Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

معالم التصوف الإسلامي
معالم التصوف الإسلامي
معالم التصوف الإسلامي
Ebook390 pages2 hours

معالم التصوف الإسلامي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في إطار من العرض البسيط والممتع وغير المخل يعرض الكاتب المعالم الرئيسية للتصوف، ويتنقل بنا من طبيعة التصوف بوصفه علامة إنسانية، إلى التفرقة بين المعاني الكثيرة لمعناه، إلى الفارق بينه وبين أشكال التصوف في الديانات الأخرى، ومحددا طرقه ومذاهبه وأدبه وغيرها من المضوعات ذات الأثرة في هذا المجال.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2010
ISBN9780174121312
معالم التصوف الإسلامي

Related to معالم التصوف الإسلامي

Related ebooks

Related categories

Reviews for معالم التصوف الإسلامي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    معالم التصوف الإسلامي - حامد طاهر

    الغلاف

    معالم التصوف الإسلامي

    تأليف: أ.د. حامد طاهر

    نائب رئيس جامعة القاهرة السابق

    أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم

    logo%e2%80%ad%20%e2%80%acnahda%e2%80%ad%20%e2%80%acgs

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفوظة © لشركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع

    يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو تخزين

    أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصوير أو خلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريح من الناشر.

    الترقيم الدولي: 977- 14- 4010- 1

    رقم الإيداع: 2009 / 19036

    الطبعة الأولى: يناير 2010

    تليفون: 33466434 - 33472864 02

    فاكس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E- mail: publishing@nahdetmisr.com

    NM%e2%80%ad%20%e2%80%acPublishing%e2%80%ad%20%e2%80%acB%e2%80%ad%20%e2%80%acW%e2%80%ad.%e2%80%aceps

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة 

    بسم الله الرحمن الرحيم

    مقدمة

    يتفق الدارسون المحدثون للفلسفة الإسلامية على أن التصوف الإسلامي يعد واحدًا من أهم مجالاتها الرئيسية((1)). ومع ذلك، فإنه يكاد يكون عالمًا مستقلًّا بذاته: فقضاياه ومشكلاته، وحتى لغته ومصطلحاته تتميز بطابع خاص، وتتطلب ممن يتصدى لدراستها أن يبذل جهدًا مضاعفًا في معايشتها عن قرب، واستمرار التأمل فيها لسنوات طويلة((2)).

    وليس التصوف الإسلامي مسألة أو مجموعة مسائل نظرية يسهل الحكم عليها – بعد التحليل المنطقي – بالصواب والخطأ. وإنما هو عبارة عن تجربة روحية بالغة العمق، ترتبط بها ظواهر نفسية، وتصرفات أخلاقية، وتنشأ عنها مواقف فكرية، وإبداعات أدبية وفنية. وفي أثناء ذلك كله: تظل هذه التجربة وثيقة الصلة بالدين الذي استلهمت روحه، وعبرت عن نفسها من خلال قيمه وتعاليمه.

    ثم إن الصوفي ابن بيئته. وهو مهما نزع إلى العالمية يظل مرتبطا بالظروف الاجتماعية والثقافية، وكذلك السياسية والاقتصادية التي نشأ وتطور فيها. بل إن الصوفي عندما ينعزل عن مجتمعه: بجسده، أو بروحه، أو بهما معًا، لكي يمارس على انفراد مجاهداته الخاصة، وينعم وحده بحلاوة نتائجها فإنه ما يلبث أن يعود إلى هذا المجتمع، لكي يخبره بما شاهد: تمامًا كالمحب الذي يريد أن يقول للدنيا كلها إن قلبه من السعادة ينتفض!

    لقد تعرض التصوف الإسلامي – وما زال – لأنواع مختلفة من النقد، والمعارضة، والتجني، والرفض.. ومعظمها مواقف تتناول جوانب من التصوف الإسلامي قد تكون بالفعل عرضة لذلك، ولكنها تتغاضى – في نفس الوقت – عن جوانب أخرى أكثر إشراقًا وإيجابية. ولقد سمعت بنفسي أحد كبار الدعاة المسلمين يهاجم التصوف، في نفس الوقت الذي يستشهد فيه بأقوال الصوفية، مستعيضًا عن ذكر أسمائهم بعبارة: «يقول بعض الصالحين»!

    وهناك من الباحثين من اعتبر التصوف مرضًا مزدوجًا يصيب الفرد، ويصيب المجموع، كما أنه كان» وسيلة من وسائل الأوربيين لاستعمار الشرق، ويأخذ على الغزالي (ت. 505هـ) عدم اكتراثه بسقوط القدس – على عهده – في أيدي الصليبيين، كما يلوم كلًّا من ابن عربي (ت. 638هـ) وابن الفارض (ت632) حيث لم يشيرا إشارة واحدة إلى حروبهم((3))!

    ومن الواضح أن مثل هذه الأحكام تقوم أولًا: على تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، وثانيًا: النظر إلى ظاهرة متعددة الجوانب كالتصوف الإسلامي من جانب واحد فقط، وأخيرًا فإنها تفتقد إلى فهم التجربة الصوفية في حقيقتها الروحية، قبل أن نضعها في إطار الزمان والمكان اللذين يرتبطان بها.

    لذلك فإنه من الضروري أن يتم – بين الحين والآخر – جلاء المفهوم الحقيقي للتصوف، والتعرف على جوانبه المختلفة، ومدى ما حدث لها من تطور.. وتعتبر «المداخل» و «التمهيدات» من أفضل السبل إلى ذلك. لأنها تحاول أن تلم بالظاهرة من جميع – أو معظم – جوانبها، دون أن يقلل ذلك قط من أهمية الدراسات المتخصصة في شخصية ما، أو مسألة بعينها.

    وإذا كان لكل مدخل أو تعريف دافع ينطلق منه، ومنظور عام يحكمه فإن تعريفنا هذا يستجيب لما أصبحنا نلمسه بوضوح من محاولة شبه مقصودة لنزع التصوف الإسلامي من بناء الفكر الإسلامي نفسه، والنظر إليه بعين الازدراء من خلال أعراضه المختلفة في العصور المتأخرة، واعتباره – كما سبقت الإشارة – مرضًا فرديًّا واجتماعيًّا، وعاملًا من عوامل السقوط والتدهور – مع أن حقيقة الأمر قد تكون على العكس من ذلك تمامًا.

    أما المنظور العام، فيقوم على أساس أن التعريف بعلم من العلوم يعني – في رأينا – تبسيط المدخل إليه، وذلك عن طريق التعرف بأبرز من سبقوا إلى دراسته، وأهم مصادره الرئيسية، والوقوف على ظروف نشأته، ومتابعة مراحل تطوره، ثم استعراض بعض قضاياه، والإشارة إلى بعض مشكلاته، وأخيرًا عرض وجهة النظر الأخرى فيه. وينبغي أن يتم ذلك كله، ونحن على صلة قريبة جدًّا من لغة التصوف، التي تعتبر هي الأخرى مدخلًا أساسيًّا لفهم حقائقه، وإدراك مراميه.

    وهذا ما اتبعناه في كتابنا الحالي، الذي أطلقنا عليه «معالم التصوف الإسلامي». وقد قسمناه إلى فصول، يطلّ كل منها على زاوية من زوايا التصوف الإسلامي، وتهدف في مجموعها إلى تكوين تصور واضح لأهم معالم هذا المجال، وما يشتمل عليه من عناصر القوة والضعف معًا.

    وقد حاولنا – بعد هذه المقدمة – في ثمانية وعشرين فصلًا (انظر الفهرس) أن نعرض لأهم جوانب التصوف الإسلامي فيما يشبه البانوراما التي يمكن للقارئ أو الدارس الجديد أن يطل من خلالها إطلالة عامة وخاصة أيضًا على هذا المجال الذي ما زال سوء الفهم والأحكام المسبقة تدور حوله، والسبب في ذلك هو عدم الوقوف عليه في مجمله، قبل أن يدخل إلى تفصيلاته.

    وقد رأينا من تمام أداء الأمانة، أن نشير هنا إلى مجموعة من أهم الدراسات التي سبقتنا في التعريف بالتصوف الإسلامي، ومهدت السبيل إليه:

    - التصوف: الثورة الروحية في الإسلام د. أبو العلا عفيفي

    - الحياة الروحية في الإسلام د. محمد مصطفى حلمي

    - مدخل إلى التصوف الإسلامي د. أبو الوفا التفتازاني

    - تاريخ التصوف الإسلامي (مترجم) د. قاسم غني

    - الفلسفة الصوفية في الإسلام د. عبد القادر محمود

    - التصوف: طريقًا وتجربة ومذهبًا د. محمد كمال جعفر

    - دراسات في التصوف (مترجم) نيكلسون

    - الصوفية في الإسلام (مترجم) نيكلسون

    - نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام: ج3 (التصوف) د. على سامي النشار

    - تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى القرن الثاني د. عبد الرحمن بدوي

    وأخيرًا، نرجو أن تتسع صدور الدارسين الجدد للتصوف الإسلامي لعدة انطباعات، نجملها في الملاحظات التالية:

    أولًا: أن للتصوف الإسلامي لغة خاصة، ومصطلحًا فنيًّا متطورًا للغاية سواء في جودة السبك، أو في القدرة على أداء المعنى. ولا شك أن هذا الجانب يتطلب من دارس التصوف ضرورة التمكن المناسب من لغة هذا المجال ومصطلحه.

    ثانيًا: أن التصوف الإسلامي من التنوع والغنى بحيث يفرض على الدارس الموضوعي أن يتجنب إصدار الأحكام عليه ككل، وأن يكتفي بتقييم الجزء الذي يدرسه على حدة.

    ثالثًا: أن التصوف الإسلامي من أغزر مجالات الفلسفة الإسلامية مادة. وإذا كانت مخطوطاته المتناثرة في مكتبات العالم لم تنشر كلها – أو حتى معظمها – بعد، فإن هذا يضيف للملاحظة السابقة عنصرًا آخر، كما يلقي على دارسي التصوف ضرورة استمرار الكشف عن تلك المخطوطات، ونشرها في صورة علمية محققة.

    رابعًا: أن التصوف الإسلامي مظلوم بين طرفين: أحدهما يتحمس له بدون حدود، بحيث يغلق أذنه تمامًا عن سماع أي كلمة نقد، والثاني يحمل عليه بعنف بالغ، بحيث لا يقبل أن يُذكر من محاسنه شيء! ومن المعروف أن الموقف الحق هو الذي يلتزم بمنهج البحث العلمي المحايد، والمجرد من الإعجاب والتحامل معًا.

    خامسًا: أن التصوف الإسلامي جزء من تراثنا الإسلامي الكبير. وهو من جانب آخر ما زال يعيش في حياة المسلمين المعاصرة.. وكلا الجانبين يتطلب من الدارسين الجدد أن يقبلوا على بحثه باهتمام وجدّ، وأن يحاولوا استخراج ما يحتوي عليه من عناصر إيجابية، دون أن يحجب ذلك إبراز ما فيه من نقاط الضعف أو السلبيات..

    والله ولي التوفيق،،

    حامد طاهر

    1 د. إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية ج2، ص8 – دار المعارف، القاهرة 1983.

    2 ترجع صلتي بالتصوف الإسلامي إلى أكثر من ربع قرن، وقد سجلت رسالتي في الماجستير سنة 1968 بدار العلوم وكان موضوعها «روح القدس في مناصحة النفس لابن عربي: تحقيق ودراسة»، وعندما سافرت إلى فرنسا في بعثة حكومية سجلت رسالة الدكتوراه بجامعة السوربون بعنوان: La structure logique de l’oeuvre de tirmidhi: «البناء المنطقي لأعمال الحكيم الترمذي». وقد أجيزت سنة 1981 وأعترف بأنني خلال هذه الفترة لم أنقطع عن القراءة في التصوف، واكتشاف الجديد فيه كلما قرأت!

    3 المقصود بذلك هو د. عمر فروخ، في كتابه: التصوف في الإسلام ص9، 10. بيروت 1981. وانظر مناقشة المرحوم د. أبو الوفا التفتازاني لمسألة كون التصوف ظاهرة مرضية، في كتابه: المدخل إلى التصوف الإسلامي، ص10 11 -، ط ثالثة – دار الثقافة – القاهرة 1983.

    التصوف ظاهرة إنسانية

    حين يبدأ الدين، أي دين، في الظهور والانتشار، فإن الأرواح التي تنجذب إليه، والعقول التي تقتنع به، والأجسام التي تنخرط في طقوسه وشعائره – تعمل كلها في انسجام وتناغم بدرجة عالية من الصدق والالتزام والتوهج والحماسة. ثم تتوالى الأيام والليالي، وتمر السنوات والعقود فتخمد الجذوة المتوهجة، ويتكاثر الرماد، وتنتشر البرودة في الأطراف، حينئذ يشعر القائمون على أمر الدين بالخطر، فيسرعون بالنفخ فيما تبقى من جذوته لكي يجعلوها تستمر في التوقد والاحمرار.. ولكن هيهات، فإن الأجيال الجديدة تكون قد انغمست في الشئون الدنيوية، ولم تعد تمسك من الدين إلا بمظاهره وشكلياته، وهنا يسرع علماء الدين إلى الاستعانة بحكايات التاريخ، وحجج العقل لكي يرجعوا تلك الجماهير الشاردة إلى سيرة السلف الأولى، فيكثرون من المواعظ، ويضعون المؤلفات، وربما اختلفت مناهجهم وأفكارهم، فتتراكم الآراء والمذاهب حول جوهر الدين، الأمر الذي يخفيه عن العيون أو يكاد!

    هذا هو القانون الذي ينطبق على كل الأديان. وهو كما نلاحظ قانون قاسٍ، لكنه واقعي. فقد تعرضت له الأديان جميعًا، سواء كانت سماوية أو وضعية، والمشكلة الأساسية هنا أن علماء الدين أنفسهم لا يعترفون به، على الرغم من خضوعهم التام لسيطرته، وهم يحاولون دائمًا أن يقاوموا نتائجه، فيكثروا من وضع القواعد، ويفرضوا العديد من التفصيلات، ظانين أنها هي التي يمكن أن تعيد الجذوة الخامدة إلى الاشتعال، بل إنهم قد يلجئون إلى معاقبة الخارجين على تلك القواعد والتفصيلات، التي لم ترد أساسًا في جوهر الدين الأصلي، لكي يمسكوا بالأتباع في دائرة سلطانهم، ومع كل تلك القواعد والقيود فإنهم يستمرون في ممارسة وظائفهم التقليدية داخل المجتمع، دون أن يزعموا أنهم نجحوا في استعادة جذوة الدين الأولى التي كانت متوهجة.

    وفي ظل هذه الظروف، التي تشمل - من ناحية - محاولات رجال الدين إعادة إحياء جذوة في نفوس الأتباع، ومن ناحية أخرى، انصراف الجماهير إلى مشاغل حياتهم اليومية – يظهر عدد من الأفراد، الذين يشكلون مجموعة الجماعة الصوفية، فيقتحمون التجربة الدينية على أساس فردي، وبنفس الأسلوب والروح اللذين بدأ بهما الدين في مرحلته الأولى. وهكذا فإن الصوفي هو ذلك الإنسان الذي يخرج من بين الجموع المتمسكة بالدين الشكلي، لكي يلقي بنفسه – بعد أن يتجرد من مشاغل الدنيا ومباهج الحياة المادية – في أعماق تجربة صعبة، بل شديدة الصعوبة، يتحمل فيها الكثير من الصدمات، ويتجاوز العديد من العقبات التي لا يجرؤ عامة الناس على تجاوزها. ومن العجيب أنه يفعل ذلك بين هجوم رجال الدين، ودهشة الجماهير.. دون أن يتعاطف معه أيّ منهما!!

    إن خوض تلك التجربة الصوفية على نحو فردي، أو من خلال مجموعة محدودة من الأفراد – قد وُجد في كل الأديان، ويكاد يكون هو رد الفعل الطبيعي لخمود جذوة الإيمان الأولى في النفوس نتيجة مرور الزمن، وانشغال الناس بأمور دنياهم، سواء كانت قاسية أو مرفهة. ويمكن القول باطمئنان: إن غياب هذه الحقيقة من عقول المستشرقين الذين درسوا التصوف الإسلامي هو أحد أهم الأسباب التي دفعتهم لمحاولة البحث هنا أو هناك عن مصدر أجنبي للتصوف الإسلامي، وخاصة في الأديان السماوية أو الوضعية السابقة على الإسلام. ولو كانوا منصفين لأدركوا أن ظاهرة التصوف قد وجدت في كل الأديان بدون استثناء؛ في اليهودية ظهرت طائفة القبّالة، وفي المسيحية ظهر العديد من القديسين الصوفيين والصوفيات، وفي البوذية يوجد الكثير من عناصر التصوف الخالص.. ولم يقل أحد بأن هذه الظاهرة الصوفية قد انتقلت من أحد تلك الأديان إلى الآخر، وإنما الذي كان يهم المستشرقين هو محاولتهم المستميتة إرجاع التصوف الإسلامي بالذات إلى مصدر سابق عليه، أو حتى معاصر له!

    إن هذه الفكرة التي نطرحها اليوم تفسر في وقت واحد، أولًا: ظهور التصوف الإسلامي في جوهره مرتبطًا بالدين الإسلامي، وثانيًا: عدم استمداده من مصادر أخرى أجنبية عنه. ودليلنا على ذلك أن التصوف في حقيقته عبارة عن تجربة فردية، يخوضها الإنسان بنفسه، متجردًا عن شئون الدنيا ومطالب الجسد التي تجذب وتستهلك جميع الناس من حوله، وحتى من قبله، ومتدرجًا بعد ذلك من مقام إلى مقام حتى تغمره أنوار السعادة التي لا يشعر بها أحد غيره. لقد ظهر الصوفية في شبه الجزيرة العربية، والعراق، وإيران، ومصر، وشمال إفريقيا، وفي الأندلس.. ظهروا في هذه الأماكن المختلفة، وعلى فترات غير متقاربة، وكلهم توجد لديهم تلك النزعة الزهدية الخالصة، وهذا التوجه الروحي العميق، ومنهم انبثقت بعض الأفكار والنظريات الصوفية التي يمكن في النهاية أن نقارنها بمثيلاتها من الأفكار والنظريات التي ظهرت في تصوف الأديان الأخرى.

    في داخل الأسرة الواحدة ينشأ الأبناء والبنات متساوين في جميع الظروف. يأكلون من نفس الطعام، ويرتدون ملابس متشابهة، ولهم جميعًا معاملة متساوية من الأب والأم، لكننا نلاحظ أن أحدهم يميل إلى العدوانية، وغيره يكون هادئًا ووديعًا، أحدهم تتفتح رغباته على امتلاك الدنيا، والآخر يرضى بالقليل، وقد يكتفي أحيانًا بالأقل. ونلاحظ في نفس الوقت أن الأبوين اللذين أنجبا هؤلاء الأولاد يتابعان ويوجهان وقد يعاقبان، لكنهما لا يستطيعان أبدًا تغيير تلك النزعات الفطرية أو الحد من امتداداتها.. وما نلاحظه داخل الأسرة، يمكن أن نتابعه في دائرة الصداقة في محيط الشارع والحي، ثم على مستوى الزمالة في مجال العمل: أكثر الناس يمارسون حياتهم اليومية بصورة مادية خالصة، والقليل القليل هم الذين يرفضون ذلك، وينزعون إلى آفاق أوسع من الروحانية..

    ومع ذلك، فإن كانت هذه النزعة الروحية تنشأ بصورة فطرية منذ البداية، فإنها قد تنبثق أيضًا وسط تقلب الإنسان في النعيم الدنيوي الذي يغمره من كل الجهات.. هناك لحظة فارقة يتوقف فيها بعض الأفراد، المتمتعين بالثروة والسلطة والجاه، ويتساءلون: ما هذا الذي أفعله؟ ولماذا؟ وهل من أجل ذلك خلقت؟ حينئذ يتغير طعم كل شيء، وتتحول الألوان إلى نقيضها، فيصير الأبيض أسود، والأسود أبيض، ويقرر الإنسان بكل حسم وحزم أن يخرج من كل ذلك، لكي يمارس حياة الزهد والتقشف، ويستعذب شقاء الفقر والحرمان لكي ينعم بسعادة الروح. يقال إن بوذا، الأمير الهندي ابن الملك، قد مر بتلك التجربة. وفي الإسلام: حدث نفس الشيء لإبراهيم بن أدهم، الذي كان أميرًا في خراسان، وبينما يصطاد الغزلان مع أصحابه في الغابة، ورد له خاطر جعله ينزل عن فرسه ، ويجلس متأملًا في ظل شجرة، وعندما مرّ به فقير يسأله معروفًا، منحه الفرس، وتبادل معه ثيابه، وتجرد تمامًا لحياة الزهد، حتى صار من أكبر شيوخ الصوفية في الإسلام.

    وهنا قد نتساءل: هل كان من الممكن أن يفعل ذلك إبراهيم بن أدهم لأنه تأثر بتجربة بوذا؟ أم لأن تلك الأسئلة الوجودية التي طرحت على بوذا، والتي من الممكن جدًّا أن تطرح على أي إنسان عاقل، هي نفسها التي طرحت على إبراهيم ابن أدهم؟ ثم هل يمكن أن يصل التأثير (الثقافي) إلى حد تغيير المسار العملي في الحياة إلى هذا الحد؟!

    الواقع أنه قد آن الأوان بالنسبة لدارسي التصوف، سواء من المستشرقين أو العرب، أن يتخلوا عن مسألة البحث في الأصول عن مصادر من هنا أو هناك، وأن يتجهوا بدلًا من ذلك إلى دراسة ظاهرة التصوف في جوهرها، وفي انعكاساتها النفسية والسلوكية في حياة أصحابها، سواء كانوا شيوخًا كبارًا أم مريدين ما زالوا يخطون على أول الطريق.

    وأخيرًا فإننا نميل إلى أن التصوف ظاهرة إنسانية، وليس معنى ذلك أنها عامة تشمل (جميع) البشر، ولكن المقصود بإنسانيتها أنها تظهر في أي زمان ومكان، ولا تكاد تختلف في مجتمع عن غيره سوى اختلافات طفيفة في التفاصيل، وهي دائمًا تنبت وتنمو ثم تزدهر وتثمر بجوار شجرة الدين، وتستمد غذاءها من تربتها، بل وتستظل بغصونها وأوراقها، وهذا ما يعطيها خصوصيتها، ويحدد معالم شخصيتها.

    ***

    التصوف الإسلامي في الدراسات الحديثة

    لا شك في أن دراسة التصوف الإسلامي قد خطت خلال النصف الأول من القرن العشرين، خطوات واسعة. ومن الملاحظ أن المستشرقين قد قاموا بدور كبير في هذا المجال. فقد نشروا الكثير في مخطوطات التصوف، كما درسوا مبادئه ونظرياته، وبحثوا كثيرًا في أصوله ومنابعه، ثم ما لبث أن جاء من بعدهم الباحثون العرب – ومعظمهم درس في الجامعات الغربية – فأضافوا إلى جهد المستشرقين جهدًا آخر، يتميز بالمعرفة العميقة للغة التصوف، وبمعايشة حقيقية للتراث الإسلامي، وترتب على ذلك أن صححوا بعض آراء المستشرقين، كما طوروا بعضها الآخر، وأضافوا إليه، بحيث

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1