Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث
فتح المغيث بشرح ألفية الحديث
فتح المغيث بشرح ألفية الحديث
Ebook1,307 pages6 hours

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

ورد في مقدمة الكتاب: فهذا تنقيح لطيف، وتلقيح للفهم مٌنيف، شرحت فيه ألفية الحديث، وأوضحت به ما اشتملت عليه من القديم والحديث، ففتح من كنوزها المحصّنة الأقفال كل مُرْتَج، وطرح عن رموزها الإشكال بأبين الحجَج. سابكا لها فيه بحيث لا تتخلص منه إلا بالتمييز؛ لأنه أبلغ في إظهار المعنى، تاركا لمن لا حُسن ذلك في خصوص النظم والترجيزن لكونه إن لم يكن متعنتا لم يذُق الذي هو أهنى. مراعيا فيه الاعتناء بالناظم رجاء بركته، ساعيا في إفادة ما لا غناء عنه لأئمة الشأن وطلبته، غير طويل مُمِل، ولا قصير مُخِلّ، استغناء عن تطويله بتصنيفي الميسوط المقرر المضبوط، الذي جعلته كالنكت عليها وعلى شرحها للمؤلف، وعلما بنقص هِمَم أمائل الوقت، فضلا عن المُتَعَرِّف. إجابة لمن سألني فيه من الأئمة ذوي الوجاهة والتوجيه، ممَّن خاض معي في الشرح وأصله، وارتاض فكره بما يرتقي به عن أقرانه وأهله. نفعني الله وإياه والمسلمين بذلك، ويسُّر لنا إلى كل خير أقرب المسالك، بمنّه وكرمه.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJun 20, 1902
ISBN9786456453782
فتح المغيث بشرح ألفية الحديث

Read more from السخاوي

Related to فتح المغيث بشرح ألفية الحديث

Related ebooks

Related categories

Reviews for فتح المغيث بشرح ألفية الحديث

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - السخاوي

    الغلاف

    فتح المغيث بشرح ألفية الحديث

    الجزء 3

    السخاوي

    902

    ورد في مقدمة الكتاب: فهذا تنقيح لطيف، وتلقيح للفهم مٌنيف، شرحت فيه ألفية الحديث، وأوضحت به ما اشتملت عليه من القديم والحديث، ففتح من كنوزها المحصّنة الأقفال كل مُرْتَج، وطرح عن رموزها الإشكال بأبين الحجَج. سابكا لها فيه بحيث لا تتخلص منه إلا بالتمييز؛ لأنه أبلغ في إظهار المعنى، تاركا لمن لا حُسن ذلك في خصوص النظم والترجيزن لكونه إن لم يكن متعنتا لم يذُق الذي هو أهنى. مراعيا فيه الاعتناء بالناظم رجاء بركته، ساعيا في إفادة ما لا غناء عنه لأئمة الشأن وطلبته، غير طويل مُمِل، ولا قصير مُخِلّ، استغناء عن تطويله بتصنيفي الميسوط المقرر المضبوط، الذي جعلته كالنكت عليها وعلى شرحها للمؤلف، وعلما بنقص هِمَم أمائل الوقت، فضلا عن المُتَعَرِّف. إجابة لمن سألني فيه من الأئمة ذوي الوجاهة والتوجيه، ممَّن خاض معي في الشرح وأصله، وارتاض فكره بما يرتقي به عن أقرانه وأهله. نفعني الله وإياه والمسلمين بذلك، ويسُّر لنا إلى كل خير أقرب المسالك، بمنّه وكرمه.

    الْعَالِي وَالنَّازِلُ

    الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ

    الْعَالِي وَالنَّازِلُ.

    (737) وَطَلَبُ الْعُلُوِّ سُنَّةٌ وَقَدْ ... فَضَّلَ بَعْضٌ النُّزُولَ وَهْوَ رَدْ

    (738) وَقَسَّمُوهُ خَمْسَةً، فَالْأَوَّلُ ... قُرْبٌ مِنَ الرَّسُولِ وَهْوَ الْأَفْضَلُ

    (739) إِنْ صَحَّ الْإِسْنَادُ وَقِسْمُ الْقُرْبِ ... إِلَى إِمَامٍ وَعُلُوٍّ نِسْبِي

    (740) بِنِسْبَةٍ لِلْكُتُبِ السِّتَّةِ إِذْ ... يَنْزِلُ مَتْنٌ مِنْ طَرِيقِهَا أُخِذْ

    [الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ] أَقْسَامُ (الْعَالِي) مِنَ السَّنَدِ (وَالنَّازِلُ)، وَبَيَانُ أَفْضَلِهِمَا، وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مِنْ بَيَان

    ِ الْمُوَافَقَةِ وَالْبَدَلِ

    وَالْمُصَافَحَةِ وَالْمُسَاوَاةِ.

    أَصْلُ الْإِسْنَادِ أوَّلًا خِصِّيصَةٌ فَاضِلَةٌ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَسُنَّةٌ بَالِغَةٌ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ قُبَيْلَ مَرَاتِبَ التَّعْدِيلِ.

    وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ الْمُظَفَّرِ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَشَرَّفَهَا وَفَضَّلَهَا بِالْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ كُلِّهَا قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا إِسْنَادٌ، إِنَّمَا هُوَ صُحُفٌ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ خَلَطُوا بِكُتُبِهِمْ أَخْبَارَهُمْ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ تَمْيِيزٌ بَيْنَ مَا نَزَلَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَبَيْنَ مَا أَلْحَقُوهُ بِكُتُبِهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَخَذُوهَا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ.

    وَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا تَنُصُّ الْحَدِيثَ عَنِ الثِّقَةِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِهِ الْمَشْهُورِ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ عَنْ مِثْلِهِ، حَتَّى تَتَنَاهَى أَخْبَارُهُمْ، ثُمَّ يَبْحَثُونَ أَشَدَّ الْبَحْثِ حَتَّى يَعْرِفُوا الْأَحْفَظَ فَالْأَحْفَظَ، وَالْأَضْبَطَ فَالْأَضْبَطَ، وَالْأَطْوَلَ مُجَالَسَةً لِمَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ كَانَ أَقَلَّ مُجَالَسَةً، ثُمَّ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى يُهَذِّبُوهُ مِنَ الْغَلَطِ وَالزَّلَلِ، وَيَضْبِطُوا حُرُوفَهُ، وَيَعُدُّوهُ عَدًّا، فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَنَسْتَوْزِعُ اللَّهَ شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ.

    وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أُمَنَاءَ يَحْفَظُونَ آثَارَ الرَّسُولِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ.

    وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَمْ يُعْطِهَا مَنْ قَبْلَهَا: الْإِسْنَادِ وَالْأَنْسَابِ وَالْإِعْرَابِ.

    وَعِنْدَ الْحَاكِمِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مِنْ تَارِيخِهِ بِسَنَدِهِ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ إِذَا سَأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ فَذَكَرْتُهُ لَهُ بِلَا إِسْنَادٍ سَأَلَنِي عَنْ إِسْنَادِهِ، وَيَقُولُ: رِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِلَا إِسْنَادٍ مِنْ عَمَلِ الزَّمْنَى; فَإِنَّ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: (الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، لَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ) .

    وَفِي رِوَايَةٍ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ أَمْرَ دِينِهِ بِلَا إِسْنَادٍ كَمَثَلِ الَّذِي يَرْتَقِي السَّطْحَ بِلَا سُلَّمٍ.

    وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ: (بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ) يَعْنِي الْإِسْنَادَ.

    وَقَالَ أَيْضًا لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ أَيْضًا: («إِنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاوِزَ تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ») .

    وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: (مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْحَدِيثَ بِلَا إِسْنَادٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ) .

    وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: (الْإِسْنَادُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ فَبِأَيِ شَيْءٍ يُقَاتِلُ؟) .

    وَقَالَ بَقِيَّةُ: (ذَاكَرْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ بِأَحَادِيثَ، فَقَالَ: مَا أَجْوَدَهَا لَوْ كَانَ لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ يَعْنِي الْأَسَانِيدَ) .

    وَقَالَ مَطَرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، قَالَ: (إِسْنَادُ الْحَدِيثِ).

    [طَلَبُ الْعُلُوِّ فِي الْحَدِيثِ سُنَّةٌ] :

    (وَطَلَبُ الْعُلُوِّ) الَّذِي هُوَ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ فِي السَّنَدِ أَوْ قِدَمُ سَمَاعِ الرَّاوِي أَوْ وَفَاتِهِ (سُنَّةٌ) عَمَّنْ سَلَفَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بَلْ قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، مُتَمَسِّكًا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي مَجِيءِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْمَعَ مِنْهُ مُشَافَهَةً مَا سَلَفَ سَمَاعُهُ لَهُ مِنْ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ; إِذْ لَوْ كَانَ الْعُلُوُّ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ، وَتَرْكَ اقْتِصَارِهِ عَلَى خَبَرِهِ لَهُ.

    وَلَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ قَوْلَ ضِمَامٍ: (آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) إِخْبَارٌ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ عِيَاضٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ حَضَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مُسْتَثْبِتًا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: (فَإِنَّ رَسُولَكَ زَعَمَ)، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: («أَتَتْنَا كُتُبُكَ، وَأَتَتْنَا رُسُلُكَ») .

    أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: (آمَنْتُ) إِنْشَاءٌ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ أَبِي دَاوُدَ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي بَابٍ مَا جَاءَ فِي الْمُشْرِكِ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ مُتَمَسِّكًا فِيهِ بِقَوْلِهِ: (زَعَمَ); فَإِنَّ الزَّعْمَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، فَلَا; فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَكُونُ مَجِيئُهُ وَهُوَ شَاكٌّ لِكَوْنِهِ لَمْ يُصَدِّقْهُ، وَأَرْسَلَهُ قَوْمُهُ لِيَسْأَلَ لَهُمْ.

    قَالَ شَيْخُنَا: (وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَالزَّعْمُ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ كَمَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ فَصِيحِ شَيْخِهِ ثَعْلَبٍ، وَأَكْثَرَ سِيبَوَيْهَ مِنْ قَوْلِهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ.

    وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلَوْ كَانَ إِنْشَاءً لَكَانَ طَلَبَ مُعْجِزَةً تُوجِبُ لَهُ التَّصْدِيقَ، عَلَى أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ مُعْجِزَةٌ)، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ.

    وَبِالْجُمْلَةِ، فَطَرَقَهُ الِاحْتِمَالُ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ ضِمَامٌ قَصَدَ الْعُلُوَّ، وَكَذَا نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ قَصَدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي بَاقِي الْخَبَرِ: («وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي» ). وَعَلَى تَقْدِيرِ تَحَتُّمِ قَصْدِ الْعُلُوِّ فَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ جَائِزًا، وَلَكِنْ قَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ لَمَّا رَآهُ كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ فِي الْجَسَّاسَةِ: («يَا تَمِيمُ، حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي» ). وَبِقَوْلِهِ أَيْضًا: («خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي») الْحَدِيثَ; فَإِنَّ الْعُلُوَّ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ.

    وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ أَدْرَكَ إِسْنَادًا عَالِيًا فِي الصِّغَرِ رَجَا عِنْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَالْكِبَرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَرْنٍ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَالَّذِي بَعْدَهُ وَيَلِيهِ.

    وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ: قُرْبُ الْإِسْنَادِ قُرَبٌ، أَوْ قَالَ: قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ; فَإِنَّ الْقُرْبَ مِنَ الرَّسُولِ بِلَا شَكٍّ قُرْبٌ إِلَى اللَّهِ.

    وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ فِي جُزْءِ (مَا قَرُبَ سَنَدُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ تَخْرِيجِهِ: نَرْجُو بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنْ نَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ») .

    ثُمَّ أَسْنَدَ إِلَى زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا. قُلْتُ: وَهَذَا أَقْصَى مَا قِيلَ فِي تَحْدِيدِهِ، وَلَكِنَّ أَشْهَرَهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةٌ.

    وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ لِلْعُلُوِّ أَيْضًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الْمَنَامِ الْأَذَانَ، وَأَعْلَمَهُ بِأَلْفَاظِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، قَالَ لَهُ: (أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ)، وَلَمْ يُلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ.

    وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ سَمِعَ عَنْ عَائِشَةَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ: (لَوْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَدَخَلْتُ حَتَّى تُشَافِهَنِي بِهِ) .

    وَكَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ لَهُ اسْتِحْبَابُ الرِّحْلَةِ; إِذْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّازِلِ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - إِبْطَالٌ لَهَا وَتَرْكُهَا، وَقَدْ رَحَلَ خَلْقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إِلَى الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ كَمَا قَدَّمْنَا.

    قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: (وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَرْحَلُونَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ عُمَرَ وَيَسْمَعُونَهُ مِنْهُ) .

    وَهَذَا كُلُّهُ شَاهِدٌ لِتَفْضِيلِ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، بَلْ لَمْ يَحْكِ الْحَاكِمُ خِلَافَهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُكْتَفَى بِسَمَاعِ النَّازِلِ مَعَ وُجُودِ الْعَالِي، وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ فِي الِاكْتِفَاءِ وَعَدَمِهِ مَذْهَبَيْنِ، وَذَكَرَ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَوَّلِ قَوْلَ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لَيْسَ كُلُّنَا كَانَ يَسْمَعُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَتْ لَنَا ضِيَاعٌ وَأَشْغَالٌ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَكْذِبُونَ يَوْمَئِذٍ، فَيُحَدِّثُ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) .

    وَقَوْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: كُنَّا نَكُونُ فِي مَجْلِسِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ فَنَسْمَعُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ أَيُّوبَ فَنَكْتُبُهُ مِنْهُ، وَلَا نَسْأَلُ مَنْ أَيُّوبُ. وَمَيَّلَ أَحْمَدُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ; حَيْثُ فَوَّتَ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعُلُوِّ مَنْ يَسْتَرْشِدُ بِهِ لِلِاسْتِنْبَاطِ وَنَحْوِهِ; فَإِنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَعِينٍ: إِنْ فَاتَكَ حَدِيثٌ بِعُلُوٍّ وَجَدْتَهُ بِنُزُولٍ، وَإِنْ فَاتَكَ عَقْلُ هَذَا الْفَتَى - وَعَنَى إِمَامَنَا الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَوْشَكَ أَنْ لَا تَرَاهُ.

    [تَفْضِيلُ النُّزُولِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ] :

    (وَقَدْ فَضَّلَ بَعْضٌ) مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ خَلَّادٍ وَالْخَطِيبُ غَيْرَ مُعَيِّنَيْنِ لَهُ (النُّزُولَ); فَإِنَّ الْعُلُوَّ - كَمَا قَالَ بَعْضُ الزُّهَّادِ - مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا.

    قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ كَلَامٌ وَاقِعٌ، فَالْغَالِبُ عَلَى الطَّالِبِينَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَوْلُهُمُ: الْعُلُوُّ قُرْبٌ مِنَ اللَّهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقٍ وَبَحْثٍ، وَكَأَنَّهُ لِمَا لَعَلَّهُ يَتَضَمَّنُ مِنْ إِثْبَاتِ الْجِهَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ جَرْحِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ وَتَعْدِيلِهِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي أَحْوَالِ رُوَاةِ النَّازِلِ أَكْثَرُ، فَكَانَ الثَّوَابُ فِيهِ أَوْفَرَ.

    قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَبَرَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، يَعْنِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبَحْثَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي الْخَبَرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، أَوْ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّازِلِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى كَثْرَةِ الْوَسَائِطِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَكْثِيرِ الْخَبَرِ يَتَضَمَّنُ تَرْجِيحَ الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ. وَيُسَاعِدُ هَذَا الْقَوْلَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ مَهْدِيٍّ: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يَطْلُبِ الْإِسْنَادَ، يَعْنِي: التَّغَالِيَ فِيهِ.

    وَاسْتِعْمَالُ (بَعْضٍ) بِلَا إِضَافَةٍ قَلِيلٌ كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي (غَيْرٍ) مِنْ مَرَاتِبِ الصَّحِيحِ.

    (وَهْوَ); أَيِ: الْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ النُّزُولِ، (رَدْ); أَيْ: مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ; لِضَعْفِهِ وَضَعْفِ حُجَّتِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ; لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَشَقَّةِ - فِيمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - لَيْسَتْ مَطْلُوبَةً لِنَفْسِهَا.

    قَالَ: وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ الرِّوَايَةِ - وَهُوَ الصِّحَّةُ - أَوْلَى، وَأَيَّدَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ يَقْصِدُ الْمَسْجِدَ لِلْجَمَاعَةِ فَيَسْلُكُ الطَّرِيقَ الْبَعِيدَةَ لِتَكْثِيرِ الْخُطَا رَغْبَةً فِي تَكْثِيرِ الْأَجْرِ، وَإِنْ أَدَّاهُ سُلُوكُهَا إِلَى فَوْتِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَدِيثِ التَّوَصُّلُ إِلَى صِحَّتِهِ، وَبُعْدُ الْوَهْمِ، وَكُلَّمَا كَثُرَ رِجَالُ الْإِسْنَادِ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ، وَكُلَّمَا قَصُرَ السَّنَدُ كَانَ أَسْلَمَ.

    وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ: وَمِنْهُمْ، أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، مَنْ يَرَى أَنَّ سَمَاعَ الْعَالِي أَفْضَلُ; لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُخَاطِرٌ، وَسُقُوطُ بَعْضِ الْإِسْنَادِ مُسْقِطٌ لِبَعْضِ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَامَةِ، فَكَانَ أَوْلَى.

    وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْعُلُوُّ يُبْعِدُ الْإِسْنَادَ مِنَ الْخَلَلِ; لِأَنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ رِجَالِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ الْخَلَلُ مِنْ جِهَتِهِ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، فَفِي قِلَّتِهِمْ قِلَّةُ جِهَاتِ الْخَلَلِ، وَفِي كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةُ جِهَاتِ الْخَلَلِ، قَالَ: وَهَذَا جَلِيٌّ وَاضِحٌ.

    وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا أَعْلَمُ وَجْهًا جَيِّدًا لِتَرْجِيحِ الْعُلُوِّ إِلَّا أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ وَقِلَّةِ الْخَطَأِ; فَإِنَّ الطَّالِبِينَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْإِتْقَانِ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الْإِتْقَانِ، فَإِذَا كَثُرَتِ الْوَسَائِطُ، وَوَقَعَ مِنْ كُلِّ وَاسِطَةٍ تَسَاهُلٌ مَا، كَثُرَ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، وَإِذَا قَلَّتِ الْوَسَائِطُ قَلَّ. انْتَهَى.

    وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَرْجِيحِ مَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ عَلَى مَا كَثُرَتْ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ فِيمَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ أَقَلُّ، ثُمَّ إِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ تَفْضِيلَ النُّزُولِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ رَاوِيَ الْعَالِي أَحْفَظَ أَوْ أَوْثَقَ أَوْ أَضَبَطَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ جَزْمًا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا انْضَمَّ إِلَى النُّزُولِ الْإِتْقَانُ، وَكَانَ الْعُلُوُّ بِضِدِّهِ لَا تَرَدُّدَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - فِي أَنَّ النُّزُولَ أَقْوَى، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَسَأَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ آخِرَ الْبَابِ.

    وَحِينَئِذٍ فَمَحَلُّ الِاخْتِلَافِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ مَا عَدَا العُّلُوَّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعُلُوُّ أَفْضَلُ، وَطَلَبُهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ - مِنْ عُلُوِ هِمَّةِ الْمُحَدِّثِ، وَنُبْلِ قَدْرِهِ، وَجَزَالَةِ رَأْيِهِ.

    وَلِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ النَّقْلِ عَلَى طَلَبِهِمْ لَهُ، وَمَدْحِهِمْ إِيَّاهُ، حَتَّى إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُورِدْ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ; لِكَوْنِهِ لَا يَصِلُ لِمَالِكٍ مِنْ طَرِيقِهِ إِلَّا بِوَاسِطَتَيْنِ، وَهُوَ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِإِدْرَاكِهِ أَصْحَابَهُ كَالْقَعْنَبِيِّ، فَلَمْ يَرَ النُّزُولَ مَعَ إِمْكَانِ الْعُلُوِّ.

    وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَلَى شُعَيْبٍ; إِذْ كَانَ مِنْ أَحْسَنِ مَا أَدْرَكَهُ مِنَ الْإِسْنَادِ، وَأَقَلَّ مِنَ الرِّوَايَةِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ; لِأَنَّ أَكْثَرَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَقَعَ لَهُ بِنُزُولٍ، عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُمْ تِلْمِيذُهُ مُسْلِمٌ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ; كَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَدَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، وَسُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعَبَّادِ بْنِ مُوسَى الْخُتُلِّيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ.

    مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ رَوَى عَنْهُ بِدُونِهَا; إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ إِلَّا مِنْهُمْ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا بَسَطْتُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَقِيلَ لِابْنِ مَعِينٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: بَيْتٌ خَالٍ، وَإِسْنَادٌ عَالٍ.

    (وَ) قَدْ (قَسَّمُوهُ); أَيْ: قَسَّمَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَابَعَهُمَا الْعُلُوَّ (خَمْسَةً) مِنَ الْأَقْسَامِ، مَعَ اخْتِلَافِ كَلَامَيِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي مَاهِيَّةِ بَعْضِهَا، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى عُلُوِّ مَسَافَةٍ، وَهُوَ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ، وَإِلَى عُلُوِّ صِفَةٍ.

    [أَجْلُّ الْعُلُوِّ الْقُرْبُ مِنَ الرَّسُولِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ]: (فَالْأَوَّلُ) مِنَ الْأَقْسَامِ مِمَّا هُوَ عُلُوُّ مَسَافَةٍ عُلُوٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا فِيهِ (قُرْبٌ) مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ (مِنَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ بِالنَّظَرِ لِسَائِرِ الْأَسَانِيدِ، وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَنَدٍ آخَرَ فَأَكْثَرَ يَرِدُ بِهِ ذَلِكَ الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ، عَدَدُهُ أَكْثَرُ.

    (وَ) هَذَا الْقِسْمُ (هُوَ الْأَفْضَلُ) الْأَجَلُّ مِنْ بَاقِي أَقْسَامِهِ، وَأَعْلَى مِنْ سَائِرِ الْعَوَالِي، وَلَكِنْ مَحَلُّهُ (إِنْ صَحَّ الْإِسْنَادُ) بِالنَّقْلِ; لِأَنَّ الْقُرْبَ مَعَ ضَعْفِهِ بِسَبَبِ بَعْضِ رُوَاتِهِ لَا اعْتِدَادَ بِهِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، خُصُوصًا إِنِ اشْتَدَّ الضَّعْفُ حَيْثُ كَانَ مِنْ طَرِيقِ بَعْضِ الْكَذَّابِينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا السَّمَاعَ مِنَ الصَّحَابَةِ; كَأَبِي هُدْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هُدْبَةَ، وَخِرَاشٍ، وَدِينَارٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَغْرِبِيِّ أَبِي الدُّنْيَا الْأَشَجِّ، وَكَثِيرِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَمُوسَى الطَّوِيلِ، وَنَافِعٍ أَبِي هُرْمُزٍ، وَنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ، وَيُسْرٍ مَوْلَى أَنَسٍ، وَيَعْلَى بْنَ الْأَشْدَقِ، وَيَغْنَمَ بْنِ سَالِمٍ، وَأَبِي خَالِدٍ السَّقَّاءِ.

    أَوِ ادَّعَى فِيهِمُ الصُّحْبَةَ; كَجُبَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ مَحْمُودٍ الْمَارِدِينِيِّ، وَرَتَنٍ وَسَرِبَاتِكَ الْهِنْدِيَّيْنِ، وَمَعْمَرٍ، وَنَسْطُورَ أَوِ ابْنِ نَسْطُورَ الرُّومِيِّ، وَيُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحَابَةِ.

    وَقَدْ أَنْشَدَ الْحَافِظُ السِّلَفِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ قَوْلَهُ:

    حَدِيثُ ابْنِ نَسْطُورٍ وَيُسْرٍ وَيَغْنَمَ ... وَقَوْلُ أَشَجَّ الْغَرْبِ ثُمَّ خِرَاشِ وَنُسْخَةُ دِينَارٍ وَأَخْبَارُ تِرْبِهِ

    أَبِي هُدْبَةَ الْبَصْرِيِّ شِبْهُ فَرَاشِ.

    وَعَزَّزَهُمَا مُحَمُّدُ بْنُ جَابِرِ الْوَادِي آشِي بِثَالِثٍ:

    رَتَنٌ ثَامِنٌ وَالْمَارِدِينِيُّ تَاسِعٌ ... رَبِيعُ بْنُ مَحْمُودٍ وَذَلِكَ فَاشِ

    وَلَوْ قَالَ: كَذَا رَتَنٌ، لَكَانَ أَصْلَحَ.

    وَقَدْ نَظَمَ غَالِبَ الصِّنْفَيْنِ الْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ فَقَالَ:

    إِذَا جَاءَ مَرْفُوعًا حَدِيثٌ لِسِتَّةٍ ... فَعُدْ وَلَا تَقْبَلْ فَذَاكَ تَخَرُّصُ رَتَنٍ وَابْنِ نَسْطُورٍ وَيُسْرٍ مَعْمَرٍ

    وَسَرِبَاتِكَ ثُمَّ الرَّبِيعِ الْمُقَلِّصُ وَلَا تَقْبَلُوا عَنْ صَاحِبٍ قَوْلَ نَجْدَةً ... أَبِي خَالِدٍ السَّقَّا وَيَغْنَمَ فَاحْرِصُوا وَيُسْرٍ وَدِينَارٍ خِرَاشٍ أَشَجَّ مَعَ

    فَتَى بَكْرٍ دَارَ ابْنٌ لِهُدْبَةَ يَرْقُصُ

    وَتَمْيِيزُ صَحِيحِ الْعَالِي مِنْ سَقِيمِهِ يَعْسُرُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ، وَيَسْهُلُ عَلَى الْعَارِفِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مِيزَانِهِ: مَتَى رَأَيْتَ الْمُحَدِّثَ يَفْرَحُ بِعَوَالِي أَبِي هُدْبَةَ - وَسَمَّى غَيْرَهُ مِمَّنْ سَمَّيْنَاهُمْ وَأَضْرَابِهِمْ - فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَامِّيٌّ بَعْدُ.

    وَسَبَقَهُ صَاحِبُ (شَرَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ) فَقَالَ تَبَعًا لِلْحَاكِمِ وَالْخَلِيلِيِّ: لَيْسَ الْعَالِي مِنَ الْإِسْنَادِ مَا يَتَوَهَّمُهُ عَوَامُّ النَّاسِ، يَعُدُّونَ الْأَسَانِيدَ فَمَا وَجَدُوا مِنْهَا أَقْرَبَ عَدَدًا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَهَّمُونَهُ أَعْلَى، كَنُسْخَةِ الْخَضِرِ بْنِ أَبَانَ عَنْ أَبَانَ عَنْ أَبِي هُدْبَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَنُسْخَةِ خِرَاشٍ، وَسَمَّى بَعْضَ مَا ذُكِرَ، وَهَذِهِ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يُوجَدُ فِي مَسَانِيدَ الْعُلَمَاءِ مِنْهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ.

    قَالُوا: وَأَقْرَبُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْأَسَانِيدِ بِعَدَدِ الرِّجَالِ نُسْخَةُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ كُلٍّ مِنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَحُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ. انْتَهَى.

    وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ شَيْخَ شُيُوخِنَا السَّرَّاجَ بْنَ الْمُلَقِّنِ مَعَ جَلَالَتِهِ عَقَدَ مَجْلِسَ الْإِمْلَاءِ، فَأَمْلَى - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - الْمُسَلْسَلَ بِالْأَوَّلِيَّةِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى أَحَادِيثِ خِرَاشٍ وَأَضْرَابِهِ مِنَ الْكَذَّابِينَ فَرِحًا بِعُلُوِّهَا.

    قَالَ شَيْخُنَا: (وَهَذَا مِمَّا يَعِيبُهُ أَهْلُ النَّقْدِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ النُّزُولَ حِينَئِذٍ أَوْلَى; لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ كَالْعَدَمِ). انْتَهَى.

    وَأَعْلَى مَا يَقَعُ لَنَا مِنْ بَيْنِ الْقُدَمَاءِ مِنْ شُيُوخِنَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَشَرَةَ أَنْفُسٍ، وَذَلِكَ مِنَ الْغَيْلَانِيَّاتِ، وَجُزْءِ الْأَنْصَارِيِّ، وَجُزْءِ ابْنِ عَرَفَةَ، وَجُزْءِ الْغِطْرِيفِ، وَغَيْرِهَا، بَلْ وَتَقَعُ لِي الْعُشَارِيَّاتُ بِالسَّنَدِ الْمُتَمَاسِكِ مِنْ (الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ) لِلطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ الْآنَ فِي الدُّنْيَا أَقَلُّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ.

    وَكَذَا وَقَعَتِ الْعُشَارِيَّاتُ لِشَيْخِي بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَمَاسِكَةِ، وَلِشُيُوخِهِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمْلَى مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا، وَخَرَّجَ مِنْهَا مِنْ مَرْوِيَّاتِ شَيْخِهِ التَّنُوخِيِّ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، وَمِنْ مَرْوِيَّاتِ شَيْخِهِ الْمُصَنِّفِ سِتِّينَ كَمَّلَ بِهَا الْأَرْبَعِينَ الَّتِي كَانَ الشَّيْخُ خَرَّجَهَا لِنَفْسِهِ.

    وَأُفْرِدَتِ التُّسَاعِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِ شُيُوخِنَا; كَالْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ جُمَاعَةَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَيَانِيِّ. وَكَذَا لِأَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اللَّخْمِيِّ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي حَيَّانَ التُّسَاعِيَّاتُ.

    وَأُفْرِدَتِ الثَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَاسِطَتَانِ; كَالنَّجِيبِ الْحَرَّانِيِّ وَمُؤْنِسَةَ خَاتُونَ، وَكَذَا لِلرَّشِيدِ الْعَطَّارِ وَالضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ.

    وَالسُّبَاعِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ثَلَاثَةُ وَسَائِطَ; كَأَبِي جَعْفَرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ.

    وَالسُّدَاسِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ خَمْسَةٌ; كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ وَزَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ.

    وَالْخُمَاسِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ خَمْسَةٌ أَيْضًا; كَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ النَّقُّورِ وَزَاهِرٍ أَيْضًا.

    وَأُفْرِدَتْ مِنْ (سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ) وَالرُّبَاعِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سَبْعَةٌ; كَأَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ أَعْلَى مَا فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَ (أَبِي عَوَانَةَ) وَ (السُّنَنِ) لِلنَّسَائِيِّ.

    وَأَمَّا الثُّلَاثِيَّاتُ، فَفِي مُسْنَدِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْهَا جُمْلَةٌ، وَكَذَا الْكَثِيرُ فِي (مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ)، وَمَا يَنِيفُ عَنْ عِشْرِينَ حَدِيثًا فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)، وَلَيْسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْهَا مَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَحَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي كُلٍّ مِنْ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَخَمْسَةُ أَحَادِيثَ فِي ابْنِ مَاجَهْ، لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ بَعْضِ الْمُتَّهَمِينَ. وَفِي مَعَاجِمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْهَا الْيَسِيرُ.

    وَالثُّنَائِيَّاتُ فِي (مُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ)، وَلِلْوُحْدَانِ فِي حَدِيثِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ بِسَنَدٍ غَيْرِ مَقْبُولٍ; إِذِ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

    [الْعُلُوُّ بِالْقُرْبِ إِلَى إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ] :

    (وَ) الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ: عُلُوٌّ نِسْبِيٌّ، وَهُوَ (قِسْمُ الْقُرْبِ إِلَى إِمَامٍ) مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ مِنْ حِفْظٍ وَفِقْهٍ وَضَبْطٍ; كَالْأَعْمَشِ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُشَيْمٍ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنِ التَّابِعِينَ، وَكَذَا مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ كَمَا سَلَفَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَقَلُّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ بِالسَّنَدِ الْجَيِّدِ تِسْعَةُ وَسَائِطَ، إِلَّا هُشَيْمًا فَثَمَانِيَةٌ، وَحَدِيثُهُ فِي جُزْءِ ابْنِ عَرَفَةَ.

    ثُمَّ سَوَاءٌ كَانَ الْعَدَدُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ ذَاكَ الْإِمَامِ إِلَى مُنْتَهَاهُ عَالِيًا; كَابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ كُلٍّ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَحُمَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسٍ، أَوْ نَازِلًا كَابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَكِنَّهُ فِي الْعَالِي الْغَايَةُ الْقُصْوَى.

    وَقَدْ أَدْرَجَ شَيْخُنَا فِي هَذَا الْقِسْمِ الْعُلُوَّ إِلَى صَاحِبِ تَصْنِيفٍ; كَالصَّحِيحَيْنِ، وَالْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا بَيْنِي وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةُ وَسَائِطَ، بَلْ وَفِي بَعْضِهَا أَقَلُّ، وَأَفْرَدَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي قِسْمٍ مُسْتَقِلٍّ.

    وَكَذَا ابْنُ طَاهِرٍ فِي تَصْنِيفِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ، لَكِنَّهُ جَعَلَهُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْعُلُوُّ إِلَى صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي زُرْعَةَ، وَثَانِيهُمَا إِلَى ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَالْخَطَّابِيِّ وَأَشْبَاهِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ حَدِيثِ هَؤُلَاءِ يَقَعُ لَنَا بِعُلُوٍّ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِمْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَالِيًا عِنْدَهُمْ أَيْضًا.

    [الْعُلُوُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُتُبِ السِّتَّةِ] :

    (وَ) الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ، وَلَمْ يَفْصِلْهُ شَيْخُنَا عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ طَاهِرٍ إِلَّا ضِمْنًا: (عُلُوٌّ نِسْبِي)، لَكِنْ مُقَيَّدٌ أَيْضًا (بِنِسْبَةٍ لِلْكُتُبِ السِّتَّةِ) الَّتِي هِيَ: الصَّحِيحَانِ وَالسُّنَنُ الْأَرْبَعَةُ خَاصَّةً، لَا مُطْلَقُ الْكُتُبِ عَلَى مَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ، وَلِذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ قَيَّدَهُ بِالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْجَمَّالُ بْنُ الظَّاهِرِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ; حَيْثُ اسْتَعْمَلُوهُ بِالنِّسْبَةِ لِـ (مُسْنَدِ أَحْمَدَ) وَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ.

    (إِذْ يَنْزِلُ مَتْنٌ مِنْ طَرِيقِهَا أُخِذْ); أَيْ: نُقِلَ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقَعَ لَنَا حَدِيثٌ فِي (فَوَائِدِ الْخِلَعِيِّ) مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَهَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ تِسْعَةٌ، فَهُوَ أَعْلَى مِمَّا لَوْ رُوِّينَاهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ; لِأَنَّ مِنَّا إِلَى كُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَوْ مَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ ثَمَانِيَةً، وَهُوَ وَشَيْخُهُ الَّذِي هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ اثْنَانِ، فَصَارَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَشْرَةٌ.

    عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا يَكُونُ عَالِيًا مُطْلَقًا أَيْضًا; كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: («يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٍ» ); فَإِنَّا لَوْ رَوَيْنَا مِنْ جُزْءِ ابْنِ عَرَفَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا نَرْوِيهِ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ عَنْ خَلَفٍ مَعَ كَوْنِهِ عُلُوًّا مُطْلَقًا; إِذْ لَا يَقَعُ هَذَا الْحَدِيثُ الْيَوْمَ لِأَحَدٍ أَعْلَى مِنْ رِوَايَتِنَا لَهُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ.

    وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الْمُوَافَقَاتُ وَسَائِرُ مَا أَسْلَفْتُهُ فِي أَصْلِ التَّرْجَمَةِ.

    الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ

    (741) فَإِنْ يَكُنْ فِي شَيْخِهِ قَدْ وَافَقَهْ ... مَعَ عُلُوٍّ فَهُوَ الْمُوَافَقَهْ

    (742) أَوْ شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَاكَ فَالْبَدَلْ ... وَإِنْ يَكُنْ سَاوَاهُ عَدًّا قَدْ حَصَلْ

    (743) فَهْوَ الْمُسَاوَاةُ وَحَيْثُ رَاجَحَهْ ... الْأَصْلُ بِالْوَاحِدِ فَالْمُصَافَحَهْ

    [الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ]: (فَإِنْ يَكُنْ) الْمُخَرِّجُ (فِي شَيْخِهِ); أَيْ: شَيْخِ أَحَدِ السِّتَّةِ، (قَدْ وَافَقَهْ)، كَأَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ مَثَلًا أَوْرَدَ حَدِيثًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، فَنُخْرِجُهُ نَحْنُ مِنْ جُزْءِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَشْهُورِ، وَذَلِكَ (مَعَ عُلُوٍّ) بِدَرَجَةٍ كَمَا هُنَا، وَقَدْ يَكُونُ بِأكْثَرَ عَمَّا لَوْ رَوَيْنَاهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ، (فَهُوَ الْمُوَافَقَهْ); إِذْ قَدِ اتَّفَقَا فِي الْأَنْصَارِيِّ.

    أَوْ إِنْ يَكُنِ الْمُخَرِّجُ وَافَقَ أَحَدَ أَصْحَابِ السِّتَّةِ فِي (شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَاكَ); أَيْ: مَعَ عُلُوٍّ بِدَرَجَةٍ فَأَكْثَرَ; كَحَدِيثٍ يُورِدُهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَنُخْرِجُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَدَنِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَهُوَ أَيْضًا الْمُوَافَقَةُ، لَكِنْ مُقَيَّدَةٌ، فَيُقَالُ: مُوَافَقَةٌ فِي شَيْخِ شَيْخِ فُلَانٍ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (فَـ) هُوَ (الْبَدَلْ); لِوُقُوعِهِ مِنْ طَرِيقِ رَاوٍ بَدَلَ الرَّاوِي الَّذِي أَوْرَدَهُ أَحَدُ أَصْحَابِ السِّتَّةِ مِنْ جِهَتِهِ.

    وَمِنْ لَطِيفِ الْمُوَافَقَةِ وَعَزِيزِهَا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَاهُ عَنْ شَيْخٍ غَيْرِ شَيْخِ الْآخَرِ فِيهِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:

    مِنْهَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الطَّلْحِيُّ، ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْقَطَوَانِيُّ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، ثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَفَعَهُ: («إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ» ); فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيَّ رَوَاهُ عَنِ الْقَطَوَانِيِّ، فَوَقَعَ لَنَا مُوَافَقَةٌ لَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ شَيْخَيْهِمَا.

    وَأَمَّا مَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ فِي شَيْخٍ يَرْوِيَانِ عَنْهُ، فَكَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَثِيرٌ، يَعْنِي لِاتِّفَاقِهِمَا، بَلْ وَكَذَا بَقِيَّةُ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ كَثِيرِينَ، وَقَدْ نَظَمَهُمُ الذَّهَبِيُّ فَقَالَ:

    بُنْدَارٌ ابْنُ الْمُثَنَّى الْجَهْضَمِيُّ أَبُو ... سَعِيدٍ عَمْرٌو وَقَيْسِيُّ وَحَسَّانِي يَعْقُوبُ وَالْعَنْبَرِيُّ الْجَوْهَرِيُّ هُمُ

    مَشَايِخُ السِّتَّةِ أَعْرِفُهُمْ بِإِحْسَانِ

    فَبُنْدَارٌ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ الْمُثَنَّى هُوَ أَبُو مُوسَى مُحَمَّدٌ، وَالْجَهْضَمِيُّ هُوَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو سَعِيدٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، وَالْقَيْسِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، وَالْحَسَّانِيُّ هُوَ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، وَيَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَالْجَوْهَرِيُّ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، وَلَكِنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

    وَالْجَوْهَرِيُّ لَمْ تَقَعْ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَسَاكِرَ وَمَنْ تَبِعَهُ فِيمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ، وَقَدْ ذَيَّلَ الْبَدْرُ بْنُ سَلَامَةَ الْحَنَفِيُّ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ:

    وَأَبُو كُرَيْبٍ رَوَوْا عَنْهُ بِأَجْمَعِهِمْ ... وَالْفِيرَيَابِيُّ قَلَّ شَيْخٌ لَهُمْ ثَانِ.

    ثُمَّ إِنَّ الْمُخَرِّجِينَ لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْبَدَلِ إِلَّا مَعَ الْعُلُوِّ، وَحَيْثُ فُقِدَ فَلَا يَلْتَفِتُونَ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَكِنْ قَدْ أَطْلَقَهُ فِيهِمَا مَعَ التَّسَاوِي فِي الطَّرِيقَيْنِ ابْنُ الظَّاهِرِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنْ عَلَا قِيلَ: مُوَافَقَةً عَالِيَةً أَوْ بَدَلًا عَالِيًا، وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: وَأَكْثَرُ مَا يَعْتَبِرُونَ الْمُوَافَقَةَ وَالْبَدَلَ إِذَا قَارَنَّا الْعُلُوَّ، وَإِلَّا فَاسْمُ الْمُوَافَقَةِ وَالْبَدَلِ وَاقِعٌ بِدُونِهِ. انْتَهَى.

    بَلْ فِي كَلَامِ ابْنِ الظَّاهِرِيِّ وَالذَّهَبِيِّ اسْتِعْمَالُ الْمُوَافَقَةِ فِي النُّزُولِ، لَكِنْ مُقَيَّدًا، كَمَا قُيِّدَتْ فِي الْعُلُوِّ، فَيُقَالُ: مُوَافَقَةٌ نَازِلَةٌ.

    [الْمُسَاوَاةُ وَالْمُصَافَحَةُ]: (وَإِنْ يَكُنْ) الْمُخَرِّجُ (سَاوَاهُ); أَيْ: سَاوَى أَحَدَ أَصْحَابِ السِّتَّةِ (عَدًّا قَدْ حَصَلْ); أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْعَدِّ، بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُخَرِّجِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرْفُوعِ، أَوِ الصَّحَابِيِّ فِي الْمَوْقُوفِ، أَوِ التَّابِعِيِّ فِي الْمَقْطُوعِ، أَوْ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ، كَمَا بَيْنَ أَحَدِ السِّتَّةِ وَبَيْنَ أَحَدِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْعَدَدِ، سَوَاءٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُلَاحَظَةِ ذَاكَ الْإِسْنَادِ الْخَاصِّ.

    (فَهُوَ الْمُسَاوَاةُ) لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْعَدَدِ، وَهِيَ مَفْقُودَةٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ وَمَا قَارَبَهَا بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ.

    نَعَمْ، يَقَعُ لَنَا ذَلِكَ مَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ; كَالْبَيْهَقِيِّ وَالْبَغَوِيِّ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) وَنَحْوِهِمَا، بَلْ وَقَدْ وَقَعَتْ لِي الْمُسَاوَاةُ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِ السِّتَّةِ فِي مُطْلَقِ الْعَدَدِ، لَا فِي مَتْنٍ مُتَّحِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّنِي - كَمَا قَدَّمْتُ - بَيْنِي وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَشَرَةُ رُوَاةٍ.

    وَكَذَا وَقَعَ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السِّتَّةِ حَدِيثٌ عُشَارِيٌّ، فَقَالَا: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَقُتَيْبَةُ، قَالَا: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ زَائِدَةَ.

    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ وَيُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ امْرَأَةٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (« {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُلُثٌ الْقُرْآنِ») .

    وَقَالَ النَّسَائِيُّ عَقِبَهُ: لَا أَعْرِفُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِسْنَادًا أَطْوَلَ مِنْ هَذَا. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ عِنْدِ النَّسَائِيِّ أَيْضًا مِثَالٌ لِهَذَا.

    (وَ) أَمَّا (حَيْثُ رَاجَحَهُ الْأَصْلُ); أَيْ: زَادَ أَحَدُ أَصْحَابِ السِّتَّةِ عَلَى الْمُخَرِّجِ بِالْوَاحِدِ فِي حَدِيثٍ، كَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَحَدِ أَصْحَابِ السِّتَّةِ وَصَاحِبِ الْخَبَرِ عَشْرَةٌ مَثَلًا، وَبَيْنَ الْمُخَرِّجِ وَبَيْنَهُ أَحَدَ عَشَرَ، بِحَيْثُ يَسْتَوِي مَعَ تِلْمِيذِهِ، وَيَكُونُ شَيْخُ الْمُخَرِّجِ مُسَاوِيًا لِأَحَدِ الْمُصَنِّفِينَ، فَهُوَ الْمُسَاوَاةُ لِلشَّيْخِ.

    وَ (الْمُصَافَحَهْ) لِلْمُخَرِّجِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي الْغَالِبِ بِالْمُصَافَحَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ، وَالْمُخَرِّجُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَأَنَّهُ لَاقَى أَحَدَ أَصْحَابِ السِّتَّةِ، فَكَأَنَّهُ صَافَحَهُ.

    فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ لِشَيْخِ شَيْخِهِ كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِهِ أَوْ لِشَيْخِ شَيْخِ شَيْخِهِ، فَالْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِ شَيْخِهِ، وَالْمُخَرِّجُونَ غَالِبًا يُنَبِّهُونَ عَلَى ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِيهِ وَتَنْشِيطًا لِطَالِبِيهِ، فَيَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: فَكَأَنِّي سَمِعْتُ فُلَانًا - وَيُسَمِّي ذَلِكَ الْمُصَنِّفَ الَّذِي وَقَعَ التَّصَافُحُ مَعَهُ - وَصَافَحْتُهُ.

    وَحِينَئِذٍ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ إِذَا ذَكَرْتَهُ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِكَ أَوْ شَيْخِ شَيْخِكَ، بَيْنَ أَنْ تُعَيِّنَهُ بِأَنْ تَقُولَ: وَكَأَنَّ شَيْخِي أَوْ شَيْخَ شَيْخِي، أَوْ تَقُولَ: فَكَأَنَّ فُلَانًا، فَقَطْ.

    قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ فِي الْمُسَاوَاةِ وَالْمُصَافَحَةِ الْوَاقِعَتَيْنِ لَكَ لَا يَلْتَقِي إِسْنَادُكَ وَإِسْنَادُ الْمُصَنِّفِ إِلَّا بَعِيدًا عَنْ شَيْخِهِ، فَيَلْتَقِيَانِ فِي الصَّحَابِيِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ الَّتِي تَذْكُرُهَا لَيْسَتْ لَكَ بَلْ لِمَنْ فَوْقَكَ مِنْ رِجَالِ إِسْنَادِكَ أَمْكَنَ الْتِقَاءُ الْإِسْنَادَيْنِ فِيهَا فِي شَيْخِ الْمُصَنِّفِ، وَدَاخَلَتِ الْمُصَافَحَةُ حِينَئِذٍ الْمُوَافَقَةَ; فَإِنَّ مَعْنَى الْمُوَافَقَةِ رَاجِعٌ إِلَى مُسَاوَاةٍ وَمُصَافَحَةٍ مَخْصُوصَةٍ; إِذْ حَاصِلُهَا أَنَّ بَعْضَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُوَاةِ إِسْنَادِكَ الْعَالِي سَاوَى أَوْ صَافَحَ ذَاكَ الْمُصَنِّفَ; لِكَوْنِهِ سَمِعَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِمَا مَعَ تَأَخُّرِ طَبَقَتِهِ عَنْ طَبَقَتِهِمَا.

    قَالَ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعُلُوِّ عُلُوٌّ تَابِعٌ لِنُزُولٍ; إِذْ لَوْلَا نُزُولُ ذَلِكَ الْإِمَامِ فِي إِسْنَادِهِ لَمْ تَعْلُ أَنْتَ فِي إِسْنَادِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ بِمَرْوَ عَلَى شَيْخِهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ الْأَرْبَعِينَ لِأَبِي الْبَرَكَاتِ الْفُرَاوِيِّ، وَمَرَّ فِيهَا فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ هُوَ أَوْ شَيْخُهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ.

    قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ: (إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِعَالٍ، وَلَكِنَّهُ لِلْبُخَارِيِّ نَازِلٌ) .

    قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَهَذَا حَسَنٌ لَطِيفٌ يَخْدِشُ وَجْهَ هَذَا الْنَوْعِ مِنَ الْعُلُوِّ) .

    لَكِنْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ مَعَ عُلُوِّهِ النِّسْبِيِّ عَالِيًا لِذَاكَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا.

    وَذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: (إِنْ يَتَأَخَّرْ رَفِيقُ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ فِي سَمَاعِهِ عَنْهُ فِي الْوَفَاةِ، ثُمَّ يَسْمَعُ مِنْهُ مَنْ تَتَأَخَّرُ وَفَاتُهُ، فَيَحْصُلُ لِلْمُخَرِّجِ الْمُوَافَقَةُ الْعَالِيَةُ مِنْ غَيْرِ نُزُولٍ لِذَاكَ الْمُصَنِّفِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مِنَ الْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ) .

    وَقَدْ أَفْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْحُفَّاظِ كَثِيرًا مِنَ الْمُوَافَقَاتِ وَالْأَبْدَالِ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا كِتَابُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ، وَهُوَ ضَخْمٌ أَنْبَأَ عَنْ تَبَحُّرِهِ فِي هَذَا الْفَنِّ، وَكَذَا خَرَّجَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُسَاوَاةَ وَالْمُصَافَحَةَ.

    وَذَكَرَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِمَّا وَقَعَ لَهُ فِيهَا الْمُصَافَحَةُ، بَلْ وَذَكَرَ فِيهَا شَبِيهًا بِالْمُوَافَقَةِ الْمَاضِيَةِ; فَإِنَّهُ قَرَّرَ أَنَّ كُتُبَ الْخَطَّابِيِّ وَشِبْهِهِ عِنْدَهُ بِوَاسِطَتَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصَنِّفِهَا، وَأَجَلُّ شَيْخٍ لِلْخَطَّابِيِّ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَهُ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ.

    ثُمَّ إِنَّ الْمُصَافَحَةَ مَفْقُودَةٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَدْ وَقَعَتْ لِقُدَمَاءِ شُيُوخِنَا، فَأَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُحَمَّدِ ابْنَةُ عُمَرَ بْنِ جُمَاعَةَ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ أَبُو حَفْصٍ الْمِزِّيُّ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّعْدِيُّ مُشَافَهَةً عَنْ عَفِيفَةَ ابْنَةِ أَحْمَدَ، قَالَتْ: أَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ اللَّخْمِيُّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ وَيُوسُفُ الْقَاضِي، قَالَ الْأَوَّلُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَقَالَ الثَّانِي: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَا، وَاللَّفْظُ لِأَوَّلِهِمَا: ثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ سَبْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: («أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُتْعَةِ» ). الْحَدِيثَ.

    وَفِيهِ: (ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: («مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَمَتَّعُ بِهِنَّ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا» ). هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مَعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ، فَوَقَعَ لَنَا بَدَلًا لَهُمَا عَالِيًا، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ جِهَةِ مَالِكٍ.

    وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي جَمْعَةٍ لِحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى خَيَّاطِ السُّنَّةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَبْثَرَ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ.

    فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَدَدِ، كَأَنَّ شَيْخَتَنَا لَقِيَتِ النَّسَائِيَّ وَصَافَحَتْهُ، وَرَوَتْ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَكِنْ قَدْ نَازَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي التَّمْثِيلِ بِمَا الصَّحَابِيُّ فِيهِ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّرِيقَيْنِ كَمَا وَقَعَ هُنَا، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ رُشَيْدٍ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ، وَقَالَ: بَلِ التَّنْزِيلُ إِلَى التَّابِعِ وَالصَّاحِبِ سَوَاءٌ; إِذِ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْغَايَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا التَّنْزِيلِ، يَعْنِي كَذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي مُعْجَمِ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ، وَعَمِلَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ عِنْدَ الْمَشَارِقَةِ مَعْرُوفَةٌ، مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ مَنْ أَنْكَرَهَا. انْتَهَى.

    وَسَمَّاهُ تَنْزِيلًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْزِيلِ رَاوٍ مَكَانَ آخَرَ، وَكَذَا سَمَّاهُ عَصْرِيُّهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهِ، وَجَعَلَهُ قِسْمًا مُسْتَقِلًا، فَقَالَ: وَعُلُوُّ التَّنْزِيلِ وَهُوَ الَّذِي يُولَعُونَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةَ أَنْفُسٍ، وَيَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْمُصَنِّفِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَةٌ مَثَلًا، فَيَنْزِلُ هَذَا الْمُصَنِّفِ مَنْزِلَةَ شَيْخِ شَيْخِنَا.

    عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى

    (744) ثُمَّ عُلُوُّ قِدَمِ الْوَفَاةِ ... أَمَّا الْعُلُوُّ لَا مَعَ الْتِفَاتِ.

    (745) لِآخَرٍ فَقِيلَ لِلْخَمْسِينَا

    أَوِ الثَّلَاثِينَ مَضَتْ سِنِينَا.

    [عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى] :

    (ثُمَّ) حَيْثُ انْقَضَتِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ عُلُوُّ الْمَسَافَةِ، فَلْنَشْرَعْ فِي عُلُوِّ الصِّفَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ بِالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَغَارِبَةِ: بَابٌ مُتَّسِعٌ، وَمَدَارُهُ عَلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الشَّأْنِ فِي أَنْ يُصَحِّحَ بَعْضُهُمْ مَا لَا يُصَحِّحُ الْآخَرُ; إِذْ قُطْبُ دَائِرَتِهِ الظَّنُّ، وَأَهَمُّهُ مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الرَّاوِي، كَأَنْ يَكُونَ أَفْقَهَ، أَوْ أَحْفَظَ، أَوْ أَتْقَنَ، أَوْ أَضَبَطَ، أَوْ أَكْثَرَ مُجَالَسَةً لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ أَقْدَمَ سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ وَفَاةً، قَالَ: وَعُلُوُّ الصِّفَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِالْأَنْدَلُسِ أَرْجَحُ مِنْ عُلُوِّ الْمَسَافَةِ خِلَافًا لِلْمَشَارِقَةِ، يَعْنِي الْمُتَأَخِّرِينَ.

    وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ نَوْعٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى بِالنِّسْبَةِ لِبَاقِي الْفُنُونِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا: وَقَدْ عَظُمَتْ رَغْبَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ، حَتَّى غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ أَهْمَلُوا الِاشْتِغَالَ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ.

    وَسَبَقَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: وَقَدْ عَظُمَتْ رَغْبَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي طَلَبِ الْعُلُوِّ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخَلَلٍ كَثِيرٍ فِي الصَّنْعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِعْرَاضُ عَمَّنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ بِتَمْيِيزِهِ إِلَى مَنْ أَجْلَسَ صَغِيرًا لَا تَمْيِيزَ لَهُ، وَلَا ضَبْطَ، وَلَا فَهْمَ; طَلَبًا لِلْعُلُوِّ وَتَقَدُّمِ السَّمَاعِ.

    وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُوَافَقَاتِ وَمَا مَعَهَا: وَقَدْ كَثُرَ اعْتِنَاءُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهَذَا النَّوْعِ، يَعْنِي مُفَرَّقًا وَمَجْمُوعًا عَلَى حِدَةٍ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَسَاكِرَ، قَالَ: وَمِمَّنْ وَجَدْتُهُ فِي كَلَامِهِ الْخَطِيبُ وَبَعْضُ شُيُوخِهِ وَابْنُ مَاكُولَا وَالْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَبَقَتِهِمْ، وَمِمَّنْ جَاءَ بُعْدَهُمْ.

    [عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ الْوَفَاةِ] :

    فَأَوَّلُ أَقْسَامِ عُلُوِّ الصِّفَةِ، وَهُوَ الرَّابِعُ: (عُلُوُّ) الْإِسْنَادِ بِسَبَبِ (قِدَمِ الْوَفَاةِ) فِي أَحَدِ رُوَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِرَاوٍ آخَرَ مُتَأَخِّرِ الْوَفَاةِ عَنْهُ اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ بِعَيْنِهِ، فَسَمَاعُنَا مَثَلًا لِلْبُخَارِيِّ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنِ الْبَهَاءِ أَبِي الْبَقَاءِ السُّبْكِيِّ وَالتَّقِيِّ ابْنِ حَاتِمٍ أَوِ النَّجْمِ بْنِ رَزِينٍ أَوِ الصَّلَاحِ الزِّفْتَاوِيِّ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِمْ أَعْلَى مِنْهُ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنْ عَائِشَةَ ابْنَةِ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي، وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي رِوَايَتِهِمْ لَهُ عَنِ الْحَجَّارِ; لِتَأَخُّرِ وَفَاةِ عَائِشَةَ عَنِ الْجَمِيعِ.

    وَكَذَا سَمَاعُنَا لِمُسْلِمٍ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنِ التَّقِيِّ ابْنِ حَاتِمٍ أَوِ النَّجْمِ الْبَالِسِيِّ أَوِ التَّقِيِّ الدُّجْوِيِّ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِمْ أَعْلَى مِنْهُ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنِ الشَّرَفِ ابْنِ الْكُوَيْكِ، وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي رِوَايَتِهِمْ لَهُ عَنِ الزَّيْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي; لِتَأَخُّرِ وَفَاةِ ابْنِ الْكُوَيْكِ عَنِ الْجَمِيعِ.

    وَمَثَّلَ لَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ شَيْخٍ عَنْ آخَرَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ الْحَاكِمِ أَعْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ شَيْخٍ عَنْ آخَرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَفٍ عَنِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ تَسَاوَى الْإِسْنَادَانِ فِي الْعَدَدِ; لِتَقَدُّمِ وَفَاةِ الْبَيْهَقِيِّ عَلَى ابْنِ خَلَفٍ، فَالْبَيْهَقِيُّ مَاتَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (458 هـ)، وَالْآخَرُ مَاتَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (487

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1