الفتاوى الكبرى لابن تيمية
By ابن تيمية
()
About this ebook
الفتاوى الكبرى كتاب لابن تيمية الكتاب يضم المئات من الفتاوى التي سئل عنها ابن تيمية وأجاب عليها والكتاب مرتب حسب المواضيع الفقهية.
الفتاوى الكبرى كتاب لابن تيمية الكتاب يضم المئات من الفتاوى التي سئل عنها ابن تيمية وأجاب عليها والكتاب مرتب حسب المواضيع الفقهية.
Read more from ابن تيمية
مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsجواب في الحلف بغير الله والصلاة إلى القبور، ويليه: فصل في الاستغاثة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsرسالة في أصول الدين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsاقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالعقيدة التدمرية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsقاعدة حسنة في الباقيات الصالحات Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتحقيق الإيمان لابن تيمية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالصارم المسلول على شاتم الرسول Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتخريج الكلم الطيب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsقاعدة في الصبر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالصفدية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالحسنة والسيئة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsجامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة الرابعة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالفتاوى الكبرى لابن تيمية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشرح حديث النزول Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsنقد مراتب الإجماع Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsجامع الرسائل لابن تيمية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsبغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsرفع الملام عن الأئمة الأعلام Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsحقوق آل البيت بين السنة والبدعة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشرح العمدة لابن تيمية - كتاب الحج Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالرد على المنطقيين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsبيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsفصل في تزكية النفس Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالإيمان الأوسط Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأحاديث القصاص Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله Rating: 0 out of 5 stars0 ratings
Related to الفتاوى الكبرى لابن تيمية
Related ebooks
مجموع الفتاوى Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمغني لابن قدامة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsسبل السلام شرح بلوغ المرام Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالفتاوى الكبرى لابن تيمية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsفتح القدير للشوكاني Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشرح العمدة لابن تيمية - كتاب الحج Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالغرر البهية في شرح البهجة الوردية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشرح منتهى الإرادات Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمعارج القبول بشرح سلم الوصول Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمدارج السالكين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsكشف المشكل من حديث الصحيحين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأسنى المطالب في شرح روض الطالب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsاقتطاف الأزاهر والتقاط الجواهر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsنيل الأوطار Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمحلى بالآثار Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsإحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالإتقان في علوم القرآن Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأحكام القرآن لابن العربي Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالقواعد لابن رجب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsزاد المعاد في هدي خير العباد Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتفسير ابن كثير Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالتحرير والتنوير Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsسجود التلاوة معانيه وأحكامه Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمجموع شرح المهذب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمنتقى شرح الموطإ Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتفسير الطبري Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالرسالة العرشية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين Rating: 0 out of 5 stars0 ratings
Related categories
Reviews for الفتاوى الكبرى لابن تيمية
0 ratings0 reviews
Book preview
الفتاوى الكبرى لابن تيمية - ابن تيمية
الفتاوى الكبرى لابن تيمية
الجزء 7
ابن تيمية
728
الفتاوى الكبرى كتاب لابن تيمية الكتاب يضم المئات من الفتاوى التي سئل عنها ابن تيمية وأجاب عليها والكتاب مرتب حسب المواضيع الفقهية.
فَصْلٌ الْعُشْرُ فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْعُشْرُ فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] .
فَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ - وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ، فَمَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُ الْحَبَّ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ.
وَإِذَا زَرَعَ أَرْضًا عَلَى النِّصْفِ فَمَا حَصَلَ لِلْمَالِكِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ، وَمَا حَصَلَ لِلْعَامِلِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْرُ مَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ أُعِيرَ أَرْضًا، أَوْ أُقْطِعَهَا، أَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى عَيْنِهِ، فَازْدَرَعَ فِيهَا زَرْعًا فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ، وَإِنْ آجَرَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ زَارَعَهَا فَالْعُشْرُ بَيْنَهُمَا.
وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ، وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَهُمْ يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الزَّكَاةِ.
وَالْخَرَاجَ حَقُّ الزَّرْعِ، وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيْءِ، فَهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَاجْتَمَعَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ حَقًّا لِلَّهِ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ لِمَالِكِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ حَقًّا لِلَّهِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْعُشْرُ حَقُّ الْأَرْضِ، فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا حَقَّانِ.
وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُمْكِنُ، أَنْ تُزْرَعَ سَوَاءٌ زُرِعَتْ، أَوْ لَمْ تُزْرَعْ، وَأَمَّا الْعُشْرُ فَلَا يَجِبُ إلَّا فِي الزَّرْعِ وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، «لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ» كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
فَصْلٌ أَدَّى فَرْضَهُ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرْضَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَنْ أَدَّى فَرْضَهُ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرْضَهُ مِثْلُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِمَامُ مَرَّتَيْنِ، هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ.
وَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهِيَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ.
الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَهِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ.
كَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ.
وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّالِثَةُ: يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ.
قَالَ الشَّيْخُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ، وَصَلَّى بِطَائِفَةٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةٍ أُخْرَى وَسَلَّمَ» .
وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفِ، «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ ثُمَّ يَنْطَلِقُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ فَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا لَهُ، وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا، وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِلَفْظٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ.
كَقَوْلِهِ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» .
وَبِأَنَّ «الْإِمَامَ ضَامِنٌ» فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ أَنْقَصَ مِنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ مَا يَدْفَعُ تِلْكَ الْحُجَجَ.
وَالِاخْتِلَافُ الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْعَالِ
كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا،
وَإِلَّا فَيَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا خَلْفَ مُفْتَرِضٍ
كَمَا هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يُصَلُّونَ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» .
وَأَيْضًا: «فَإِنَّهُ صَلَّى بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا قَالَا: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. فَقَالَ: إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» .
وَفِي السُّنَنِ: «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا وَحْدَهُ فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ» .
فَهَذَا قَدْ ثَبَّتَ صَلَاةَ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَثَبَّتَ أَيْضًا بِالْعَكْسِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ أَوْ النَّفْلِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ «وَالْإِمَامَ ضَامِنٌ» وَإِنْ كَانَ مُتَنَفِّلًا.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي قِيَامَ رَمَضَانَ، يُصَلِّي خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ، فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ.
لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِهِمْ ثَانِيًا إلَّا لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ، مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ غَيْرُهُ، أَوْ هُوَ أَحَقُّ الْحَاضِرِينَ بِالْإِمَامَةِ، لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، أَوْ كَانُوا مُسْتَوِينَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ أَسْبَقُهُمْ إلَى هِجْرَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَقْدَمُهُمْ سِنًّا.
فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا» .
فَقَدَّمَ النَّبِيُّ.
بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ، قُدِّمَ بِالسَّبْقِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقُدِّمَ السَّابِقُ بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمُهَاجِرُ عَلَى مَنْ سَبَقَ بِخَلْقِ اللَّهِ لَهُ وَهُوَ الْكَبِيرُ السِّنُّ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» .
فَمَنْ سَبَقَ إلَى هِجْرَةِ السَّيِّئَاتِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا، فَهُوَ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَيُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ، فَإِذَا حَضَرَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ.
وَكَانَ قَدْ صَلَّى فَرْضَهُ فَإِنَّهُ يَؤُمُّهُمْ كَمَا أَمَّ النَّبِيُّ
لِطَائِفَةٍ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَمَا كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي ثُمَّ يَؤُمُّ قَوْمَهُ أَهْلَ قُبَاءَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يَأْتُوا عَلَى ذَلِكَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِهِ بِأُمُورٍ مُحْتَمَلَةٍ لِلنَّسْخِ وَعَدَمِ النَّسْخِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ، إذَا صَلَّى عَلَيْهَا الرَّجُلُ إمَامًا ثُمَّ قَدِمَ آخَرُونَ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَلَهُ إذَا صَلَّى غَيْرُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ تَبَعًا كَمَا يُعِيدُ الْفَرِيضَةَ تَبَعًا، مِثْلُ: أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَأْتِيَ مَسْجِدًا فِيهِ إمَامٌ رَاتِبٌ فَيُصَلِّي مَعَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِلَا نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بَعْدَ غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، هَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ، وَمَالِكٌ لَا يَرَى الْإِعَادَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَاهَا إلَّا لِلْوَلِيِّ.
وَأَمَّا إذَا صَلَّى هُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: قِيلَ: لَا يُعِيدُهَا، قَالُوا: لِأَنَّ الثَّانِيَةَ نَفْلٌ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا.
وَقِيلَ: بَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ
لَمَّا صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَدْفُونٍ صَلَّى مَعَهُ مَنْ كَانَ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا، وَإِعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ إعَادَةِ الْفَرِيضَةِ، فَتُشْرَعُ حَيْثُ شَرَعَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَؤُمُّ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّتَيْنِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ الْبِنَاءِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْوَاسِعِ
إذَا كَانَ الْبِنَاءُ لَا يَضُرُّ فِي الْمَارَّةِ وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْنِيَ لِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَدَثَتْ فِي أَيَّامِهِ، وَاخْتَلَفَ فِيهَا جَوَابُ الْمُفْتِينَ فَذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَادِثَةً فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ، هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي حِيَازَةِ بَعْضِهِ؟ بَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِالْجَوَازِ، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِالْمَنْعِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إذَا كَانَ الطَّرِيقُ قَدْ سَلَكَهُ النَّاسُ وَصُيِّرَ طَرِيقًا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، قِيلَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا مِثْلَ الشَّوَارِعِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا قَالَ: هُوَ أَشَدُّ مِمَّنْ أَخَذَ حَدًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَأْخُذُ مِنْ جَمَاعَةٍ الْمُسْلِمِينَ.
قُلْت: وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مُصَنَّفًا فِيمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنْهُمْ: الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي
: وَمَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ، وَالطُّرُقَاتِ، وَالرَّحْبَاتِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهُ، سَوَاءٌ كَانَ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا، وَسَوَاءٌ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُضَيِّقْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَتُهُمْ، فَأَشْبَهَ مَسَاجِدَهُمْ، وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْعُقُودِ فِي الْوَاسِعِ؛
مِنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ، وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ أَضْرَارٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَالِاحْتِيَازِ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ غَدْوَةً فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ، وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنْ بَارِيَّةٍ وَتَابُوتٍ وَكِسَاءٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ لَا دَكَّةً وَلَا غَيْرَهَا، لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ وَتَعْثُرُ بِهِ الْمَارَّةُ بِاللَّيْلِ، وَالضَّرِيرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ.
قُلْت: هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا بَنَى الدِّكَّةَ لِنَفْسِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ وَلِهَذَا عَلَّلَ بِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ الضَّرَرِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْبِنَاءَ يُحَاذِي مَا عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ أَصْلًا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ وَمُوجِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ إذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي.
وَفِي الْجُمْلَةِ: فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْبَانِي الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ أَصْلًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا أَخْرَجَ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَهَلْ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَبُو الْبَرَكَاتِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِ الْوَرَعِ
آثَارًا فِي ذَلِكَ - مِنْهَا مَا نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ سَقَّفَ لَهُ دَارًا وَجَعَلَ مِيزَابَهَا إلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: اُدْعُ لِي النَّجَّارَ حَتَّى يُحَوِّلَ الْمَاءَ إلَى الدَّارِ.
فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَحَوَّلَهُ وَقَالَ: إنَّ يَحْيَى الْقَطَّانَ كَانَتْ مِيَاهُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَعَزَمَ عَلَيْهَا وَصَيَّرَهَا إلَى الدَّارِ.
وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ ذَكَرَ وَرَعَ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَك أَنْ تُطَيِّنَ الْحَائِطَ لِئَلَّا يَخْرُجَ إلَى الطَّرِيقِ.
وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الرَّجُلِ يَحْتَفِرُ فِي فِنَائِهِ الْبِئْرَ أَوْ الْمُحَرِّمُ لِلْعُلُوِّ؟ قَالَ: لَا، هَذَا طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ: إنَّمَا هُوَ بِئْرٌ يُحْفَرُ وَيُسَدُّ رَأْسُهَا.
قَالَ: أَلَيْسَ هِيَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَسَأَلَهُ ابْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يُخْرِجُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْكَنِيفَ أَوْ الْأُسْطُوَانَةَ، هَلْ يَكُونُ عَدْلًا؟ قَالَ: لَا يَكُونُ عَدْلًا وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَثَاعِبِ. وَالْكُنُفِ تُقْطَعُ عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ قَالَ: لَأَنْ يُصَبَّ طِينِي فِي حَجْلَتِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُصَبَّ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخْرِجْ مِنْ دَارِهِ إلَى الطَّرِيقِ مَاءَ السَّمَاءِ، وَقَالَ: فَرُئِيَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قِيلَ لَهُ: بِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِكَفِّ أَذَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ مِيزَابِ الْعَبَّاسِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَبْنِيَ، فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ مَا لَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ بِنَاءِ مَسْجِدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ، أَوْ تَوْسِيعِ مَسْجِدٍ ضَيِّقٍ بِإِدْخَالِ بَعْضِ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ فِيهِ، أَوْ أَخْذِ بَعْضِ الطَّرِيقِ لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ، مِثْلِ: حَانُوتٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَسْجِدُ فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ لَمْ يَحْكِ نِزَاعًا فِي جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ رِوَايَةً ثَالِثَةً بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَالْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، مِنْ زَمَنِ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ إلَى زَمَنِ مُتَأَخِّرِي الْمُصَنَّفِينَ مِنْهُمْ، كَأَبِي الْبَرَكَاتِ، وَابْنِ تَمِيمٍ، وَابْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَلْفَاظُ أَحْمَدَ فِي جَامِعِ الْخَلَّالِ
، وَالشَّافِي
لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَزَادِ الْمُسَافِرِ
وَالْمُتَرْجَمِ
لِأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ: سَأَلَتْ أَحْمَدَ عَنْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ غِنًى وَبِهِمْ إلَى أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا حَاجَةٌ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى هُنَاكَ مَسْجِدٌ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ.
وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ هَذَا مِنْ أَجَلِّ مَسَائِلِ أَحْمَدَ، وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُتَرْجَمِ
، وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ دِمَشْقَ هُنَا، وَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ مَسَائِلُ، وَكَانَ يُقْرَأُ كُتُبُ أَحْمَدَ إلَيْهِ عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ، فَأَحْمَدُ أَجَازَ الْبِنَاءَ هُنَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ إذْنَ الْإِمَامِ، وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الطَّرِيقِ؟ فَقَالَ: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ.
فَهُنَا اشْتَرَطَ فِي الْجَوَازِ إذْنَ الْإِمَامِ.
وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَحْمَدَ بَعْدَ مَسَائِلِ ابْنِ الْحَكَمِ، فَإِنَّ ابْنَ الْحَكَمِ صَحِبَ أَحْمَدَ قَدِيمًا، وَمَاتَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الرَّأْيِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَأَلَ أَحْمَدُ مُتَأَخِّرًا، وَسَأَلَ مَعَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسُلَيْمَانُ كَانَ يُقْرَنُ بِأَحْمَدَ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَأَيْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ.
وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً ثَالِثَةً، فَأَخَذُوهَا مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيُّ، حُكْمُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي قَدْ بُنِيَتْ فِي الطَّرِيقِ أَنْ تُهْدَمَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَزِيدُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: لَا يُصَلَّى فِيهِ.
وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رِوَايَةً ثَالِثَةً فَإِنَّهُ يَقُولُ هَذَا إشَارَةً مِنْ أَحْمَدَ إلَى مَسَاجِدَ ضَيَّقَتْ الطَّرِيقَ وَأَضَرَّتْ بِالْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا بِلَا رَيْبٍ.
فَإِنَّ فِي هَذَا جَمْعًا بَيْنَ نُصُوصِهِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّنَاقُضِ بَيْنَهَا، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَحْمَدَ يُجَوِّزُ إبْدَالَ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِهِ، لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ.
قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: قُلْت لِأَبِي: الْمَسْجِدُ يَخْرُبُ وَيَذْهَبُ أَهْلُهُ تَرَى أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَكَان آخَرَ؟ قَالَ إذَا كَانَ يُرِيدُ مَنْفَعَةَ النَّاسِ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ: وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ حَوَّلَ الْجَامِعَ الْمَسْجِدَ مِنْ التَّمَارِينِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ سَأَلْتُ أَبِي: عَنْ رَجُلٍ بَنَى مَسْجِدًا، ثُمَّ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، قَالَ: إنْ كَانَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَهُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ، أَوْ يَكُونُ مَوْضِعُهُ مَوْضِعًا قَذِرًا فَلَا بَأْسَ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثنا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى الْقَصْرَ، وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ النَّمِرِ، قَالَ فَنُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ فَأَخَذَ الرَّجُلَ الَّذِي نَقَبَهُ، فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ عُمَرُ: أَنْ اقْطَعْ الرَّجُلَ، وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ، وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ. فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ.
قَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِيٌّ: يُقَالُ إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ مَوْضِعَ التَّأْذِينِ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ؛ يَعْنِي أَحْمَدُ أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي بَنَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ مَوْضِعَ التَّأْذِينِ فِي زَمَانِ أَحْمَدَ، وَهَذَا الْمَسْجِدُ هُوَ الْمَسْجِدُ الْعَتِيقُ، ثُمَّ غُيِّرَ مَسْجِدُ الْكُوفَةِ مَرَّةً ثَالِثَةً.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ ضَيِّقًا لَا يَسَعُ أَهْلَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ.
وَجَوَّزَ أَحْمَدُ أَنْ يُرْفَعَ الْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْأَرْضِ، وَيُبْنَى تَحْتَهُ سِقَايَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَإِنْ تَنَازَعَ الْجِيرَانُ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ شُيُوخٌ لَا نَصْعَدُ فِي الدَّرَجِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ بِنَاءَهُ.
فَقَالَ أَحْمَدُ: يُنْظَرُ إلَى مَا يَخْتَارُ الْأَكْثَرُ.
وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ هَذَا عَلَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ، وَمُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ خَطَأٌ، لِأَنَّ نُصُوصَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ صَرِيحَةٌ بِتَحْوِيلِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ أَحْمَدُ قَدْ أَفْتَى بِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ، حَيْثُ جَعَلُوا الْمَسْجِدَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ سَائِرِ الْبِقَاعِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا»
فَإِذَا جَازَ جَعْلُ الْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، بُقْعَةً غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ جَعْلُ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً: كَالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ.
بُقْعَةً مُحْتَرَمَةً وَتَابِعَةً لِلْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الطُّرُقَاتِ.
وَكِلَاهُمَا مَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ.
فَصْلٌ وَالْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِمَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُوَّابِهِ
ِ فَمَا كَانَ إلَى الْحُكَّامِ، فَأَمْرُ الْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْإِمَامِ فِيهِ، كَأَمْرِ الْإِمَامِ مِثْلُ: تَزْوِيجِ الْأَيَامَى، وَالنَّظَرِ فِي الْوُقُوفِ وَإِجْرَائِهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِيهَا، وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَوُقُوفِهَا حَيْثُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ ذَلِكَ فَمَا جَازَ لِلْإِمَامِ التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ لِنَائِبِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي شَاعَ فِيهَا النِّزَاعُ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى نَائِبِهِ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَنْقُضَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ فِنَاءُ الدَّارِ.
وَلَكَ هَلْ الْفِنَاءُ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الدَّارِ، أَوْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا فِيهِ؟ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي الْأَفْنِيَةِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ، يُكْرِيهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً تَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَصُنِعَ شَيْءٌ فِيهَا: مُنِعُوا وَلَمْ يُمَكَّنُوا.
وَأَمَّا كُلُّ فِنَاءٍ إذَا انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَمَرِّهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْأَفْنِيَةَ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا، إذْ أَجَازَ إجَارَتَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ الْبَيْعُ بِشَرْطِهَا - قَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلدَّارِ فَهُوَ مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْنِيَةَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ كَسَائِرِ الطَّرِيقِ.
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ: أَنَّ الْأَرْضَ تُمْلَكُ دُونَ الطَّرِيقِ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالْمَرَافِقِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ هُوَ أَحَقُّ بِفِنَاءِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْكَلَإِ النَّابِتِ فِي مِلْكِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَالدَّارِ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنْهُ فِي جَادَّةِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اتَّخَذَ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ.
وَهَذَا كَالْبَطْحَاءِ الَّتِي كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهَا خَارِجَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ.
لِمَنْ يَتَحَدَّثُ وَيَفْعَلُ مَا يُصَانُ عَنْهُ الْمَسْجِدُ، فَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا وَلَمْ يَكُنْ كَالطَّرِيقِ بَلْ اخْتِصَاصٌ بِالْمَسْجِدِ، فَمِثْلُ هَذِهِ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالْبِنَاءُ كَالدِّخْلَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُنْحَرِفَةً عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ، مُتَّصِلَةً بِالدَّارِ وَالْمَسْجِدِ وَمُتَّصِلَةً بِالطَّرِيقِ، وَأَهْلُ الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا إلَّا إذَا قَدَّرَ رَحْبَةً خَارِجَةً عَنْ الْعَادَةِ وَهِيَ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي يُنْفِذُ الْمُتَّصِلَ بِالطَّرِيقِ النَّافِذِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا فِيهِ وَيَجْعَلُوا عَلَيْهِ بَابًا جَازَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ حَقُّهُمْ فِيهِ، إنَّمَا هُوَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ، إذَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.
كَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالصَّحْرَاءِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِأَصْحَابِهَا: كَالصَّلَاةِ فِيهَا، وَالْمَقِيلِ فِيهَا، وَنُزُولِ الْمُسَافِرِ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ فِيهَا وَفِي أَفْنِيَةِ الدُّورِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي الِانْتِفَاعِ بِالْفِنَاءِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ، قَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فِي الصَّحْرَاءِ وَجْهًا بِالْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَلَى نُصُوصِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ الثَّمَرَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِالْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُ، وَيَجُوزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، رَعْيُ الْكَلَإِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَيَدْخُلُهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا لِأَجْلِ الْكَلَإِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِوَجْهٍ، فَهُوَ كَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّهِ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنَارِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ، فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٌ وَلَا نَاطُورٌ، فَيَجُوزُ فِيهَا مِنْ الْأَكْلِ بِلَا عِوَضٍ.
مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَمْنُوعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ: إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا لِلْمُحْتَاجِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْحَمْلُ.
وَإِذَا جَازَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ، فَفِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمَسْجِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِنَاءُ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ لَا يَخْتَصُّ بِنَاحِيَةِ الْبَابِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ.
قَالَ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَغَيْرُهُمَا: إذَا كَانَ الْمُحْيَا أَرْضًا كَانَ أَحَقَّ بِفِنَائِهَا، فَلَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ بِئْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
1046 - 22 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ رُوحَهُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَكْمَلَ لِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ، وَجَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ، وَمُصَدِّقًا لَهَا، وَجَعَلَ لَهُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَشَرَعَ لِأُمَّتِهِ سُنَنَ الْهُدَى؛ وَلَنْ يَقُومَ الدِّينُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ.
كِتَابٌ يُهْدَى بِهِ، وَحَدِيدٌ يَنْصُرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] فَالْكِتَابُ بِهِ يَقُومُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ.
وَالْمِيزَانُ بِهِ تَقُومُ الْحُقُوقُ فِي الْعُقُودِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُبُوضِ.
وَالْحَدِيدُ بِهِ تَقُومُ الْحُدُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَلِهَذَا كَانَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْكِتَابُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ.
وَالْمِيزَانُ لِلْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ، وَأَهْلِ الدِّيوَانِ.
وَالْحَدِيدُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ.
وَالْكِتَابُ لَهُ الصَّلَاةُ؛ وَالْحَدِيدُ لَهُ الْجِهَادُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ: «اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك يَشْهَدُ لَك صَلَاةً؛ وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا» .
وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
وَلِهَذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15] .
وَالصَّلَاةُ أَوَّلُ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ؛ وَأَصْلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهَا إيمَانًا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
هَكَذَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] وَقَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] فَوَصَفَهُمْ بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] فَوَصَفَهُمْ بِالشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالضُّلَّالِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ فَقِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» .
مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
فَإِنَّ قَوْلَهُ إيمَانٌ بِاَللَّهِ
دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ.
فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ وَلَدَانِ.
وَلِهَذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ - فِي الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ - أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ إمَامًا فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا: الصَّلَاةِ، وَالْجِهَادِ.
فَاَلَّذِي يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَؤُمُّهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَأَمْرُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَاحِدٌ فِي الْمُقَامِ وَالسَّفَرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى بَلَدٍ: مِثْلِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ، وَغَيْرِهِمَا: كَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ، وَيُقِيمُ الْحُدُودَ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ غَزْوَةٍ؛ كَاسْتِعْمَالِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَابْنَهُ أُسَامَةَ؛ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَغَيْرَهُمْ: كَانَ أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَقْدِيمِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ.
وَكَذَلِكَ كَانَ أُمَرَاءُ الصِّدِّيقِ
- كَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ.
وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرِهِمْ - أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ إمَامُ الصَّلَاةِ.
وَكَانَ نُوَّابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
كَاسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْكُوفَةِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الْحَرْبِ وَالصَّلَاةِ، وَابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الْخَرَاجِ.
وَمِنْ هُنَا أَخَذَ النَّاسُ وِلَايَةَ الْحَرْبِ، وَوِلَايَةَ الْخَرَاجِ، وَوِلَايَةَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَغَلَبُوا الْكَافِرِينَ عَلَى الْبِلَادِ، وَفَتَحُوهَا، وَاحْتَاجُوا إلَى زِيَادَةٍ فِي التَّرْتِيبِ: وَضَعَ لَهُمْ الدِّيوَانَ
دِيوَانَ الْخَرَاجِ لِلْمَالِ الْمُسْتَخْرَجِ، وَدِيوَانَ الْعَطَاءِ وَالنَّفَقَاتِ لِلْمَالِ الْمَصْرُوفِ، وَمَصَّرَ لَهُمْ الْأَمْصَارَ: فَمَصَّرَ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ، وَمَصَّرَ الْفُسْطَاطَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثِرْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَمْصَارَ مِمَّا يَلِيهِ.
فَصْلٌ وَكَانَتْ مَوَاضِعُ الْأَئِمَّةِ وَمَجَامِعُ الْأُمَّةِ هِيَ الْمَسَاجِدُ
ُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَّسَ مَسْجِدَهُ الْمُبَارَكَ عَلَى التَّقْوَى: فَفِيهِ الصَّلَاةُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالذِّكْرُ؛ وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ، وَالْخُطَبُ، وَفِيهِ السِّيَاسَةُ، وَعَقْدُ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ، وَتَأْمِيرُ الْأُمَرَاءِ، وَتَعْرِيفُ الْعُرَفَاءِ، وَفِيهِ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُ لِمَا أَهَمَّهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَكَذَلِكَ عُمَّالُهُ فِي: مِثْلِ مَكَّةَ، وَالطَّائِفِ، وَبِلَادِ الْيَمَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَكَذَلِكَ عُمَّالُهُ عَلَى الْبَوَادِي؛ فَإِنَّ لَهُمْ مَجْمَعًا فِيهِ يُصَلُّونَ، وَفِيهِ يُسَاسُونَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ؛ كُلَّمَا ذَهَبَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ لَكُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» .
وَكَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ
يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، كَمَا يَسْكُنُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِهِمْ؛ لَكِنَّ مَجْلِسَ الْإِمَامِ الْجَامِعِ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ.
وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ بَنَى لَهُ بِالْكُوفَةِ قَصْرًا، وَقَالَ: أَقْطَعُ عَنِّي النَّاسَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ، فَاشْتَرَى مِنْ نَبَطِيٍّ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ حَمْلَهَا إلَى قَصْرِهِ، فَحَرَّقَهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ كَرِهَ لِلْوَالِي الِاحْتِجَابَ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ وَلَكِنْ بُنِيَتْ قُصُورُ الْأُمَرَاءِ.
فَلَمَّا كَانَتْ إمَارَةُ مُعَاوِيَةَ احْتَجَبَ لَمَّا خَافَ أَنْ يُغْتَالَ كَمَا اُغْتِيلَ عَلِيٌّ، وَاِتَّخَذَ الْمَقَاصِيرَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا ذُو السُّلْطَانِ وَحَاشِيَتُهُ، وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ؛ فَاسْتَنَّ بِهِ الْخُلَفَاءُ الْمُلُوكُ بِذَلِكَ، فَصَارُوا مَعَ كَوْنِهِمْ يَتَوَلَّوْنَ الْحَرْبَ وَالصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَيُبَاشِرُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَالْجِهَادَ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ: لَهُمْ قُصُورٌ يَسْكُنُونَ فِيهَا، وَيَغْشَاهُمْ رُءُوسُ النَّاسِ فِيهَا، كَمَا كَانَتْ الْخَضْرَاءُ
لِبَنِي أُمَيَّةَ قِبْلِيِّ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَالْمَسَاجِدُ يُجْتَمَعُ فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ، وَالْعِلْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ طَالَ الْأَمَدُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَتَمَسَّكَ كُلُّ قَوْمٍ بِشُعْبَةٍ مِنْ الدِّينِ
ِ بِزِيَادَاتٍ زَادُوهَا فَأَعْرَضُوا عَنْ شُعْبَةٍ مِنْهُ أُخْرَى.
أَحْدَثَتْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْقِلَاعَ وَالْحُصُونَ
وَإِنَّمَا كَانَتْ تُبْنَى الْحُصُونُ وَالْمَعَاقِلُ قَدِيمًا فِي الثُّغُورِ، خَشْيَةَ أَنْ يَدْهَمَهَا الْعَدُوُّ؛ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهَا، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ الْعَوَاصِمَ
وَهِيَ قِنِّسْرِينُ، وَحَلَبُ.
وَأُحْدِثَتْ الْمَدَارِسُ
لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَأُحْدِثَتْ الرُّبُطَ، وَالْخَوَانِقَ
لِأَهْلِ التَّعَبُّدِ.
وَأَظُنُّ مَبْدَأَ انْتِشَارِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ فِي
دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ ".
فَأَوَّلُ مَا بُنِيَتْ الْمَدَارِسُ وَالرِّبَاطَاتُ لِلْمَسَاكِينِ، وَوُقِفَتْ عَلَيْهَا وُقُوفٌ تَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا فِي وَزَارَةِ نِظَامِ الْمُلْكِ
.
وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ ذِكْرُ الْمَدَارِسِ، وَذِكْرُ الرُّبُطِ؛ لَكِنْ مَا أَظُنُّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لِأَهْلِهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ مَسَاكِنَ مُخْتَصَّةً، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ مَعْمَرُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَاحِدِيِّ فِي أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ
أَنَّ أَوَّلَ دُوَيْرَةٍ بُنِيَتْ لَهُمْ فِي الْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا الْمَدَارِسُ
فَقَدْ رَأَيْتُ لَهَا ذِكْرًا قَبْلَ دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، وَدَوْلَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْقِلَاعُ، وَالْحُصُونُ
الَّتِي بِالشَّامِ عَامَّتُهَا مُحْدَثٌ، كَمَا بَنَى الْمَلِكُ الْعَادِلُ قَلْعَةَ دِمَشْقَ، وَبُصَرَى وَحَرَّانَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا كَثِيرِي الْغَزْوِ إلَيْهِمْ.
وَكَانَ النَّاسُ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ قَدْ ضَعُفُوا عَنْ دِفَاعِ النَّصَارَى عَنْ السَّوَاحِلِ، حَتَّى اسْتَعْلُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ثُغُورِ الشَّامِ السَّاحِلِيَّةِ. -
فَصْلٌ فِي الْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ وَكَيْفِيَّةِ كَوْنِهِ ظِلَّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ
ِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] .
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] يَعُمُّ آدَمَ وَبَنِيهِ؛ لَكِنَّ الِاسْمَ مُتَنَاوِلٌ لِآدَمَ عَيْنًا، كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وَقَوْلِهِ: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وَقَوْلِهِ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7] {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ دَاوُد، وَآدَمَ
مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا أَحَبَّ بِهِ دَاوُد حِينَ أَرَاهُ ذُرِّيَّتَهُ، وَسَأَلَ عَنْ عُمْرِهِ؟ فَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً.
فَوَهَبَهُ مِنْ عُمْرِهِ الَّذِي هُوَ أَلْفُ سَنَةٍ سِتِّينَ سَنَةً.
وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ؛ وَلِهَذَا كِلَاهُمَا اُبْتُلِيَ بِمَا ابْتَلَاهُ بِهِ مِنْ الْخَطِيئَةِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنَاسِبَةٌ لِلْأُخْرَى.
إذْ جِنْسُ الشَّهْوَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ بِالتَّوْبَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَالَ بِهَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ وَفَرَحِهِ بِهِ مَا نَالَ، وَيُذْكَرُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْبُكَاءِ وَالنَّدَمِ وَالْحُزْنِ مَا يُنَاسِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَالْخَلِيفَةُ
هُوَ مَنْ كَانَ خَلَفًا عَنْ غَيْرِهِ. فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَافَرَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» وَقَالَ: «أَوَكُلَّمَا خَرَجْنَا فِي الْغَزْوِ خَلَفَ أَحَدُهُمْ وَلَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ يَمْنَحُ إحْدَاهُنَّ اللَّبِنَةَ مِنْ اللَّبَنِ، لَئِنْ أَظْفَرَنِّي اللَّهُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ لَأَجْعَلَنَّهُ نَكَالًا» .
وَفِي الْقُرْآنِ: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} [الفتح: 11] وَقَوْلُهُ: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81] .
وَالْمُرَادُ بِالْخَلِيفَةِ
أَنَّهُ خَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْخَلْقِ.
وَالْخَلْفُ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ، كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ خَلَفَهُ عَلَى أُمَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَافَرَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوَةٍ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَكُونُ خَلِيفَةً لَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، فَيَسْتَخْلِفُ تَارَةً ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَتَارَةً غَيْرَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَتُسَمَّى الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يُسْتَخْلَفُ فِيهَا الْإِمَامُ مَخَالِيفُ
مِثْلُ: مَخَالِيفِ الْيَمَنِ، وَمَخَالِيفِ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «حَيْثُ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ» .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13] إلَى قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 14] قَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] الْآيَةَ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ الْغَالِطِينَ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ - أَنَّ الْخَلِيفَةَ
هُوَ الْخَلِيفَةُ عَنْ اللَّهِ، مِثْلُ نَائِبِ اللَّهِ؛ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَخْلَفًا، وَرُبَّمَا فَسَّرُوا تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا
الَّتِي جَمَعَ مَعَانِيهَا الْإِنْسَانُ.
وَيُفَسِّرُونَ خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ
بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ قَوْلَهُمْ: الْإِنْسَانُ هُوَ الْعَالِمُ الصَّغِيرُ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَضَمُّوا إلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ الْكَبِيرُ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ الْكُفْرِيِّ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ.
فَالْإِنْسَانُ مِنْ بَيْنِ الْمَظَاهِرِ هُوَ الْخَلِيفَةُ، الْجَامِعُ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الْمُخْرِجَةِ لَهُمْ إلَى الْفِرْعَوْنِيَّةِ، وَالْقَرْمَطِيَّةِ، وَالْبَاطِنِيَّةِ.
وَرُبَّمَا جَعَلُوا الرِّسَالَةَ
مَرْتَبَةً مِنْ الْمَرَاتِبِ، وَأَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنْهَا فَيُقِرُّونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ؛ وَبِالرِّسَالَةِ، وَيَصِيرُونَ فِي الْفِرْعَوْنِيَّةِ.
هَذَا إيمَانُهُمْ.
أَوْ يَخْرُجُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا (سُدًى) لَا أَمْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا نَهْيَ؛ وَلَا إيجَابَ وَلَا تَحْرِيمَ.
وَاَللَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلِيفَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ، قَالَ: لَسْت بِخَلِيفَةِ اللَّهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبِي ذَلِكَ.
بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ خَلِيفَةً لِغَيْرِهِ.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا» وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ، شَهِيدٌ، مُهَيْمِنٌ، قَيُّومٌ، رَقِيبٌ، حَفِيظٌ، غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ،