Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شرح ديوان الحماسة
شرح ديوان الحماسة
شرح ديوان الحماسة
Ebook1,159 pages8 hours

شرح ديوان الحماسة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب أدبي يعتبر من أهم كتب الأدب وأشهرها على مر العصور حيث ألفه أبو تمام خلال رحلته الشهيرة إلى خراسان وضمنه مجموعة كبيرة من الإختيارات الأدبية النثرية والشعرية فوضعها في أبواب خاصة وقد جاء الكتاب في عدة أبواب منها الحماسة ، المراثي ، الأدب النسيب ، الهجاء، الأضياف
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateFeb 24, 1901
ISBN9786387867627
شرح ديوان الحماسة

Read more from المرزوقي

Related to شرح ديوان الحماسة

Related ebooks

Reviews for شرح ديوان الحماسة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شرح ديوان الحماسة - المرزوقي

    الغلاف

    شرح ديوان الحماسة

    الجزء 3

    المرزوقي

    421

    كتاب أدبي يعتبر من أهم كتب الأدب وأشهرها على مر العصور حيث ألفه أبو تمام خلال رحلته الشهيرة إلى خراسان وضمنه مجموعة كبيرة من الإختيارات الأدبية النثرية والشعرية فوضعها في أبواب خاصة وقد جاء الكتاب في عدة أبواب منها الحماسة ، المراثي ، الأدب النسيب ، الهجاء، الأضياف

    وقال رجل من بني أسد

    يرثي أخاه وكان مرض في غربة، فسأل الخروج به هرباً من موضعه، فمات في الطريق :

    أبعدت من يومك الفرارفما ........ جاوزت حيث انتهى بك القدر

    لو كان ينجى من الردى حذر ........ نجاك مما أصابك الحذر

    يروى: (أبعطت)، والإبعاط والإبعاد متقاربان. فالإبعاط: الإسراع في السير. ويقال: أبعطت من الأمر، إذا أبيته وهربت منه. ويروى: (أسرعت من يومك الفرار) والأول أشهر وأجود، لأن من يتعلق فيها بأبعدت. والمعنى: فررت من أجلك فراراً بعيداً. ومعنى (من يومك) من آخر أمدك. وإذا رويت (أسرعت) احتجت إلى إضمار فعل يتعلق به من، ولا يجوز تعلقه بأسرعت، ولا بالفرار لأنه يكون من صلته وقد قدم عليه. وقوله (فما جاوزت حيث انتهى بك القدر) يريد أن الحذر لا يغني من القدر، وأنك وإن تحزمت في تغيير الأماكن تباعداً من المحذور، وتنقلت في المنازل هرباً من القدر المحتوم، فما وجدت فيه واقية لنفسك، ولا جاوزت الوقت المرصد لحينك. وجعل قوله (حيث انتهى) اسماً، فهو في موضع المفعول لجاوزت. ومثله في القرآن: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته ). ومن محكى كلامهم وفصيحه: (هي أحسن الناس حيث نظر ناظر) يعني وجهها .وقوله: (لو كان ينحني) جواب لو قوله (نجاك ). والمعنى: إنك لم تؤت من تضجيع وقع منك، أو إغفال اعترض دون طالبك ؛فلو كان يخلص من الموت توق لوقاك ما أخذت به نفسك من الحذر الشديد، والهرب البعيد ؛ولكن هو الموت الذي لا منجى منه ولا تهرب عنه. وكل هذا النوع توجع وتحسر، واعتراف بالقصور والعجز لدى مبرم القضية.

    يرحمك الله من أخي ثقة ........ لم يك في صفو وده كدر

    فهكذا يذهب الزمان ويف _ نى العلم فيه ويدرس الأثر

    قوله (يرحمك الله) استسلام. والرحمة من الله: الإحسان والعفو. ومعنى (من أخي ثقة) دخل من للتنبين، أي من أخ يوثق بوده، ويؤمن غله ووبال حسده، وإذا صافى الوداد وافق باطنه ظاهره، ولم يك ذا وجهين يعطيك حضرته خلاف ما يعطيك غيبته .وقوله (فهكذا يذهب الزمان) يريد أن ما رآه وأصابه ليس بمستبدع من حدثان الدهر ونوائبه، بل استمراره قديماً وحديثاُ على وجه واحد ينقرض أهله كما أتاه، ويفنى فيه كل معلوم حواه، ويدرس كل أثر اقتناه ووعاه. وهذا الكلام إظهار اليأس من المفقود، وتضعيف الطمع في بقاء الموجود.

    وقالت أم قيس الضبية

    من للخصوم إذا جد الضجاج بهم ........ بعد ابن سعد ومن للضمر القود

    قوله (إذا جد الضجاج بهم) أي صار ضجاجهم جداً. ويقال: ضج يضج ضجيجاً، والإسم الضجاج، قال العجاج يصف حرباً:

    وأغشت الناس الضجاج الأضججا ........ وصاح خاشى شرها وهجهجا

    وقوله (من للخصوم) لفظه استفهام، والمعنى التوجع والاستفظاع. فيقول: من يفصل بين الخصوم إذا اشتد بهم النزاع، وطال الجدال والدفاع، فاحتيج إلى من يرد الجامح، ويلين الكامح، حت إذا رجع كل منهم إلى ما يقرب مسمعه، ولا يبعد عن الفحص مستنزعة، أنفذ قضيته فقطعها، لا يلفتهم عن القبول مراجعة، ولا تخلجهم عن الإلتزام مماتنة ومدافعة بعد ابن سعد. ومن للضمر القود بعدة، أي من أصحاب الخيل المضمرة، وتريد: من يدفعهم عن اشتطاطهم إذا جاءوا واترين أو موتورين. ويجوز أن تريد أنه كان غزا بها فمن لها بعده. والضمرة جمع ضامر. والقود: الطوال العناق.

    ومشهد قد كفيت الغائبين به ........ في مجمع من نواصى الناس مشهود

    فرجته بلسان غير ملتبس ........ عند الحفاظ وقلب غير مزءود

    يقول: ورب مشهد عظيم الشأن يسأل عن حال حاضريه، ويستمع إلى ما ينشر عنه من حجاج منافريه، تكلمت فيه عن نفسك ونبت عن الغائبين من معتلقي حبلك، واليوم يوم مشهود، ورؤساء الناس وأماثلهم فيه شهود ؛ثم كشفت الغمة، وأثبت الحجة بكلام فصيح لا يلتبس، وجدال راجح لا يخيل ولا يغتمص، وقلب ثابت لا يرتدع إذا استنهض، ولا ينتكس إذا استقدم. وقوله (نواصى الناس) أي أشراقهم والمقدمين منهم. وهذا كما وصفوا بالذوائب، يقال: فلان ذؤابة قومه، وناصية عشيرته. وقوله (بلسان غير ملتبس) يريد بكلام. وفي القرآن: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)، وتسمى الرسالة لساناً. وقال:

    إني أتتنى لسان لا أسربها

    وقوله (غير مزءود) فالزؤد: الذعر، والفعل منه زند فهو مزءود. وقوله (عند الحفاظ) أي فعلت ذلك كله عند المحافظة على الشرف، والإحتماء من عار الهضمية والعنت.

    إذا قناة امرىء أزرى بها خور ........ هز ابن سعد قناة صلبة العود

    ذكرالقناة مثل للإباء والامتناع، وأن المكره لا يخرج منهم الخضوع والانقياد. ألا ترى قول سحم بن وئيل:

    وإن قناتنا مشظ شظاها ........ شديد مدها عنق القرين

    ويقال: مشظت يده تمشظ مشظاً. والشظية والشظا من العصا كالليطة منها، تدخل ي اليد فتمشظ منها. ومثل هذا قول عمرو بن كلثوم:

    عشورنة إذا غمزت أرنت ........ تشج قفا المثقف والجبينا

    وقال أيضاً:

    وإن قناتنا ياعمرو أعيت ........ على الأعداء قبلك أن تلينا

    وزاد الآخر عليهم فقال:

    ولنا قناة من رديئة صدة ........ زوراء حاملها كذلك أزور

    وقال الجعدي

    ألم تعلمي أني رزئت محارباً ........ فما لك منه اليوم شيء ولا ليا

    ومن قبله ما قد رزئت بوحوح ........ وكان ابن أمي والخليل المصافيا

    يخاطب صاحبته أم محارب، ومحارب ابنه. وقوله (ألم تعلمي) ظاهره تقرير، وإنما هو تحسر وتوجع. لذلك قال: (فما لك منه اليوم شيء ولا ليا) أي قد فجعنا به فأصبحنا خلوا من الاستمتاع بحياته، والانتفاع بمكانه، ثم ذكرأنه قد فجع قبله بأخيه أيضاً وكان نسيباً قريباً وصديقاً مصافياً حبيباً.

    فتى كملت خيراته غير أنه ........ جواد فما يبقي من المال باقيا

    فتىتم فيه ما يسر صديقه ........ على أن فيه ما يسوء الأعاديا

    قوله'فتى كملت خيراته' يجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو فتى. وقوله'غير أنه جواد'استثناء منقطع، وقد تقدم الكلام في مثله، وأن من كان عيبه و المستثنى من خصاله المحمودة ما يذكر بعد غير فناهيك به رجلاً كاملا. وقوله'فتى تم فيه ما يسر صديقه' مثله، وقد تقدم في مواضع وشرحناه.

    وقال رجل من بني هلال يرثي ابن عم له:

    أبعد الذي بالنعف من آل ماعز ........ يرجى بمران القرى ابن سبيل

    لقد كان للسارين أى ممرس ........ وقد كان للغادين أي مقيل

    بني المحصنات الغر من آل مالك ........ يربين أولاداً لخير خليل

    يقول على وجه الانكار: أيرحى ابن السبيل القرى بمران بعد المدفون بالنعف من آل ماعز. أي لايكون ذلك، لأن من كان يشمل خيره ويرتجى النزول مكرماً ضيفه قد مات. و النعف: ما ناعفك من الجبل، أي استقبلك، وقيل: هو ماانحدر عن السفح و غلظ، فكان فيه صعود و هبوط. ذكره الدريدي، قال: وجمعه نعاف. وقوله'لقد كان للسارين'جواب قسم محذوف. والتعريس: النزول عند الصبح. والمقيل: موضع القيلولة، فيقول: من أسرى ليلة ثم طلب من ينزل به، كان هذا الرجل معرساً له كريماً، وأي معرس. وهذا الكلام فيه تعجب وتفخيم. وكذلك من ارتحل غدواً ثم أراد الرواح كان فناؤه له مقيلاً طيباً وأي مقيل. وقوله'بني المحصنات' جمع الى ذكره ذكر اخوته، فقال: اذكر قوماًكرام الأطراف، أمهات من الحصانة و الطهارة في أعلى محل، وأبعد رتبة، ويرببنأولاداً لبعول لايوازى بهم، علو منصب، وزكاء منسب وتقدماً في الشرف و الافضال. وبراعةً في جميع الأحوال.

    وقال كبد الحصاة العجلى:

    ألا هلك المكسر يال بكر ........ فأودى الباع و الحسب التليد

    ألا هلك المكسر فاستراحت ........ حوافي الخيل والحي الحريد

    افتتح كلامه بألا، ثم أخذ يعظم الخطب و يفظع الشأن، فقال: مات هذا الرجل فمات بموته الكرم العميم، الشرف الصميم. وقوله 'يال بكر' استغاثة مما دهاه. وقد مر القول في هذه الام والفصل بينها وبين لام التعجب من قولك يا لبكر. و معنى أودى: هلك. والباع ها هنا الكرم. و يقال: باع الرجل يبوع بوعاً، اذا مد باعه، وتبوع. وكذلك تبوع البعير، اذا مد ضبعه. والحسب: الشرف، وأصله من الحساب، لأن الحسيب يعد لنفسه مآثر فتلك المآثر حسب. كما يقال نفضت نفضاً، ثم يسمى المنفوض نفضاً. و التليد و التالد: ضد الطريف و الطارف. و التلاد: ما ولد عندك من مالك. قالوا: وأصل هذه التاء الواو .وقوله (ألا هلك المكسر) كرره لتفظيع الأمر. ومعنى (استراحت حوافي الخيل) وصفه بأنه يبعد الغزو فلا يبقى على الخيل وان حفيت، فلما مضى نالت الراحة و تودعت. وقال (حوافي الخيل) على أن يصفها بما كان آل أمرها اليه بعد الغزو. و كذلك قوله (الحي الحري) هو المنفرد و المتباعد عن غيره. كأنه لايسلم عليه وان حذر و تباعد. ويقال: كوكب حريد، اذا طلع في أفق السماء متنحياً عن الكواكب. و رجل حريد المحل، اذا لم يخالط الناس ولم ينزل معهم. وقال:

    أما بكل كوكب حريد

    وقال آخر:

    حريد المحل غويا غيورا

    وقال ابن أهبان الفقعسي

    يرثي أخاه :

    على مثل همام تشق جيوبها ........ وتعلن بالنوح النساء الفواقد

    فتى الحي أن تلقاه في الحي أة يرى ........ سوى الحي أو ضم الرجال المشاهد

    يقول: عظم الرزءبموت همام فلا مخبأ للجزع ولا مصطبر، ولا اسرارللالتياع ولامدخر. وأنى يكون للسامع به معدل الى التجمل و التجلد، وقد فقد به من يستباح في ندبته كل محظور، و يستجاز في الرثاء له كل مذكور، فلا منع من شق الجيوب، وصدع الأكباد و القلوب، واعلان النياحة، وامتداد المآتم في الاعوال الى كل غاية. وقوله (على مثل همام) يذكر المثل و المقصود نفسه لاغير صيانة له ونزاهة. على ذلك قول القائل: مثلك لايحسن به كذا معناه: أنت لايحسن به ذلك ؛ولكن الغرض ما ذكرته، وقوله (بالنوح) يراد به مصدر ناح. وقد يراد به في غير هذا المكان النساء النائحات .وقوله (فتى الحي أن تلقاه) جعل له الفتوة و الرياسة مسلمة له في كل حال، وعلى كل وجه. ألا ترى أنه قال: هو الفتى بين رجال الحي وعند لقائك اياه فيهم. فمعنى أن تلقاه، هو الفتى لأن تلقاه في الحي، ووقت تلقاه في الحي. وقوله (أو يرى سوى الحي) أيفي مكان آخر وفي قوم آخرين. بدلا من الحي. لأنك اذا قلت: عندي رجل سوى زيد، معناه: عندي رجل مكان زيد، وبدلاً من زيد .وقوله (أو ضم الرجال المشاهد) معناه وهو الفتى اذا حصلت وفود القبائل وألسنتهم ورؤساؤهم في مجامع الملوك الأعاظم، ومشاهد السادة الأكابر. وقوله (أو ضم) محمول على المعنى. يريد: وهو الفتى لأن ضم الرجال. و القسمة بما رتبه قد استوفت الأحوال كلها.

    اذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ........ عييا و عبئاً على من يقاعد

    طويل بحاد السيف يصبح بطنه ........ خميصاً وجاديه على الزاد حامد

    وصفه بالبراعة وتمام الآلة، و أنه سهل الخلق، سهل الجانب، يباسط منازعه في الأحاديث ويطاوله، لاعى يقصر حديثه، ولا كبر ينفر قعيده، فهو طيب المجلس، خفيف الملتزم، واذا تاملت خلقته كان حسن القوام، تام الجسم، طويل حمائل السيف. هذا في الحي ما أقام، و في السفر تراه يؤثر غيره بالزاد، فبطنه خميص، و مجتديه و المعول عليه حامد له شكور. وأبلغ من قوله (طويل نجاد السيف) قول مسلم:

    يطول مع الرمح الرديني قامة ........ ويقصر عنه طول كل مجاد

    وقال ابن عمار الأسدي يرثي ابنه:

    ظللت بجسر سابور مقيماً ........ يؤرقني أنينك يا معين

    وناموا عنك واستيقظت حتى ........ دعاك الموت وانقطع الأنين

    أصل الظلول العكث في النهار، ولكنه يتوسع فيه فيجعل للأوقات كلها. على ذلك قوله تعالى: (و اذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً) و ذلك لايختص بالنهاردون الليل. وهذا الكلام اقتصاص حاله معه في تمريضه، و توليه منه ما تفرد به، وفيه التشكي مما قاساه و تجرع الغصص عنه، فيقول: بقيت مقيماً بذلك المكان يسهرني تألمك و أنينك، ونام كل من صحبته فاستيقظت أنا متجرداً فيك، و متحملا ما أمكن تحمله عنك، الى أن أجبت داعيك، و اطلقت من أسر الانتظار ناعيك، فانقطع الأنين، وجد منى لفقدك العويل.

    وقال أبو وهب العبسي يرثي ابنه:

    أرابع مهلا بعض هذا و أجملى ........ ففي اليأس ناه و العزاء جميل

    فان الذي تبكين قد حال دونه ........ تراب وزواء المقام دحول

    سلك فيما مسلك أوس بن حجر، حين قال:

    أيتها النفس أجملى جزعا ........ ان الذي تحذرين قد وقعا

    و المرأة المخاطبة فيما نظن أم المرثى. (مهلابعض هذا) انتصب بعض باضمار فعل، كأنه قال: رفقاً كفى بعض ما تأتينه، و أحسني العزاء، ففي اليأس ممن قد مضى ناه لك عن الاسراف في الجزع، والافراط في الالتياع والهلع ؛والصبر جميل كيف كان، فإن من تبكينه حجز بينه وبيننا تراب مهيل، ولحد قعير، وحفرة معوجة، وهوة مهولة، فلا طمع في الالتقاء، ولا في الرجوع والانكفاء .وقوله (وزوراء المقام) أي معوجة الموضع الذي يقام فيه منها. وقوله دحول، يقال بثر دحول، أي ذات تلجف.

    نحاه للحد زبرقان وحارث ........ وفي الأرض للأقوام قبلك غول

    فأي فتى واروه ثمت أقبلت ........ أكفهم تحثي معاً وتهيل

    اللحد: ما حفر في عرض القبر. ويقال لحدث القبر وألحدته، وقبر ملحود وملحد ولاحد، أي ذو لحد، يقول: ولاه للحد قبره هذان الرجلان، والعادة مستمرة في فناء الأمم السالفة قبلنا ؛لأن الأرض لا تخلو مما يغتال الأحياء ويهلكهم. والغول: الهلكة، ويقال: غالة الموت. وقال الشاعر:

    وما ميتة إن متها غير عاجز ........ بعار إذا ما غالت النفس غولها

    والكلام فيه تأس وتعز، بعد أن اقتص دفنه ومن تولى ذلك منه. ثم قال على وجه التعجب: أي فتى غيبوه ودفنوه ؟! يعظم أمره ويفخم شأنه. وقوله (ثمت أقبلت) التاء من ثمت علامة التأنيث، وهو تأنيث الخصلة. وكما تتصل هذه العلامة بالاسم نحو امرىء وامرأة، وبالصفة نحو قائم وقائمة، تتصل بالفعل، والاسم والفعل هما موضعها، إلا أنها في الاسم يبدل منها الهاء في الوقف، وينتقل الإعراب عن آخر الاسم إليها. وفي الفعل يسكن إلا أن يلاقيه ساكن آخر، ويكون تاء في الوصل والوقف جميعاً. وفي الحرفيقل دخوله، وإذا دخل حرك بالفتح، نحو ربت وثمت، وتبقى تاء في كل حال .وقوله (تحثي معاً) انتصب معاً على الحال. والحثى: أن ترفع يدك بالتراب أو غيره فتفرقه في الجو. قال:

    الحصن أدنى لو تآبيته ........ من حثيك الترب على الراكب

    والحاثياء: تراب يجمعه اليربوع، من هذا: والهيل: أن تجرفة من غير أن ترفع اليد به. ويقال: هلت التراب وأهلته. وفي المثل (محسنة فهيلى) ويقال: (جاء بالهيل والهيلمان) أي بالشيء الكثير، ويجوز أن يكون من هذا، لأن المعنى جاء بما اجتمع هيلاً لا كيلاً .وفي الطريقة التي سلكها من اقتصاص الحال في الدفن والحثي، قد أحسن من قال:

    ألم ترني أبني على الليث بيته ........ وأحثى عليه الترب لا أتخشع

    كأنى أدلى في الحفيرة باسلاً ........ عقيراً ينوء للقيام ويصرع

    تخال بقايا الروح فيه ، لقربه ........ بعهد الحياة ، وهو ميت مقنع

    ألا تراه كيف صور التهيب منه والإعظام له في تلك الحالة.

    وظلت في الأرض الفضاء كأنما ........ تصعد بي أركانها وتجول

    وشد إلى الطرف من كان طرفه ........ بعهد عبيد الله وهو كليل

    يقول: دبر بي لما شاهدت من أمره ما أنكرت، واسودت الأرض في عيني فصارت على سعتها كأنما جمعت جوانبها، فأصعد فيها وهي تجول فلا تهدأ، وتدور فلا تقر .وقوله (وشد إلى الطرف) أي نظر إلى بشدة وتحديق. وفي الحديث: قيل لأبي محذورة وشد أذانه: (أما خشيت أن تنشق مريطاؤك ). ويقال: شددنا على يد فلان وشددنا يده، أي قويناه، والطرف: تحريك الجفن في النظر. يقول: شخص بصره فما يطرف. وقوله (من كان طرفه) كان هذه هي التامة. والمعنى من وقع طرفه وحدث طرفه وحدث طرفه في زمن عبيد الله وبعهده وهو كليل، يريد: من كان لا يملأ عينه منى في حياته تهيباً صار ينظر إلى شزرا ونظراً شديداً. وإنما قواه تجاسره وما حدث له وفي تقديره، من منة استجدها، وقوة عاودته واستظهر بها. وقوله (وهو كليل) الواو واو الحال.

    لئن كان عبدالله خلى مكانه ........ على حين شيبي بالشباب بديل

    لقد بقيت منى قناة صليبة ........ وإن مس جلدي نهكة وذبول

    وما حالة إلا ستصرف حالها ........ إلى حالة أخرى وسوف تزول

    اللام من (لئن) موطئة للقسم المضمر، وجوابه (لقد بقيت ). وخلى مكانه، أي ترك مكانه من العيون والقلوب خالياً. ويجوز أن يريد ترك مكانه من دنياه لمن شاء. على حين شيبي، أي في وقت استبدلت بالشباب شيباً، وبالقوة ضعفاً، لقد بقي مني إباء شديد، ولجاج على من يقصد اهتضامي بليغ ؛فقناتي صلبة على غامزها، ممتنعة على مثقفها، وإن كانت المصيبة نالت مني فنحل جسمي، وذبل جلدي، وحال لوني، وتحول عما كان عليه أمري وشأني. وقد تقدم القول في القناة وطريقتهم في استعارتها وجعلها مثلاً. وقوله (وما حالة إلا ستصرف حالها) يريد: وما خطه إلا ستحول صورتها إلى صورة أخرى ما بقيت وأمهلت، ثم من بعد سوف تزول فلا تبقى، ونحول عن المعهود فتفنى. والمعنى: إن شيئاً من أسباب الدنيا وأعراضها لا يدوم على حد، ولا يستمر على طريق ووجه، لكن يسلط عليه التغير والتبدل، فيزداد عما يكون عليه، أو يتراجع هذا إذا سلم، ومن بعد سوف يكون مغيره مهلكة، ومدبرة مدمرة .وأنشد أيضاً:

    وقاسمني دهري بنى بشطره ........ فلما تقضى شطره عاد في شطري

    ألا ليت أمي لم تلدني وليتني ........ سبقتك إذ كنا إلى غاية نجري

    كانت رواية الناس برهة (وقاسمني دهري بني بشطره) مضافاً، (فلما تقضى شطره) بالضاد، وارتفاع الشطر به، فجاء شيخ لنا فرواه:

    بشطرة فلما تقصى شطره

    وكان يقول: هذه ضالة أنا وجدتها، وهو مما حكاه أبو زيد من قولهم: بنو فلان شطرة، إذا كان ذكورهم بعدد إناثهم. يريد: ناصفني. ومعنى (تقصى شطره) بلغ أقصاه واستوفاه. والذي أختاره أن يروى (بشطره) على الإضافة. ومن الظاهر أن تقصى أحسن من تقضى في اللفظ، وأبلغ في المعنى. ومعنى بشطره كأن الدهر ادعى أنه قسيمة في بنيه وأن له منهم الشطر، وهو النصف، فقاسمه على ذلك، فلما استوفى حظه أقبل بأخذ من نصيبه الذي كان أفر له به، وساهمه عليه، وإنما اخترت بشطره على (شطرة)، لأن شطرة لم يستعمل في الانصباء والسهم، والشطر في النصف معروف ومستعمل، ومنه شاة شطور، إذا يبس أحد ضرعيها. وكذلك قولهم: حلب الدهر أشطرة، إذا جرب الأمور، وأصله من الحلب، أي حلب شطراً من الخير وشطراً من الشر، حتى تبصر وعرف مواضع النجاة من مواضيع العطب والهلكة .وقوله (ألا ليت أمي لم تلدني) تمنى السلامة بأن كان لا يخلق ولا يخترع فينجو من الابتلاء، وملابسة أنواع البلاء، والتردد بين السعادة والشقاء ؛وتمنى بعد أن أوجد وخلق ألا يكون فاقدة والمعزى فيه، بل كان السابق له والمقدم عليه، سيما وهما جاريان إلى غابة من العطب لا محيص عنها، ولا مفر منها.

    وكنت به أكنى فأصبحت كلما ........ كنيت به فاضت دموعي على نحري

    وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى ........ فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري

    جرى على افتتنانهم في تحويل الكلام عن الاخبار إلى الخطاب، وصرفه عن العموم إلى تخصيص بعضهم بالذكر. ألا ترى أنه أخبر في قوله (وقاسمني دهري بني) ثم قال (ليتني سبقتك) فرجع إلى خطاب واحد منهم، ثم قال (وكنت به أكني) فأخبر به عن أحد بنيه. والمعنى: كنت اكتنيت به حباً لذكره واسمه، وتفاؤلاً ببقائه وداومه، فبقي الاسم والشخص مفقود، فلا جرم أني متى كنيت به تجدد لي حزن أفاض عبرتي، وأغاض ماء عيشتي .وقوله (وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى) يريد: إني كنت تام السلاح بهم، موفور العدد والعدد بمكانهم، مخشي الجانب، لا يطمع في استنزالي عن حجة أركبها، أو شبهة اتعلق بها. وذكر الناب والظفر مثل ضربه لسلاحه وآلاته التي كان يدفع الخصوم بها، ويقهر الأعداء باستعمالها. وقوله (لا يخشون نابي ولا ظفري) يريد لا ناب لي بعدهم ولا ضفر فيخشى. فهو مثل:

    ولا ترى الضب بها ينجحر

    وأنشد لامرأة ترثي أباها:

    إذا ما دعا الداعي عليا وجدتني ........ أراع كما راع العجول مهيب

    وكم من سمى ليس مثل سميه ........ وإن كان يدعي بأسمه فيجيب

    يقول: متى قرع أذني دعاء داع بإسم ولدي أذعن وأقلق، كما يذعر الثكلى مهيب، وهو الداعي. والثكلى تفزع لأدنى صبحة ترهقها، أو قرعة تصدم قلبها. ويجوز أن يريد بالعجول ناقة فقدت ولدها بنحر أو موت، فهي في حنينها تنفر من أخفض إهابة، وأدنى بعث وإزعاجة .ويقال لأمثالها من النوق: المعاجيل أيضاً. ووجدهن يزيد على كل وجد. لذلك قال:

    فما وجد أظار ثلاث روائم ........ رأين مجراً من حوار ومصرعاً

    يذكرن ذا البث الحزين ببثه ........ إذا حنت الأولى سجعن لها معاً

    وقوله (وكم من سمى) يقول: ليس التوافق في الأسماء مما يوجب التعادل والتشابه في المسميات، لأن الأعلام لا تفيد في المسمين شيئاً، لكن التشابه إنما يكون بالأوصاف الحاصلة، والمعاني المتماثلة، وإذا كان كذلك فالتشارك في الأسماء وإن حصلت به الإجابة عند الدعاء لا يوجب تقارب المسمين ولا تباعدهم.

    وقال رجل من كلب:

    لحى الله دهراً شره قبل خيره ........ ووجدا بصيفي أتى بعد معبد

    بقية إخواني أتى الدهر دونهم ........ فما جزعي أم كيف عنهم تجلدي

    فلو أنها إحدى يدي رزيتها ........ ولكن يدي بانت على إثرها يدي

    قياليت أسى بعدهم إثر هالك ........ قدي الأن من وجد على هالك قدى

    لحى الله: دعاء على الدهر الذي وصفه، وقد تقدم القول في حقيقته. ومعنى (شرهقبل خيره) أي ما كان يختشى من شره في الأحبة سبق ماكان يرتجى من خيره بهم .ثم دعا على وجد تعجل له بصيفي بعد وجد تقدم في معبد، كأنه كان لايأمن من أحداث الدهر فيما حبى وأنعم عليه في اخوة كرام تناسقوا في الولاد و الوداد، وتقابلوا في جواز تعليق الرجاء بهم عند الحفاظ، فيخاف. وعلى ذلك كان يغلب في نفسه وعلى قلبه سلامتهم وبقاؤهم، حسن ظن بالواهب، وشدة طمع في الموهوب، فيسكن ولا يهاب. فلما جرى الأمر على خلاف ما ظن زعم أن شر الدهر سبق خيره، فدعا عليه. وقوله (ووجداً بصيفي) يقول: ولحى أيضاً جزعاً تجدد بصيفي بعد معبد. وهذا تبرم منه بما قاسى من الدهر، وكابد من جزع بعد جزع. وفيه اشارة الى معنى قول الآخر:

    نوكل بالأدنى وان جل ما يمضى

    وقوله (بقية اخواني) يجوز أن يكون المراد به خيار اخواني، كما يقال: فلان من بقية الناس. ويجوز أن يريد به أنه كان في اخوانه وفور ففقد منهم عدةً، وجعل يأنس ببقيتهم، فأتى الدهر عليهم أيضاً. و قوله (فما جزعي أم كيف عنهم تجلدي) كأنه كان لايعتد بالجزع الواقع لهم ومن أجلهم، ليقصوره عن الواجب، ووقوعه دون اللازم، ولا يطمع من نفسه في مسكة يتعلقها، أو سلوة يتكلفها، اذ كان الخطب أعظم، والرزء أملك .وقوله (فلو أنها احدى يدي رزيتها) جواب لو محذوف، يريد: لو أصبت ببعضهم لسهل ما تعذر أو خف ما ثقل، ولكنهم تجاوبوا للدعوة، و تتابعوا في النقلة، ففدحت المصيبة، وجلت الرزيئة .وقوله (وآليت آسى بعدهم) يريد: حلفت لا آسى بعدهم في اثر هالك، فحذف لا ولم يخف التباسه بالواجب، اذ كان للواجب صيغة مفردة باللام واحدى النونين الثقيلة أو الخفيفة، وقد مر مثله. و المعنى أن خوفي كان فيهم، واذ أصيب بهم فاني لا أجزع لفائت، فحسبي على الهلاك ما بي حسبي. وقال (قدى) ولو قال: قدني، فأتى بنود العماد ليسلم سكون قد، لجاز. قال الشاعر:

    قدني من نصر الخبيبين قدى

    فأتى بهما جميعاً .وقوله (اثر هالك) انتصب على الظرف.

    وأنشدني لأعرابي:

    لحى الله دهراً شره قبل خيره ........ تقاضى فلم يحسن الينا التقاضيا

    فتى كان لا يطوى على البخل نفسه ........ اذا ائتمرت نفساه في السر خاليا

    قد مر القول في بيان الدعاء على الدهر و شرحه، وفي معنى (شره قبل خيره) فأما قوله (تقاضى فلم يحسن الينا التقاضيا) فالمعنى طالبنا برد ما منحنا فلم يحسن في التقاضي، لاسرافه في الفعل، واستعجاله في الرد، واعتسافه في الأخذ، ولأن العواري قد ترتجع، ة المنائح قد تسترد، على وجه لايخل فيه بالاجمال، ولايفسد به ماتقدم من الافضال .وقوله (فتى كان لايطوى على البخل نفسه) يريد أنه اذا اجتداه المجتدي لايرى لنفسه أن تطوى على البخل والامساك، و الضن بم في يده عليه، اذا ائتمرت نفساه، أي تشاورت فيما بينه و بينهما، فأقبلت واحدة تأمر بالبذل، و الأخرى تشير بالامساك. ففي ذلك الوقت يصمم على ترك الائتمار للآمر بالبخل ويخرج من طاعته الى العطاء و البذل. و الائتمار: التشاور ها هنا. فأما قوله:

    ويعدو على المرء ما يأتمر

    فالمراد به ما يجعله من أمره وهمه، فيقول: اذا ائتمر المرء لغيره ما ليس برشاد فانه يعدو عليه فيهلكه. وهذا كما قيل: من حفر مهواةً وقع فيها .وقال الأبيرد اليربوعي:

    ولما نعى الناعي يزيد تغولت ........ بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر

    يقول: لما خبر المخبر بموت يزيد تلونت الأرض في عيني فابيضت تارةً واسودت أخرى، لشدة حزني، وانقطع ظهري، وتساقطت قواي، وقوله (تغولت) اشتقاقه من الغول. وهم يعتقدون في هذا القبيل من الجن أنهم يتصورون بما شاءوا من الصور. ويقال: غولتهم الغول وتغولتهم، اذا توهتهم. وانتصب (فرط الحزن) على أنه مفعول له. و الكلام تسل من غير الدهر و تأثير المصيبة فيه، حتى انكسر قناة ظهره، واختل ما كان قويماً من أمره.

    عساكر تغشى النفس حتى كأنني ........ أخو سكرة دارت بهامته الخمر

    العساكر: جمع عسكرة، وهي الشدة. قال:

    ظل في عسكرة من حبها

    فيقول: غشيت نفسي أنواع البلاء، فزال عقلي لها، حتى صرت كأني سكران دبت الخمر في عقله و دماغه، حتى دارت هامته، وزال تماسكه وقوته. ولك أن تروي: (دارت بهامتي الخمر) لأنه لما كان أخو السكرة نفسه جاز أن يجعل الضمير الراجع اليه ضمير نفسه. وهم يفعلون في الصفات و الصلات هذا. على ذلك قوله:

    أنا الذي سمتن أمي حيدره

    ولم يقل أمه، وان كان وجه الكلام. وان رويت (دارت بهامته الخمر) فهو الصواب المختار.

    فتى ان هو استغنى تخرق في الغنى ........ وان قل مال لم يضع متنه الفقر

    فتى لايعد الرسل يقضي ذمامه ........ اذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر

    البيت الأول يشبهه قول الهذلي:

    أبو مالك قاصر فقره ........ على نفسه ومشيع غناه

    وقوله (تخرق في الغنى) أي تكرم في غناه و توسع. وهو تفعل من الخرق: الكريم من الرجال، الذي يتخرق بالمعروف .وقوله (وان قل مال) أراد ماله. ومعنى (لم يضع متنه الفقر) أي لم يورثه اقلاله تخضعاً وتخشعاً حتى تطأطأ ظهره وانخفض شخصه. وان رويت (وان قل مالاً) بالنصب جاز، ويكون فاعل قل ما استكن فيه من ضمير الفتى، وانتصب مالاً على التمييز، كقوله عزوجل: (واشتعل الرأس شيباً) .وقوله (فتى لايعد الرسل يقضي ذمامه) يريد اذا نزل الأضياف به لايعد اللبن قاضياً ذمام قراهم، ولا كافياً فيما يجب عليه لهم، حتى ينحر جزره، ويوسع مطاعمه. وقوله (أو تنحر) أو بدل من الا، وانتصب الفعل باضمار أن .وأنشد لسلمة الجعفى يرثي أخاه لأمه:

    أقول لنفسي في الخلاء ألومها ........ لك الويل ما هذا التجلد والصبر

    ألم تعلمي أن لست ما عشيت لاقيا ........ أخي اذ أتى من دون أوصاله القبر

    يقول: اني اتسخط ما أقيمه من الهلع فيمن أصبت به، حتى أرجعالى نفسي اذا خلوت بها باللوم و التعنيف، وأقول حل بك الويل، ما الذي يظهر منك من تكلف الجلد والصبر فيما بليت به. أما علمت أني مدة عيشي لا ألاقي أخي وقد حجز بيني وبينه الثرى ؟وقوله (ألومها) في موضع الحال، (ولك الويل) في موضع المفعول لأقول، و (ما هذا التجلد) استفهام على طريق التقريع و التوبيخ. وارتفع التجلد على أنه عطف البيان. وقوله (ألم تعلمي) تقرير فيما هو واجب، لأن حرف الاستفهام قد ضامه حرف النفي، و الاستفهام غير واجب فهو كالنفي، ونفي النفي ايجاب .وقوله (أن لست) أن مخففة من الثقيلة، واسمه يجوز أن يكون ضمير الرجل، أراد أني لست، ويجوز أن يكون ضمير الأمر و الشان. و (ماعشت) في موضع الظرف. و (لاقيا) خبر ليس. و (اذ اتى) ظرف له. والأوصال: جمع وصل، وهو اسم للأعضاء المتصل بعضها ببعض. ويقال: وصل ووصل، بالفتح و الكسر.

    وكنت أرى كالموت من بين ليلة ........ فكيف ببين كان ميعاده الحشر

    وهون وجدي أنني سوف أغتدي ........ على اثره يوماً وان نفس العمر

    قوله (كالموت) جعل الكاف وحده اسماً. وكان أبو العباس يتبع أبا الحسن الأخفش في جواز وقوعه اسماً في غير الضرورة، وأنشد:

    أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ........ كالطعن يهلك فيه الزيت و الفتل

    وبجعل الكاف في موضع فاعل ينهى. وسيبويه لايرى ذلك الا في الضرورة، كأنه قال: وكنت أرى شيئاً أو أمراً مثل الموت .وقوله (من بين ليلة) من دخل للتبيين، والمعنى: كنت أعد مفارقت له في ليلة كالموت، أو قاسى مثل الموت من أجل مفارقة ليلة منه، فكيف يكون حالي وقد فرق بيني و بينه بين موعد الالتقاء بعده يوم القيامة. ومثل قوله (من بين ليلة) قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان ). ولك أن تجعل من بين، في موضع المفعول لأرى، وتجعل من زائدة على طريقة الأخفش في جواز دخوله زيادةً في الواجب، فيكون التقدير: كنت أرى بين ليلة، أي فراق ليلة، كالموت. فيكون كالموت في موضع المفعول الثاني. وقوله (كان ميعاده) وضع الماضي موضع المستقبل أي يكون ميعاده، والهاء يرجع الى البين، كأنه وعده الزوال و الالتقاء معه من بعده في يوم الحشر .وقوله (وهون وجدي أنني) موضع رفع، لأنه فاعل هون والمعنى: خفف وجدي وقلقي أنني ذاهب في إثره، ومخل مكاني في الدنيا بعده يوماً، وإن أطيل عمري، ونفس في أجلي.

    فتى كان يعطي السيف في الروع حقه ........ إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر

    فتى كان يدينه الغنى من صديقه ........ إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

    يريد أن المرثي كان إذا حضر الوغى تصور السيف عليه حقاً، فجاهد نفسه في توفير ذلك الحق عليه إذا أعاد الداعي وكرر: يال فلان!! مراراً. والتثويب في الآذان معروف. وقوله (وتشقى به الجزر) يريد وقت نزول الأضياف، وأنه كان لا يرضيه أقرب المنازل في نزل الضيف، بل كان يرتقى إلى أعلاها .وهذا المعنى قد مضى قريباً، وكذلك البيت الثاني قد مضى مثله. ومعنى يدينه الغنى من صديقه أنه كان يعد التفرد بالغنى لؤماً، وكان يشرك أصدقائه فيه، كما يعد في حال الإضافة والفقر ملابسة الأصدقاء كالتعرض لخيرهم، فيبتعد عنهم.

    وقالت عمرة الخثعمية، ترثي ابنيها:

    لقد زعموا أني جزعت عليهما ........ وهل جزع أن قلت : وا بأباهما

    الزعم يستعمل كثيراً فيما لا حقيقة له، لذلك قالت فيما حكمت عن القوم: زعموا. كأنها لما استشرف الناس جزعها وهلعها، فتذاكروا أمرها فيما بينهم أظهرت الانكار والتكذيب فيما توهموه، فقالت: وهل جزع أن قلت وأباباهما، من التوجع لهما على قدر القائل: وأباباهما. ولفظة (وا) تألم وتشك، وهي حرف للندبة. و (بأباهما) أرادت: بأبي هما، ففر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفاً. على ذلك قولهم: باداة وناصاة، في بادية وناصية. وقولها (وهل جزع) ارتفع جزع على أنه خبر مقدم، (وأن قلت) في موضع المبتدأ، وبأبا خبره. هذا على طريقة سيبويه، وعلى مذهب الأخفش يرتفع بالظرف. ورواه بعضهم: (بأناهما)، أي أفديهما بنفسي وأنا هو ضمير المرفوع، وقد وقع موقع المجرور، وكقولهم: هو كأنا، وأنا كهو.

    هما أخوا في الحرب من لا أخا له ........ إذا خاف يوماً نبوة فدعاهما

    ألمت في هذا بقوله:

    إذا لم أجن كنت مجن جان

    تقول: كان ينصران من لا ناصر له من القوم إذا خشي نبوة من نبوات الدهر يوماً فاستغاث بهما. وقولها (أخوا في الحرب من لا أخا له) فصلت فيه بين المضاف إليه والمضاف بالظرف، فلذلك حذفت النون من أخوان فهو كقوله:

    كأن أصوات من إيغالهن بنا ........ أواخر الميس أصوات الفراريج

    ففصل بقوله (من إبغالهن بنا ). قولها (من لا أخا له) نوت الإضافة ثم أدخلت اللام تأكيداً للإضافة التي قصدتها، لذلك أثبتت الألف من لا أخا، لأن هذه الألف لا تثبت إلا في الإضافة إذ كان في الأفراد يقال اخ. وخبر لا محذوف كأنها قالت: لا أخا موجوداً وفي الدنيا. ولوقالت: لا أخ له، لكان له خبراً للا، على قولهم: لا أب لك، وإنما قلت أدخلت اللام لتوكيد الإضافة التي قصدتها، لأن الإضافة غير معتد بها هنا، فلا تعرف الأخ، واللام تبطل الإضافة في الأصل. وهذه اللام لا تدخل إلا في بابين: أحدهما باب النفي، وهو ما نحن فيه، والثاني باب النداء في مثل قولهم: يابوس للحرب، لأن المراد: يابوس الحرب.

    هما يلبسان المجد أحسن لبسة ........ شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما

    وصفتهما بأنهما يكتسبان المجد ويستمتعان به أحسن استمتاع وأجمل اكتساب، وأنهما يضنان به حيث ظهر وطلع فلا يتركانه لأحد ماداما يستطيعان كسبه والفوز به. وانتصب (أحسن لبسة) على أنه مصدر. وارتفع (شحيحان) على أنه خبر مقدم، والمبتدأ (كلاهما)، و (ما اسطاعا) في موضع الظرف وإسم الزمان محذوف معه. واسطاع منقوص عن استطاع. وتقدير الكلام: كلاهما شحيحان به مااسطاعا عليه، أي ما قدروا عليه، ومعنى (يلبسان المجد)، أي يتمليانه ويمتعان به. وقال:

    لبست أبي المجد أبي تمليت عيشه ........ وبليت أعمامي وبليت خاليا

    شهابان منا أوقدا ثم أخمدا ........ وكان سداً للمدلجين سناهما

    ارتفع (شهابان) على أنه مبتدأ، وجاز الأبتداء به لكونه موصوفاً بمنا، وأوقد في موضع الخبر، والمعنى: أنهما لم يمهلا للتمام والكمال، بل كانا كنارين أوقدتا ثم أنبعتا بالإخماد. والكلام توجع وتلهف. وقولها (وكان سداً للمدلجين سناهما) تريد نارهما الموقدة للضيفان وللطراق بالليل، وأنهم كانوا يستضيئون بها فيردون فناءه مستمسكين أرماقهم به، ومتخلصين من سلطان البرد والجوع وشقة السفر إليه. ولا يمتنع أن يرتفع شهابان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هما شهابان.

    إذا الأرض المخوف بها الردى ........ يخفض من جاشيهما منصلاهما

    تصفها بالصبر في دار الحفاظ، وأنهما إذا نزلا مكاناً مخوفاً لا يؤمن الردى فيه يسكن من قلقها سيفاهما. وهذا فيه إعلام بأنهما كانا لايعتمدان في الشدة تنزل بساحتهما على غيرهما، وأنهما كانا يتحملان الأثقال بأنفسهما، فلا صاحب لهما يتكل عليه، ولا معين يسكن إليه، إلا السيف. فهو كقول الآخر:

    ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

    إذا استغنينا حب الجميع إليهما ........ ولم ينأ عن نفع الصديق غناهما

    تقول: وإذا نالا الغنى وساعدها الحال حبب جماعة الحي والمتعلقين بحبلهما، فازداد توفرا عليهم، وتفقدا لهم، ولم يبعد غناهما من انتفاع الغرباء والأجانب، ومن يتسبب بود صداقة إليهما. فقولها (حب الجميع إليهما) مقصور على النسب، وآخر البيت مصروف إلى الصديق الغريب. وساغ أن يراد بالجميع الحي كلهم لاجتماعهم حوله. والجميع والجمع: المجتمعون. والجماع: المتفرقون. قال:

    من بين جمع غير جماع

    إذا افتقرا لم يجثما خشية الردى ........ ولم يخش رزءا منهما مولياهما

    تريد أنهما إذا مسهما الفقر، وضاق بهما الأمر، لم يلزما بيوتهما تاركين للغزو والتجوال في طلب المال، خوفاً من الهلاك، وميلاً إلى الراحة عن التسيار لكنهما يسعيان للاكتساب، ويتحملان من المشاق ما ينالان به مناهما، أو يقيمان به العذر عند من راعى أحوالهما. وقولها (ولم يخش رزءاً منهما مولياهما) تريد أنهما لا يستحملان موليهما عبثاً من فقرهما، ولم يضعا أنفسهما في موضع الارتزاء منهما، وجبر الحال بمالهما ويسارهما. وهذا كقول الآخر:

    أبو مالك قاصر فقره ........ على نفسه ومشيع غناه

    وقولها (لم يحثما) من جم الطائر. وهم يسمون من رضى بفقره وصار لبيته كبعض أحلاسه: الضايع و الضجعى ؛لأن الضجعة خفض العيش. وإلى هذا المعنى يشير القائل في ذمة قوماً:

    أولئك معشر كبنات نعش ........ ضواجع لا تسير مع النجوم

    يروى: (رواكد ). وانتصب خشية الردى على أنه مفعول له. وقولها (مولياهما) ليس يراد به التثنية، بل المراد به الكثرة. وعلى ذلك. وعلى ذلك قولهم: لبيك وسعديك.

    لقد ساءني أن عنست زوجتاهما ........ وأن عريت بعد الوجى فرساهما

    ولن يلبث العرشان يستل منهما ........ خيار الأواسي أن يميل غماهما

    يقال: عنست المرأة وعنست بالتشديد، إذا قعدت بعد بلوغ النكاح أعواماً لا تنكح. ويستعمل في الرجل أيضاً. قال:

    حتى أنت أشمط عانس

    كأنهما كانا تزوجا بامرأتين ولم يحولاهما، ولما اتفق عليهما ما اتفق بقيتا على حالهما زهداً في النكاح بعدهما، وعلماً بألا اعتياض منهما. فتقول: زاد ذلك في مساءتي، وزاد فيها أيضاً تعرية من الإسراج والإلجام، بعد أن كانا يستعملان على ما يعترض لهما من الحفي في غزو الأعداء وغيره. وإنما ساءها ما حصل من الأمنة في الجوانب التي كانا يقصدان ويوقعان بها بعد الرقبة الشديدة، وما علم أنهم وجدوه ولزموه من الشماتة وإظهار الفرح والمسرة .وقولها: (لن يلبث العرشان) جعلت لكل واحد عرشاً به كان يثبت ويقوم، فيقول: العرش إنما بقاؤه بعمده، فإذا انتزع خيارها منه فلن يلبث أن يميل سقفه فيسقط. وهذا مثل ضربته لعز ذويهما، وإذ قد مضيا فيوشك أن يتثلم وينخفض. والأواسي: جمع آسية، وهي الأساطين. والغماء، بكسر العين والمد: سقف البيت. والغما بالفتح والقصر لغة .وقال الآخر:

    صلى الإله على صفي مدرك ........ يوم الحساب ومجمع الأشهاد

    نعم الفتى زعم الرفيق وجاره ........ وإذا تصبصب آخر الأزواد

    يروى: (ومجمع الأشهاد) تجره وتعطفه على الحساب، ويكون مجمع في معنى جمع. ويروى (ومجمع) بالنصب، ويكون ظرف مكان ومعطوفاً على يوم الحساب. والصلاة من الله تعالى: الرحمة. والمراد: رحم الله مدركاً صفي في الود، رحمة تأتي من وراء ذنوبه، وتعفى على سوابق فرطاته يوم القيامة، إذا حضر الشهود ووضع الحساب على تحاكم الخصوم، وقام الجزاء من الثواب والعقاب على المطيعين والعصاة .وقوله: (نعم الفتى) الممدوح محذوف، كأنه قال نعم الفتى مدرك. قال: وليست هذه الشهادة مني ومن جهتي، ولا من جملة مدحي، على عادة الناس في تأبين الهلاك، ولكنها مما أداه وكثره رفقاؤه في السفر، وجيرانه في الحضر ؛فهي حكاية ألسنتهم، ومؤادة قضيتهم. وقوله (وإذا تصبصب آخر الزواد) معنى تصبصب قرب من النفاد. يريد: ونعم الفتى هو في ذلك الوقت، لأنه يؤثر غيره بالطعم على نفسه. وتلخيص الكلام: نعم الفتى مدرك في المرافقة والمجاورة، وعند نفاد الزاد. والأشهاد: جمع الشهود. واكتفى زعم بالفاعل في اللفظ، لأن مفعوليه دل على الكلام عليهما:

    وإذا الركاب تروحت ثم اغتدت ........ حتى المقيل فلم تعج لحياد

    يريد: ونعم الفتى هو إذا وصلت الركاب السير باسرى، فلم تعطف لا محراف وازورار، ولم تعرج لإصلاح شأن، لكنها استمرت وجدت لما أزعجهم وبعثهم على استدامة التشمير، وتعجيل الحركة وترك التقصير، وطي المنازل، واستقصار المراحل. ومعنى تروحت راحت. والرواح: العشي. وراحت الأبل رواحاً. والإراحة: رد الإبل عشياً من المرعى. يقال: سرحتها بالغداة وأرحتها بالعشى. ومعنى اغتدت حتى المقيل: سارت غدواً إلى وقت القيلولة. أي كان في هذه الحالة يأتي بما يستحق به المدح من أصحابه ورفقائه، لكرم صحابته، وحسن رفاقته. ومعنى (لم تعج) لم تعطف. يقال: عاج عوجا وعياجا. والحياد: الإعراض عن السير للنزول. والفعل منه حاد .ويقال: مالك عن هذا محيد وحيدان وحياد.

    حثوا الركاب تؤوبها أنضاؤها ........ فزها الركاب مغنيان وحاد

    لما رأوهم لم يحسوا مدركاً ........ وضعوا أناملهم على الأكباد

    وصف وراد فنائه بعد فنائه، وزاور قبره طلباً لحبائه، فيقول: استعجلوا رواخلهم وحضوها على قصده والوصول إلى بابه، ومهازيلها التي قد أثر بعد الشقة فيها فأنضاها، تؤوب إليها إذا نزلت، أي تسير النهار كله حت يتصل سيرها بالليل، طلباً للتلاحق معها، فاستخفها ونشطها مغنيان بالحداء، وسائق يحدوها حتو وصلوا، فلما رأوا أنفسهم قد فقدت مدركاً، يعني المرثى، أمسكوا على أكبادهم خوفاً من تصدعها، إذ لو أدركوا حياً لم يكن بينهم وبين الغنى إلا مالا يعد حاجزاً ولا مانعاً .إن قيل: لم جاز لما رأوهم، والفاعلون هم المفعولون، وأنت لا تقول ضربتني ولا ضربتك، بل تأتي بدل ضمير المنصوب بالنفس، تقول: ضربت نفسي وضربتنفسك ؟قلت: إن أفعال الشك واليقين جوز فيها ذلك. تقول: حسبتني ورأيتك وعلمتني، لمخالفتها سائر الأفعال في دخولها على المبتدأ والخبر. وقوله (تؤوبها أنضاؤها) في موضع الحال من الركاب.

    وقال الشماخ

    في عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

    جزى الله خيراً من أمير وباركت ........ يدالله في ذاك الأديم الممزق

    فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ........ ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق

    يقول: جزاه الله عن الرعية خيراً من بين الأمراء، وباركتنعمة الله - تعالى جده وإحسانه - في أديمه الممزق، يعني جلد عمر رضي الله عنه، ومنه برك البعير بروكاً. وبراكاء القتال: حيث يبتركون، أي يبحثون، على ركبهم. وقوله (فمن يسع) يريد أن شأوه في الإيالة و استصلاح الرعية وتفقد مصالحهم لا يدرك، فمن أراد بلوغه والارتقاء إلى غايته بقي حسيراً مسبوقاً ولوركب جناح النعامة. يريد: لو أسرع إسراعها. وقوله (بالأمس) ذكره على طريق تقريب الأمد. وقوله (يسبق) هو جواب الجزاء.

    قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ........ بوائج في أكمامها لم تفتق

    يقول: أحكمت أموراً بصائب نظرك، وجميل رأيك، وحسن تألهك ثم أعجلت فتركت بعدها دواهي وخطوباً عظيمة، هي في أغطيتها لم تظهر ولم يكشف عنها. والفتق: ضد الرتق، وكل متصل مستو رتق، فإذا انفصل وانكشففهو فتق. والبوائج: الدواهي العامة. ويقال: باجهم الشر، أي عمهم. قال الشاعر:

    فبجته وأهله بشر

    والأكمام: الأغطية، منه كم الثمرة. ويقال: لكل شجرة مثمرة كم وهو برعومتها.

    أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ........ له الأرض تهتز العضاه بأسواق

    قوله (أبعد قتيل) لفظه استفهام، ومعناه التفظيع والإنكار. وحرف الاستفهام يطلب الفعل، فكأنه قال: أتهتز العضاه على أسؤقها بعد قتيل بالمدينة أظلمت له الأرض. هذا عجب .وقوله (أظلمت له الأرض) من صفة قتيل. والمعنى أن حصول هذا الأمروجريانه على ماكان منكر فظيع، بعد ما اتفق على قتيل هذا صفته. والعضاه: شجر، واحدتها عضة. قال:

    ومن عضة ما ينبتن شكيرها

    وقد مضى القول في مثل هذا البيت. ويشبهه قول الآخر:

    أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ........ كانك لم تخزن على ابن طريف

    تظل الحصان البكريلقى جنينها ........ نثا خبرها فوق المطى معلق

    وماكنت أخشى أن تكون وفاته ........ بكفى سبنتي أزرق العين مطرق

    الحصان: العفيفة وقد أحصنت وحصنت. والبكر: التي حملت أول حملها، فهي بكر والولد بكر. والنثا، استعمل في الخير والشر. يقال: نثوت الكلام أنثوه نثواً، إذا أظهرته. فيقول: ترى الحامل يسقط حملها ما ينثى من خبر سار به الركبان، وتقاذفته الأقطار، استفظاعاً لوقوعه، واستشعاراً لكل بلاء وخوف منه .وقوله (وما كنت أخشى) يقول: إن ةإن لم آمن الحدثان عليه، وصرت أرقب جميع أسباب الردى فيه حتى ظنت ظنون المشفقات، مستدفعاً للآفات عنه، فإنه لم يخطر ببالي أن يكون في جلالته وارتفاع محله يرديه عبد جسور لئيم جريء، أزرق العين، مسترخي الأجفان. وإنما حلى قاتله بهذه الحلية تنبيهاً على حقارته في نفسه وجنسه، وذما لأصله وفرعه، وإعلاماً بأن الصغير من الرجال يجنى الكبير من الأمور، وأن ما لايقع في الوهم استبعاداً لكونه، يشاهده الإنسان أقرب من كل قريب، ثم لا يملك إلا استغرابه وقضاء العجب منه والتزام الجزع فيه، والسبنتي والسبندي، أصله في النمر، ويستعمل في الجريء المقدم. وقال الدريدي ؛المطرق: الغليظ الجفن الثقيلة.

    وقال صخر بن عمرو أخو الخنساء:

    وقالوا ألا تهجو فوارس هاشم ........ ومالي وإهداء الخنا ثم ماليا

    أبى الهجر أنى قد أصابوا كريمتي ........ وأن ليس إهداء الخنا من شماليا

    يريد: قال الناس باعثين لي على هجاء من أصابني في أخ معاوية ونحت أثنتهم، وذكر أعراضهم: ألا تنتقم منهم بالقول إلى أن يتسهل الفعل فتذكر معايبهم، وتكشف عن مستور مخازبهم، ومجهول مقابحهم ومساويهم ؟فأجبتهم وقلت: مالي وذكر القبيح وإهداء الفواحش ثم مالي ؟أما تعلمون أن ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، وأن جزاء من أصاب كريمتي أفضع من الإهجار، وأنه ليس قول القبيح وتنقص الناس من عادتي وطبيعتي، إذ كنت أرباً بقدري عن الوقوف موقف المغتابين والطاعنين في الأنساب والأعراض. وقوله (ومالي وإهداء الخنا) انتصب إهداء بفعل مضمر، وتكريره لمالي دلالة على استقباحه لما بعث عليه، ودعى إليه. والخنا هو الفحش، كأنه قال: مالي ألابس الخنا وأتكلفه. وقوله (أصابوا كريمتي) فالكريمة أخرج إخراج المصادر، وعلى ذلك ماروى على النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أتا كم كريمة قوم فأكرموه) .ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة. وقوله (وأن ليس إهداء الخنا) أن مخففة من الثقيلة، واسمه مضمر، والجملة التي بعده في موضع الخبر، وموضع أن رفع بكونه معطوفاً على أنى قد أصابوا، وأنى فاعل أبي الهجر.

    إذا ماامرو أهدى لميت تحية ........ فحياك رب الناس عني معاوياً

    لنعم الفتى أدى ابن صرمة بزه ........ إذا راح فحل الشول أحدب عارياً

    يقول: اذا رجل حيا ميتا فتولى الله تعالى عني تحيتك يا معاوية. و التحية من الله تعالى: الاكرام و الاحسان، و التفضل عليه بما هو أهله .وقوله (لنعم الفتى) المحمود بهذا الكلام محذوف، كأنه قال: لنعم الفتى الذي ذا صفته. وقوله (ادى ابن صرمة بزه) اراد سلاحه وسلبه. وقوله (اذا راح) ظرف لما دل عليه نعم الفتى. أي يحمد في هذا الوقت اذا اشتد الزمان وأجدبت الأرض، وانصرف فحل الشول من مرعاه عارياً من اللحم مهزولاً، لكثرة أفضاله، وحسن تفقده واتصال بره بمن يجمعه اليه نسب أو سبب. والشول: النوق القليلة الألبان، واحدتها شائلة. وابن صرمة المذكور يجوز أن يكون القاتل لمعاوية أو المعين عليه.

    وطيب نفسي أنني لم أقل له ........ كذبت ولم أبخل عليه بماليا

    وذي اخوة قطعت أقران بينهم ........ كما تركوني واحداً لا أخاليا

    تسلى فيما أوجعه من الرزء بأن لم يكن جفاه وهو حي قولاً ولا فعلاً، ثم تسلى أيضاً بأنه كما فرق بينه وبين اخوته وترك فريداً وحيدا، قد تولى مثل ذلك من معاديه، فرب اخوة متناصرين صارت كلمتهم واحدةً، وأهواؤهم متفقة، وهم في تألفهم وتشابههم، وتلاؤمهم وترافدهم، كالحلقة المفرغة لايدرى أين رأسهم، أنا قطعت علائق بينهم، ووصل نظامهم، فتفرقوا وتفاقدوا حتى صاروا في التشتت مثلا، كما كانوا في التجمع مثلا. وهذا بازاء ما فعل بي، وفي مقابلة مانيل مني. و الدهر تارات، و (ومن ير يوماً يرى به ). وقد مر القول في قوله (لاأخاليا ). و انتصب (واحداً) على الحال من تركوني، ولا أخالياصفة له، كأنه قال: تركوني وحيداً فريداً. وقوله (أقران بينهم) أي وصل بينهم. وأصل الأقران الحبال، و الواحد قرن. يريد: إني قطعت الأسباب الجامعة بينهم بقتلهم وتفريقهم. و (بين) جعله اسماً. وفي القرآن: لقد تقطع بينكم.

    وقالت أخت المقصص:

    ياطول يرمي بالقليب فلم تكد ........ شمس الظهيرة تتقي بحجاب

    ومر جم عنك الظنون رأيته ........ ورآك قبل تأمل المرتاب

    قول (ياطول يومي) لفظه نداء، ومعناه تعجب واشتكاء، وإنما استطاله لأنه كان يوم نحس ومكروه. فيقول: يومي بالقليل امتد وطال حتى كادت الشمس لا تحتجب عن الأبصار بحجابها المعلوم ؛فيا له من يوم ما أطوله. والقليب: موضع. وأضاف الشمس إلى الظهيرة كأنه لما قام قائم الظهيرة وقفت حيرى فلم تكن تجنح إلى المغيب، ولا كانت تسير فتهوى للغروب .وقوله (ومرجم عنك الظنون) وصفه بأن الآفاق على بعدها كانت قريبة عليه لما أيد به من العزم وتسهل له وفي نفسه من وعورة السير، فيقول: رب مكاشح لك كان على تنائيه عنك، وتحزمه معك، واستظهاره بإبعاد الدار منك، يرجم الظن فيك، ويوسوسإليه ما يعرفه من إبعادك في الغزو، وقلة احتفالك فيما تركبه بلواحق التعب، وعوارض الخطر - أنك تقصد وتوقع به آمن ماكان منك، وهو فيه وسواسه لم يحدث نفسه بتأمل ما وقع في خلده، ولا بالكشف عما ارتاب له، إذ أنت أتيته من حيث لا يحتسبه، واستبحت حريمه، واتسغنمت. وقوله (قبل تأمل المرتاب) يجوز أن يريد به قبل تأمله، فيكون المرتاب هو المرجم المكاشح. ويجوز أن يكون جعله مثلاً .وقد ألم بهذا المعنى أبو تمام في قوله:

    أسرت لك الآفاق عزمة همة ........ جبلت على أن المسير مقام

    فأفأت أدماً كالهضاب وجاملاً ........ قد عدنا مثل علائف المقصاب

    لكم المقصص لا لنا إن أنتم ........ لم تأتكم خيل ذوو أحساب

    يقول: غزوته فجعلت ماله فيئاً وغنيمةً: نوقاً كالجبال سماناً، وذكورةً عظاماً ضخاماً، عدنا كالتي يسمنها الجزار للنحر .وقوله: (لكم المقصص لا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1