Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

سيد اللعبة
سيد اللعبة
سيد اللعبة
Ebook1,835 pages13 hours

سيد اللعبة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يستعرض هذا الكتاب تاريخ مميز ومثير للاهتمام لدبلوماسية هنري كيسنجر في الشرق الأوسط، إذ يكشف من خلاله الصعوبات والعقبات الخاصة التي واجهها كيسنجر وخلفاؤه في جهودهم لتحقيق عملية السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب،وكيف أخفق ثلاثة رؤساء أمريكيين على مدار أكثر من عشرين عامًا منذ آخر مرة توسطت فيها الولايات المتحدة في اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. عانى مارتن إنديك سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل والمبعوث الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في عام 2013 من هذه الإحباطات وخيبات الأمل السياسية المتكررة. يعود مارتن إنديك الآن إلى بدايات جهود السلام بقيادة الولايات المتحدة ويعود إلى هنري كيسنجر، الرجل الذي أسس عملية السلام في الشرق الأوسط ، في محاولة لفهم مسار القوة الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة. يأخذنا هذا الكتاب إلى داخل المناقشات وفقًا للمستندات التي تم الإفراج عنها مؤخرًا من الأرشيفات الأمريكية والإسرائيلية ، ومقابلات خاصة مع كيسنجر ، وتجارب إنديك الشخصية مع بعض الممثلين الرئيسيين مثل أنور السادات ، وغولدا مئير ، وموشيه ديان ، واسحق رابين ، وحافظ الأسد ، وكيسنجر نفسه، وغيرهم.
تجمع قصة إنديك بين وجهات نظر شخص مطلع يبحث عن دروس لصنع السلام في الشرق الأوسط مع وجهات نظر مؤرخ يدرس بدقة سجلات هذه الأحداث. كما أوضح أن معرفة خطة كيسنجر لصنع السلام في الشرق الأوسط أمر ضروري لفهم كيفية صنع السلام أو كيفية إشعال الحروب والصراعات.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2023
ISBN9789771461876
سيد اللعبة

Related to سيد اللعبة

Related ebooks

Reviews for سيد اللعبة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    سيد اللعبة - مارتن إنديك

    سيـد اللعبـة

    هنري كيسنجر

    وفن دبلوماسية الشرق الأوسط

    تأليـف

    مارتن إنديـك

    ترجمة

    ياسر محمد صديق

    إصدار مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي

    ألفريد أ. نوف- نيويورك

    2021

    العنوان: سيـــد اللعبـــة

    هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط

    تأليف: مارتن إنديك

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    Original English Title: MASTER OF THE GAME.. Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy.

    Author: Martin Indyk

    Copyright © 2021 by Martin Indyk. All rights reserved.

    © 2023 This Arabic edition published by Nahdet Misr Publishing House,

    21 Ahmed Orabi St., Mohandiseen, Giza, Egypt.

    Upon arrangement with Alfred A. Knopf, an imprint of The Knopf Doubleday Group,

    a division of Penguin Random House, LLC.

    All rights reserved.

    جميـع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-6187-6

    رقـــم الإيــداع: 28088 / 2022

    طبعـة: يناير 2023

    Section00002.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــــــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    مقدمة الناشر

    على صفحات هذا الكتاب يمكن أن تدرك حجم القسوة التي تعرض لها عالمنا العربي على وجه العموم؛ ومصر على وجه الخصوص بعد هزيمة الخامس من يونيو عام 1967 . كان العالم وقتها يحكمه نظام القطبين؛ الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي، والغربي بزعامة الولايات المتحدة، وكان بينهما ما عُرف في التاريخ باسم «الحرب الباردة» التي كانت منطقتنا العربية من أكثر مناطق العالم تأثرًا بها؛ في ظل ما عُرف بـ«أزمة الشرق الأوسط». تلك الأزمة التي بدأت تفاصيلها منذ نهايات القرن التاسع عشر حينما أعلن صهاينة العالم في مؤتمر بازل عام 1897 عن إنشاء دولتهم ووطن قومي لهم، وتوالت الأحداث بين توافد على استحياء إلى فلسطين، وتأسيس مدن يهودية في ظل احتلال عثماني للعالم العربي، ثم وعد بلفور عام 1917، واتفاقية فيصل - وايزمان في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 والذي أعطى تسهيلات لليهود لإنشاء مجتمع للتعايش في فلسطين والإقرار بوعد بلفور، ثم الهجرات اليهودية على فلسطين من كل بقاع العالم، وتأسيس الجماعات المسلحة اليهودية التي استباحت حياة الفلسطينيين وأرضهم وأمنهم، ثم حرب فلسطين عام 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل والاعتراف بها دوليًّا في ذات العام، ثم العدوان الثلاثي عام 1956 ومن بعده حرب يونيو 1967.

    تحتوي تلك الأسطر وتواريخ الأعوام بها على ملايين التفاصيل في مواقف لم تترك في النفس المصرية والعربية غير الأسى والغضب الذي كان يتزايد مع ضياع مزيد من الأراضي في كل معركة؛ فلسطين ثم سيناء والجولان والضفة الغربية. كانت حرب الاستنزاف التي أعقبت هزيمة يونيو 1967 حربًا ضارية على العدو الإسرائيلي باعترافه، كما حدث في رأس العش 1 يوليو 1967، وتدمير المدمرة إيلات 21 أكتوبر 1967، وغيرها من العمليات التي كانت إعلانًا بأن مصر لن تصمت على اغتصاب الأرض، حتى كانت معاهدة روجرز عام 1970 لوقف العمليات العسكرية بيننا وبينهم والتي قبلتها مصر؛ لأنها كانت تسعى لاستكمال بناء قدراتها العسكرية، في ذات الوقت الذي سعت فيه لاستعادة الأرض بالتفاوض والسلام؛ إلا أن أحدًا لم يكن يستمع لها أو يرى أهمية التفاوض. حدث ذلك في عهد الرئيس جمال عبد الناصر كما حدث في عصر الرئيس السادات، وكنا ندرك صعوبة الموقف على المسرح العالمي بين الاتحاد السوفيتي من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر. فالمشهد الظاهر أنهما يتصارعان على النفوذ والأرض والأصدقاء والمكاسب، والحقيقة أنهما كانا على علم بالخطوط الحمراء لكل منهما، لذا لم تكن حل قضية مصر والعرب من بين أولوياتهما كما تقول الأوراق والوثائق الخاصة بهما وبنا، وكان ذلك في نفس الوقت الذي تزايدت فيه قوة إسرائيل وتعاليها وعجرفتها بإعلان أنها القوة التي لا تُقهر، والجيش الذي لا يُهزم.

    من هنا كان لحرب السادس من أكتوبر 1973 أهميتها وأثرها وصداها حين أفاق العالم على العبور المصري لقناة السويس رغم عوائق العبور التي صنعتها إسرائيل، حينها انتبه العالم بقطبيه إلى قدرات المقاتل المصري لا قدرات السلاح الوارد من الكتلتين، وعندما أدرك العالم أن المصريين لن يتراجعوا دون شبر من أرض لهم بالحرب أو بالسلام. كان المخطط العسكري المصري يدرك صعوبة المعركة وتحدياتها لأننا لا نحارب دولة الاحتلال وحدها، بل كل من ساندها وعلى رأسهم الولايات المتحدة وجسرها العسكري الممتد من واشنطن إلى أرض المعركة. وكان الهدف النجاح في تحرير أي مساحة للأرض والثبات عليها ليبدأ التفاوض، وإثبات قدراتنا في الدفاع عن أرضنا وتكبيد العدو خسائر لم يعهدها. يكفي هنا أن تقرأ مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك الذي كان وقتها ضمن قوات الاحتياط الإسرائيلي حينما قال: «في ذلك اليوم ضاع أثر نصر 67 النفسي، وضاع شعور أن الجيش الإسرائيلي لا يُهزم». وكما كانت صعوبة الحرب كانت صعوبة السلام الذي لم يكن بحاجة إلى صبر وحنكة وحسب، ولكنه كان بحاجة إلى رؤية وبصيرة بطبيعة المفاوض الإسرائيلي وطريقة تفكيره واستباق خطوته والتمسك بالثوابت. كما كان بحاجة أيضًا لفهم طبيعة العقل العربي وأسلوب أدائه في الأزمات وتخطي كل ذلك لإعادة الأرض. هكذا كانت رؤية الرئيس السادات الذي حرر الكرامة المصرية من أثر الهزيمة في يونيو 1967، وأعاد الأرض كاملة في إبريل 1982 رغم اغتياله قبلها بعدة أشهر، ولكن سيناء عادت كاملة لمصر بما فيها منطقة طابا عام 1989.

    من هنا كان اختيارنا لهذا الكتاب لترجمته ونشره بالعربية للقارئ المصري والعربي في عام 2023 الذي يوافق الذكرى الخمسين لانتصارات أكتوبر عام 1973، فهذا الكتاب لا يحمل تفاصيل رحلة أحد أهم وأشهر رجال الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط وحسب، لكنه أيضًا يحمل تفاصيل صناعة السلام العربي الإسرائيلي التي بدأت بعد حرب السادس من أكتوبر عام 1973؛ لندرك ما مر به العالم العربي من أوقات عصيبة، ومدى تجاهل الدول الغربية لمطالب مصر العادلة بإعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في يونيو 1967، لقد تعاملت القوى الكبرى مع مصر وقتها وكأنها جثة هامدة لن تقوم لها قائمة. لذا يروي هذا الكتاب - استنادًا إلى وثائق أمريكية وإسرائيلية تم الكشف عنها حديثًا - كيف قلب الرئيس أنور السادات حساباتهم بشن حرب السادس من أكتوبر عام 1973، ومن بعدها إصراره على خوض معركة صنع السلام، هذا الصراع الدبلوماسي الذي دار في غرف التفاوض بين مصر وإسرائيل بوساطة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، حيث يأخذك هذا الكتاب لتلك الغرف ليروي كيف تلاعب كيسنجر بالعرب وضغط على إسرائيل لتعزيز أهداف واشنطن ومصالح إسرائيل، لكنه لم يُخف إعجابه بشخصية الرئيس السادات ورؤيته التي تخطت حاجز الزمن وهو ما خالف تقدير كيسنجر الأول له؛ فقد كان السادات في كثير من الأحيان متقدمـًا بخطوتين على كيسنجر، فنجح بحنكته السياسية وشجاعته في إعادة سيناء بأكملها إلى مصر.

    الناشر

    إهداء

    إلى: ستيلا ومايزي ميلر وأولي إنديك وهاربر بيرت

    على أمل أن يسعوا هم أيضًا إلى السلام

    تمهـيــــــــد

    (الرجال لا يصبحون أساطير بما يعرفونه أو حتى بما يحققونه، ولكن بالمهام التي يأخذونها على عاتقهم).

    - هنري كيسنجر، كتاب «عالم مستعاد»

    السبت، 6 أكتوبر 1973، نيويورك: كان التجمع السنوي لقادة العالم يشارك في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك؛ مما أربك الحركة المرورية في المدينة، كما كان اليوم حافلًا بإلقاء الخطابات، واللقاءات السريعة، فضلًا عن عقد كثير من اللقاءات رفيعة المستوى بين القادة والحكام من جميع أنحاء العالم.

    ولكن بالنسبة لهنري كيسنجر، كانت تلك لحظةً مثيرةً وفاصلةً في حياته. فقبل أسبوعين، كان قد أدى اليمين كوزيرٍ للخارجية الأمريكية أمام رئيس المحكمة العليا وارين برجر في الغرفة الشرقية المزخرفة بالبيت الأبيض، حيث كانت والدته بولا بجانبه وهي تحمل نسخةً من العهد القديم، وكان والده لويس وولداه إليزابيث وديفيد ونانسي ماجينيس - «رفيقته لبعض الوقت» كما وصفتها صحيفة نيويورك تايمز- يغمرهم الفخر والتقدير البالغ لهذا الموقف العظيم. كما كانت الغرفة تعج بنحو 250 شخصًا من أصدقاء هنري كيسنجر وزملائه -ومنهم الممثل كيرك دوجلاس– الذين وقفوا وصفقوا له تصفيقًا حارًّا بعد أدائه لليمين. ومن جانبه، قدم الرئيس ريتشارد نيكسون رئيس الدبلوماسيين الجديد على أنه أول أمريكي متجنس يتقلد منصب وزير الخارجية الأمريكية، ملمحًا إلى كونه لم يفرق شعره! كانت تلك طريقة نيكسون في التلميح إلى حقيقة أن كيسنجر هو أيضًا أول وزير خارجية يهودي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

    صادف ذلك السبت يوم الغفران «يوم الكفارة» -وهو اليوم المقدس الأكثر أهمية في التقويم اليهودي- الذي يقضيه اليهود في الصيام والصلاة للتكفير عن خطاياهم. نشأ هنري كيسنجر في منزلٍ أرثوذكسي وأقيم له حفل بار متسفا (حفل يهودي ديني يُقام عند بلوغ الشاب اليهودي 13 من عمره) وهو في الثالثة عشرة من عمره، وعُقِد حفل زواجه في معبد أرثوذكسي كأي يهودي متدين. حينما كان كيسنجر في سن المراهقة، عانى من أهوال محرقة الهولوكوست وهرب من النازيين، ثم عانى مرة أخرى عند عودته إلى ألمانيا بصفته جنديًّا في صفوف الجيش الأمريكي. في ذلك الوقت، لم يعد يؤمن بفكرة طلب المغفرة من الله العادل الغفور، وتلاشت معتقداته الدينية تمامًا بعدما أصبح بعيدًا كل البعد عن ماضيه اليهودي الألماني.

    Section00006.xhtml

    هنري كيسنجر يؤدي اليمين وزيرًا للخارجية أمام رئيس المحكمة العليا وارين برجر فـي 22 سبتمبر 1973، فـي الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض، وتظهر أمه «بولا كيسنجر» وهي تحمل الكتاب المقدس للعائلة، ويشهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون مراسم حلف اليمين. كان من بين الحضور كيرك دوجلاس ونانسي ماجينيس رفيقة كيسنجر. وأشار نيكسون إلى أن كيسنجر هو أول وزير خارجية أمريكي لم يفرق شعره.

    فـي صباح ذلك السبت الأول من أكتوبر كان وزير الخارجية الأمريكي الجديد يغط فـي نوم عميق بعد يوم محموم كان قد التقى خلاله برئيس زائير موبوتو سيسيكو، وألقى خطابًا على مأدبة غداء وزراء خارجية أمريكا اللاتينية، فضلًا عن عقد لقاءات فردية أخرى مع اثني عشر وزيرًا للخارجية على مدار اليوم. كان من بين الحضور وزير الخارجية المصري محمد الزيات، ووزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان، اللذان وافقا على عقد اجتماعٍ آخر في نوفمبر لمناقشة سبل حل الصراع العربي الإسرائيلي.

    ولهذا السبب كان هنري كيسنجر يغطُّ في سباتٍ عميقٍ عندما اقتحم غرفته جوزيف سيسكو -مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى وشئون جنوب آسيا- في تمام الساعة 6:15 صباحًا في الجناح الباروكي في الطابق الخامس والثلاثين من والدورف أستوريا المخصص لسكن وزراء الخارجية الأمريكية. كان سيسكو -الذي وُلِد لأبٍ وأم من المهاجرين الإيطاليين– أحد المتميزين في السلك الدبلوماسي الذي بلغ أعلى مراتبه، رغم أنه لم يخدم في الخارج مطلقًا. وكانت تربطه مع كسينجر علاقة خصومة خلال فترة ولاية الرئيس نيكسون الأولى، حينما كان سيسكو يتبع وزير الخارجية ويليام روجرز (خصم كيسنجر اللدود). لكن سرعان ما أدرك هنري كيسنجر البراعة التكتيكية والعزيمة والحماس، وهي أمور يتمتع بها الدبلوماسي جوزيف سيسكو الذي لا تفارق الابتسامة وجهَه أبدًا.

    بَيدَ أن سيسكو لم يكن مبتسمًا ذلك الصباح عندما جاء بأخبارٍ غير سارة من كينيث كيتينج -سفير الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل- بشأن مطالبة رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير بعقد اجتماعٍ عاجلٍ مع كيتينج لتحذير الولايات المتحدة من احتمالية قيام القوات المصرية والسورية بشن هجماتٍ منسَّقة على إسرائيل في غضون الساعات القليلة المقبلة. كانت جولدا مائير تخشى من وجود سوء تفاهم، فأرادت من كيسنجر إبلاغ موسكو والقاهرة ودمشق فورًا أن إسرائيل لا تنتوي مهاجمة جيرانها العرب، كما أرادت أن تُعلمه أيضًا أنها قررت عدم استباق الهجوم العربي المتوقع.

    وفي الساعة 6:40 صباحًا، أجرى كيسنجر عدة اتصالات بالسفير السوفيتي أناتولي دوبرينين، ثم القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية في واشنطن، ووزير الخارجية المصري، ووزير الخارجية الإسرائيلي. وفي تمام الساعة 8:29 صباحًا، تلقى كيسنجر اتصالًا هاتفيًّا من القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية في واشنطن لإبلاغه أنه قبل عشرين دقيقة شنت القوات المصرية والسورية هجماتٍ منسقة وقصفًا جويًّا على القوات الإسرائيلية الموجودة في كلٍّ من الضفة الشرقية لقناة السويس ومرتفعات الجولان.

    وفي الساعة 8:35 صباحًا، اتصل كيسنجر بالجنرال ألكسندر هيج -كبير موظفي البيت الأبيض خلال فترة ولاية نيكسون– وطلب منه بصوتٍ جهوريٍّ وباللكنة الألمانية أن يبلغ الرئيس نيكسون أنه «ربما نشهد حربًا في الشرق الأوسط تدور رحاها اليوم».

    وبعد مرور ثلاثة عشر يومًا؛ أي في 19 أكتوبر 1973، وفي ظل استمرار الحرب وتهديد القوات الإسرائيلية لدمشق والقاهرة، وبينما كان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون غارقًا في مشكلات فضيحة ووترجيت وبالكاد يؤدي مهام منصبه، انطلق كيسنجر في مهمةٍ دبلوماسية إلى موسكو وتل أبيب للتفاوض على وقف إطلاق النار بغية إنهاء الحرب، وأن تضطلع الولايات المتحدة الأمريكية بدورٍ جديدٍ رفيع المستوى بوصفها وسيطًا للسلام في الصراع العربي الإسرائيلي، وهو حقًّا صراع محفوف بالمخاطر. يأتي ذلك بعدما تمكن كيسنجر على مدار الأسبوعين السابقين من إبعاد أزمة ووترجيت عن مساعيه الدبلوماسية حتى لا تقوض جهوده لحل الأزمات. إلا أنه ومع تفاقم مشكلات نيكسون، تنامى الخطر وبلغ ذروته في سياسة حافة الهاوية للقوى العظمى، الأمر الذي دفع مستشاري كيسنجر ونيكسون الآخرين إلى إعلان حالة الاستعداد الدفاعي (ديفكون 3)، بينما كان الرئيس يغط في نومٍ عميق.

    في أثناء هذه الأزمة، تمكن كيسنجر من المراوغة بمهارة فائقة لتحقيق أربعة أهداف طموحة ومتناقضة إلى حدٍّ ما وفي آنٍ واحد؛ ضمان انتصار إسرائيل كحليف لأمريكا على القوات المصرية والسورية المدعومة من الاتحاد السوفيتي، ومنع وقوع هزيمة فادحة للجيش المصري حتى يتمكن زعيمه -الرئيس الراحل أنور السادات- من الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل تعيد له جزءًا من الأرض، وإثبات أن الولايات المتحدة الأمريكية هي وحدها القادرة على تحقيق نتائج للعرب على طاولة المفاوضات، وأخيرًا الحفاظ على «الانفراجة في العلاقات» مع موسكو؛ رغم أنه كان يعمل على تقويض النفوذ السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط.

    كانت هذه البراعة -وإن كانت مؤقتة في بعض الأحيان- هي سبب بزوغ نجم دبلوماسية كيسنجر على مسرح الشرق الأوسط، وأُطلِق عليها اسم «الدبلوماسية المكوكية» بسبب الرحلات الجوية العديدة التي قام بها كيسنجر بين القاهرة والقدس ودمشق بالإضافة إلى عواصم عربية أخرى، حيث أسفرت تلك الجهود خلال السنوات الأربع التالية عن إبرام ثلاث اتفاقيات أخرى؛ اتفاقيتان في سيناء بين مصر وإسرائيل، واتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل في هضبة الجولان. في هذه الاتفاقيات الثلاث، تنازلت إسرائيل عن بعض الأراضي التي احتلتها مقابل ضمان حدود مؤقتة ومستقرة. ومن ثم، يُنسَب الفضل لكيسنجر في وضع أسس اضطلاع الولايات المتحدة بحل الصراع العربي الإسرائيلي وصولًا لإبرام معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بعد ذلك بعامين برعاية الرئيس كارتر وإبرام اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، فضلًا عن معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية التي أُبرِمت في عهد الرئيس كلينتون.

    وكانت تحركات وجهود كيسنجر خلال تلك السنوات الأربع مثيرةً للإعجاب، وتنم عن رؤيةٍ واستراتيجية وحنكةٍ فائقة لكبير الدبلوماسيين الأمريكيين، مستعينًا في ذلك بمعرفته بالتاريخ ومهاراته الحدسية البديهية وفهمه الدقيق لتوازن القوى المعقد في منطقة الشرق الأوسط واستعداده لتحمل المخاطر والارتجال، فضلًا عن قدرته الميكافيلية على نشر أدوات النفوذ المستمدة من القوة الأمريكية الهائلة للتعامل بحنكةٍ ودهاء مع زعماء تلك المنطقة المضطربة من أجل تحقيق السلام. إلا أن تلك الجهود لم تخل من الشوائب كما سيتضح لاحقًا، ففي بعض الأحيان، كان كيسنجر يغمض عينيه عن بعض الحقائق ونُذر الحرب سعيًا منه لتحقيق النظام والاستقرار وإحلال السلام. وفي أحيان أخرى كان نجاح كيسنجر الذي يحرزه يعود إلى براعة الأطراف المتحاورة معه واستعدادهم للمجازفة على الأقل بنفس القدر من النجاح الناتج عن تألق جهوده. ومع ذلك؛ فإن كانت الدبلوماسية تعني إحضار القادة السياسيين إلى الأماكن التي يترددون في الذهاب إليها، فلا شك أن كيسنجر كان سيد اللعبة.

    وبعد مرور خمسة وعشرين عامًا، وتحديدًا في يوم الجمعة، الموافق 23 أكتوبر 1998، في واشنطن العاصمة، كان المفاوضون والضيوف المدعوون في ذات الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض-التي أدى فيها هنري كيسنجر اليمين بصفته وزير الخارجية السادس والخمسين- يشهدون توقيع اتفاقية واي ريفر من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، برئاسة الرئيس بيل كلينتون والعاهل الأردني الملك حسين الذي تُوفي بعد أقل من أربعة أشهر جراء إصابته بمرض السرطان.

    Section00006.xhtml

    رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يصافح رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات بعد التوقيع على اتفاقية واي ريفر فـي 23 أكتوبر 1998، فـي الغرفة الشرقية للبيت الأبيض. ويشهد الرئيس بيل كلينتون والعاهل الأردني الملك حسين مراسم توقيع الاتفاقية، حيث كانت هذه آخر اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يتم توقيعها فـي البيت الأبيض. وقد تُوفي الملك حسين بعد ذلك بأشهر قليلة جراء إصابته بمرض السرطان.

    بدت أناقة رجال الدولة والدبلوماسيين ببدلاتهم الداكنة وحضورهم ضئيلةً أمام عظمة الغرفة بجدرانها ذات اللون الكريمي، وأرضياتها المصنوعة من خشب البلوط، وستائرها الجذابة المصنوعة من الحرير الأصفر، فضلًا عن إضاءتها بثلاث ثريات كريستال بوهيمية رائعة. ومن أجل حفل التوقيع هذا، وُضِعت الطاولة والمنصة والختم الرئاسي بين مدفئتي الغرفة والأرفف الرخامية الإيطالية التي تعلوها مرايا ضخمة مؤطرة بالذهب، وتظهر على جانبيها صور كاملة الطول لجورج ومارثا واشنطن وهما ينظران إلى الجمهور؛ حيث يظهر أول رئيس لأمريكا وهو يمد يده اليمنى للترحيب، بينما يمسك السيف بيده اليسرى بكل حزم.

    كما شهدت هذه الغرفة إقامة مراسم جنازات أبراهام لينكولن وفرانكلين ديلانو روزفلت وجون فيتزجيرالد كينيدي -الرؤساء الذين ماتوا في مناصبهم- ووقع فيها ليندون بينز جونسون على قانون الحقوق المدنية لعام 1964، كما ألقى فيها ريتشارد نيكسون خطاب الوداع لموظفيه. وقبل عشرين عامًا نتيجةً لجهود كيسنجر المضنية، وقع أنور السادات ومناحيم بيجن وجيمي كارتر اتفاقيات كامب ديفيد (إطار إبرام معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل) قبل أن يصافح الثلاثة بعضهم بعضًا في مشهدٍ أيقوني يتذكره الجميع حتى الآن.

    وبعدما جلس الضيوف على مقاعدهم المخصصة انتظارًا لوصول كلينتون وعرفات ونتنياهو، ذكَّرنا المشهد بمراسم التوقيع السابقة التي حدثت بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في البيت الأبيض خلال فترة ولاية كلينتون، حيث كانت المراسم الأولى لاتفاقيات أوسلو في سبتمبر 1993 عندما صافح إسحاق رابين يدَ ياسر عرفات في الحديقة الجنوبية، بينما وقف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بينهما باسطًا ذراعيه ليرمز إلى احتضان الولايات المتحدة لهذه اللحظة التاريخية للمصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكانت المراسم الثانية بعد مرور عامين في نفس الغرفة الشرقية، عندما عاد الزعيمان للتوقيع على اتفاقية أوسلو الثانية، التي نصت على سيطرة عرفات على حوالي 27 ٪ من الضفة الغربية.

    Section00006.xhtml

    رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين يتصافحان بعد توقيع اتفاقيات أوسلو فـي حديقة البيت الأبيض فـي 13 سبتمبر 1993. يظهر الرئيس كلينتون وهو باسط ذراعيه ليرمز إلى احتضان الولايات المتحدة لهذه اللحظة التاريخية للمصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. اختار الرئيس كلينتون ربطة عنق مرسومًا عليها أبواق لترمز إلى الأبواق التوراتية التي نفخها بنو إسرائيل لهدم أسوار أريحا.

    وقد شاركتُ في الحدث الأول بصفتي مستشار كلينتون لشئون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وشاركتُ في الحدث الثاني كسفيرٍ له لدى إسرائيل، كما حضرتُ الحدث الثالث الـذي أُقيم في البيت الأبيض بعد مرور ثلاث سنوات بصفتي مساعد وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لشئون الشرق الأدنى.

    وعلى الرغم من عدم ترجيح أن يكون عرفات ونتنياهو صانعي سلام في تلك المرحلة، فإن عملية السلام نجت من تداعيات اغتيال إسحاق رابين وهزيمة شيمون بيريز -ذراعه الدبلوماسي- في الانتخابات، لكن الاحتفال في البيت الأبيض أخفى الخطر الجسيم الذي كان يحدق بالعملية برمتها، والذي ظهرت خطورته بعد عامين عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في غزة والضفة الغربية واستمرت لمدة خمس سنوات؛ مما أسفر عن مقتل وإصابة الآلاف من كلا الجانبين وتدمير صرح عملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي الذي بنيناه بشق الأنفس.

    وكانت الدلائل تشير إلى الإرهاق الذي شعر به فريق الرئيس كلينتون للسلام في تلك اللحظة بالفعل، فالجهود المبذولة لم تقتصر على تسعة أيام فقط من المفاوضات الشاقة في مزرعة واي ريفر على الساحل الشرقي لماريلاند، بل شملت أيضًا ثمانية عشر شهرًا من المحادثات التحضيرية الشاقة التي سبقت هذه المرحلة. وأخيرًا، تمكنا من التوصل إلى اتفاقٍ ينص على تنازل إسرائيل عن 13 في المائة من أراضي الضفة الغربية للفلسطينيين وفاءً بمتطلبات إعادة الانتشار المنصوص عليها في اتفاقيات أوسلو، وهو ما عرَّض حكومة نتنياهو الائتلافية إلى الانهيار بعد فترةٍ وجيزة.

    ولم نكن نعلم في ذلك اليوم أن اتفاقية واي ريفر ستصبح آخر اتفاقية سلام تتوسط فيها الولايات المتحدة بين فلسطين وإسرائيل(1). فبعد مرور أكثر من عشرين عامًا منذ ذلك الحين، يبدو أن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قد أصبح صعب المنال في القريب العاجل على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها الرؤساء الثلاثة الذين خلفوا كلينتون.

    على الجانب الآخر، ساعد نجاح إيران في استغلال الانقسامات الطائفية التي تعصف بقلب الشرق الأوسط، بالإضافة إلى العمليات المسلحة التي تقوم بها القاعدة والجماعات التابعة لداعش، على توطيد العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية السُّنية؛ مما جعل القضية الفلسطينية غير ذات صلة بالمخاوف الاستراتيجية الكبرى لتلك الدول، وهو ما يعبر عنه توقيع اتفاقيات أبراهام في سبتمبر 2020 ، التي تعتبر نموذجًا لهذه الديناميكية الجديدة بتطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين، وسرعان ما تبعهما السودان والمغرب، حيث قطعت تلك الاتفاقيات الصلة بين حل القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات مع الدول العربية غير المتورطة بشكلٍ مباشر في الصراع مع إسرائيل، فضلًا عن أنها أسهمت في منع إسرائيل من ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية -على الأقل لبعض الوقت- مما ساعد في الحفاظ على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة. ولكن بخلاف ذلك، لم تقدم هذه الاتفاقيات الكثير لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

    في الواقع، زادت إدارة ترامب الأمور سوءًا من خلال اقتراح اتفاق سلام من شأنه أن يجعل الكيان الفلسطيني محاصرًا بشدة داخل الأراضي الإسرائيلية، فضلًا عن أن اتفاقيات أبراهام مكنت نتنياهو من القول بأن إسرائيل يمكنها إبرام اتفاقيات سلام مع العالم العربي دون التنازل عن أي شيء للفلسطينيين.

    في ذات الوقت الذي أصبح فيه النظام السياسي الفلسطيني منقسمًا للغاية؛ على الصعيد السياسي كانت القطيعة بين فتح وحماس، وعلى الصعيد الجغرافي كان الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى إن القادة الفلسطينيين اعتقدوا أنه من المستحيل إجراء تفاوض بينهم بشكلٍ هادف للوصول إلى حلولٍ وسيطة. بينما رأى عدد قليل من الفلسطينيين أن إسرائيل لن تقبل مطلقًا قيام دولة فلسطينية مستقلة، ولم يعد معظم الإسرائيليين -بدورهم- يعتقدون أن لديهم شريكًا فلسطينيًّا في مفاوضات السلام. أما الفلسطينيون في الضفة الغربية، فقد أدى توسع إسرائيل في إقامة المستوطنات وإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية إلى خلق واقع الدولة الواحدة في ظل الحكم الإسرائيلي. وقد تم تشويه سمعة الجانب الأمريكي كوسيطٍ نزيه بين الطرفين بعد اعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وعدم رغبته في الاعتراف بتطلعات الفلسطينيين في تأسيس عاصمة خاصة بهم في القدس الشرقية العربية، فضلًا عن خطته لدعم ضم إسرائيل لـ 30 في المائة من الضفة الغربية وإقامة 131 مستوطنة إسرائيلية فيها دون موافقة الفلسطينيين.

    ولذا فثمة مجموعة من الأسئلة التي تطرح نفسها الآن على الساحة، وهي: هل تغيرت التحديات السياسية التي تواجه قادة إسرائيل والعرب والظروف الإقليمية الأخرى بشكلٍ كبير بما يجعل حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس مهمًّا بالنسبة لهم؟ هل تضاءل حجم تأثير الولايات المتحدة في المنطقة إلى حد أنها باتت تفتقر إلى النفوذ لممارسة مختلف أنواع المناورات الدبلوماسية التي أدت إلى إبرام اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية السابقة؟ هل فقدت الولايات المتحدة فن صنع السلام في الشرق الأوسط؟

    إن كانت الإجابات عن هذه الأسئلة قد ظهرت بالفعل في عام 1998، فلا شك أنه من المستحيل إنكارها بعد مرور ستة عشر عامًا، عندما أقدم وزير الخارجية جون كيري على آخر محاولة جادة لوضع إطار عمل لإبرام اتفاق سلام فلسطيني إسرائيلي نهائي، ولقد شاركتُ في هذا المسعى بصفتي مبعوث كيري الخاص للمفاوضات. ولكن في عدة لقاءات منفصلة مع كل من نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، تجاهل كلاهما مرارًا وتكرارًا الطلبات الأمريكية أو قابلاها بالرفض، بحيث بدا أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحريك الجانبين نحو السلام.

    انتهى الأمر في 16 مارس 2014، عندما وصل الرئيس عباس إلى واشنطن بدعوةٍ من الرئيس باراك أوباما، حيث تشاورنا على مدى تسعة أشهر مع كلا الجانبين واستمعنا باهتمام وهما يعبران عن متطلباتهما بشأن القضايا الأساسية الخمس التي ينطوي عليها إنهاء الصراع، والمتمثلة في ترسيم الحدود والأمن واللاجئين والقدس والاعتراف المتبادل. وقد اعتمدنا أيضًا على مفاوضات سرية عبر قناة خلفية ضمت كلًّا من إسحاق مولخو مستشار نتنياهو، وحسين آغا الأكاديمي اللبناني المقيم في لندن، وأحد الشخصيات المقربة من أبو مازن، ودينيس روس المنسق الخاص لشئون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي خلال ولاية أوباما الأولى. وقد أُطلق على هذه القناة اسم «قناة لندن» وتم تأسيسها قبل عدة سنوات من إطلاق كيري لمفاوضات القناة الأمامية، إلا أن عملها كان متوافقًا مع جهودنا في صياغة اتفاق إطاري حول القضايا النهائية.

    لقد حاولنا بلا هوادة حمل الجانبين بتغيير مواقفهما لتقريبهما من بعضهما، وقرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما -بناء على طلبٍ من نتنياهو- طرح أفكار أمريكية مُفصلة لمساعدة الأطراف على التحرك نحو إبرام اتفاق، حيث كان التحدي الرئيسي هو إقناع أبو مازن بالرد على تلك الأفكار، فإذا فعل ذلك يمكننا العودة إلى نتنياهو وتشجيعه على الرد بالمثل، ومن ثم نقلهم إلى منطقة اتفاق محتمل.

    قرر أوباما تغيير السياسة الأمريكية تجاه القدس بهدف تحفيز أبو مازن للتوافق مع نتنياهو بشأن القضايا الحاسمة بالنسبة له -والمتمثلة في الأمن واللاجئين والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية - عندما أعلن الرئيس بالفعل في مايو 2011 أن أساس ترسيم الحدود بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية يجب أن يكون وفقًا لخطوط ما قبل حرب الأيام الستة التي وقعت عام 1967 (مع مراعاة تعديلات حدودية متفق عليها). وتحضيرًا لزيارة أبو مازن، قرر أوباما أن يخطو خطوةً أخرى إلى الأمام بإعلان القدس الشرقية على أنها المكان الذي يجب أن يكون عاصمة للدولة الفلسطينية. كان هذا التغيير في السياسة جزءًا من حزمة متوازنة من المقترحات التي من شأنها أيضًا أن تلبي جميع احتياجات إسرائيل، بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية والقدس الغربية عاصمةً لها(2).

    وفي الليلة التي سبقت لقاء أوباما وأبو مازن، استضاف كيري الرئيس الفلسطيني والوفد المرافق له في منزله في جورج تاون لتناول وجبة صينية غير رسمية. بعدها اصطحب كيري أبو مازن وكبير مفاوضيه صائب عريقات إلى غرفة الضيوف الأنيقة في الطابق العلوي للاطلاع على الأفكار التفصيلية التي سيقدمها الرئيس أوباما إلى الرئيس الفلسطيني في المكتب البيضاوي في اليوم التالي. وفي الوقت الذي شدد فيه كيري على عبارة «يجب أن يستند الترسيم إلى حدود 1967» في تأكيدٍ على التزام أوباما بما أصرَّ عليه الفلسطينيون منذ فترة طويلة، غلب أبو مازن النعاس وهو ما جعل كيري يتوقف عن حديثه، فيما راح عريقات يحرك أوراقه ويرفع صوته كي يستيقظ أبو مازن من غفوته، فاستمر كيري في قراءة البيان المتعلق بالقدس الذي يؤكد على أنه «يجب أن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية»، إلا أن أبو مازن رد عليه متنحنحًا بسخرية.

    ولم يكن حال رئيس السلطة الفلسطينية أفضل في صباح اليوم التالي حينما قدم إلى المكتب البيضاوي، فعندما أبدى الرئيس أوباما استعداده لدعم مطالب الفلسطينيين بأن تكون القدس الشرقية العربية عاصمةً لدولتهم، كان رد أبو مازن الوحيد هو طلب بضعة أيام للتشاور مع مستشاريه، إلا أن أوباما ترك منصبه بعد أكثر من عامين دون تلقي أي رد من الأخير!

    بعد ثلاث سنوات، لم يشر الرئيس دونالد ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل إلى التطلعات الفلسطينية؛ فقد انطوت خطته على أن تخضع القدس الشرقية العربية بالكامل -بما في ذلك البلدة القديمة ومقدساتها- للسيادة الإسرائيلية، تاركةً قريتين عربيتين على أطراف المنطقة لتكونا عاصمةً لفلسطين.

    يسيطر أبو مازن بصفته رئيسًا للسلطة الفلسطينية اسميًّا على 2.5 مليون فلسطيني فقط في الضفة الغربية وأراضي تمتد على مساحة تزيد على تسعمائة ميل مربع، كما أنه ليس لديه جيش ولا موارد طبيعية. ومع ذلك لم يكن لديه مشكلة في رفض الرد على عرض الرئيس أوباما الذي ينطوي على تحولٍ كبير في السياسة الأمريكية لصالح الجانب الفلسطيني فيما يتعلق بقضية القدس الجوهرية. ولعل السبب في ذلك أنه بعد مرور تسعة أشهر من المفاوضات، أدرك أبو مازن أنه مهما وعد أوباما بشأن القدس الشرقية، فإن قدرة أمريكا على الوفاء بذلك الوعد أو أي التزام آخر أمر مشكوك فيه للغاية، وكان لديه سبب وجيه لهذا الاعتقاد؛ حيث وقفت الولايات المتحدة خلال المفاوضات مكتوفة الأيدي أمام تجاوزات نتنياهو بإعلانه مرارًا وتكرارًا عن بناء مستوطنات إسرائيلية جديدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

    لم يكن أبو مازن -الذي كان يرأس نظامًا سياسيًّا منقسمًا على نفسه ويواجه جمهورًا فلسطينيًّا لم يعد يعتقد أن المفاوضات هي الحل المنشود لإقامة دولتهم- مستعدًّا للمخاطرة بقبضته الهشة على السلطة الفلسطينية من خلال الاعتماد على الوعود الأمريكية المرسلة؛ وذلك لأنه إذا قبل تلك الوعود كأساسٍ لمواصلة المفاوضات، فإن تنازلاته ستتضح للجميع، وهو ما قد يؤدي إلى إدانته من جانب معارضيه من الفلسطينيين واتهامه كخائن لقضيتهم، لذلك فبدلًا من الرد على الرئيس أوباما، اختار أبو مازن القوة المطلقة للضعفاء، ألا وهي عدم الرد وتجاهل الأمر.

    لم يكن الحال مع دونالد ترامب أفضل مما كان مع سابقه؛ إذ أسفر قراره بشأن القدس إلى إدانة الفلسطينيين للولايات المتحدة واتهامها بأنها وسيط غير عادل في القضية، كما رفض الفلسطينيون التحدث إلى أي مسئول في إدارة ترامب حتى نهاية فترة ولايته، وعندما رد ترامب بقطع كل المساعدات عنهم، زاد إصرار أبو مازن على رفض التحدث مع الإدارة الأمريكية.

    ومن ثم فقد بدا جليًّا أن إرادة الإدارة الأمريكية وبراعتها ونفوذها لم تعد كافية للوصول إلى تسوية للأزمة القائمة بين قادة كلا الجانبين الذين لا يثقون في بعضهم ويفتقرون إلى الشجاعة اللازمة لصنع السلام، حيث ما زال شعباهما يفضلان حل الدولتين، ولكن بعد عقودٍ من العمليات الفلسطينية المسلحة وبناء إسرائيل للمستوطنات، لم تعد تلك الشعوب تؤمن برغبة الطرف الآخر في المصالحة، وبالتالي لم يعودوا يضغطون على قادتهم لصنع السلام.

    ومع ذلك، فإن إلقاء اللوم على أي من الجانبين بعيد كل البعد عن التفسير الحقيقي، فثمة شيء آخر كان يحدث من ناحيةٍ أخرى، وقد تجلى هذا الأمر ليس فقط في الطريقة التي شعر بها أبو مازن أنه يمكن تجاهل عرض أوباما أو مقاومة حملة ترامب لممارسة «أقصى مراحل الضغط»، ولكن أيضًا في الطريقة التي شجب بها نتنياهو -أمام جلسة مشتركة للكونجرس الأمريكي بعد مرور عام- الاتفاق النووي الإيراني الذي تفاوض عليه أوباما وكيري، حيث بدا أن بإمكانه تحدي القوة العظمى الأمريكية دون عقاب، حتى من قبل شركائها في صنع السلام.

    لم تكن محاولات صنع السلام مقتصرة على أوباما وترامب فقط، فقد حاول كل من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش -كل على طريقته الخاصة- حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولكنهما فشلا أيضًا في تحقيق ذلك، حيث بدا أن هناك شيئًا مُني بالفشل في ممارسات أمريكا الدبلوماسية لصنع السلام في الشرق الأوسط، الأمر الذي كان يقف عائقًا أمام نجاح تلك العملية، حتى لو ساهمت عوامل أخرى في عدم نجاحها.

    وسعيًا مني لفهم ما حدث من خطأ بشكلٍ أفضل، وجدت نفسي أعود إلى جهود كيسنجر الناجحة لدفع عملية السلام إلى الأمام. وبالمصادفة فقد شهدت بنفسي الشرارة الأولى لاندلاع حرب السادس من أكتوبر 1973 قبل أكثر من أربعين عامًا عندما كنت طالبًا أستراليًّا للدراسات العليا يعيش في القدس؛ فقد كنت أستلقي مستيقظًا في الليل في كيبوتس بالقرب من غزة حيث تطوعت بعملي، وانتابني حزن شديد لضحايا حرب كنت مقتنعًا بأنها غير ضرورية انطلاقًا من خوفي على قدرة إسرائيل على البقاء، وكنت أسمع طنين صوت محركات الطائرات العملاقة (USAF C-5A Galaxies) أثناء تشغيل جسر جوي يومي لنقل الإمدادات العسكرية إلى قاعدة جوية قريبة لمساعدة إسرائيل على قلب مجريات المعركة. ولاحقًا كنت أستمع إلى إذاعات بي بي سي وصوت أمريكا التي أرَّخت لجهود وزير الخارجية كيسنجر -وكان معروفًا عنه دبلوماسيته البارعة بالفعل- في أثناء توجهه إلى موسكو والقدس والقاهرة للتوسط في اتفاق وقف إطلاق النار ثم إطلاق المفاوضات مما كشف عن مهارات الدبلوماسية الأمريكية وأثرها في تهدئة الصراع العربي الإسرائيلي.

    إن معايشة حرب يوم السادس من أكتوبر ومراقبة دور كيسنجر في إنهائها؛ ولَّد لديَّ قناعة لا تتزعزع بأن الولايات المتحدة تمتلك مفاتيح السلام في الشرق الأوسط، وأصبح فهم الدور الدبلوماسي المحوري الذي تلعبه أمريكا أمرًا ضروريًّا لما أصبح بعد ذلك مهمة حياتي للمساعدة في صنع السلام؛ فقد قدمت العديد من الدراسات والمؤلفات في هذا الجهد وشاركت فيه على مدى أكثر من أربعين عامًا، وأدركت بعد محاولتي الأخيرة -بصفتي مبعوثًا للرئيس أوباما للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية- أنه إذا كنت سأقبل المهمة فأنا بحاجة إلى معرفة جذور الأزمة، وسرد قصة دبلوماسية هنري كيسنجر في الشرق الأوسط؛ إذ ربما أجد فيها بعض الإجابات عن مشكلات صنع السلام في الشرق الأوسط.

    قال كيسنجر حينها: «إن الشرق الأوسط موطن لشخصياتٍ رائعة، وهو آخر معقلٍ يمكن فيه لرجال ونساء عظماء الخروج من الصحراء والقيام بأشياء لا تُصدق». فالشخصيات في هذه القصة لن يأتي أحدٌ مثلهم، فكل من أنور السادات وجولدا مائير وحافظ الأسد والملك حسين والملك فيصل وموشيه دايان وشيمون بيريز وإسحاق رابين أصبحوا جميعًا أساطير. ولكن مثل غيرهم من رجالات الدولة، كان لديهم شيء من الغرور وانعدام الأمان والعيوب المأساوية كما اعترف كيسنجر قائلًا: «الرجال لا يصبحون أساطير بما يعرفونه أو حتى بما يحققونه، ولكن بالمهام التي يأخذونها على عاتقهم». وقد تحلى كل منهم بطريقته الخاصة بالشجاعة اللازمة لمحاولة دفع شعبه نحو السلام، حيث ضحى السادات وإسحاق رابين بحياتهما من أجل القضية. وعلى الجانب الآخر كان هنري كيسنجر محظوظًا بوجود شركاء على استعدادٍ للانضمام إلى مساعيه النبيلة وهو ما صعد بهم إلى المسرح العالمي، فرفعوا بدورهم من شأن هنري كيسنجر فضلًا عن تمكينهم له من تحقيق إنجازاته.

    ومن المؤكد -كما تكشف الوثائق- أن كيسنجر ارتكب عدة أخطاء طوال الطريق، بعضها كان له تكلفة بشرية عالية، والبعض الآخر له عواقب استراتيجية ما زالت تؤثر على عملية صنع السلام حتى يومنا هذا، فلو كان قد أخذ مقترحات السادات على محمل الجد منذ البداية، لكان من الممكن تجنب وقوع حرب يوم السادس من أكتوبر، ولو استطاع الملك حسين -ملك الأردن- استعادة مواقع سيطرته في الضفة الغربية عندما أُتيحت له الفرصة، فربما كانت نتيجة البعد الأكثر استعصاءً في الصراع -أعني القضية الفلسطينية- مختلفة اختلافًا جذريًّا اليوم.

    وعلى عكس دبلوماسية كيسنجر في مناطق أخرى من العالم -مثل جهوده اليائسة لدعم الدبلوماسية باستخدام القوة لإنهاء الحرب الفيتنامية، وتعهده الخفي المثير للجدل بالإطاحة بسلفادور أليندي رئيس جمهورية تشيلي، وانفتاحه التاريخي على الصين- اتسمت توجهاته في الساحة العربية الإسرائيلية بطابع شخصي فريد من نوعه بصفته أحد اليهود الناجين من محرقة الهولوكوست حين فر مع عائلته من الاضطهاد النازي في ألمانيا إلى الحرية في الولايات المتحدة قبل عامٍ من اندلاع الحرب العالمية الثانية، فقد كانت علاقته بالدولة اليهودية وقادتها مشحونة ومعقدة.

    كان للمحرقة أثر عظيم في نفس كيسنجر كما كان هو الحال بالنسبة لرئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير؛ حيث ذكر كيسنجر أن النازيين قتلوا ثلاثة عشر فردًا من أفراد عائلته المقربين ومعظم زملائه في الفصل(3). وفي عام 2018، أشار كسينجر وهو في سن الخامسة والتسعين إلى صدمة مشاهدة الجنود الألمان وهم يفرضون حظر تجول في مسقط رأسه؛ فقد قال للصحفي الإنجليزي إد لوس من صحيفة فاينانشيال تايمز: «لقد كانت تجربة مؤلمة للغاية ومازلت أتذكرها حتى الآن». وقد ولَّدت الفوضى التي سادت في تلك الحقبة شعورًا عميقًا لدى كيسنجر بانعدام الأمن لم يتم تعويضه إلا من خلال ذكائه اللافت وإخفائه بروح الدعابة التي تنتقد الذات. وعلى الرغم من رفضه فكرة أن محرقة الهولوكوست كانت مصدر إلهام لبزوغ نجمه على الصعيد السياسي، فإنها تركت بداخله تقاربًا عاطفيًّا مع ما يمكن أن يئول إليه مصير إسرائيل.

    عمل كيسنجر مع رئيسٍ كانت لديه تحيزات معادية للسامية حتى إنه سخر من كيسنجر بشأن هويته اليهودية؛ هذا الإذلال الذي بذل كيسنجر قصارى جهده للتواؤم معه. وبمجرد أن أصبح كيسنجر صانعًا للسلام العربي الإسرائيلي، أصبحت هويته اليهودية مهمة له بطريقةٍ مختلفة؛ فقد منحته الفرصة لتشكيل نظام شرق أوسطي من شأنه أن يساعد في الحفاظ على الدولة اليهودية، فقد أدرك أن هويته اليهودية كانت مفيدة جدًّا لهذا المشروع. وغالبًا ما كان القادة الإسرائيليون على استعدادٍ تام للتعامل معه كواحدٍ منهم، بينما اعتقد القادة العرب أنه سيكون أكثر قدرة على دفع الجانب الإسرائيلي لتقديم تنازلات. كان كيسنجر سعيدًا باستغلال كلا التصورين إلى أقصى حدٍّ ممكن، إلا أنه ظل محل شك في أعين بعض العرب، ووصفه البعض في إسرائيل والجالية اليهودية الأمريكية بـ «المُهدئ» و«المحتال» عندما ضغط على إسرائيل للتنازل عن أراضٍ للعرب، إلا أنه في المنعطفات الحرجة وقت توليه منصبه في ذروة القوة الأمريكية، تصرف كيسنجر بطرق غير معترف بها لحماية إسرائيل ومساعدتها، وهي أفعال كان لها تأثير عميق ودائم -سواء للأفضل أو للأسوأ- على مستقبل الدولة اليهودية.

    وعلى عكس خلفائه، لم يكن كيسنجر مضطرًّا للتعامل مع الحكومات الإسرائيلية اليمينية التي لم ترغب أو لم تستطع قبول التنازل عن الأراضي، خاصةً تلك الأراضي الواقعة في الضفة الغربية، إلا أن إرادة صنع السلام المكتمل لديه أدت إلى وقوع مواجهة في عام 1975 بشأن الاتفاقية المصرية الإسرائيلية الثانية، فثمة أمور كثيرة نتعلمها حول كيفية نجاح الولايات المتحدة في إقناع إسرائيل باتخاذ المخاطرة المحسوبة من أجل تحقيق السلام؛ من الطريقة التي تعامل بها كيسنجر مع تلك الأزمة العميقة في العلاقة بين الجانبين.

    واستنادًا إلى بحثي في مفاوضات كيسنجر في الشرق الأوسط وسريتها، فقد أُتيحت لي الفرصة للمشاركة بشكلٍ مكثف مع ثلاثة من الفاعلين الرئيسيين المعنيين في القضية -إسحاق رابين والملك حسين ملك الأردن والرئيس السوري حافظ الأسد- بصفتي عضوًا في فريق الرئيس كلينتون للسلام. لقد تتبعت خطى كيسنجر الذي شارك في اجتماعات مجلس الأمن القومي في غرفة العمليات بالبيت الأبيض حيث انعقدت مجموعة العمل الخاصة بواشنطن (WSAG)، بالإضافة إلى لقاءات المكتب البيضاوي مع القادة الإسرائيليين والعرب. كما قضيت بعض الوقت في القصور ومكاتب رؤساء الوزراء التي كانت ذات يومٍ محلًّا لدبلوماسية كيسنجر، وبصفتي مبعوثًا خاصًّا للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، فقد توليت دورًا مماثلًا من خلال عملي في نفس جناح فندق الملك داود في القدس. وعلى الرغم من أنني لن أقارن دوري بالدور الذي لعبه كيسنجر، فإنني أعتقد أنني توصلت إلى فهم ما كان عليه الحال بالنسبة له.

    وفي أثناء إقامتي في فندق الملك داود، كانت غالبًا ما ترافقني زوجتي جال هودجز بيرت، مثلما كانت نانسي كيسنجر ترافق زوجها في تنقلاته. وشاءت الأقدار أن يتكرر الموقف الذي حدث قبل أربعة عقود؛ عندما كان كيسنجر يواصل العمل بشجاعته الدبلوماسية وكنت أراقبه كطالب في القدس، كانت جال سكرتيرته الصغيرة ترافقه كظله وتسافر معه حيثما ذهب وتتأكد من طهي البيض حسب رغبته، وتخبره بنتائج كرة القدم، وتحل مشكلاته مع صديقاته المشاهير، وتتهرب من نوبات غضبه، وتدون العديد من المحادثات الهاتفية المشار إليها في هذه القصة؛ كنا نحن الاثنان نعايش هنري كيسنجر في ذلك الحين بطرقٍ مختلفة.

    كما أُتيحت لي الفرصة أيضًا لمناقشة حالات الدراسة الدبلوماسية تلك مع كيسنجر نفسه من خلال إجراء عديد من المقابلات المطولة والمحادثات غير الرسمية معه في مكتبه الواقع في بارك أفينيو وفي منازله على النهر الشرقي وكينت كونيتيكت. وعلى الرغم من أنه في التسعينيات من عمره، فإنه مازال يتذكر كثيرًا من الأحداث التي وقعت قبل أربعة عقود، كما يتذكر الحسابات الاستراتيجية والسياق الجيوسياسي الذي استرشد به في قراراته.

    وفي مرحلة مبكرة من هذه المحادثات، عُينت مبعوثًا خاصًّا لأوباما وفوجئت بكيسنجر يتصل بي عندما وصلت الأخبار إليه وسألني بصوتٍ جهوري: «هل توليك هذا المنصب مجرد ذريعة لتجنب تأليف الكتاب؟» فأجبته بالنفي، وأعربت له عن امتناني لإرشاده لي بشأن التحديات العديدة التي تنتظرني في منصبي الجديد اعتمادًا على تجاربه الخاصة، كما اقترحت عليه أيضًا أن يساعدني في كتابة الكتاب، فسألني قائلًا: «هل أنت متفرغ لتناول طعام الغداء غدًا؟».

    روى كيسنجر بنفسه كثيرًا من هذه القصة في مذكراته الضخمة، وقدم مؤلفون آخرون في هذه الدراما نُسخهم أيضًا التي لم يُنشر بعضها ولم يلق البعض الآخر منها رواجًا كما هو منشود. وتضم تلك المذكرات روايات ذاتية من كيسنجر نفسه لما حدث، ولحسن الحظ يمكن الآن الاطلاع على جميع الوثائق الأمريكية تقريبًا التي تعود لذلك الوقت. ولأن كيسنجر كان هو نفسه طالبًا في التاريخ، فقد حرص على تسجيل محادثاته، مع استثناء محادثات قليلة فقط مثل اجتماعات مجلس الأمن القومي والمفاوضات مع القادة الأجانب والمكالمات الهاتفية مع الرئيس والمسئولين الآخرين؛ فقد وفرت هذه المحادثات سجلات تاريخية مُفصلة لعلاقات وأعمال كيسنجر في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من عدم الكشف عن الوثائق العربية لتلك الفترة للجمهور حتى الآن، فإن الوثائق الإسرائيلية لتلك الفترة متاحة الآن؛ مما يوفر رؤى رائعة حول قدرة كيسنجر ومحاوريه الإسرائيليين على التملص من بعضهم.

    ومن خلال تلك الوثائق والمقابلات التي أجريتها مع كيسنجر وسرد بعض تجاربي الخاصة، حاولت اصطحاب القارئ إلى الغرف التي مارس فيها كيسنجر دبلوماسيته حتى يتعرف القارئ ما حدث بدقة مطلقة؛ إذ كافح القادة العرب والإسرائيليون «بمساعدة كيسنجر» لإيجاد طريقة لإخراج دولهم من بوتقة الحرب ونشر السلام.

    من ناحيةٍ أخرى، يتناول هذا الكتاب تاريخًا عميقًا للفترة التي بدا فيها الشرق الأوسط على استعداد للانتقال إلى حقبة جديدة من المواءمات؛ حيث يعرض قصة بداية عملية السلام في الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة والتي رويتها من وجهة نظري بصفتي شخصًا مشاركًا بشكلٍ مباشر فيما يبدو الآن أنه كان خاتمة لها. حاولت سرد هذه القصة على حدٍّ سواء كمؤرخ يدقق في السجلات التي تحوي ذاكرة ما حدث، وكطالب فصل دراسي سعى لتعلم مهارات ودروس صنع السلام في الشرق الأوسط من دبلوماسي ماهر وتطبيقها، وقد حاولت خلال هذه المسيرة إلقاء الضوء على تجارب كيسنجر مع تجربتي الشخصية، فحكيت القصة بما يوفر منظورًا معاصرًا للأحداث التاريخية للمساعدة في تعميق فهم القارئ لفن عملية السلام في الشرق الأوسط كما يؤديها أحد أمهر ممارسيها.

    و يتطرق هذا الكتاب أيضًا إلى قصة صعود النفوذ الأمريكي في منطقة كان لها مصالح حيوية ذات يوم؛ حيث بدأ عصر السلام الأمريكي في الشرق الأوسط بفضل دبلوماسية كيسنجر، وتزامن ذلك مع الانفراجة في العلاقات بين القوى العظمى؛ حيث عمل انفتاح أمريكا على الصين على استقرار النظام الدولي إلى حدٍّ كبير بفضل بصيرة كيسنجر والمساعي التي بذلها. إلا أنه كان أيضًا وقتًا لتراجع الولايات المتحدة نتيجةً لهزيمتها في فيتنام، حينما بدأت هيمنة أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية في الانحسار وكانت عواقب تجاوزها ملموسة في الداخل والخارج. كما شهد ذلك الوقت أيضًا أزمةً حادة في الإدارة الأمريكية عندما أصبح نيكسون أول رئيس أمريكي يستقيل من منصبه جراء فضيحة ووترجيت. ومع ذلك، تمكن كيسنجر من الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة بصفتها مهيمنة في الشرق الأوسط من خلال دبلوماسيتها لصنع السلام بدلًا من نشر قواتٍ لتحفيز الحرب.

    على الأقل هذا هو ما بدا لي عندما شرعت في البحث عن أصول عملية السلام التي قادتها الولايات المتحدة؛ حيث اكتشفت خلال مسيرتي أن جهود كيسنجر لم تكن تتمحور فقط -أو حتى لم تكن في المقام الأول- حول تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل، ولكن على عكس ذلك، أصبحت عملية السلام التدريجية التي طورها كيسنجر هي آليته الأساسية لخلق نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط؛ مما أدى إلى تهميش الاتحاد السوفيتي في خضم الحرب الباردة واستقرار تلك المنطقة المضطربة في آنٍ واحد.

    لقد اعتقد كيسنجر أن تعزيز السلام وخلق النظام هما وجهان لعملة واحدة؛ فقد كانت رغبته في صنع السلام في كثير من الأحيان غطاء يخفي حبه للنظام، إلا أن أفكاره كانت واضحة وغير مشوشة، فما قد بدا أنه جرأة دبلوماسية على السطح كان في الواقع فكرًا محافظًا فطريًّا لديه. وقد ولَّدت تجربته في الفرار من محرقة الهولوكوست سعيًا متأصلًا لديه لتحقيق النظام في حياته وعلى الصعيد الدولي مما أدى بدوره إلى تصميمه على إقامة نظام بقيادة أمريكا في الشرق الأوسط.

    كان كيسنجر يرى أن الهدف الأساسي لعملية صنع السلام هو تخفيف حدة النزاعات بين القوى المتنافسة وليس إنهاءها. وكما سنرى لاحقًا في هذا الكتاب، فقد أثبت كيسنجر أنه قاوم بشدة الجهود الأكثر طموحًا لحل الصراع العربي الإسرائيلي؛ لأنه خشي أن يؤدي السعي لتحقيق سلام مثالي ونهائي إلى تعريض الاستقرار الذي صمم نظامه للخطر، ومن ثم كان السلام بالنسبة لكيسنجر مشكلةً وليس حلًّا. وكانت الرغبة في ذلك بحاجة إلى بعض التغيير للوصول إلى شيءٍ أكثر موثوقية، وخلْق نظام مستقر في جزء شديد التقلب من العالم، حيث سيستمر هذا النظام الذي أسسه كيسنجر في الشرق الأوسط لما يقرب من ثلاثين عامًا.

    ومن ثم، صاغ كيسنجر استراتيجياته وتكتيكاته على غرار رجال الدولة الأوروبيين -من أمثال مترنيش وكاسلريه ولاحقًا بسمارك- الذين شكلوا النظام وحافظوا عليه في أوروبا لمدة قرن بعد الحروب النابليونية التي انتهت عام 1914. ومثل القادة الأوروبيين الذين أتوا بعد بسمارك، فإن معظم صانعي السياسة الأمريكيين الذين جاءوا بعد كيسنجر لم يعرفوا مترنيش ولا المبادئ الأساسية لنظام كيسنجر في الشرق الأوسط، وبالتالي كانوا يتجاهلونها في كثيرٍ من الأحيان لصالح الجهود الخيالية والرائعة لإنهاء الصراعات في المنطقة، أو تعزيز الديمقراطية والإطاحة بالأنظمة. ونتيجةً لذلك تفكك نظام كيسنجر؛ مما تسبب في حدوث معاناة إنسانية هائلة وتقليص قدرة أمريكا على التأثير على الأحداث في هذه المنطقة من العالم.

    وبدأ ذلك مع فشل مساعي كلينتون للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي في كامب ديفيد عام 2000، وما تلاه بعد ذلك من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في نهاية فترة رئاسته. وبعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أطاح جورج دبليو بوش بصدام حسين، وأغرق الولايات المتحدة في أطول الحروب في التاريخ الأمريكي في كلٍّ من العراق وأفغانستان في محاولةٍ منه لإعادة تشكيل الشرق الأوسط حسب التصور الأمريكي؛ مما أدى إلى فتح أبواب بابل أمام المنافس الإيراني للهيمنة على الإقليم، في الوقت الذي تراجع فيه بشكلٍ كبير النفوذ الأمريكي في الساحة العربية الإسرائيلية، واستنفد شهية الشعب الأمريكي للتورط في أي حروب خارجية.

    لقد دفعت رغبة أوباما في أن يكون على الجانب الصحيح من التاريخ إلى دعم الثورة المصرية وتغيير النظام في ليبيا وسوريا؛ مما أدى إلى تفاقم الاضطرابات في المنطقة، حيث سهَّل دخول سوريا في حرب أهلية مريرة عودة الجيش الروسي إلى المنطقة وهو ما زاد من نفوذه، وسعت تركيا أيضًا من جانبها لملء الفراغ. وفي الوقت ذاته أدى انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان -بعد الحرب الكارثية التي دامت عقدًا من الزمن في العراق- إلى تقويض مكانة أمريكا التي كانت مهيمنة ذات يومٍ وتقليل تأثيرها على شئون الشرق الأوسط بشكلٍ عام، بما في ذلك القضية الفلسطينية.

    ثم جاء بعد ذلك دونالد ترامب الذي أصر على تسريع الانسحاب العسكري الأمريكي من الشرق الأوسط وإلغاء الالتزامات الأمريكية قولًا وفعلًا. ومع ذلك، كان ترامب يتطلع أيضًا إلى أن يكون صانع سلام في الشرق الأوسط، لكن مشروعه الذي يتسم بالغرور لم يكن مختلفًا كثيرًا عن هدف كيسنجر المتمثل في إنشاء نظام شرق أوسطي مستقر.

    وبينما يتجه الشرق الأوسط في طريقه إلى نمط ما قبل ويستفاليا من دول فاشلة تندلع فيها الحروب الدينية، وخروج بعض المناطق عن سيطرة الحكم، فإن ناقوس الموت يدق للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والذي أنشأه كيسنجر من خلال دبلوماسيته الدءوب. ولا عجب أنه الآن -بصفته أكبر رجل دولة في السياسة الخارجية الأمريكية- يتذكر ذلك الوقت السابق بحنين جمٍّ.

    مرةً أخرى، تتحدى ممارسات الترهيب العنيفة الآمال في النظام العالمي. إلا أنه عندما تشعر بالإحباط -ولن يكون أقل من ذلك- قد تأتي لحظة مشابهة لما أدى إلى الاختراقات التي يسردها هذا الكتاب، حينما تغلبت الرؤية على الواقع.

    وأعتقد أن هذه اللحظة ستأتي مرة أخرى، على الرغم من أنها ربما لن تكون خلال فترة حياتي أو حياة كيسنجر، عندما يسعى قادة على غرار السادات وحسين ومائير ورابين وبيجن مرة أخرى إلى تحقيق رؤية السلام التي ستمكنهم -بدعم أمريكي- من بناء واقع شرق أوسطي جديد وأكثر استقرارًا وسلميةً. وعندما تحين تلك اللحظة، سيكون من المهم معرفة ما كان سيفعله هنري كيسنجر بها.

    (1) في نوفمبر 2005 توصلت إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى اتفاق بشأن التنقل والعبور لتسهيل حركة البضائع والأشخاص من غزة وإليها، غير أنه لم ينص على أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية ولا أي التزام عربي بالسلام مع إسرائيل.

    (2) تشمل «القدس اليهودية» القدس الغربية وجميع الضواحي اليهودية في القدس الشرقية. وفي المقابل ستخضع جميع الضواحي العربية في القدس الشرقية للسيادة الفلسطينية، كما هو مقترح أصلًا في معايير كلينتون المعلن عنها في ديسمبر 2000، كما يتعين أيضًا الاتفاق على ترتيبات خاصة للمدينة القديمة والأماكن المقدسة.

    (3) أشار كاتب سيرة كيسنجر نيال فيرجسون إلى أن ثلاثين من أقارب كيسنجر -على أقل تقدير - قتلوا على يد النازيين، بالإضافة إلى مقتل ما يقرب من ٪10 من زملائه في الفصل أيضًا على يد النازيين.

    الجــــزء الأول: المقدمات

    1- الاستـراتــيـجــيـــة

    (قد تستند السياسة على المعرفة ولكن بلا شك فإن سلوكها فن).

    - هنري كيسنجر، كتاب عالم مستعاد

    20 يناير، 1969، واشنطن العاصمة: دخل هنري كيسنجر البيت الأبيض كمستشارٍ للأمن القومي في اليوم الأول من تولي الرئيس نيكسون مقاليد الحكم، اعتبره معظم المراقبين آنذاك الخيار البديهي لهذه الفترة. وعلى الرغم من أنه كان في الخامسة والأربعين من عمره، فإنه بدا شابًّا وعديم الخبرة في تولي شئون هذا المنصب الحساس، ولكنه أثبت خلال العقدين الماضيين أنه مفكر عام لامع وحاسم يتمتع بحسٍّ إبداعي لا يضاهيه سوى عدد قليل من أقرانه في مجال السياسة الخارجية.

    بعد ثلاث سنوات من حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، كتب كيسنجر دراسة سياسية تحريضية حول الاستراتيجية النووية الأمريكية وقدمها لمجلس العلاقات الخارجية. وفي كتابه بعنوان «الأسلحة النووية والسياسة الخارجية»، قال كيسنجر إن الولايات المتحدة بحاجة إلى تبني عقيدة «الرد المرن» في الرد على تهديدات الضربة النووية السوفيتية؛ مما يتطلب وجود الإرادة والقدرة على خوض حروب نووية محدودة. وعلى الرغم من أن فكرة شن حرب نووية محدودة قد تبدو فكرةً مجنونةً اليوم، فإنها حظيت في ذلك الوقت باهتمامٍ جاد من جانب صانعي السياسة. ومن خلال حل المعضلات القاسية للعصر النووي واتباع استراتيجية كبرى ربطت الترسانة النووية الأمريكية بأغراضها الدبلوماسية، برز اسم كيسنجر في نادي النخبة من الاستراتيجيين النوويين مثل توماس شيلينج، وهيرمان كان، وألبرت وولستيتر الذين تمتعوا بخبرات على أعلى مستوى بين صانعي السياسة في واشنطن والذين واجهوا تحديات الحرب الباردة(4).

    كان نشر هذا الكتاب -الذي أصبح أكثر الكتب مبيعًا وقراءة على نطاقٍ واسع حول الاستراتيجية الأمريكية في ذلك الوقت - إيذانًا بانطلاق مسيرة كيسنجر كمفكرٍ فذ في السياسة العامة، ومثلت مجموعة الدراسة التابعة لمجلس العلاقات الخارجية التي طرح كيسنجر عليها هذه الأفكار، أول خطوة لبزوغ نجم كيسنجر في نخبة السياسة الخارجية الأمريكية(5)، غير أن تهيئته ليكون أعلى مستشار للسياسة الخارجية في البلاد كانت قد سبقت تلك التجربة.

    لقد اكتسب كيسنجر خبرةً عميقة عند خدمته في ألمانيا كضابط استخبارات في قسم G-2 من فرقة المشاة 84 للجيش الأمريكي خلال أحداث الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة، وقد أسهمت هذه التجربة أيضًا في تشكيل شخصيته بوصفه وسيطًا بين ألمانيا التي وُلد فيها وأمريكا التي عاش فيها حياته الجديدة. ومنحه تمثيله للعلاقات -عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وألمانيا في فترة ما بعد الحرب- نظرةً ثاقبة للركيزة الأوروبية في النظام العالمي الجديد الذي أقدمت الولايات المتحدة على بنائه بعد الدمار الهائل والاضطرابات التي تسببت فيها الحرب. كما أنه عمل أثناء إعداده لدراساته العليا في مكتب أبحاث عمليات الجيش الأمريكي، وهو ما وصفته إدارة أيزنهاور بـ«الحرب النفسية» عليه، ولكن ذلك مكنه من فهم أهمية «الحالة الذهنية للناس في صنع السياسات».

    خلال تلك المرحلة المبكرة من حياته المهنية، كان كيسنجر يسافر بالفعل إلى شرق آسيا، وهو ما أكسبه معرفةً مهمة بالحالة الذهنية لليابانيين والكوريين. وبصفته طالب دراسات عليا في جامعة هارفارد يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، شرع أيضًا في توسيع شبكة معارفه الشخصية على الصعيد الدولي من خلال الندوة الدولية، وهي دورة صيفية سنوية تُعقد لمدة شهرين لنحو أربعين من القادة الشباب الواعدين من جميع أنحاء العالم الذين يُختارون بعناية ويدرسون على يد كيسنجر(6).

    علاوةً على ما تقدم، أسس كيسنجر مجلة الملتقى Confluence التي دعا فيها المفكرين الأوروبيين والأمريكيين للكتابة عن الشئون الدولية؛ مما أتاح له فرصة تكوين شبكة معارف جماعية من المفكرين الجادين في السياسة الخارجية، وبعضهم من أهم صُناع السياسة الأمريكية. وتُوِّجت هذه الجهود بعد بضع سنواتٍ عندما أشرف كيسنجر -بصفته عضو هيئة تدريس دائمًا في جامعة هارفارد– على برنامج دراسات الدفاع، وهي دورة دراسات عليا كان يدعو إليها صانعي السياسة في واشنطن لإلقاء محاضرات كمحاضرين ضيوف. كان كيسنجر يمضي فترات الصيف في السفر إلى الخارج والاجتماع مع كبار المسئولين الحكوميين ورجال الأعمال والمثقفين في أوروبا وآسيا ويتبادل الأفكار معهم؛ حيث مكنته تلك الاتصالات من لعب دورٍ محوري في صنع السياسة حتى قبل انضمامه إلى إدارة الرئيس نيكسون.

    Section00008.xhtml

    هنري كيسنجر فـي جامعة هارفارد يكتب أطروحة الدكتوراه عن النظام الأوروبي فـي القرن التاسع عشر الذي ظهر بعد الحروب النابليونية وحافظ على السلام فـي القارة لما يقرب من مائة عام؛ حيث أصبح هذا الكتاب بعنوان «عالم مُستعاد: مترنيش، كاسلريه، ومشاكل السلام، 1822 - 1812» أول كتاب له ونُشر فـي عام 1957.

    في هذا الصدد، كان نيلسون روكفلر من أبرز الشخصيات التي التقى بها كيسنجر، فقد قابله عام 1955. وكان روكفلر آنذاك مساعدًا للرئيس أيزنهاور للشئون الخارجية، وقد أُعجب بكسينجر كثيرًا وعينه مديرًا لمبادرته السياسية الخاصة «مشروع الدراسات الخاصة» الذي هدف إلى استكشاف التحديات الجوهرية التي تواجهها الولايات المتحدة في العالم. تولى كيسنجر الإشراف على طاقم قوامه حوالي مائة شخص، وأدار عدة لجان استشارية من الخبراء، وأعد تقرير المشروع عن الأمن الدولي، كان هذا المشروع هو المكان الذي التقى فيه لأول مرة بنانسي ماجينيس، المرأة التي تزوجها في النهاية. وبعد تلك الفترة، احتفظ روكفلر بكيسنجر للعمل لديه مستشارًا غير متفرغ.

    كان عمله مستشارًا لأحد أغنى المنحدرين من المؤسسة البروتستانتية البيضاء بمثابة إعداد لكيسنجر لتولي المناصب الرفيعة، ودخوله إلى الحقل السياسي عن طريق راعٍ أرستقراطي قوي. وخلال هذه الفترة تعلم كيسنجر كيفية التعامل مع الأغنياء والأقوياء، وأهمية الإطراء لتحقيق هذا الغرض. وقـد مثَّل عام 1964 أول تجربة مباشرة له مع الوضع المحلي ونزاعاته السياسية؛ حيث تعرف على الشعبويه اليمينية الأمريكية لأول مرة من خلال انضمامه لحملة روكفلر ضد باري جولد ووتر في سباق الترشح للرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهوري.

    على الرغم من أن هذه الصلة بالحزب الجمهوري لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل شخصية كيسنجر السياسية، فإن احتكاكه الفعلي بالسياسة جاء من خلال الإدارة الديمقراطية لجون فيتزجيرالد كينيدي، عندما عُين كيسنجر مستشارًا غير متفرغ من جانب ماك جورج بوندي، مستشار الأمن القومي للرئيس. وبلغت شخصيته السياسية أوجها عندما استعان الرئيس الجديد المولود في بوسطن بأصدقائه وزملائه في جامعة هارفارد لإضفاء ثقل فكري على إدارته، وهو ما أتاح انفتاحًا طبيعيًّا على عملية رسم السياسات لأستاذ جامعي شاب في جامعة هارفارد أتيحت له فرصة مميزة بين نخبة السياسة الخارجية.

    كان بوندي -بصفته عميدًا لكلية الفنون والعلوم في جامعة هارفارد- قد ضمن لكيسنجر منصبه في هذه الإدارة الجديدة، إلا أنه كان حذرًا من تألق ربيبه، وبَذَل قصارى جهده لإبقائه بعيدًا عن العملية السياسية، كان هذا أول معرفة لكيسنجر بسياسات البيت الأبيض البيروقراطية، لكنه بعدما وجد نفسه فاعلًا مؤثرًا محتملًا، استُبعد على الفور. وفي عام 1979، تحدث كيسنجر عن تلك التجربة المحبطة في برنامج ديك كافيت، فأشار إلى أن صانعي السياسة يطلبون من المستشار رأيه لمجموعة متنوعة من الدوافع «أقلها أنهم يريدون أن يفعلوا ما يقوله المستشار لهم».

    ولكن سرعان ما وجد كيسنجر طريقةً أخرى لتقديم المشورة لكينيدي عن طريق زميله وصديقه في جامعة هارفارد المؤرخ آرثر شليزنجر الحاصل على جائزة بويليتزر، الأمر الذي أثار استياء بوندي؛ فقد كان آرثر شليزنجر قد رتَّب لتعيين كيسنجر في مجلس العلاقات الخارجية قبل سبع سنوات، ونظرًا لعمله في الدائرة المقربة من كينيدي، فقد كان شليزنجر يستدعي كيسنجر من حينٍ لآخر إلى المكتب البيضاوي لإطلاع الرئيس على أفكاره؛ مما أتاح الفرصة لكيسنجر لعرض فكرة «الاستجابة المرنة» والتي تبناها كينيدي خلال معارضته لرئيس الوزراء السوفيتي نيكيتا خروتشوف بشأن حصار برلين. أصبح كيسنجر يؤثر بشكلٍ مباشر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ومع ذلك فإن صمت كينيدي على بناء جدار برلين وإصرار بوندي على تحجيم تأثير كيسنجر في البيت الأبيض، أثبتت لكيسنجر عدم صرامة كينيدي في سياسته؛ مما دفعه إلى قطع صلته بالبيت الأبيض.

    انضم كيسنجر بعد ذلك إلى إدارة جونسون لتقديم مشورته بشأن الحرب في فيتنام، وكانت زيارته الأولى من أصل ثلاث زيارات إلى تلك الدولة -التي أهلكتها الحرب- في أكتوبر 1965 بدعوةٍ من السفير هنري كابوت لودج (الجمهوري الذي كان نائبًا لنيكسون في الانتخابات التي أجريت عام 1960). وسرعان ما أصبح كيسنجر مقتنعًا بأن إنهاء الحرب عن طريق التفاوض هو السبيل الأوحد لإخراج الولايات المتحدة من التزام غير مجدٍ بنظام فيتنامي جنوبي فاسد ومترهل. وفي عام 1967، حاول كيسنجر استخدام المسار الثاني المتمثل في دبلوماسية القنوات الخلفية غير الرسمية للمساعدة في التوصل إلى نتيجة تفاوضية مستفيدًا من اتصالاته الدولية، ولكن انهارت جهوده وذهبت أدراج الرياح بسبب إصرار القادة المسئولين في هانوي عاصمة فيتنام على وقفٍ غير مشروط للقصف قبل بدء المفاوضات، غير أن هذا لم يحدث إلا بعد أن دخل كيسنجر في نقاش سياسي مكثف في البيت الأبيض مع الرئيس جونسون الذي أعطى الضوء الأخضر على مضض للبدء في مهمة كيسنجر. لقد احتدم النقاش في نهاية الاجتماع وقام جونسون بضرب الطاولة بيده مهددًا كيسنجر بـ«إفقاده رجولته والقضاء عليه» إذا فشلت رؤيته.

    بدت تلك التجربة وكأنها تفتح شهية كيسنجر على عالم صناعة السياسة؛ ففي عام 1968 انضم كيسنجر مرة أخرى ككاتب خطابات ومستشار للسياسة الخارجية في حملة روكفلر لانتخابات الحزب الجمهوري الأولية لاختيار مرشحه للرئاسة. وعندما فاز نيكسون في هذه الانتخابات، رفض كيسنجر الدعوة الموجهه إليه للانضمام إلى مجلس نيكسون الاستشاري للسياسة الخارجية في حملته الرئاسية، مفضلًا الابتعاد عن منافسه، إلا  أنه وعد بتقديم المساعدة «خلف الكواليس»، إن طُلب منه ذلك، وقد فعل ذلك بالضبط.

    بحسب نيكسون، فقد حذر كيسنجر المرشح الجمهوري من تجنب طرح أفكار أو مقترحات جديدة قد تقوضها تطورات المفاوضات الفيتنامية التي كان السفير أفريل هاريمان يجريها في باريس نيابة عن إدارة جونسون. وبعد بضعة أيام –كما ذكر نيكسون- أخبر كيسنجر المسئولين في الحملة «أن هناك فرصة أفضل من أن يأمر جونسون بوقف القصف في منتصف أكتوبر تقريبًا».

    كانت معلومات كيسنجر تستند إلى الإحاطات التي تلقاها في رحلته إلى باريس في سبتمبر 1968 من جون نيجروبونتي ودانييل ديفيدسون، ثم صغار الموظفين في وفد هاريمان، حيث عامله كلاهما على أنه شخص مطلع بسبب الدور الذي لعبه في مفاوضات المسار الثاني المُصدق عليها في عهد ليندون بينز جونسون(7).

    ولكن في استعراضٍ لبراعته السياسية، قدم كيسنجر أيضًا إحاطات إعلامية لحملة المرشح الديمقراطي للرئاسة هيوبرت همفري؛ مما جعل الأخير يؤكد في وقتٍ لاحق أنه لو تم انتخابه لهذا المنصب، فإنه سيعين كيسنجر مستشارًا للأمن القومي. كانت هذه الوعود شهادةً على أنه يمكن للاجئ يهودي ناجٍ من المحرقة أن يرتقي بسرعة إلى مثل هذه الدوائر السياسية الخارجية بالغة الأهمية في عملية صنع السياسة الأمريكية؛ حيث وجد كيسنجر نفسه موضع ترحيب من قبل المرشحين الرئاسيين من كلا الحزبين بسبب تألق أفكاره بغض النظر عن أنها كانت باللغة الإنجليزية بلكنةٍ ألمانية واضحة.

    وقال كيسنجر في افتتاح روايته المكونة من ثلاثة مجلدات عن عمله مستشارًا للأمن القومي ثم وزيرًا للخارجية الأمريكية: «إن المنصب الرفيع يُعَلِّم اتخاذ القرار، ولكنه يستهلك رأس المال الفكري ولا يخلقه».

    ومما لا شك فيه أن كيسنجر قد دخل البيت الأبيض في عهد نيكسون بكم كبيرٍ من رأس المال الفكري متضمنًا تقديرًا عميقًا لأهمية السياق التاريخي للسياسة الدولية وعقليات القادة المعنيين، إلا أن هذا الفهم لم يشمل أي معرفة خاصة بالتاريخ المعقد للشرق الأوسط أو الصدمات النفسية العميقة لشعوبه، فلم يكتب كيسنجر –كمؤرخ- أي شيءٍ عن تلك المنطقة على الرغم من أهميتها الجيوسياسية باعتبارها مفترق طرق للإمبراطورية وموقعًا لتنافس القوى العظمى فيما بينها. والمثير للدهشة أن دراسة كيسنجر للتاريخ الأوروبي لم تتطرق إلى الإمبراطورية العثمانية ولم يزر أبدًا أي عاصمة عربية خوفًا من عدم الترحيب به كيهودي أمريكي، ولكن جذب تعامل أيزنهاور مع أزمة حرب قناة السويس في عام 1956 انتباهه بشدة؛ حيث اقتنع حينها أن إضعاف الأصدقاء ومساعدة العملاء السوفييت لم يكن سياسة جيدة، وأن البيروقراطيين في وزارة الخارجية هم المسئولون عن هذا من الناحية الأيديولوجية. كانت تساور كيسنجر الشكوك بشأن المشروع الصهيوني، وهي الشكوك التي عبر عنها بعض اليهود الأمريكيين من أصل ألماني، في الوقت الذي لم يتخذ فيه كيسنجر موقفًا واضحًا حيال هذه القضية. لقد كان موقفه شبيهًا للغاية بموقف اليهود الألمان الذين سعوا إلى الاندماج في المجتمع الأمريكي كما حاولوا أن يفعلوا في ألمانيا. لقد تأثر كيسنجر بمواقف منظمة أغودات إسرائيل اليهودية الأرثوذكسية التي انضم إليها مع والده خلال فترة شبابه في ألمانيا، وتمثلت عقيدة تلك المنظمة في رفض إقامة دولة يهودية لأنها بدعة، وأنه لا يمكن القيام بذلك إلا عند ظهور المسيح وفقًا لحاخاماتهم، الأمر الذي منع كيسنجر من الانضمام إلى أي حركة شبابية صهيونية. علاوة على ذلك كان كيسنجر يتساءل عن إمكانية استمرار دولة يهودية صغيرة في مثل هذا العالم العربي المعادي لها والمصمم على تدميرها. كل تلك الأفكار والرؤى لم ترق إلى وصفها بعداء كيسنجر لإسرائيل، بل عبرت عن مشاعر القلق التي يحملها كيسنجر -حتى يومنا هذا- من بقاء دولة يهودية صغيرة في منطقة معادية لوجودها، وكيف أن ذلك لا يمكن ضمانه أبدًا في حال تعرضت إسرائيل لعمل يتسبب في وقوع ضحايا.

    وخلال فترة عمله في جامعة هارفارد، درَّس كيسنجر لاثنين من الطلاب العرب؛ أحدهما من لبنان، والآخر من المملكة العربية السعودية، ووضع تصورًا نمطيًّا للقادة العرب من خلال هذا التعرف المحدود على العالم العربي، معتقدًا أن «الصعوبة الرئيسية تكمن في تحديد النقطة التي يقف عندها الواقع، فتُطلق فيها العبارات الرنانة، وتختلط الاستراتيجيات والأحلام»(8).

    على النقيض، سافر كيسنجر خمس مرات إلى إسرائيل؛ فكانت زيارته الأولى في عام 1962 بدعوةٍ من إيجال ألون -سياسي صاعد في حزب العمل وينظر له كبطل في حرب تأسيس إسرائيل- وكان صديقًا له عندما كان ألون طالبًا في ندوة كيسنجر الدولية في جامعة هارفارد عام 1957. ويتذكر كيسنجر لقاءه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسطوري ديفيد بن جوريون، ونائب وزير الدفاع آنذاك شيمون بيريز.تأثر كيسنجر بمخاوف وجود إسرائيل المحفوف بالمخاطر، في الوقت الذي بلغ عدد سكانها وقتها 2.3 مليون نسمة فقط كانوا يعيشون في «شظية من الأراضي المحاطة بدول عربية معادية أكبر من إسرائيل بكثير» على حد وصفه. أما الزيارة الثانية فكانت حينما عاد كيسنجر لإسرائيل بعد مرور عامٍ لإلقاء محاضرة في وزارة الخارجية الإسرائيلية، فأثار بعض الجدل بوصفه لشحنات الأسلحة السوفيتية المرسلة إلى الدول العربية بالاستفزازية، وهو ما تبين لاحقًا أنه تلميح مبكر إلى ما سيحدث. وكانت رحلته الثالثة إلى إسرائيل في يناير 1965، عندما التقى برئيس الوزراء ليفي إشكول وشيمون بيريز الذي كان لا يزال نائبًا لوزير الدفاع. تلقى كيسنجر حينها إحاطات عسكرية مكثفة وكان معجبًا للغاية بإسحاق رابين، الذي كان آنذاك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وأبلغ كيسنجر وزارة الخارجية أنه يعتقد أن إسرائيل كانت تصنع بالفعل أسلحة نووية، وأن التعهد الأمريكي الصارم بتوفير الحماية الأمنية لها هو الذي يمكن أن يمنع تصنيع الأسلحة النووية. أما زيارته الرابعة فكانت في ربيع عام 1967، قبل أشهرٍ قليلة من اندلاع حرب الخامس من يونيو، حيث التقى خلالها بوزير الخارجية أبا إيبان وتناقشا حول ضرورة إطلاق مبادرة سلام، بينما جاءت الزيارة الخامسة في يناير 1968، عندما التقى بإسحاق رابين مرةً أخرى والذي صار بطلًا في عيون الإسرائيليين في حرب يونيو، وكان يستعد وقتها لتولي منصبه كسفير لإسرائيل في واشنطن. يومها حذر كيسنجر رابين من أن الانعزالية المتزايدة ستقلل من التزام أمريكا بمصير الدول الغربية الصغرى مثل إسرائيل.

    خرج كيسنجر من تلك الزيارات مدركًا أن «السلام في الشرق الأوسط لم يكن ضرورة فعلية فحسب، بل كان ضرورة معنوية أيضًا»، ومع ذلك لم يخطر بباله يومًا أنه «قد ينضم إلى النضال من أجل تحقيق السلام». وعلى الرغم من ذلك، أثبت العديد من أفكاره التي طرحها في أبحاثه وكتاباته مدى أهميتها في نهجه اللاحق الذي اتبعه في الشرق الأوسط، وما سلكه من طرق ساهمت في تشكيل الأحداث والأحكام التي أطلقها على طول الطريق.

    عندما كان كيسنجر في ريعان شبابه، دفعته تجربته المؤلمة التي عاشها في ظل الفوضى النازية والعنف التعسفي إلى السعي وراء تحقيق النظام في حياته بشكلٍ طبيعي، فأصبح الحفاظ على النظام في المنظومة الدولية هو القوة المحركة في كتاباته. وبعد أن تولى منصبه أصبح الأمر حجر الأساس لاستراتيجيته كصانع سياسات.

    فمن وجهة نظر كيسنجر، فإن الحفاظ على المنظومة الدولية يتطلب تأمين توازن ثابت للقوى؛ فقد تناول في أطروحته للدكتوراه التي نُشرت لاحقًا باسم «عالم مستعاد» في عام 1957، كيف تم الحفاظ على النظام الأوروبي بعد الفترة النابليونية في القرن التاسع عشر من خلال تحقيق توازن القوى ببراعة، والتلاعب بعداوات القوى المتنافسة لمنع أولئك الذين سعوا إلى إثارتها.نتج عن هذا النظام -الذي أنشأه مؤتمر فيينا عام 1814 - مائة عام من الاستقرار النسبي دون نشوب حرب قارية أو ثورة ناجحة، وهذا ما سعى كيسنجر إلى تكراره في الشرق الأوسط عندما أُتيحت له الفرصة.

    ومن خلال دراساته، أدرك كيسنجر أنه لكي يكون النظام مستدامًا، يجب أن يكون شرعيًّا أيضًا، بما يعني أن جميع القوى الكبرى داخل النظام يجب أن تكون على استعدادٍ للالتزام بمجموعة من القواعد المقبولة عمومًا، ولن تُحترم هذه القواعد إلا إن وفرت إحساسًا كافيًا بالعدالة لعدد كافٍ من الدول؛ ولذا فقد شدد على أن الأمر لا يتطلب إنهاء جميع المظالم، ولكن «يكفي حل المظالم التي من شأنها أن تحفز على محاولة قلب النظام»، كما ذكر في مقالته التي كتبها عن بسمارك عام 1968، مضيفًا: «إن استقرار أي نظام عالمي يعتمد على عاملين على الأقل؛ وهما درجة الأمان التي يشعر بها ذلك النظام ومدى ارتياح العناصر لما يتوافر به من عدالة وإنصاف... فالتوازن ضروري للاستقرار، والإجماع الأخلاقي ضروري للعفوية»(9).

    لقد أدرك كيسنجر أن بعض الدول في هذا النظام لن ترضى بالحد الأدنى من العدالة، ولهذا السبب أصبح عنصر توازن القوى هو الشريك الأساسي للإجماع الأخلاقي الذي ولَّد الشرعية، ويظهر الدور الرئيسي لتوازن القوى من خلال ضبط النفس للحفاظ على النظام في حالة خروج دولة واحدة أو أكثر عن هذا الإجماع الأخلاقي، فمفهوم كيسنجر يقوم على أن النظام الشرعي لا يقضي على الصراع ولكنه يحد من نطاق اتساعه.

    برز اسم الرئيس المصري جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي كقائدٍ ثوري يسعى إلى تعطيل النظام القائم في الشرق الأوسط بذات الطريقة التي شكل بها نابليون تحديًا للنظام الأوروبي في القرن الثامن عشر. حاول كيسنجر احتواء جمال عبد الناصر والقادة العرب الذين تأثروا به من خلال سعيه إلى تعزيز توازن القوى الموجه لصالح المدافعين الإقليميين عن الوضع القائم وقتها؛ وهم إسرائيل والمملكة العربية السعودية في قلب الشرق الأوسط، وإيران في الخليج الفارسي. كان يعزز هذا التوازن الانفراج الذي كان يفكر في تطويره مع الاتحاد السوفيتي، والذي من شأنه أن ينطوي على التزام قوة عظمى مشتركة للحفاظ على الاستقرار في هذه المنطقة شديدة الاضطراب.

    تيقن كيسنجر أن شرعية هذا النظام الشرق أوسطي مهددة في حال غياب الجهود

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1