى الكفاية، ونَفْلٍ، وصِفَةِ مَنْ يجب ذلك عليه، وهل تجب الهجرة؟

    الباب الثاني: في فضل الجهاد والرِّباط، والنفقة في سبيل الله، وماجاء في طلب الشهادة وأجر الشهداء.

    الباب الثالث: في صحة الجهاد، وما يَحِقُّ فيه من طاعة الإمام، ومياسرة الرفقاء، وما جاء في آداب الحرب، والدعوة (¬1) قبل القتال.

    الباب الرابع: في وجوب الثبوت والصبر عند اللقاء، وحكم المبارزة، وما يحرم من الإنهزام، وهل يباح الفرار إذا كثر عدد الكفار؟

    الباب الخامس: فيما يجب، وما يجوز أو يحرم من النكاية في العدو، والنيل منهم، ومعرفة أحكام الأسرى والتصرف فيهم.

    الباب السادس: في الأمان وحكمه، وما يلزم من الوفاء به، والفرق بينه وبين مواقع الخديعة في الحرب، وهل تجوز المهادنة والصلح؟

    الباب السابع: في الغنائم وأحكامها، ووجه القسم، ومن يستحق الإسهام، وبم يستحق، وسهمان الخيل، وما جاء في تحريم الغُلول.

    الباب الثامن: في النَّفَل والسَّلَب، وأحكام الفئ والخمس، ووجوه مصارفهما، وتفصيل أحكام الأموال المستولى عليها من الكفار.

    الباب التاسع: في حكم ضرب الجزية، وشرط قبولها، وممَّن يحق أن تُقبل من أصناف الكفر، ومقاديرها على الرؤوس، وما يجب لأهلها وعليهم.

    الباب العاشر: في المرتدين والمحاربين، وقتال أهل البغي، وتفصيل أحكامهم، وذكر ما يتعلق بجناياتهم، ويلزم من عقوباتهم.

    وبالله -تعالى- نستعين، وعليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

    *****

    الباب الأول: في حد الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه: من فرض على الأعيان، وعلى ...

    الباب الأول

    الباب الأول: في حد الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه: من فرض على الأعيان، وعلى ...

    في حدِّ الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه من فرض على الأعيان

    الباب الأول: في حد الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه: من فرض على الأعيان، وعلى ...

    وعلى الكفاية، ونَفل، وصفة من يجب ذلك عليه، وهل تجب الهجرة؟

    قال الله -ربنا جل جلاله-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10-13] .

    وخرَّج النَّسائي وأبو داود كلاهما عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» ، قال النسائي: «بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» (¬1) .

    *****

    فصلٌ: في معنى الجهاد وحدِّه لغة وشرعاً

    قال الله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، وقال

    -تعالى-: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] ، وقال -تعالى-: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] .

    فالجهاد في اللغة، أصله: الجَهْد (¬1) ، وهو: المَشَقَّة، يقال: جهدتُ الرجلَ: بَلغْتُ مشقته، وكذلك الجهاد في الله -تعالى-؛ إنما هو بذل الجهدِ في إذلالِ النفس وتذليلها في سُبلِ الشرع، والحملِ عليها بمخالفة الهوى، ومن الركون إلى الدَّعة واللذات، واتباع الشهوات (¬2) .

    خرَّج الترمذي عن فضالة بن عُبيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المجاهد من جاهد نَفْسَه» (¬3) .

    وخرَّج النسائي عن سبرة بن أبي فاكِهٍ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:..

    فذكر حديثاً طويلاً في وسوسة الشيطان للمؤمن، وفيه: «ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد. فهو جهد النفس والمال ... » (¬1) الحديث.

    والجهاد في الشرع يقع على ثلاثة أنْحاء: جهادٍ بالقلب، وجهادٍ باللسان، وجهادٍ باليد.

    والدليلُ على هذه القسمة، وتسمية كل واحدٍ منها جهاداً: ماخرَّجه مسلم (¬2) ، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحابٌ، يأخذون بسُنَّته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخْلفُ من بعدهم خُلوفٌ، يقولون مالايفعلون، ويفعلون مالايؤمرون، فمن

    جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خَرْدل» (¬1) .

    فالقول أولاً: في معنى جهاد القلب، وذلك راجعٌ إلى مغالبة الهوى، ومدافعة الشيطان، وكراهية ما خالف حدود الشرع، والعقدِ على إنكار ذلك، حيث لا يستطيع القيام في تغييره بقول ولا فعل، وهذا الضرب واجب على كل مسلم إجماعاً، وهو مما يتناوله قوله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، وقوله -سبحانه-: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] ، وقال -سبحانه-: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن جاهدهم

    بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل» (¬2) .

    الثاني: جهادٌ باللسان، وذلك كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر (¬3) ، وزجرِ

    أهل الباطل، والإغلاظ عليهم، وما أشبه ذلك، مما يجب إبراء القول فيه.

    وهذا الضرب واجب على المكلَّف بشروط:

    منها: أن يكون عالماً بطرق الإنكار، ووجه القيام في ذلك، من التَرَفُّقِ تارة، والغلظة أخرى، بحسب المُنكر في نفسه، والأحوال التي تَعترض، فإنْ لم يكن كذلك لم يجب، بل قد يحرم عليه القيام؛ لأنه ربما وقع في أَشدّ مما أنكر (¬1) ،

    قال

    الله -تعالى-: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] ، وقال -سبحانه-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .

    ومنها: أن تكون له قوة في نفسه، وحالة يأمن معها أن يُسْطَاع ذلك، فإن لم يكن كذلك لم يجب عليه، لكنه إن فعل صابراً محتسباً قيامه في ذلك عند الله -عز وجل-: صحَّ، وكان مأجوراً. قال الله -عز وجل-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] ، وقال -تعالى-: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] .

    وخرَّج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر» (¬1) ، قال فيه: حسن غريب.

    ومنها: أن يرجو في قيامه كَفَّ ذلك المنكر وإزالته، فإن أَيِسَ من ذلك، فقد قيل: لا يجب عليه -أيضاً- إلا تبرُّعاً.

    والأظهر عندي في هذا الوجه: أنه يجب عليه القول، وإن كان يائساً من

    كفّ ذلك المنكر؛ لأن الإنكار أخصُّ فريضةً، لا يسقطه عدم تأثر المنكر عليه، ألا ترى أنّ إنكار القلب حيث لا يستطاع الإنكار بالقول واجبٌ باتفاق، وهو لا أثَرَ له في دفع ذلك المنكر! فكذلك يجب القول إذا أمكنه، وإن لم يؤثر، وأيضاً ففي إعلان الإنكار تقريرُ معالم الشرع، فلو وقع التَّمالؤ في مثل هذا على التَّرْكِ حيث لا [يغني الكف] (¬1) والإقلاع، لأوشك دروسها. قال الله -عز وجل-: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] ، فالقول إذا قدر عليه واجب، أثّر أو لَم يؤثر (¬2) .

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

    خرَّج مسلم، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيِّرُه بيده، فإن لَمْ يستطع فبلسانه، فإن لَمْ يستطع فبِقلْبِه، وذلك أضعف الإيمان» (¬1) .

    وعلى هذا الضَّرب حَمَلَ جماعةٌ من العلماء ما أمر الله -تعالى- به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من جهاد المنافقين في قوله -تعالى-: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] ، فهذا إنما يكون في المنافقين بالقول من الزجر والوعيد والتهديد، وما أشبه ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بقتلهم؛ لِمَا كانوا يظهرونه من الإسلام، قال ابن عباس (¬2) ،

    وغيره (¬1) : معناه: «جاهد الكفار بالسَّيف، والمنافقين باللسان» .

    وبسْط الكلام في ذلك، وفي الكفّ عن قتل المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي مأخذاً واسعاً غير ما قُصد له في هذا الباب.

    الثالث: جهاد باليد، وهو أنواع:

    منه ما يرجع إلى إقامة الحدود، ونحوها من التعزيرات، وذلك إنما يجب على الولاة والحُكَّام، ومنه: مايدخل في باب تغيير المناكر، وذلك يجب حيث لا يُغني التغيير بالقول، وعلى الشروط التي قدَّمنا في حق القائم في ذلك، والقيام فيه بحسب الأحوال، وتدريج الانتقال.

    ومنه: قتال الكفار، والغزو. ويقتضي أنَّ لفظ الجهاد إذا أُطلق، إنما يُحمل على هذا النوع بخاصَّة، وهو الذي نُصِبَ له هذا المجموع، فَلنأْخُذ في ذلك على حسب ما يرزقنا الله فيه من الإمداد بالمعونة والتوفيق، لا ربَّ غيره.

    فصلٌ: في ابتداء الأمر بالقتال والتدريج فيه

    قال الله -عز وجل-: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:

    158] ، وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُعطيتُ خَمْساً لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كلّ نبيٍّ يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى كل أحمر وأسود» الحديث. خرَّجه مسلم (¬1) .

    فَثَبتَ بالبراهين القاطعة والآيات البيِّنة ومن الكتاب والسنَّة والإجماع القاطع المتواتر: أنَّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق أجمعين؛ إنْسِهم وجِنِّهم، أحمرهم وأسودهم، عَربهم وعجمهم، من كان منهم في عصره، ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة، قال الله -تعالى-: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] .

    فذكر أهل العلم والنقل، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه الله -عزّ وجل -وهو على رأس أربعين سنة-، أقام بمكة يدعو إلى الله -تعالى-، ويُبيِّن عن ربه -عز وجل- ما أرسله به من الهدى، ويتلو عليهم القرآن، وينهاهم عن الشِّركِ وعبادة

    الأوثانِ، والفواحش -التي حرّم الله تعالى- مدّة طويلةً، لم يُؤمر في شيءٍ من تلك المدّة بقتال؛ بل كان يؤمر بالإعراض عنهم، وبالصَّفح الجميل، والصَّبرِ على أذاهم؛ إمهالاً من الله -تعالى-، وإبلاغاً في الحجَّة، وإعذاراً في المُدَّة.

    قال الله -تعالى-: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، وقال -تعالى-: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] ، وقال -سبحانه-: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَهُمْ} [الأحقاف: 35] .

    ولم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُعلناً بالرسالة والنَّذارة، صابراً على ما يناله في ذلك من الأَذى، ناصِحاً لهم، مُحتسباً ما أصابه فيهم، إلى أن آمن بالله وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أراد الله -تعالى- به خيراً، وجعل له نوراً، وعاندَ من شاء الله

    -تعالى-، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بمكة عشر سنين، وقيل: ثلاث عشر سنة، وفي ذلك يقول أبو قيس صِرمة بن أبي أنس بن صِرمة؛ من بني النَّجار (¬1) :

    ثَوَى في قريشٍ بِضْعَ عشرةَ حِجَّةً ... يذكِّر لو يَلْقى صديقاً مُواتيا (¬1)

    ثم لما أراد الله -تعالى- إنفاذَ الوعيد فيمن أهلكه من كفار قريش، وعظماء أهل الشرك بمكة: أذِن الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة منها إلى المدينة، فخرج، ولمَّا يؤمر حينئذٍ بقتال، ثم أذن له في القتال بَعْدُ.

    خرّج النسائي (¬2) عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة؛ قال أبو

    بكر:

    «أَخْرَجُوا نبيَّهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكنّ» ؛ فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] . قال: «فَعَرفْتُ أنه سيكون قتال» . قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال.

    وكذلك روى القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن» (¬1) عن عروة بن الزبير: أنها أوَّل آيةٍ نزلت في القتال، وقاله قتادة وغيره (¬2) . وقد روي عن الربيع بن أنس (¬3) وغيرهِ أن أول آيةٍ نزلت في القتال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ

    وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] ، أي: قاتلوا من قاتلكم، وكُفَّوا عمَّن كفَّ عنكم، لا تعتدوا بقتاله. هذا أحد التأويلات في الآية.

    قال إسماعيل: إنما أَذِنَ الله -تبارك اسمه- للنبي - صلى الله عليه وسلم - في القتال بعد قدومه المدينة، ثم أُمِرَ - صلى الله عليه وسلم - بالقتال على أحوالٍ كانت؛ كان يؤمر فيها بالقتال، فمنها -والله

    أعلم- هذه الآية وغيرها، يعني: قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، ثُمَّ نسِخ ذلك كلُّه، وأمر بقتال المشركين كافَّة. وإلى ما ذكر القاضي إسماعيل ذهبَ كثيرٌ من أهل العلم في حمل الآيات الواردة في ذلك على أحوال؛ فمنها قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} [البقرة: 190] ، فهذا لم يؤذن فيه في قتال من لم يقاتل، بل قال -تعالى-: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء: 90] ، وقال -تعالى- فيمن يقاتل: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 91] ، وكذلك قوله -تعالى-: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، فلم يؤمروا أن يبدؤوهم عند المسجد الحرام بقتال، حتى يكونوا هم يقاتلون، وكذلك قوله -تعالى-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ، ففي هذا بعض التوسيع عمّا تضمَّنتهُ الآي قبل هذا؛ من أنه لا يُقاتلُ إلا من قاتل، فكان الأمر هنا أعمَّ في الكفار الأدْنَين، فالآية تتضمن قتالهم على كل حال؛ قاتلوا أو لم يُقاتلوا، ثم نَسَخَ الله -تعالى- كلَّ كفٍّ ومهادنةٍ بقي في أمر الكفار بعد الإمهال والإعذار، وإيعاب البلاغ والإنذار، فقال -تعالى-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] ، وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ

    كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] ، وقال -تعالى-: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] (¬1) .

    فصلٌ: في بيان ما استقرّ عليه الأمر بالجهاد

    اختلف أهل العلم في مقتضى الآيات الواردة بالتشديد والتعميم في الأمر

    بالقتال من قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، وقوله

    -تعالى-: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] ، و {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة: 39] ، و {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} [التوبة: 120] ؛ فقيل: كان فرض الجهاد في أول الأمر على جميع المسلمين كافة؛ إلا من عَذَرَه الله -تعالى-، ثم نسخ ذلك بالكفاية، قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ، رُوي ذلك عن ابن عباس؛ خرَّجه عنه أبو داود (¬1) .

    وروي عن عطاء (¬1) ، أن الجهاد إنما كان فرضاً على الصحابة، قيل: يعني على الأعيان، فلما استقرَّ الشرعُ صار على الكفاية، وقال الجمهور: بل كذلك كان فرض القتال على الكفاية في أوّل الإسلام، وحملوا ما وقع في ذلك من التشديد والتعميم على أحوال، وذلك إذا احتيج إلى الجميع، إمَّا لقلة المسلمين، كما كان ذلك في أول الإسلام، أَوْ لما عَسَى أنْ يَعْرض، أوْ يكونَ ذلك خاصاً بأهل النَّفير

    الذين يُعيِّنُهمُ الإمامُ في الاستنِفار، وإذا لم يكن شيءٌ من ذلك فهو على أصل الكفاية، ولا نَسْخَ على هذا في شيءٍ من الآيات، بل هو راجعٌ إلى الأحوال، وما يجبُ في مقاومة الكفار، وهذا الأرجح، والله أعلم؛ لأن النَّسخ لا يُصارُ إليه إلا بتوقيفٍ أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين، ويعلم مع

    ذلك المتأخّر، فيكون هو الناسخ، وإلاَّ فلا.

    وعلى كلا القولين، فلم يُختلف في أنَّ فرض الجهاد استقرَّ في الجملة على الكفاية، يحمله من قام بهِ من المسلمين عن سائرهم، هذا هو المشهور المعروف الذي عليه جماعة أهل العلم (¬1) .

    يحكي القاضي أبو محمد عبد الوهاب (¬1) أنه لا خلاف بين الأمة في وجوب الجهاد، يعني: على الكفاية. وقد نقل غيره في ذلك قولين شاذين:

    أحدهما: أنه فَرْضُ عينٍ مرّةً في العُمر على كل مستطيع كالحج.

    قال أبو بكر بن المنذر: روينا عن داود بن أبي عاصمٍ أنه قال: الغزو واجبٌ على الناس أجمعين، غزوة كهيئة الحج (¬2) .

    قال ابن المنذر: وقال مَعْمر: كان مكحول يستقبل القبلة، ثم يَحلِف عشر أيمان: أنَّ الغزو واجب، ثم يقول: إن شِئتُم زِدتكم.

    قال ابن المنذر: وهذا لايصح عن مكحول؛ لأن بين معمر وبين مكحول رجلاً. حدثناه إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن رجلٍ، عن مكحول: أنه قال ذلك (¬1) .

    والقول الآخر: أن الجهاد نَفْلٌ. قال النَّحَّاس (¬2) : هو قول ابن عمر، وابن

    شُبرمة، وسفيان الثوري (¬1) . وذُكر عن عطاء، أن الجهاد إنما كان فرضاً على

    الصحابة (¬2) ، وهذا يحتمل أن يريد فَرْضَ عين، فلما استقرَّ الشرع، صار على الكفاية، ويحتمل أن يذهب بذلك إلى قول من زعم أنه الآن نافلة، يَعْنُون: بعد فتح مكة.

    ولم يختلفوا أنَّ الإمام إذا اسْتَنْفَرَ أحداً للغزو، فإنه يجب ذلك عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنْفِرْتُم فانفروا» . خرَّجه

    البخاري وغيره (¬1) .

    وكلا القولين محجوجٌ بالكتاب والسنة.

    أمّاَ من ذهب إلى أن فرض الجهاد إنما كان على الصحابة، فلا مستند له، فإن (¬2) زعم أنّ الخطابَ بإيجاب القتال والوعيدَ عليه والتشديدَ فيه إنما هو بصيغة المواجهة، واختصاص الحاضرين، كقوله -تعالى-: {انْفِرُواْ} و {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة: 39] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] ، وما أشبه ذلك، لم يكن ذلك دليلاً؛ لأن عُرْفَ الشَّرْعِ المقطوعَ عليه في ذلك وأمثاله: أنه لهم ولمن بعدهم، إلاّ أن يُبين أنّه شيءٌ اختُصَّ به بعض المكلفين دون بعض. قال الله

    -تعالى-: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] .

    وأيضاً، فيقال لمدَّعي ذلك: فيلزم أن كلَّ إيجابٍ أو حظْرٍ وردَ في القرآن،

    أو في السنة على صيغة مثله أن يكون ذلك مخصوصاً بالصحابة، كقوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ، و {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] ، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، ولعلَّ أكثر الشرع على ذلك، وفي هذا ما لا خفاء به.

    وأيضاً، فالأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دالةٌ على بقاء ذلك إلى يوم القيامة.

    روى مالك في «موطئه» (¬1) ، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . فسَّره العلماء أنه في الغزو، وكذلك جاء في بعض طرقه.

    خرَّج البخاري (¬2) عن عروة البارقي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير: الأجْر والمَغْنمُ إلى يوم القيامة» .

    وخرَّج مسلم (¬3) ، عن جابر بن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يبرح هذا الدين قائماً، تقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين، حتى تقوم الساعة» .

    وأما من ذهب إلى أنه فرضٌ كالحج على الأعيان، فظاهر الكتاب والسنة يدلان على خلاف ذلك؛ قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122] ، وقال -تعالى-: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] .

    فهذا بيّنٌ في سقوط المأثم في القعود عن الغزو إذا قام به بعض المسلمين.

    وخرّج مالك في «موطئه» (¬4) عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

    «لولا أن

    أشقّ على أمتي، لأَحبَبْتُ أن لا أتخلَّف عن سريةٍ تخرج في سبيل الله، ولكني لا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يتحمَّلون عليه فيخرجون، ويشقُّ عليهم أن يتخلَّفوا بعدي ... » الحديث.

    قال أهل العلم: فلو كان فرضاً معيَّناً ما تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أباح لغيره التخلّف عنه.

    وأُبينُ من هذا بياناً: ما خرَّجه البخاري (¬1) ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جَلَسَ في أرضه التي وُلِدَ فيها» ، قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشِّر الناس؟ قال: «إن في الجنة مئة درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض؛ فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، أُرى: وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الدنيا» .

    قوله في «الموطأ» : «عن سَريَّةٍ» ، السَّرية: الجماعة من الخيل نحو أربع مئة، ويُحتمل أن يُسَمَّى ما دون ذلك سَرِيَّة.

    قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير السرايا أربع مئة» (¬2) ؛ خرَّجه الترمذي، وأبو دواد.

    فصلٌ

    واستقرَّ الفرضُ في قتال الكفار أنه عامٌّ في كل زمان ومكان، سواء في ذلك الحَرَمُ، والأشهر الحُرُم، وغيرها، كلُّ ذلك لا يمنع من قتالهم ابتداءً، وإن لم يبدؤوا بذلك، وعلى هذا جمهور العلماء.

    ورُوي عن مجاهدٍ وطاوسَ (¬1) : أنه لا يحلُّ لأحدٍ أن يقاتل أحداً في الحرَم إلا أن

    يقاتله، فحينئذٍ يكون له قتاله، واستدلَّ من ذهب إلى ذلك بقول الله -تعالى-: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، وزعموا أن الآية مُحْكمة، وحُجَّة الجمهور: قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى

    لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شِركٌ {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] ، وقوله -تعالى-: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] ، ومعلوم أنَّ هذه الآية نزلت بعد آية الأمر بالكفّ عند المسجد الحرام، فحملوها على أنَّها ناسخةٌ لها، كما نسخت جميع ما كان من مهادنةٍ قبل ذلك، واستدلوا على صحة ذلك بحديث مالكٍ (¬1) ، عن ابن شهاب، عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، ابنُ خطَل متعلّق بأستار الكعبة! فقال: «اقتلوه» .

    وكذلك قتال الكفار في الأشهر الحرم، نُسِخَ الحظْرُ فيه؛ الذي يدل عليه قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] ،

    نسخ ذلك كلَّه آيةُ السيفِ في (براءة) : {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، فأبيحَ القتالُ في الأشهر الحرم وغيرها، وعلى هذا جماعة أهل العلم، إلا أن عطاءً ذهب إلى أنَّ الآية في الحَظْر مُحكمة، ولا يجوز عنده قتالٌ في الأشهر الحرم (¬1) .

    والحجة فيما صار إليه الجمهور، أنَّ كل مهادنةٍ كانت، فقد نسختها آية السَّيفِ في (براءة) ، وهي آخر ما أنزل في ذلك. قال النحَّاس (¬2) : «نُقلِ إلينا أن هذه الآية -يعني: قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]- نزلت في جمادى الآخرة -أو في رجب-، في السنةِ الثانية من هجرةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقد قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن بحُنينٍ، وثقيفاً بالطائف، في شوال، وذي القعدةِ، وذو القعدةِ من الأشهر الحرم، وذلك في سنة ثمانٍ من الهجرة» (¬3) ؛ يريد الاستدلال على أن الكفَّ في الأشهر الحرم منسوخٌ، والأشهر الحرم هي التي قال الله -عز وجل- فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] .

    قال أهل العلم والنَّقل: هي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وفي ذلك أثر مرفوع (¬1) ، وهو مما لا خلاف فيه (¬2) ، أنها هذه الأربعة. وأما قوله -

    تعالى-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] ؛ فليس المراد بها هذه الأربعة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1