Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شرح نهج البلاغة
شرح نهج البلاغة
شرح نهج البلاغة
Ebook684 pages6 hours

شرح نهج البلاغة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لقد تصدى لشرح نهج البلاغة كثيرون من العلماء والفضلاء ذكر العلامة الشيخ حسين جمعة العاملي أنها بلغت 210 شرحا ذكرها مفصلة في كتاب له سمّاه ((شروح نهج البلاغة)) لعل أعظم هذه الشروح وأطولها وأشملها بالعلوم والآداب والمعارف ، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني الذي ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه، المعروف بالراوندي
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateOct 17, 1901
ISBN9786498061082
شرح نهج البلاغة

Related to شرح نهج البلاغة

Related ebooks

Reviews for شرح نهج البلاغة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد

    الغلاف

    شرح نهج البلاغة

    الجزء 2

    ابن أبي الحديد

    656

    لقد تصدى لشرح نهج البلاغة كثيرون من العلماء والفضلاء ذكر العلامة الشيخ حسين جمعة العاملي أنها بلغت 210 شرحا ذكرها مفصلة في كتاب له سمّاه ((شروح نهج البلاغة)) لعل أعظم هذه الشروح وأطولها وأشملها بالعلوم والآداب والمعارف ، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني الذي ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه، المعروف بالراوندي

    عند خروجه لقتال أهل البصرة:

    الأصل: قال عبد الله بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل ؟فقلت: لا قيمة لها، فقال: والله لهي أحب إلي من إمرتكم ؛إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً، ثم خرج فخطب الناس فقال :إن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله، وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوةً، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم، وبلغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم .أما والله إن كنت لفي ساقتها، حتى ولت بحذافيرها ؛وما ضعفت ولا جبنت، وإن مسيري هذا لمثلها ؛فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه .ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم. والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا، فكانوا كما قال الأول :

    أدمت لعمري شربك المحض صابحاً ........ وأكلك بالزبد المقشرة البجرا

    ونحن وهبناك العلاء ولم تكن ........ علياً ، وحطنا حولك الجرد والسمرا

    الشرح: ذو قار: موضع قريب من البصرة، وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب والفرس، ونصرت العرب على الفرس قبل الإسلام، ويخصف نعله، أي يخرزها .وبوأهم محلتهم: أسكنهم منزلهم، أي ضرب الناس بسيفه على الإسلام حتى أوصلهم إليه، ومثله وبلغهم منجاتهم، إلا أن في هذه الفاصلة ذكر النحاة مصرحاً به .فاستقامت قناتهم: استقاموا على الإسلام، أي كانت قناتهم معوجة فاستقامت .واطمأنت صفاتهم، كانت متقلقلة متزلزلة، فاطمأنت واستقرت .وهذه كلها استعارات .ثم أقسم أنه كان في ساقتها حتى تولت بحذافيرها ؛الأصل في ساقتها، أن يكون جمع سائق كحائض وحاضة، وحائك وحاكة، ثم استعملت لفظة الساقة للأخير، لأن السائق إنما يكون في آخر الركب أو الجيش .وشبه عليه السلام أمر الجاهلية ؛أما بعجاجة ثائرة، أو بكتيبة مقبلة للحرب، فقال: إني طردتها فولت بين يدي، ولم أزل في ساقتها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي ؛حتى تولت بأسرها ولم يبق منها شيء ما عجزت عنها، ولا جبنت منها .ثم قال: وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنقبن الباطل، كأنه جعل الباطل كشيء قد اشتمل على الحق، واحتوى عليه، وصار الحق في طيه، كالشيء الكامن المستتر فيه، فأقسم لينقبن ذلك الباطل إلى أن يخرج الحق من جنبه وهذا باب الإستعارة أيضاً .ثم قال: لقد قاتلت قريشاً كافرين ولأقاتلنهم مفتونين، لأن الباغي على الإمام مفتون فاسق .وهذا الكلام يؤكد قول أصحابنا: إن أصحاب صفين والجمل ليسوا بكفار، خلافاً للإمامية، فإنهم يزعمون أنهم كفار.

    حذيفة بن اليمان وخبر يوم ذي قار:

    وروى أبو مخنف عن الكلبي، عن أبي صالح، عن زيد بن علي، عن ابن عباس، قال: لما نزلنا مع علي عليه السلام ذا قار، قلت: يا أمير المؤمنين، ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن! فقال: والله ليأتيني منهم ستة آلاف وخمسمائةٍ وستون رجلاً ؛لا يزيدون ولا ينقصون .قال ابن عباس: فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله، وقلت في نفسي: والله إن قدموا لأعدنهم .قال أبو مخنف: فحدث ابن إسحاق، عن عمه عبد الرحمن بن يسار، قال: نفر إلى علي عليه السلام إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبر ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلاً، أقام علي بذي قار خمسة عشر يوماً، حتى سمع صهيل الخيل وشحيج البغال حوله .قال: فلما سار بهم منقلة، قال ابن عباس: والله لأعدنهم، فإن كانوا كما قال، وإلا أتممتهم من غيرهم، فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله. قال: فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلاً، ولا ينقصون رجلاً، فقلت: الله أكبر! صدق الله ورسوله! ثم سرنا .قال أبو مخنف: ولما بلغ حذيفة بن اليمان أن علياً قد قدم ذا قار، واستنفر الناس، دعا أصحابه فوعظهم وذكرهم الله وزهدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة، وقال لهم: الحقوا بأمير المؤمنين ووصي سيد المرسلين، فإن الحق أن تنصروه ؛وهذا الحسن ابنه وعمار قد قدما الكوفة يستنفران الناس، فانفروا .قال: فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين، ومكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة ليلة، وتوفي رحمه الله تعالى .قال أبو مخنف: وقال هاشم بن عتبة المرقال، يذكر نفورهم إلى علي عليه السلام :

    وسرنا إلى خير البرية كلها ........ على علمنا أنا إلى الله نرجع

    نوقره في فضله ونجله ........ وفي الله ما نرجو وما نتوقع

    ونخصف أخفاف المطي على الوجا ........ وفي الله ما نزجي وفي الله نوضع

    دلفنا بجمعٍ آثروا الحق والهدى ........ إلى ذي تقىً في نضره نتسرع

    نكافح عنه والسيوف شهيرة ........ تصافح أعناق الرجال فتقطع

    قال أبو مخنف: فلما قدم أهل الكوفة على علي عليه السلام، سلموا عليه، وقالوا: الحمد لله يا أمير المؤمنين اختصنا بموازرتك، وأكرمنا بنصرتك، قد أجبناك طائعين غير مكرهين، فمرنا بأمرك .قال: فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال :مرحباً بأهل الكوفة، بيوتات العرب ووجوهها، وأهل الفضل وفرسانها، وأشد العرب مودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته، ولذلك بعثت إليكم واستصرختكم عند نقض طلحة والزبير بيعتي، عن غير جورٍ مني ولا حدثٍ، ولعمري لو لم تنصروني يا أهل الكوفة، لرجوت أن يكفيني الله غوغاء الناس، وطغام أهل البصرة، مع أن عامة من بها ووجوهها وأهل الفضل والدين قد اعتزلوها، ورغبوا عنها .فقام رؤوس القبائل فخطبوا وبذلوا له النصر، فأمرهم بالرحيل إلى البصرة.

    ومن خطبة له في استنفار إلى أهل الشام:

    الأصل: أفٍ لكم! لقد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذل من العز خلفاً! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم ؛كأنكم من الموت في غمرةٍ، ومن الذهول في سكرةٍ .يرتج عليكم حواري فتعمهون ؛فكأن قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون .ما أنتم بثقةٍ سجيس الليالي، وما أنتم بركنٍ يمال بكم، ولا زوافر عز يفتقر إليكم. ما أنتم إلا كإبلٍ ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانبٍ انتشرت من آخر .لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون ؛لا ينام عنكم وأنتم في غفلةٍ ساهون. غلب والله المتخاذلون !وايم الله ؛إني لأظن بكم أن لو حمس الوغى، واستحر الموت ؛قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس .والله إن امرأً يمكن عدوه من نفسه، يعرق لحمه، ويهشم عظمه، ويفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره .أنت فكن ذاك إن شئت ؛فأما أنا والله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .أيها الناس، إن لي عليكم حقاً، ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم .الشرح: أفٍ لكم: كلمة استقذار ومهانة ؛وفيها لغات. ويرتج: يغلق. والحوار: المحاورة والمخاطبة. وتعمهون: من العمه وهو التحير والتردد، الماضي عمِه بالكسر .وقوله: دارت أعينكم، من قوله تعالى: ' ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت '، ومن قوله: ' تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ' .وقلوبكم مألوسة، من الألس، بسكون اللام، وهو الجنون واختلاط العقل .قوله: ما أنتم لي بثقةٍ سجيس الليالي، كلمة تقال للأبد، تقول: لا أفعله سجيس الليالي، وسجيس عجيس، وسجيس الأوجس، معنى ذلك كله الدهر، والزمان، وأبداً .قوله: ما أنتم بركنٍ يمال بكم، أي لستم بركن يستند إليكم، ويمال على العدو بعزكم وقوتكم .قوله: ولا زوافر عز، جمع زافرة، وزافرة الرجل: أنصاره وعشيرته ؛ويجوز أن يكون زوافر عز، أي حوامل عز، زفرت الجمل أزفره زفراً، أي حملته .قوله: سعر نارالحرب، جمع ساعر، كقولك: قوم كظم للغيظ، جمع كاظم، وتمتعضون: تأنفون وتغضبون. وحمس الوغى ؛اشتد، وأصل الوغى الصوت والجلبة، ثم سميت الحرب نفسها وغى، لما فيها من الأصوات والجلبة. واستحر الموت، أي اشتد .وقوله: انفرجتم انفراج الرأس، أي كما ينفلق الرأس فيذهب نصفه يمنةً ونصفه شامة. والمشرفية: السيوف المنسوبة إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، ولا يقال: مشارفي، كما لا يقال: جعافري، لمن ينسب إلى جعافر .وفراش الهام: العظام الخفيفة تلي القحف .وقال الرواندي في تفسير قوله: انفراج الرأس، أراد به انفرجتم عني رأساً، أي قطعاً، وعرفه بالألف واللام، وهذا غير صحيح لأن رأساً لا يعرّف. قال: وله تفسير آخر، أن يكون المعنى انفراج رأس من أدنى رأسه إلى غيره، ثم حرف رأسه عنه .وهذا أيضاً غير صحيح، لأنه لا خصوصية للرأس في ذلك، فإن اليد والرجل إذا أدنيتهما من شخص، ثم حرفتهما فقد انفرج ما بين ذلك العضو وبينه، فأي معنى لتخصيص الرأس بالذكر! .فأما قوله: أنت فكن ذاك، فإنه إنما خاطب من يمكن عدوه من نفسه كائناً من كان، غير معين ولا مخصص ؛ولكن الرواية وردت بأنه خاطب بذلك الأشعث بن قيس، فإنه روي أنه قال له عليه السلام وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم: هلا فعلت فعل ابن عفان! فقال له: إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له، ولا وثيقة معه، إن امرأً أمكن عدوه من نفسه يهشم عظمه، ويفري جلده، لضعيف رأيه مأفون عقله. أنت فكن ذاك إن أحببت، فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية. .. الفصل .ويمكن أن تكون الرواية صحيحة، والخطاب عام لكل من أمكن من نفسه، فلا منافاة بينهما .وقد نظمت أنا هذه الألفاظ في أبيات كتبتها إلى صاحب لي في ضمن مكتوب اقتضاها، وهي :

    إن امرأً أمكن من نفسه ........ عدوه يجدع آرابه

    لا يدفع الضيم ولا ينكر الذ _ ل ولا يحصن جلبابه

    لفائل الرأي ضعيف القوى ........ قد صرم الخذلان أسبابه

    أنت فكن ذاك فإني امرؤ ........ لا يرهب الخطب إذا نابه

    إن قال دهر لم يطع أو شحا ........ له فم أدرد أنيابه

    أو سامه الخسف أبى وانتضى ........ دون مرام الخسف قرضابه

    أخزر غضبان شددي السطا ........ يقدر أن يترك ما رابه

    خطب أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الخطبة، بعد فراغه من أمر الخوارج، وقد كان قام بالنهروان، فحمد الله وأثنى عليه، وقال :أما بعد، فإن الله قد أحسن نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام .فقاموا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا وانصلتت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصداً. ارجع بنا إلى مصرنا، نستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل ما هلك منا، فإنه أقوى لنا على عدونا .فكان جزابه عليه السلام: ' يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين '، فتلكئوا عليه وقالوا: إن البرد شديد .فقال: إنهم يجدون البرد كما تجدون. فتلكئوا وأبوا، فقال: أفٍ لكم! إنها سنة جرت ثم تلا قوله تعالى: ' قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا فإنا داخلون ' .فقام منهم ناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، الجراح فاشية في الناس - وكان أهل النهروان قد أكثروا الجراح في عسكر أمير المؤمنين عليه السلام - فارجع إلى الكوفة، فأقم بها أياماً ثم اخرج. خار الله لك !فرجع إلى الكوفة عن غير رضا.

    أول خطبة لعلي بالكوفة بعد قدومه

    من حرب الخوارج :

    وروى نصر بن مزاحم، عن عمرو بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن أبي وداك، قال: لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان، أقبل به أمير المؤمنين، فأنزلهم النخيلة، وأمر الناس أن يلزموا معسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا زيارة النساء وأبناؤهم، حتى يسير بهم إلى عدوهم، وكان ذلك هو الرأي لو فعلوه، لكنهم لم يفعلوا، وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة. فتركوه عليه السلام وما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قليل، وبقي المعسكر خالياً، فلا من دخل الكوفة خرج إليه، ولا من أقام معه صبر. فلما رأى ذلك دخل الكوفة .قال نصر بن مزاحم: فخطب الناس بالكوفة، وهي أول خطبة خطبها بعد قدومه من حرب الخوارج، فقال :أيها الناس ؛استعدوا لقتال عدو في جهادهم القربة إلى الله عز وجل، ودرك الوسيلة عنده ؛قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه، موزعين بالجور والظلم لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب عن الدين، يعمهون في الطغيان، ويتسكعون في غمرة الضلال، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله، وكفى بالله وكيلاً .قال: فلم ينفروا ولم ينشروا، فتركهم أياماً، ثم خطبهم، فقال: أفٍ لكم! لقد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً. الفصل الذي شرحناه آنفاً إلى آخره. وزاد فيه: أنتم أسود الشرى في الدعة وثعالب راوغة حين البأس، إن أخا الحرب اليقظان ؛ألا إن المغلوب مقهور ومسلوب .وروى الأعمش عن الحكم بن عتيبة، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت علياً عليه السلام على منبر الكوفة، وهو يقول :يا أبناء المهاجرين ؛انفروا إلى أئمة الكفر، وأولياء الشيطان. انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا، فوالله الذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لاينقص من أوزارهم شيئاً .قلت: هذا قيس بن أبي حازم ؛وهو الذي روى الحديث: ' إنكم لترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته '. وقد طعن مشايخنا المتكلمون فيه، وقالوا: إنه فاسق، ولا تقبل روايته ؛لأنه قال: إني سمعت علياً يخطب على منبر الكوفة، ويقول: انفروا إلى بقية الأحزاب ؛فأبغضته، ودخل بغضه في قلبي، ومن يبغض علياً عليه السلام لا تقبل روايته .فإن قيل: فما يقول مشايخكم في قوله عليه السلام: انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا ؟أليس هذا طعناً منه عليه السلام في عثمان !قيل: الأشهر الأكثر في الرواية صدر الحديث، وأما عجز الحديث فليس بمشهور تلك الشهرة، وإن صح حملناه على أنه أراد به معاوية ؛وسمى ناصريه مقاتلين على دمه، لأنهم يحامون عن دمه، ومن حامى عن دم إنسان فقد قاتل عليه .وروى أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا أبو عاصم الثقفي، قال: جاءت امرأة من بني عبس إلى علي عليه السلام، وهو يخطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة، فقالت: يا أمير المؤمنين، ثلاث بلبلن القلوب عليك، قال: وما هن ويحك! قالت: رضاك بالقضية، وأخذك بالدنية، وجزعك عند البلية. فقال: إنما أنت امرأة، فاذهبي فاجلسي على ذيلك، فقالت: لا والله ما من جلوس إلا تحت ظلال السيوف .وروى عمرو بن شمر الجعفي، عن جابر، عن رفيع بن فرقد البجلي، قال: سمعت علياً عليه السلام، يقول :يا أهل الكوفة، لقد ضربتكم بالدرة التي أعظ بها السفهاء فما أراكم تنتهون! ولقد ضربتكم بالسياط التي أقيم بها الحدود، فما أراكم ترعوون! فلم يبق إلا أن أضربكم بسيفي، وإني لأعلم ما يقومكم ؛ولكني لا أحب أن ألي ذلك منكم .واعجباً لكم ولأهل الشام! أميرهم يعصي الله وهم يطيعونه، وأميركم يطيع الله وأنتم تعصونه! والله لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو سقت الدنيا بحذافيرها إلى الكافر لما أحبني ؛وذلك أنه قضى ما قضى على لسان النبي الأمي أنه لا يبغضني مؤمن، ولا يحبني كافر، وقد خاب من حمل ظلماً. والله لتصبرن يا أهل الكوفة على قتال عدوكم أو ليسلطن الله عليكم قوماً أنتم أولى بالحق منهم فليعذبنكم! أفمن قتلةٍ بالسيف تحيدون إلى موتةٍ على الفراش! والله لموتة على الفراش أشد من ضربة ألف سيف .قلت: ما أحسن قول أبي العيناء، وقد قال له المتوكل: إلى متى تمدح الناس وتهجوهم! فقال: ما أحسنوا وأساؤوا .وهذا أمير المؤمنين عليه السلام، وهو سيد البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمدح الكوفة وأهلها عقيب الانتصار على أصحاب الجمل، بما قد ذكرنا بعضه وسنذكر باقيه، مدحاً ليس باليسير ولا بالمستصغر، ويقول للكوفة عند نظره إليها: أهلاً بك وبأهلك! ما أرادك جبار بكيدٍ إلا قصمه الله. ويثني عليها وعلى أهلها حسب ذمه للبصرة وعيبه لها ودعائه عليها وعلى أهلها، فلما خذله أهل الكوفة يوم التحكيم، وتقاعدوا عن نصره على أهل الشام، وخرج منهم الخوارج، ومرق منهم المراق، ثم استنفرهم بعد فلم ينفروا، واستصرخهم فلم يصرخوا، ورأى منهم دلائل الوهن وأمارات الفشل، انقلب ذلك المدح ذماً، وذلك الثناء استزادة وتقريعاً وتهجيناً .وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، والقرآن العزيز أيضاً كذلك، أثنى على الأنصار لما نهضوا، وذمهم لما قعدوا في غزاة تبوك، فقال: 'فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. .. ' الآيات، إلى أن رضي الله عنهم، فقال: ' وعلى الثلاثة الذين خلفوا ' أي عن رسول الله ' حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. .. ' الآية.

    نبذ من فضائل الإمام علي:

    روى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني عن فضيل بن الجعد، قال: آكد الأسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين أمر المال، فإنه لم يكن يفضل شريفاً على مشروف، ولا عربياً على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل كما يصنع الملوك، ولا يستميل أحداً إلى نفسه، وكان معاوية بخلاف ذلك، فترك الناس علياً والتحقوا ؛فشكا علي عليه السلام إلى الأشتر تخاذل أصحابه، وفرار بعضهم إلى معاوية، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة، ورأي الناس واحد، وقد اختلفوا بعد، وتعادوا وضعفت النية، وقل العدد، وأنت تأخذهم بالعدل، وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف ؛فليس للشريف عندك فضل منزلةٍ على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به، واغتموا من العدل إذ صاروا فيه، ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا، وقل من ليس للدنيا بصحب، وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا، فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال، وتصف نصيحتهم لك، وتستخلص ودهم، صنع لك يا أمير المؤمنين! وكبت أعداءك، وفض جمعهم، وأوهن كيدهم، وشتت أمورهم، إنه بما يعملون خبير .فقال علي عليه السلام: أما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل ؛فإن الله عز وجل يقول: ' من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلامٍ للعبيد ' ؛وأنا من أن أكون مقصراً فيما ذكرت أخوف .وأما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقونا لذلك، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور، ولا لجأوا إذ فارقونا إلى عدل، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها، وليسألن يوم القيامة: أللدنيا أرادوا أم لله عملوا ؟وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأً من الفيء أكثر من حقه، وقد قال الله سبحانه وتعالى وقوله الحق: ' كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين ' وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وحده، فكثره بعد قلة، وأعز فئته بعد الذلة، وإن يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه، ويسهل لنا حزنه، وأنا قابل من رأيك ما كان لله عز وجل رضاً، وأنت من آمن الناس عندي، وأنصحهم لي، وأوثقهم في نفسي إن شاء الله .وذكر الشعبي، وقال: دخلت الرحبة بالكوفة - وأنا غلام - في غلمان ؛فإذا أنا بعلي عليه السلام قائماً على صبرتين من ذهب وفضة، ومعه مخفقة، وهو يطرد الناس بمخفقته ثم يرجع إلى المال فيقسمه بين الناس ؛حتى لم يبق منه شيء، ثم انصرف ولم يحمل إلى بيته قليلاً ولا كثيراً. فرجعت إلى أبي فقلت له: لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس، قال: من هو يا بني، قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، رأيته يصنع كذا، فقصصت عليه، فبكى، وقال: يا بني، بل رأيت خير الناس .وروى محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة، عن زاذان ؛قال: انطلقت مع قنبر غلام علي عليه السلام، فإذا هو يقول: قم يا أمير المؤمنين، فقد خبأت لك خبيئاً، قال: وما هو ويحك! قال: قم معي، فانطلق به إلى بيته، وإذا بغرارة مملوءة من جاماتٍ ذهباً وفضة، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتك لا تترك شيئاً إلا قسمته، فادخرت لك هذا من بيت المال، فقال علي عليه السلام: ويحك يا قنبر! لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً عظيمة. ثم سل سيفه وضربه ضربات كثيرة، فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه، وآخر ثلثه، ونحو ذلك، ثم دعا بالناس، فقال: اقسموه بالحصص، ثم قام إلى بيت المال، فقسم ما وجد فيه، ثم رأى في البيت إبراً ومسال، فقال: ولتقسموا هذا، فقالوا: لا حاجة لنا فيه - وقد كان علي عليه السلام يأخذ من كل عامل مما يعمل - وقال: ليؤخذن شره مع خيره .وروى عبد الرحمن بن عجلان، قال: كان علي عليه السلام يقسم بين الناس والأبزاز والحرف والكمون، وكذا وكذا .وروى مجمع التيمي، قال: كان علي عليه السلام يكنس بيت المال كل جمعة، ويصلي فيه ركعتين، ويقول: ليشهد لي يوم القيامة .وروى بكر بن عيسى عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، قال: شهدت علياً عليه السلام وقد جاءه مال من الجبل، فقام وقمنا معه، وجاء الناس يزدحمون، فأخذ حبالاً فوصلها بيده، وعقد بعضها إلى بعض، ثم أدارها حول المال، وقال: لا أحل لأحدٍ أن يجاوز هذا الحبل، قال: فقعد الناس كلهم من وراء الحبل، ودخل هو، فقال: أين رؤوس الأسباع ؟وكانت الكوفة يومئذ أسباعاً - فجعلوا يحملون هذه الجوالق إلى هذه الجوالق، وهذا إلى هذا، حتى استوت القسمة سبعة أجزاء، ووجد مع المتاع رغيف، فقال: اكسروه سبع كسر، وضعوا على كل جزءٍ كسرة، ثم قال :

    هذا جناي وخياره فيه ........ إذ كل جانٍ يده إلى فيه

    ثم أقرع عليها ودفعها إلى رؤوس الأسباع، فجعل كل منهم يدعو قومه فيحملون الجواليق .وروى مجمع، عن أبي رجاء، قال: أخرج علي عليه السلام سيفاً إلى السوق، فقال: من يشتري مني هذا ؟فوالذي نفس علي بيده، لو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقلت له: أنا أبيعك إزاراً وأنسئك ثمنه إلى عطائك، فدفعت إليه إزاراً إلى عطائه، فلما قبض عطائه دفع إلي ثمن الإزار .وروى هارون بن سعيد، قال: قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونةٍ أو نفقة! فوالله ما لي إلا أن أبيع دابتي، فقال: لا والله ما أجد لك شيئاً إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك .وروى بكر بن عيسى، قال: كان علي عليه السلام يقول: يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان فأنا خائن، فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم، ويأكل هو الثريد بالزيت .وروى أبو إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا علياً عليه السلام: إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فسألتاه، فدفع إليهما دراهم وطعاماً بالسواء، فقالت إحداهما: إني امرأة من العرب، وهذه من العجم، فقال: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق .وروى معاوية بن عمار عن جعفر بن محمد عليه السلام، قال: ما اعتلج على علي عليه السلام أمران في ذات الله، إلا أخذ بأشدهما، ولقد علمتم أنه كان يأكل - يا أهل الكوفة - عندكم من ماله بالمدينة، وأن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب، ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره، ومن كان أزهد في الدنيا من علي عليه السلام! .وروى النضر بن منصور، عن عقبة بن علقمة، قال: دخلت على علي عليه السلام، فإذا بين يديه لبن حامض، آذتني حموضته، وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا! فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به .وروى عمران بن مسلمة، عن سويد بن علقمة، قال: دخلت على علي عليه السلام بالكوفة، فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته، وفي يده رغيف، ترى قشار الشعير على وجهه وهو يكسره، ويستعين أحياناً بركبته، وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه، فقلت: يا فضة، أما تتقون الله في هذا الشيخ! ألا نخلتم دقيقه ؟فقالت: إنا نكره أن نؤجر ويأثم، نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقاً ما صحبناه - قال: وعلي عليه السلام لا يسمع ما تقول - فالتفت إليها فقال: ما تقولين ؟قالت: سله، فقال لي: ما قلت لها ؟قال: فقلت إني قلت لها: لو نخلتم دقيقه! فبكى، ثم قال: بأبي وأمي من لم يشبع ثلاثاً متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا، ولم ينخل دقيقه! قال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم .وروى يوسف بن يعقوب، عن صالح بياع الأكسية، أن جدته لقيت علياً عليه السلام بالكوفة، ومعه تمر يحمله، فسلمت عليه، وقالت له: أعطني يا أمير المؤمنين هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك، فقال: أبو العيال أحق بحمله، قالت: ثم قال لي: ألا تأكلين منه ؟فقلت: لا أريد، قالت: فانطلق به إلى منزله ثم رجع مرتدياً بتلك الشملة، وفيها قشور التمر، فصلى بالناس فيها الجمعة .وروى محمد بن فضيلٍ بن غزوان، قال: قيل لعلي عليه السلام: كم تتصدق! كم تخرج مالك! ألا تمسك! قال: إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضاً واحداً لأمسكت، ولكني والله ما أدري، أقبل مني سبحانه شيئاً أم لا! .وروى عنبسة العابد، عن عبد الله بن الحسين بن الحسن، قال: أعتق علي عليه السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مملوك مما مجلت يداه، وعرق جبينه ؛ولقد ولي الخلافة، وأتته الأموال، فما كان حلواه إلا التمر، ولا ثيابه إلا الكرابيس .وروى العوام بن حوشب، عن أبي صادق، قال: تزوج علي عليه السلام ليلى بنت مسعود النهشلية، فضربت له في داره، حجلة، فجاء فهتكها، وقال: حسب أهل علي ما هم فيه! .وروى حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد عليه السلام، قال: ابتاع علي عليه السلام في خلافته قميصاً سملاً بأربعة دراهم، ثم دعا الخياط، فمد كم القميص، وأمره بقطع ما جاوز الأصابع .وإنما ذكرنا هذه الأخبار والروايات - وإن كانت خارجة عن مقصد الفصل - لأن الحال اقتضى ذكرها، من حيث أردنا أن نبين أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالأموال، ويصرفونها في مصالح ملكهم وملاذ أنفسهم، وأنه لم يكن من أهل الدنيا، وإنما كان رجلاً متألهاً صاحب حق، لا يريد بالله ورسوله بدلاً .وروى علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني أن طائفة من أصحاب علي عليه السلام مشوا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره، وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال، فقال لهم: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور! لا والله لا أفعل ما طلعت شمس، وما لاح في السماء نجم، والله لو كان المال لي لواسيت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم! ثم سكت طويلاً واجماً، ثم قال: الأمر أسرع من ذلك ؛قالها ثلاثاً.

    ومن خطبة له بعد التحكيم:

    الأصل: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل ؛وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس معه إله غيره، وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله .أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصيرٍ أمر! فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت أنا وإياكم كما قال أخو هوازن :

    أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ........ فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

    الشرح: الخطب الفادح: الثقيل، ونخلت لكم، أي أخلصته، من نخلت الدقيق بالمنخل .وقوله: الحمد لله وإن أتى الدهر، أي أحمده على كل حال من السراء والضراء .وقوله: لو كان يطاع لقصير أمر، فهو قصير صاحب جذيمة، وحديثه مع جذيمة ومع الزباء مشهور، فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير .وقوله: حتى ارتاب الناصح بنصحه وضن الزند بقدحه، يشير إلى نفسه ؛يقول: خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح، لإطباقكم وإجماعكم على خلافي، وهذا حق، لأن ذا الرأي الصواب إذا كثر مخالفوه يشك في نفسه .وأما ضن الزند بقدحه، فمعناه أنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح، لشدة ما لقيت منكم من الإباء والخلاف والعصيان، وهذا أيضاً حق، لأن المشير الناصح إذا اتهم واستغش عمي قلبه وفسد رأيه .وأخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة، والآبيات مذكورة في الحماسة، وأولها:

    نصحت لعارضٍ وأصحاب عارضٍ ........ ورهط بني السوداء والقوم شهدي

    فقلت لهم ظنوا بألفي مدججٍ ........ سراتهم في الفارسي المسرد

    أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ........ فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

    فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ........ غوايتهم وأنني غير مهتد

    وما أنا إلا من غزية إن غوت ........ غويت وإن ترشد غزية أرشد

    وهذه الألفاظ من خطبة خطب بها عليه السلام بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى وافتراقهما، وقبل وقعة النهروان.

    التحكيم وظهور الخوارج:

    ويجب أن نذكر في هذا الفصل أمر التحكيم، كيف كان، وما الذي دعا إليه! فنقول :إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له، واعتصامهم به من سيوف أهل العراق ؛فقد كانت إمارات القهر والغلبة لاحت، ودلائل النصر والظفر وضحت، فعدل أهل الشام عن القراع إلى الخداع، وكان ذلك برأي عمرو بن العاص، وهذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير، وهي الليلة العظيمة التي يضرب بها المثل .ونحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى، فهو ثقة ثبت، صحيح النقل، غير منسوب إلى هوًى ولا إدغال، وهو من رجال أصحاب الحديث. قال نصر :حدثنا عمرو بن شمر، قال: حدثني أبو ضرار، قال: حدثني عمرو بن ربيعة، قال: غلس علي عليه السلام بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء، عاشر شهر ربيع الأول، سنة سبع وثلاثين، وقيل: عاشر شهر صفر، ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق، والناس على راياتهم وأعلامهم، وزحف إليهم أهل الشام، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين ؛ولكنها في أهل الشام أشد نكاية، وأعظم وقعاً، فقد ملوا الحرب، وكرهوا القتال، وتضعضت أركانهم .قال: فخرج رجل من أهل العراق، على فرس كميت ذنوبٍ، عليه السلاح لا يرى منه إلا عيناه، وبيده الرمح. فجعل يضرب رؤوس أهل العراق بالقناة، ويقول: سووا صفوفكم رحمكم الله! حتى إذا عدل الصفوف والرايات، استقبلهم بوجهه، وولى أهل الشام ظهره، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال :الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه، أقدمهم هجرة، وأولهم إسلاماً، سيف من سيوف الله على أعدائه، فانظروا إذا حمي الوطيس، وثار القتام، وتكسر المران، وجالت الخيل بالأبطال، فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة، فاتبعوني وكونوا في أثري، ثم حمل على أهل الشام فكسر فيهم رمحه، ثم رجع فإذا هو الأشتر .قال: وخرج رجل من أهل الشام فنادى بين الصفين: يا أبا الحسن، يا علي، ابرز إلي. فخرج إليه علي عليه السلام، حتى اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين، فقال: إن لك يا علي لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك، يكون فيه حقن هذه الدماء، وتأخر هذه الحروب، حتى ترى رأيك ؟قال: وما هو ؟قال: ترجع إلى عراقك، فنخلي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلي بيننا وبين الشام .فقال علي عليه السلام: قد عرفت ما عرضت، إن هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد. إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ؛لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر ؛فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الأغلال في جهنم .قال: فرجع الرجل وهو يسترجع، وزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت. ثم مشى القوم بعضه إلى بعض بالسيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض ؛لهو أشد هولاً في صدور الرجال من الصواعق، ومن جبال تهامة يدكّ بعضها بعضاً، وانكسفت الشمس بالنقع، وثار القتام والقسطل، وضلت الألوية والرايات، وأخذ الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة، فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها ؛فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد، من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف الليل، لم يصلوا لله صلاةً. فلم يزل الأشتر يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة خلف ظهره، وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم، وتلك الليلة وهي ليلة الهرير المشهورة، وكان الأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة، وعلي عليه السلام في القلب، والناس يقتتلون .ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى، والأشتر يقول لأصحابه، وهو يزحف بهم نحو أهل الشام: ازحفوا قيد رمحي هذا، ويلقي رمحه، فإذا فعلوا ذلك، قال: ازحفوا قاب هذا القوس، فإذا فعلوا ذلك سألهم مثل ذلك، حتى مل أكثر الناس من الإقدام، فلما رأى ذلك قال: أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم. ثم دعا بفرسه، وركز رايته، وكانت مع حيان بن هوذة النخعي، وسار بين الكتائب، وهو يقول: ألا من يشتري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر، حتى يظهر أو يلحق بالله! فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه فيقاتل معه .قال نصر: وحدثني عمرو قال: حدثني أبو ضرار، قال: حدثني عمار بن ربيعة، قال: مر بي الأشتر، فأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به، فقام في أصحابه، فقال: شدوا - فداً لكم عمي وخالي - شدة ترضون بها الله، وتعزون بها الدين. إذ أنا حملت فاحملوا ثم نزل، وضرب وجه دابته، وقال لصاحب رايته: أقدم، فتقدم بها، ثم شد على القوم، وشد معه أصحابه، فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى معسكرهم، فقاتلوا عند المعسكر قتالاً شديداً، وقتل صاحب رايتهم، وأخذ علي عليه السلام - لما رأى الظفر قد جاء قبله - يمده بالرجال .وروى نصر عن رجاله، قال: لما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه، قام علي عليه السلام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وقال :أيها الناس، قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1