Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

بين الجحيم والإنسانية
بين الجحيم والإنسانية
بين الجحيم والإنسانية
Ebook376 pages2 hours

بين الجحيم والإنسانية

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كانت أحلامي كلها تكسرت على صخرة اعتقالي، وما إنْ بدأتُ بإدراك ما حولي حتى بدأ يتكشَّفُ لي هولُ الكارثة وعِظَمُها شيئاً فشيئاً. وإن ما كان يدور في أقبية الأمن ومراكز الاعتقال ما هو إلا جزء يسير من تلك الحالة في هذا البلد. لقد كانت حرباً قذرة بكل ما تعنيه الكلمة، كانت البيوت تتهدَّم فوق ساكينها، وعوائل كاملة كانت تختفي تحت أنقاض المباني لتصبح "أثراً بعد عين". كانت البراميل المتفجِّرة تنشر الرعب في كل مكان والأسلحة الكيماوية قد فعلت فعلها وأخذت حصتها من القتل. لقد ماتت أمي بقذيفة طائشة نزلت في حينها على قريتنا دون سابق إنذار، لم تكن تبعد كثيراً عن بيتنا، وحصدت معها طفلتين صغيرتين لأبناء الجيران كانتا في طريقهما إلى بقالة أبي حُسين.
Languageالعربية
Release dateMar 31, 2023
ISBN9789948798002
بين الجحيم والإنسانية
Author

أكرم البرجس

أكرم البرجس، بدأ حياته في مدرسة القرية، ثم أكملَ تعليمه الثانوي في ثانوية أبي العلاء المعري، تخرج في كلية التربية في إدلب بصفة مدرس. عمل في مدارس المملكة العربية السعودية لمدة عشر سنوات ليعود بعدها مع بدء الحراك الثوري، ويكون مِن أنصار الحراك السلمي ونبذ العنف والطائفيَّة.

Related to بين الجحيم والإنسانية

Related ebooks

Related categories

Reviews for بين الجحيم والإنسانية

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    بين الجحيم والإنسانية - أكرم البرجس

    بين الجحيم والإنسانية

    أكرم البرجس

    Austin Macauley Publishers

    بين الجحيم والإنسانية

    أكرم البرجس

    الإهداء

    حقوق النشر©

    أكرم البرجس

    أكرم البرجس، بدأ حياته في مدرسة القرية، ثمَّ أكملَ تعليمه الثانوي في ثانوية أبي العلاء المعري، تخرج في كلية التربية في إدلب بصفة مدرس.

    عمل في مدارس المملكة العربية السعودية لمدة عشر سنوات، ليعود بعدها مع بدء الحراك الثوري، ويكون مِن أنصار الحراك السلمي ونبذ العنف والطائفيَّة.

    الإهداء

    تجلَّت صورة الإنسانية في هذا الكتاب على شكل امرأة تنبذ العنف، وتبادله في الخير والمحبة، وكانت المرأة هي أكثر مَن دفع الثمن في رحَى هذه الحرب الطاحنة، فهي ثكلى بابنها أو زوجها أو أخيها، فإلى كلِّ مَن فجعَت في هذه الحرب أهدي لها هذا الكتاب.

    حقوق النشر©

    أكرم البرجس 2023

    يمتلك أكرم البرجس الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقًا للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة لسنة 2002 م في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأي وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948799993 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948798002 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب MC-10-01-6932416 :

    التصنيف العمري: E

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقًا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب.

    الطبعة الأولى 2023

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    لَم يكُن صباحُ هذا اليوم مِن ذلك الشهر في ذلك العام مِن القرن المنصرم يختلف عن غيره مِن الأيام.

    تقف أمي في أرض الدار لتنظر أعلى السطوح؛ حيث كانت صبيحة لتطلَّ برأسها الأسوَد المقدوح بخطٍّ أبيض يمتدُّ مِن أعلى الأنف حتى القرنَين المبتورتَين. لتنادي: يا مالية الفشة.. انزلي والله.. بس يجي أبو أحمد لما تضلي دقيقة واحدة (تقصد بيعها في سوق الماشية).

    وإذا كانت أكثر إزعاجًا فإنَّ لهجتها معها تكون أشدَّ.

    - والله يا مالية الفشة بس يجي أبو أحمد غير عل مسلخ ما يوديك.

    لكن ما إن يحين وقت الحليب حتى تنسى أمِّي كلَّ شيء قالَته، فتضرب على ظهر تلك المعزاة:

    - والله يا مباركة تسوين نص الغنم.

    ***

    دم تك تك دم تك تك.. هكذا كان أستاذ الموسيقى يبدأ يومه الدراسي في غرفة المدرسين، وهو في ذلك يحاول إقناعنا أنَّه عبقري زمانه لدرجة أنَّ أحد المدرِّسين قد وجَّه له كلامًا فيه مِن الجدِّ أكثر ممَّا يبدو أنَّه مزاح.

    - يا أخي أنتَ بتهوفن الشرق! بس حِل عنَّا.. والله لو تضل تتكتك مِن هون لآخِر الدوام ما رح نفهم شي.

    وانتهى النِّقاش بقهقهة مِن المدرسين وقيام كلٍّ إلى عمله.

    السيد مدير المدرسة لا يكلُّ ولا يملُّ مِن الحديث عن الوطنيات وإنجازات القيادة الحكيمة في هذا البلد.. الكلُّ منَّا يجامل السيد المدير، والكلُّ يعرف نِفاقه وكذبه، حتَّى هو يعرف ذلك.

    الكل منَّا يعرف هذا النوع مِن الكذب والنِّفاق أو التملُّق، وبقدر قوَّتك في الكذب والتملُّق لدَيك تحصل على أعلى المراتب.

    وهذا النوع مِن التملُّق والكذب انتشر بشكلٍ كبيرٍ على كامل ومسطح الأرض السوريَّة؛ فنحن نتملَّق السيد المدير، والمدير يتملَّق الأعلى، وذاك يتملَّق الوزير، والوزير يتملَّق الأعلى والأعلى حتَّى يصِل إلى رأس الهرم في الدولة.

    كان بين الكادر التدريسي في مدرستنا أستاذ حاولَ أن يعطي لنفسه ولشخصيته مكانة أعلى، فهو يقول عن الذي يتملَّق المدير أنَّه حرامي وسيِّده أكبر حرامي، ومِن خلال ذلك فهو يرسل للجميع أنَّه الشخص المدعوم الذي لا يتملَّق أحدًا، لكن مِن وراء ذلك له رسالة خفيَّة أنَّه مِن فئة معيَّنة، وطائفته هي الحاكمة و... لكنَّه في حقيقة نفسه يعرف أنه شخص عادي ودون ذلك، ولو أنَّه غير ذلك لما كان في هذه المدرسة في تلك القرية النائية، لكنَّه في حقيقة الأمر كما يقولون لا أحد يستطيع الخروج عن النصِّ.

    المكان ميل شرقي وميل غربي.. هكذا حال مدرستنا في ميل شرقي.. أمَّا حال المدرسة في ميل غربي فهي تختلف كثيرًا كأنَّك في بلد آخَر أو دولة أخرى.. هناك حيث الجنس اللطيف يتغلَّل في صفوف كادرها التدريسي، ولربَّما الكذب والنِّفاق يختلف عمَّا نحن فيه في ميل شرقي.

    وعلى الرغم مِن كبر الفجوة بين ميل غربي وميل شرقي خاصةً بعد انتشار التعليم، بقيَتِ القريتان على علاقة حميمة فيما بينهما، وخاصةً جيل الآباء كما يقولون.

    كان أهل ميل شرقي يعرفون أهل ميل غربي بالفطرة، ويعرفون لفلان منهم كم عدد أفراد أسرته، وكَم لدَيه مِن الذكور ومِن الإناث، والعكس في ذلك أيضًا لأهل ميل غربي نفس الشيء.

    وكانت الزيارات لا تنقطع بينهم أبدًا بمناسبة ومن دونِ مناسبة، فالمريض مِن أهل ميل غربي يعتب على أهل ميل شرقي إذا لَم يعُده وهكذا.

    على أنَّ الجيل الجديد في ميل غربي بدأ ينحو منحًى آخَر تجاه ميل شرقي وخاصةً بعد تغلغلهم في الدوائر الأمنية للدولة، كما أبناء طائفتهم وحصول البعض على رُتَب في الجيش، وكذلك الثَّراء السريع نتيجة انتشار الفساد والرشوة في الدوائر الحكومية، وقد حدث في إحدى المرَّات أنَّ أبا حسين (وهو رجل ستِّيني مِن ميل شرقي) طرق الباب على صديق له في ميل غربي، فأخبرَه ابنه الضابط بلهجة لا تخلو مِن التكبر والاستهجان أنَّ والده غير موجود، وأغلق الباب في وجه أبي حسين.

    كان والده في الداخل، وقد سمع طرفًا مِن الحديث وابنه وهو يغلق الباب، فأسرعَ نحو البوَّاب، ودفع ابنه بقوَّة عن الباب، ومدَّ رأسه ونادى بعفوية أهل الريف:

    - أبو حسين.

    كان الرجل قد قطع بضع خطوات:

    - والله لتفوت.

    رجع أبو حسين أمام إصرار صديقه، واتَّجَه الأب نحو ابنه الضابط، وبصقَ عليه.

    - ولك تفو يلعن هالحديدتين المصديات يلي هبلوك(يقصد النجمتين كونه برتبة ملازم أول).

    كان أبو حسين قد شعر أنَّ صديقه في غاية الإحراج، فتصرَّف وكأنَّه لا يعرف شيئًا.

    خرجَت أمه مسرعةً وهي تحاول لملمة الموضوع:

    - والله أبو حسين ما تأخذنا حتى أنا فكَّرت أبو علي طلع برة البيت.. مشان الله بدك ما تأخذنا والله، الفطور جاهز وما تروح إلا تفطر معنا.

    كان الأب والأم في غاية الحرج في حين بقي الضابط في مكانه مُظهِرًا لا مبالاة بما يقوله أبواه، وكأنَّ هذا الأمر لا يعنيه أبدًا.

    هذه الفِئة مِن الشباب التي بدأَت نظراتهم الفوقية تتعالى لأهل ميل شرقي، وبدأ شيء مِن الفتور ينتشر بين أبناء هذا الجيل مِن القريتَين خاصةً مَن أكملَ تعليمه خارج القرية، وتقلَّد أحد المناصب في الدولة.

    على أنَّ حبل الودِّ بين جيل الآباء ظلَّ قويًّا، وانتقل البعض منه للأبناء.

    ***

    مِن ذلك ما كان بين عائلتنا وبيت أبي مديَن مِن قرية ميل غربي.. كان العم أبو مديَن رجلًا طويل القامة وضخم الجثة، وكان قليل الكلام يميل إلى الهدوء بطبعه، ولا تنفكُّ أسارير وجهه إلا عندما كان يلتقي بوالدي، وقد كان مربِّيًا للأغنام ماهرًا في تربيتها، وغالبًا ما يقصده الفلاحون مِن القُرَى المجاورة في حال مرض مواشيهم، أو تعسُّر في ولادة إحداها.

    فكان والدي همُّه الأكبر أن أكون مثله في تربية المواشي، ومساعدته في إدارة شؤون القطيع.

    لَم تكن المدرسة في قريتنا لتتجاوز المرحلة الابتدائية، أمَّا مَن يريد متابعة تعليمه فعليه أن ينتقل إلى ميل غربي بحكم وجود مدرسة فيها للمرحلة الإعدادية.

    كان عدد أبناء قريتي في تلك المدرسة لا يتجاوَز عدد أصابع اليد الواحدة؛ لأنَّ معظمهم ينصرف لمساعدة أهله في تربية المواشي.

    وعندما أراد لي والدي الانقطاع عن الدراسة أصرَّ عليه العمُّ أبو مديَن أن أتابع تعليمي في قريتهم.

    قَبِلَ والدي الفكرة على مضض لا سيِّمَا أنَّ والدتي كانت مصِرَّة على متابعة تعليمي.

    سكنتُ مع عائلة العم أبي مديَن، وكانت لنا غرفة خاصة أنا، ومديَن، وأخوه حيدر، وسمير الصغير.

    كانت غرفة مِن الطِّين كباقي أرجاء البيت، وكانت الخالة أم مديَن أشبَه بأمي؛ فهي لَم تفرِّق بيني وبين أولادها بشيء، وكانت دائمًا تحثُّنا على الدراسة والانتقال إلى حياة أفضل ومستقبل ينتظرنا، وكانت دائمًا تخوِّفنا مِن الفَشل.

    وهي دائمًا تحدِّثنا عن بعض الأشخاص مِن أهل القرية الذين تغيَّرَت حالهم إلى الأفضل بسبب النجاح ومتابعة الدراسة.

    في الحقيقة أحببتُ قرية ميل غربي، وحبِّي لها ناتج عن حبي لعائلة العم أبي مديَن.

    لعبتُ فيها كرة القدم على أرض البيادر مع أبنائها، وسقطتُ وتعثَّرتُ على أرضها، وكانوا لا يختلفون عن أهلي وأقاربي وأبناء قريتي بشيء.

    بعد نجاحنا في المرحلة الإعدادية انتقلتُ أنا ومديَن لمتابعة دراستنا في المرحلة الثانوية.

    كان لا بدَّ علينا مِن استئجار بيت في المدينة، وكعادَةِ العمِّ أبي مديَن أقنع والدي بمتابعة الدراسة، وهذه المرة قَبِلَ الفكرة من دونِ تردُّد.

    انتقلتُ أنا ومديَن إلى الصفِّ العاشر، وكنَّا سعداءَ جدًّا بهذا النجاح.

    كنا ننتظر العطلة في نهاية الأسبوع بفارغ الصبر، ومع بداية فصل الشتاء بدأَت أحوال العمِّ أبي مديَن الصحية تسوء، وكان مرض السكر قد فعل فِعله في ذلك الجسد القوي، فأصبح ضعيفًا نحيلًا.

    وأذكر ذلك اليوم وهو الثلاثاء مع بداية الفصل الدراسي الثاني للعام الدراسي.. حضر مستخدِم المدرسة إلى صفِّنا، وطلب الإذن لي ولمديَن.

    سار أمامنا المستخدِم إلى غرفة المدير، فرأيتُ والدي، وما إن رأى والدي مديَن حتَّى احتضنَه إليه، وانهمرَت الدموع مِن عينيه.

    عندها أدركَ كِلانا أنَّ العمَّ أبا مديَن قد ودَّع الحياة.

    مرَّت بنا السنون مسرعةً، واختار كلُّ واحد منَّا طريقه في الحياة.. اتَّجَهتُ أنا إلى سلك التعليم، ومديَن تطوَّع في الجيش بصفة ضابط.

    ومِن المحطَّات التي لا أنساها في حياتي عندما توجَّه بنا أبي إلى بيت العمِّ أبي مدين آخِذًا معه خروفًا سمينًا.

    جلسنا جميعا في بيت العم أبي مدين، والكلُّ منا ينتظر قدوم الضابط الجديد.. كما علِمنا أنه هو الآن في الطريق، ومِن الممكن أن يصل في أي لحظة.

    أطلَّ سمير الأخ الصغير لمدين مِن باب الدار حين سمعنا صوت سيارة تعبر الشارع، وقال بصوت سمعَه الجميع:

    - ما بين حدا.

    أغلق سمير الباب، وانشغلنا ببعض الأحاديث الجانبية حين سمعنا قرع الباب.. أسرعَتِ الخالة أم مدين مِن شدة فرحتها وهي تسابق ابنها سميرًا في فتح الباب، وما إن فُتِحَ الباب حتَّى ملأَتِ الزغاريد أرض البيت!

    دخل مديَن البيت والنجوم تزيِّن كتفه، ترك مديَن الجميع، وتوجَّه نحو والدي بالكلام:

    - والله يا عم.. لو ما كنت هون ما رح فوت البيت إلا لعندك.

    رفع والدي يده:

    - وقف عندك لا تفوت.

    أحضر والدي الخروف إلى باب الدار وذبحه، وطلب مِن مدين أن يدوس على دم الخروف وهو يدخل البيت.. كان ذلك تعبيرًا عن الفرح والتفاؤل بالمستقبَل.

    ***

    مرَّتِ الأيام والشهور سريعة، وانتقل والدي إلى جوار ربِّه بعد صراع مع المرض، كان يعالَج أثناء مرضه في العاصمة دمشق، وقد انتقلنا إلى بيت مديَن في دمشق.

    انتابني شعور أثناء تشييع والدي أنَّه رجل عظيم رغم أنَّه أُمِّيٌ لا يعرف حتى القراءة والكتابة، استطاع كسبَ ودِّ كلِّ هؤلاء البشر بعفويَّته وطِيبة قلبه، وقد شارك جميع أهل قريتنا ومعظم رجال ميل غربي والقرى المجاورة في تشييع جنازته.

    كان لدى البعض منَّا اعتقادٌ أنَّه بموت والدي ستُقطَع المودة بين قريتَينا، وأنَّ والدي هو آخِر مَن بقيَ مِن ذلك الجيل، لكنَّ ذلك لَم يحدث، وبقيتُ أنا وبيت العم أبي مدين أشبَه بعائلة واحدة تعيش في قريتَين.

    كنتُ أنا ومدين مثلًا للأُخوَّة والصداقة والمحبة التي تربط بيننا، ومع أنَّه انتقل فور تخرجه الى العاصمة دمشق إلا إنه بقي حافظًا للمودَّة التي تربط بيننا.

    رافق أبي في مرضه وكأنَّه أحد أفراد العائلة، كنَّا مع والدي في العاصمة دمشق وكأنَّ لنا بيتًا هناك، حيث يسكن مدين في مساكن مخصَّصة للعسكريِّين.

    عندما نصحنا الأطباء أن يعود والدي إلى بيته فيقضِي آخِر أيام حياته بين أهله وأقاربه، أخذَ مديَن إجازة مِن قطعته العسكرية، ولازَمَ والدي حتَّى فارقَت روحه الحياة.

    ومع انتهاء مراسم العزاء كنتُ أعرف أن إجازة مدين قد شارفَت على الانتهاء، فطلبتُ منه ألَّا يذهب لأنَّ والدتي تريده بشيء، وكانت أمي قد أحضرَت إناءً متوسط الحجم مليئًا باللبن، وسلَّة قد مُلِئَت بالبيض البلدي، وخبز تنُّور كانت قد أعدَّته مع بعض جاراتها.

    قال مديَن:

    - خالة.. أنا وحدي قاعد بالشام.. شو رح أعمل بكلّ هل أكل.

    قالت له أمي:

    - هاد إلك ولرفقاتك، وتسلم لي عليهن، والله حسيتكن متل ابني أحمد.

    وكانت تقصد بقاءَها في بيت مدين أثناء مرض والدي.

    بموت والدي أحسستُ أنَّني فقدتُ شيئًا عظيمًا.. شيئًا كنتُ أمتلكه ولَم أكُن أعرف قيمته.

    كان والدي أبًا وأكثر، وصديقًا وأكثر، كم كانت الحياة جميلة مع ذلك الرجل البسيط الكادح الذي يعيش الحياة بجمالها ونقائها وهو لا يعرف شيئًا عن الحياة! كانت الحياة معه أشبه بحلمٍ جميل داعَبَ خيالي، كان والدي أشبه بكنز يكون بين يديك ولكنَّك لا تعرف قيمته إلا عند فَقده.

    كان يعرف مدى تعلُّقي به وحبِّي له، كانت آخِر كلماته: يا بنيَّ.. لا تحزن.. هاي الدنيا هيك.. ربنا أرادها.. ولَم أعرف عمق تلك الكلمات إلا بعد رحيله.

    هذه هي الحياة قطار ينطلق ويسير بك في اتِّجاه النهاية المحتومة، أنتَ راكب وأنت تسير، لن يتوقَّف بك الزمان إلا تلك الوقفة الأبدية الأخيرة، وعليكَ أن تعرف أنَّ محطات عمرك هي تلك اللحظات التي تعيشها، وتبقى معششة في داخلك سواء كانت مسرَّات جميلة أو حزينة عابسة.

    أصبحتُ أميل للجلوس وحدي والسَّير في دروب القرية الضيِّقة وأوحالها وروابيها.

    وبينما كنتُ هائمًا في ذكرياتي وأنا أهمُّ بالخروج مِن البيت، سمعتُ صوت أمي ينطلق مِن خلفي:

    - يكفي يا بني يا أحمد، والله غنمات أبوك دبحها الجوع.. خُدها على حقل أبو فاطمة خلِّيها ترعى.

    أجبتُها باستغراب، ولا أعرف كيف أجبتُها، لكنَّني أحسستُ بالكلمات تخرج مِن صدري دون رابط بينها وتفكير منِّي:

    - وخلِّيها تموت إذا صاحبها تركها ورحل.

    - يا بني هاي بهايم حرام عليك.

    - وليش؟ نحن مو بهايم!

    - يا بني الله يرضى عليك ماني فاضية لحكيك.. هاي أنا راح طلع الغنمات وأنت خليك لحالك.

    أخرجَت أمي قطيع الأغنام، واتَّجَهَت بها إلى المراعي عبر الحقول المنبسطة على أطراف القرية.

    كان السهل ممتدًّا والأرض مملوءة بأكوام الحجارة البركانية، وقد تعبَ الفلاحون في جمعها على شكل أكوام كبيرة ليتسَنَّى لهم زراعة الأرض والإفادة منها.

    أمَّا مزارع الزيتون فقد أخذَت تنتشر لتأخذ نصيبها في تلك الأراضي، ثمَّ عدتُ بنفسي إلى جدلية المعري في الحياة عندما ساوى بين الحزن والفرح في بيته الشهير

    غيرُ مُجدٍ في ملَّتي واعتقادي نَوحُ باكٍ ولا ترنُّمُ شادِ

    حيث جمع بين الحزن والفرح، وأنَّه مجرَّد شعور لا أكثر.

    ***

    بالرغم مِن كَوني أعيش في قرية ميل شرقي إلا إنَّ طفولتي وذكرياتي في ميل غربي بقيَت هي المسيطِرة على تفكيري.

    وعندما كانت النِّقاشات والمقارنات بين قريتنا وقرية ميل غربي كنتُ أكبر المدافعين عن قرية ميل غربي، فأمدح فيهم توجُّههم نحو العلم، وانخراطهم في سلك الجيش والأمن، فيأتيك الجواب مِن أحدهم أنَّ الفُرَص في هذا المجال متاحة لهم بشكلٍ كبير كونهم مِن فئة معيَّنة، وقد تبيَّن لي صِدق هذا الرأي فيما بعد.

    مع مرور الأيام والسنين أصبحَت مهنة التدريس بالنسبة لي روتينًا يوميًّا.. أستيقظ في الصباح، ومع فنجان قهوتي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1