Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أولاد سكة الحديد
أولاد سكة الحديد
أولاد سكة الحديد
Ebook361 pages2 hours

أولاد سكة الحديد

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

على أثر استدعاء الأب لأسباب غامضة، يضطر بيتر وروبيرتا وفيليس، وأمهم، إلى ترك الحياة الهانئة في لندن للعيش في بيت صغير في الريف.
أين هو الأب؟ وهل سيعود أبداً؟
تنشر هذه النسخة الرائعة من «أولاد سكة الحديد»، للمرة الأولى باللغة العربية، بمناسبة مئة عام على صدورها.
Languageالعربية
PublisherDar Al-Muna
Release dateMay 13, 2024
ISBN9789189940093
أولاد سكة الحديد

Related to أولاد سكة الحديد

Related ebooks

Reviews for أولاد سكة الحديد

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أولاد سكة الحديد - إديت نيسبت

    أولاد سكَّة الحديد

    إديت نيسْبت

    النص العربي: رشا الأطرش

    دار المنى

    ١

    البداية

    لَم يَكونُوا أولادَ سِكَّةِ الحَديدِ مُنذُ البداية، ولا أَظُنُّ أَنه سبَقَ لَهمُ التَّفكيرُ في سِكّةِ الحَديدِ إلا باعتبارِها وسيلَة لِلوصولِ إلى مَسرحِ ˝ماسكولاين وكوك˝ لأَلعاب السِّحر، ومَسرحِ الإيماء، وإلى حديقةِ الحَيواناتِ ومُتحَف ˝مدام تيسو˝. كانوا أولادَ الضَّواحي لا أَكثر، يعيشونَ مع أَبٍ وأُمٍّ في فيلا عاديةٍ ذاتِ واجهةٍ من القرميد الأحمر. على بابها الرئيسي زُجاجٌ مُلوَّن، وردهةُ مدخلِها مَرصوُفة، وحمَّامُها مزوَّدٌ بِسخَّان. الجَرسُ كَهربائيّ، والنوافذُ فَرنسية الطراز، والطَلاءُ الأبيضُ يَغمُرُ البَيت الذي يتميّزُ بِكلِّ وَسائلِ الراحة الحَديثةِ كما يقولُ سماسِرَة العَقارات.

    هُم ثلاثة، وروبيرتا أكبرُهم. طَبعًا، لا أفضليةَ عندَ الأُمهات، لكن لَو اضطرَّت الأمُّ إلى تَسميةِ مَن تُفضلُ بينَ أولادِها، فالأرجَحُ أَنها ستبدأ بـ ˝روبيرتا˝، ثم بيتر الذي يتمنَّى أن يُصبحَ مُهندسًا عندما يكبَر، ثم فيليس الصغيرة ذات النوايا الحَسَنة.

    لم تقض الأمُّ وقتها في الزِّيارات، ولم تَجلِسْ بليدةً في المَنزلِ لتستضيفَ سيداتٍ مُمِلات، هي دائمًا مَوجودة على استعدادٍ لِتلعبَ مع الأولاد، وتَقرأَ لهم، وتساعدَهم في إنجاز فروضهم المَنزلية. وعلاوَة على ذلك كُلِّه، دأَبت على كِتابةِ القِصَص بَينما هُم في المدرسة، لتقرأَها لهم بعد احتِساءِ الشاي. ولَطالما ألَّفت قصائدَ مُضحِكةً لأعيادِ مِيلادِهم والمُناسباتِ الخاصَّة، كعمادةِ القِططِ المَولودةِ حَديثًا، وإعادة تأثيثِ بيتِ الدُّمية، أو حتى بداية تعافيهم من حُمَّى ˝أبو كعب˝.

    كُلُّ ما احتاج إليه هؤلاء الأولادُ المَحظوظونَ وَجَدُوه: ثيابٌ جَميلة، دِفءُ النارِ في المَوقد، غُرفةٌ رائعةٌ مُفعمة بتلالٍ من الألعابِ، يغطِّي جدرانَها الوَرقُ اللاصقُ المُزيَّنُ بِرُسوم ˝ماما وزَّة˝، مُربيتُهم لَطيفةٌ ومَرِحة، وكَلبُهم اسمُه جايمس. أبوهم مثالي لا يَغضَبُ أبدًا، ولا يتصرف بقسوة قَلب، وهو دائمًا جاهزٌ لمشاركتهم اللعب. وإذا حَدثَ أنَّه لم يُبدِ استعدادًا لِلَّهو، تَراه يُدلي بتبرير مُقنعٍ، يشرحُهُ للأولادِ بِطَرِيقَتِه المُضحِكةِ والمُثيرة فيتأكَّدونَ من صدقِه.

    ستفكِّرون: لا بُدَّ أَنهم سُعداء جدًّا. وقد كانُوا كَذلكَ فعلًا. لولا أنهم لم يُدركوا مدى سَعادتِهم تلكَ إلا حينما انتهَت الحياةُ الحُلوةُ في الفيلا الحَمراء، وكانَ عليهِم خَوضُ حَيَاةٍ مُختلِفةٍ تمامًا.

    أتى التَّغييرُ الرَّهيبُ فَجأة.

    كانَ عيد مِيلادِ بيتر عيدَ ميلادِه العاشِر، من بين الهَدايا التي تلقَّاها قِطارٌ بمُحَرِّكٍ بدا حَقيقيًّا أكثرَ مِمَّا يَسَعُهُ أن يتخيَّل. ومع أن الهدايا كلّها سَحرته، غَمَرَه ذاكَ القطارُ بِنشوة إضافيَّة.

    دامَ هذا السِّحرُ كاملًا ثلاثَةَ أيام متتالية، ثم -وبسبب قلةِ خِبرة بيتر، أو نوايا فيليسَ الحَسَنة، أو أيِّ سبب آخر- انطَفأ المُحرِّكُ بعد دَوِيِّ انفِجارٍ صَغير. ذُعِرَ جايمس إلى درجة أنَّه خَرجَ ولم يَعُدْ حتى آخرِ النهار وتفتَّتت كلُّ الكَائنات الصّغيرة التي كانت على مَتنِ سَفينةِ نوح الخشبية إلى قطعٍ صَغيرة، ما عدا ذلك لم يتأذَّ أَي شَيْءٍ آخَر باستثناء المُحرِّكِ ومَشاعرِ بيتر. قِيلَ إنّهُ بكى، لكنْ من المؤكدِ أنَّ الصِّبْيَة في العاشِرة مِن العُمرِ لا يَبكون، مَهما سَوَّدت فَظاعةُ التراجيديا الدُّنيا من حولِهم. قالَ إِن عينَيه حمراوان لأنَّه أُصيبَ بنَزلةِ بَرد. وتبيَّنَ أنَّ هذا صَحيح، ولو أنَّ بيتر لم يعِ ذلكَ عندما قالَ ما قالَ. وفي اليومِ التَّالي عِندما أَوَى إلى فراشِه، تعيَّنَ عليه البقاءُ فيه. ولَـمَّا ساورَ الأمَّ خوفٌ من الحَصْبة، قعدَ بيتر في سَريرِه فَجأة وقالَ:

    أنا أكرهُ العَصيدة، أنا أكرَهُ حساءَ الشَّعير، والخُبزَ والحَليب. أريدُ النُّهوض والحُصول على طَعامٍ حَقيقيٍّ˝.

    ˝وماذا تُحِبُّ أَنْ تَأكُل؟˝ سألتِ الأم.

    ˝فَطيرةَ لَحم˝ قال بيتر بِحَماسة ˝فَطيرةَ لَحمٍ كَبيرة، كَبيرةً جدًّا˝.

    فطلَبت الأمُّ من الطَّبَّاخِ أن يُعدَّ فَطيرةَ لَحمٍ كَبيرة. وأُعدَّت الفَطيرة ثمَّ خُبِزت، وبعدما نضجَت، أكلَ بيتر شيئًا منها. بعد ذلك، تحسَّنت صحته. وفيما كانت الفطيرةُ تُخبَز، ألَّفَت الأمُّ قَصيدةً صَغيرةً لتسليَتِه.

    قَصيدة

    تَحكي عن بيتر، صَبيٍّ بلا حَظٍّ، لَكنَّهُ يَستحِقُّ أحلَى الأشياء:

    كانَ لديه خير قِطار

    ما أحلَاه وما أغلَاه

    لو خُيِّر ماذا يَختار

    طبعًا، غيره لن يختار

    في يومٍ كانَ الأصحَاب

    معَه في البيتِ يَلهون

    طارَ البرغي يا أحبَاب

    حالًا وانفجَر السخان

    قامَ بتجميعِ الأشلَاء

    ومضَى فورًا وهو حزين

    لن تُجمع كل الأشياء

    لن يُوجد بَديل للمسكين

    مَن مَاتوا لَم يَسأل عَنهم

    يسألُ عَن ذاكَ القطار

    فَهو يَبقى أغلَى منهم

    مهما حدثَ ومهما صَار

    صارَ مريضًا بيتر أمسَى

    مهمومًا من دونِ قِطار

    ومضَى يأكُل حَتَّى ينسَى

    أبدًا لَن ينسَى ما صَار

    كل صَباح كل مسَاء

    يتغطّى لعلَّه يَنام

    بيتر مهمومٌ مُستاء

    يحزنُه بُؤس الأيَّام

    فإذا ما احمرَّت عَيناه

    أو هَدَّته نزلةُ بَرد

    هَيا، قُم، كَي تَرعاه

    ساعدهُ فالكَرب اشتَدَّ

    في هَذهِ الأثناء، عادَ الأبُ من زِيارةٍ إلى الرِّيفِ دامَت ثلاثةَ أو أربعةَ أيام، عَلَّقَ عليه بيتر كلَّ آمالهِ بشفاء قِطاره المُصاب، إذ عُرفَ الأبُ بِلمسةِ أصابِعِهِ الرائعةِ الذكاء. ولَطالما صَلَّحَ أشياءَ متعدِّدة. كثيرًا ما أجرى جِراحاتٍ بَيطريَّةً على الحِصانِ الخَشبيّ الهَزَّاز، وأنقذَ مَرةً حَياته بعدَما كانَ الحصول على أي مُساعدةٍ بشريَّة لإنقاذه أمرًا ميؤوسًا منه، وكادَ المَخلوقُ المِسكينُ أن يُرمى كقطعةِ خُردة، بل حتى النَّجارُ قالَ إنَّه لا يمكِنُه فِعلُ شيءٍ لأجله. الأبُ أيضًا هو الذي صَلَّحَ مَهدَ الدُّميةِ فيما فَشِلَ الآخرون، وعلى يديه، وببعض الصَّمغ، وألواحٍ خَشبيةٍ صَغيرةٍ وسِكين حادَّة، استعادَت تَضاريسُ سفينةِ نوحٍ قُوَّتها عند المفاصل، أو ربَّما صارَت أقوى.

    بِتضحيةٍ بُطولية، لم يقلْ بيتر شيئًا عن القِطارِ إِلا بعدما فَرَغَ الأبُ من تَناوُل العشاء وتدخينِ السِّيجارِ. كانت التضحيةُ فكرَة الأم، وبيتر هو من نفذها بالتزام تَطلَّبَ قَدْرًا كبيرًا من الصَّبر.

    أخيرًا قالَت الأمُّ للأب: والآنَ يا عَزيزي إذا حصلت على قِسطٍ كافٍ من الراحة والاسترخاء، نريدُ إطلاعك على الحادثة الرهيبة على سكّة الحديد، ونَطلُب نصيحَتك˝.

    ˝حَسنًا˝، قالَ الأب، ˝كلِّي آذانٌ مصغية˝.

    وهَكذا، انبرَى بيتر يسردُ الحِكاية المُحزنة، وذَهبَ يُحضِرُ ما تبقَّى من القِطار المنكوب.

    ˝هممم˝. قلَّبَ الأبُ اللعبةَ الصَّغيرةَ بينَ يَدَيهِ مُتفحِّصًا.

    حَبسَ الأولادُ أنفاسَهم.

    ˝أهناك أيُّ أمل؟˝ قال بيتر بِصوتٍ خَفيضٍ وحَشرجَة.

    ˝أيُّ أمل؟ بل هُناك الكَثيرُ منه!˝ أجابَ الأبُ بحُبورٍ مُطَمئن ˝لكنِّي بِحاجةٍ إلى أشياءَ أخرى غير الأمل، إلى قِطعةٍ نُحاسية -لنَقُلْ- أو سبيكةِ لِحام، وصِمامٍ جَديد. أعتقدُ أنَّه من الأفضلِ أن نتركهُ ليوم ماطِر، بِمَعنى آخرَ سأخصِّصُ بعدَ ظهرِ يوم السَّبتِ له، وستساعدونني كُلُّكُم˝.

    ˝وهل تَستطيعُ الفتياتُ المُساعدةَ في إصلاحِ المُحرِّكات؟˝ تَساءلَ بيتر مُشكِّكًا.

    ˝طَبعًا! الفتياتُ ذَكيَّاتٌ مثل الفِتيان، لا تَنسَ ذلكَ أبدًا! ما رأيُكِ يا فيل؟ هل تُحبِّينَ أن تَكوني سائقةَ قِطار؟˝.

    ˝سيكونُ وجهي مُتَّسِخًا طَوالَ الوَقت، أليسَ كَذلك؟˝ قالَت فيليسُ بصَوتٍ خالٍ من الحماسة، ˝ولا بُدَّ أنَّي سأكسِرُ شيئًا˝.

    ˝أما أنا فيبدو لي أنَّي سأحبُّ ذلكَ كَثيرًا˝، أعلنت روبيرتا، ˝هل تَظُنُّ يا بابا أنَّي أستَطيع؟ يعني.. عندما أكبر؟ أن أُصبحَ سائقةَ قِطار، أو رُبما وَقَّادَة القاطِرة؟˝.

    ˝تقصدينَ مثلَ رَجُل الإطفاء˝ أجابَ الأبُ وهو يقلِّب القِطارَ بينَ كفَّيه ˝حَسنًا، إذا كُنتِ ما زِلت تَرغبينَ في ذلكَ عندما تَكبرين، فسنرَى كيف يُمكنُ أن نَجعل مِنكِ امرأةَ إطفاء. أذكرُ عندما كنتُ صبيًّا..˝.

    في هذهِ اللَّحظة، سُمعَ قَرعٌ على الباب.

    ˝من يأتينا في هَذه الساعَة؟˝ قالَ الأبُ ˝صَحيحٌ أنَّ بيتَ الرَّجل الإنكليزيِّ قَلعَته، لكنِّي أتمنّى لو أنَّهم يَبنُونَ الفيلاتِ ومِن حَولِها خَنادِقُ مائيةٌ وجُسورٌ مُتحركة˝.

    دَخَلَت رُوث، الخادمةُ ذات الشعرِ الأحمَر، لتُعلن أنَّ في الخارِجِ رَجلَين يسألان عن السيِّد، ˝وقد أدخلتُهُما إلى غُرفةِ المَكتَب يا سيدي˝.

    ˝لا بُدَّ أنّهما من جامِعي التَّبرعاتِ من أجلِ الكاهنِ الذي سيتقاعَدُ قريبًا˝ قالَت الأمُّ ˝أو رُبَّما لِدعمِ الجوقةِ التي ستُنشِدُ في العيد. اصرِفهما بسرعة يا عَزيزي، فهذه زِياراتٌ تُفسِدُ أُمسِيةً كهذه، كما أنَّ مَوعد نَومِ الأولادِ قد أَزِف˝.

    لكن، لم يبدُ على الإطلاق أنَّ في استطاعةِ الأبِ صَرفَ الرجلينِ بِسُرعة.

    وتَمنَّت روبيرتا لو أنَّ البيتَ مُحاطٌ فِعلًا بخندق مائيٍّ وجِسرٍ مُتحرِّك، ˝وعندما لا نُريدُ أن يَزورَنا أَحَد، نرفعُ الجسرَ، فلا يَعودُ بإمكانِ أحَدٍ الدُّخول. فأنا أخشى إن مَكثوا طَويلًا أن ينسى أبي بقيةَ الحِكاية˝.

    حاوَلت الأمُّ إزجاءَ الوَقتِ بِسردِ حكاية جَديدة، عن أميرةٍ خَضراء العَينين، إلا أن الأمرَ كانَ صعبًا لأنّ وَقعَ أصوَات الأبِ والرَّجُلين تجاوزَ غُرفة المَكتب، وبدا صوتُ الأبِ مُختلِفًا وأعلى من الصوتِ الذي يُخاطِبُ به في العادة المُتطوعِينَ للأعمالِ الخيريَّةِ وجامعي تَبرُّعاتِ الأعياد.

    ثم رَنَّ جَرَسُ المَكتَب، وأَطلقَ الجَميعُ زَفرَةَ ارتِياح.

    ˝ها هما يَنصرِفَان˝ قالَت فيليس ˝قَرعَ أبي الجَرس ليأمُرَ بمُرافَقتِهما إلى الخارِج˝.

    بيد أن روث اندَفعت داخلة عليهم، بدلًا من أن تُرافقَ أيًّا كانَ إلى الخارج. وفَكَّرَ الأولادُ أَنَّها تبدو غَريبة المَلامِح: ˝رجاءً يا سَيدتي، السيِّدُ يريدك في غُرفة المَكتبِ حالًا. إنه يشبِهُ الأموات يا سَيدتي، أعتقدُ أنَّه تلقَّى أخبارًا سَيِّئة. الأفضلُ أن تستعدّي للأسوأ، سَيدتي، لَعلَّه مَوتُ أَحَدِ الأقارب، أو رُبما حَجَزَ البَنكُ على..˝.

    ˝حسنًا، لا بأس يا روث˝ قالَت الأمُّ بِلُطف ˝يُمكِنُكِ الانصِرافُ الآن˝.

    ثم دَخلت الأمُّ غُرفةَ المَكتب، لا كَلام. ورَنَّ الجَرسُ ثانية، وخَرجَت روث لتُحضِرَ سيارةَ تاكسي، سَمِعَ الأولادُ وَقْعَ أحذيةٍ تَخرُجُ وتنزِلُ الدَّرَج. انطلقَت سَيارةُ التاكسي، وصُفِقَ بابُ البَيت، وعادَت الأمّ. وَجهُها العزيزُ أبيضُ كالياقةِ المُطرَّزةِ على قَميصِها، وعيناها مُتّسِعتان وتَلمعان، فَمُها أشبه بخطٍّ أحمر باهت، إذ غَدَت شَفتاها رَفيعتَين ومختلفتين في شكلهما.

    ˝حانَ وَقتُ النوم˝، قالَت لِلأولاد، ˝روث ستضَعُكم في أَسِرَّتِكم˝.

    ˝لَكنكِ وَعدتِنا بأنْ نسهرَ قليلًا الليلةَ لأنَّ بابا عادَ إلى المَنزل˝ اعترَضت فيليس.

    ˝استُدعِي بابا إلى العمل˝ قالَت الأم ˝هيا يا أحبائي، إلى النوم، الآن˝. قبَّلُوها، الواحد تلو الآخر، وذَهبوا إلى غُرفهم. تباطأت روبيرتا لتطوِّق أمَّها بعناق أطوَل، وتهمِسَ لها: ˝هل هي أنباءٌ سيئة يا ماما؟ هل تُوفِّي أحد، أو..˝.

    كادَت الأمُّ أن تدفعَ روبيرتا عَنها دَفعًا: ˝لا أحدَ تُوفِّي. لا أستطيعُ أن أخبركِ شَيئًا الليلةَ يا قِطتي. اذهبِي يا عَزيزتي، اذهبِي الآن˝.

    وَذهَبت روبيرتا.

    مشَّطت روث شَعرَ الفتاتَين وساعدَتهُما في خَلعِ ثِيابهما. لطالما قامَت الأمُّ بهذِه المهِمَّة. وبعدما أطفأت القِنديلَ وتَركتهُما، وَجدَت بيتر يَنتظِرُ على السَّلالم، وكان ما زال مُرتدِيًا ثيابَه، ˝روث، ماذا حَصَل؟˝.

    ˝لا تسألنِي عن شيء، فلا أَكذِب عَلَيك˝ أجابت روث ذات الشَّعرِ الأَحْمر ˝ستَعرِف قَريبًا˝.

    في وَقت مُتأخرٍ مِن تِلك الليلة، صَعدت الأُمُّ لتُقبِّلَ الأولادَ الثلاثةَ وهُم نيام. كانت روبيرتا هي الوَحيدةَ التي أَيقظَتها القُبلة، لكنَّها جَمدَت كَفأرة، ولم تَقلْ شَيئًا. وفيما التقَطت أُذناها في العَتمةِ مُحاولةَ أُمِّها لالتقاط أنفاسها، هَمهَمت في سِرِّها: ˝إذا كانت ماما لا تُريدُنا أنَ نَعرِفَ أَنَّها كانت تَبكي، فلن نَعرف. وهذا كُلُّ شَيء˝.

    في صَباحِ اليومِ التالي، نَزلوا لتناوُل الفطور، كانت الأم قد خَرجت ˝إلى لندن˝، كما أعلَمتهم روث قَبلَ أن تتركهم لإنهاء فُطورهم.

    ˝ثمةَ خَطبٌ مُروِّع˝ قال بيتر وهو يُقشِّرُ بَيضَة ˝أَخبرتنِي روث أَمس أَننا سَنعرفُ عاجِلًا وليس آجلًا˝.

    ˝سألتَها؟!˝ قالَت روبيرتا موبِّخَة.

    ˝نعم، فَعلت!˝ أجابَ بيتر بِغَضب، ˝إذا تمكَّنتِ من الخلُودِ إلى النَّومِ من دون أن تكترِثي أكانت ماما قَلِقة أم لا، فأنا لم أستطعْ. هاك˝.

    ˝لا أعتقد أَنَّه يجدرُ بنا سؤالُ الخدمِ عن أُمورٍ لا تريدُ ماما أَنْ تُخبِرنا بها˝ قالَت روبيرتا.

    ˝صحيح، يا آنستي البارعة˝، قاطَعها بيتر، ˝أكملِي وَعْظًا˝.

    ˝أنا لستُ الآنسةَ البارعة˝ تَدخلّت فيليس ˝لَكنِّي أَعتقدُ أن بوبي على حَقٍّ هذهِ المرة˝.

    ˝بالتأكيد˝ قالَ بيتر ˝هي دائمًا على حَق، من وجهةِ نَظَرها وَحْدها˝.

    ˝أوه، لا!˝ صرخت روبيرتا وهي تخفض ملعقة البيض ˝يُستَحسن ألا نتبادل الكلام الجارح، أنا مُتأكدةٌ من أن كارثةً رَهيبةً قد حَدَثت، لا داعي لأن نزيدَ الأمورَ سُوءًا!˝.

    ˝ومن الذي بَدأ؟˝ قال بيتر ˝أَودُّ أَنْ أَعرف˝.

    بَذلتْ روبيرتا جُهدًا لِتُجيب: ˝أظنُّني مَن بَدأ، مع ذلك.. ˝.

    ˝حَسنًا إذًا˝ هتف بيتر مُنتصرًا. إلا أنه قَبلَ ذَهابه إلى المَدرسة، غَرَزَ إِبهامَه في كَتِفِ شَقيقَتِه وطَلبَ منها أَن تَبتهجَ قَليلًا.

    لَم تَكن الأمُّ في البيتِ عندما عادَ الأولادَ إليه في فرصة الغَداء، ولَم تَأتِ لمّا جاءَ مَوعد تنَاول الشاي.

    كانت السّاعةُ قد قارَبت السابعةَ عندما وَصَلت، وقد تَجلَّى في مَظهَرِها التَّعَب، ما جعلَ الأولادَ يُحجمون عن طَرحِ أيِّ أَسئلة. غرِقت الأمُّ في الكرسيِّ الكَبير. نَزَعت فيليس الدَّبابيسَ الطَّويلةَ من قبَّعَتِها، فيما سَحَبَت روبيرتا القُفازَين من كَفَّيها، وحَلَّ بيتر رِباطَ حِذائها ثم رَكضَ لِيجلبَ خفَّيها المخمَليَّين الناعِمين.

    شَربت الأمُّ كُوبًا من الشاي، وَمسَحت روبيرتا رأسها المسكينَ المُصدَّعَ بالمياهِ المُعطَّرَة. وبعد هنيهة قالَت الأم:

    ˝والآن يا أَحبائي، سأُخبِركم. أتَانا الرَّجلان ليلةَ أمس بأنباءٍ سَيِّئة فِعلًا، وأبوكُم سيتغيَّبُ لبعضِ الوَقت. أنا قَلِقةٌ جدًّا! وأُريدُكم جَميعًا أَن تُساعدوني، وألا تُصعِّبوا الأُمورَ عَليَّ˝.

    ˝وهل يُعقل أن نَفعل ذلك؟˝ قالَت رُوبيرتا التي وَضعت كَفَّ أُمها على وَجهِها.

    ˝نعم، في وُسعِكُم أنَ تساعِدُوني˝ أجابت الأُم ˝بأَن تَكونوا طَيِّبين وسُعداء، ولا تَتشاجروا في غيابي!˝ -تَبادلَ بيتر وروبيرتا نظراتِ الذَّنْب- ˝لأنِّي سأَتغيب كَثيرًا˝.

    ˝لن نَتَشاجَر، حَقًّا لَن نَتشاجَر˝ هتفَ الثلاثةُ بِصوتٍ واحِد وهم يَعنُون ما يقولُون.

    ˝إذًا˝ قالَت الأم ˝أُريدُكم ألا تَسألُوني عَن شَيء يتعلق بهَذهِ المُشكِلة، ولا تَطرَحوا الأَسئلةَ على أَيِّ أحدٍ آخر˝.

    انكمَشَ جَسَدُ بيتر وفَرَكَ السَّجادَة بِحِذائه.

    ˝سَتَعِدونني بهذا أيضًا، أَليسَ كذلك؟˝ أردَفت الأُمُّ.

    ˝سبق أن سألتُ روث يا أمِّي˝ اعتَرَفَ بيتر فَجأة ˝أنا آسفٌ لَكنِّي سألتُها˝.

    ˝وماذا قالَت؟˝.

    ˝قالَت إنِّي سأَعرِفُ قريبًا˝.

    ˝لا داعيَ لأَن تَعرف أيَّ شَيءٍ عن المَوضوع˝ قالَت الأمُّ ˝الأَمرُ يتعلَّقُ بِالعمل، وأنتَ لا تَفهمُ في عَمَل والدك، صَح؟˝.

    ˝لا˝ وافقتها روبيرتا ˝وهَل يتعلَّقُ الأَمرُ بِالحُكومَة؟˝ إذ يَشغَلُ الأَبُ وَظيفةً حُكوميَّة.

    ˝نعم˝ أجابَت الأُم ˝والآن حانَ مَوعِدُ النَّوم يا أَحبَّائي. لا تَقلقوا! كُلُّ شيءٍ سَيكونُ على ما يرام في النِّهاية˝.

    ˝وأنتِ أيضًا لا تقلَقِي يا أُمي˝ قالَت فيليس ˝وعِندَها سَنكُونُ جَميعًا مِثل ليرة الذَّهَب˝.

    تَنَهَّدتِ الأُم وقَبَّلتهُم.

    ˝سَنتصرّف بِتعقُّل ابتداءً من صباح الغد˝ أعلنَ بيتر، فيما صَعدَ الجَميعُ إلى الطَّابق العُلويّ.

    ˝ولماذا لا نَبدأ مِنَ الآن؟˝ استفهَمت روبيرتا.

    ˝لأنَّه لا شيءَ الآن يَستدعي منَّا التَّصرُّف بطيبةٍ أَيَّتها الساذجَة˝ أجابَ بيتر.

    ˝بل يُمكِنُنا أَنْ نبدأ بأَنْ نَشعُرَ بالطِّيبة˝ قالَت فيليس ˝فلا يُطلقُ أحدنا نُعوتًا على الآخر˝.

    ˝ومن يُطلِق نُعوتًا؟˝ تساءل بيتر ˝بوبي تُدرِكُ جيدًا أَنِّي عِندما أَقولُ ساذجَة، فكأنِّي أَقولُ بُوبي˝.

    ˝حَسنًا..˝ قالَت روبيرتا.

    ˝لا، لا أَقصِدُ ما فَهمتِه˝ همهمَ بيتر ˝أَقصِدُ أَنها مُجرَّدُ -ماذا يُسمِّيها بابا؟- لوثة المَحَبَّة. تُصبِحانِ على خَير˝.

    رَتَّبتِ الفَتاتان ثِيابَهما بِحِرصٍ أَكثرَ مِن العادَة -فَهذِه هي الطَّريقةُ الوَحيدَةُ التي استَطاعَتا التَّفكير فيها لإظهارِ كَم هما عاقلَتان.

    ˝على فِكرة˝ قالَت فيليس وَهي تُمَسِّدُ مِئزَرَها الصَّغير ˝لَطالما قُلتِ إنَّ الحَياة في هذا البَيتِ مُمِلَّة، وأَنَّ شَيئًا لا يَحدث كما في الكُتُب، والآنَ حَدَثَ شيءٌ ما˝.

    ˝لم أَتمنَّ يَومًا أَن يَحدُثَ ما يُحزِنُ ماما˝ أجابت روبيرتا ˝كلُّ شَيءٍ الآنَ مُروِّع˝.

    وظَلَّ كُلُّ شَيءٍ مُروِّعًا لِبِضعَة أَسابيع.

    الأمُّ غائِبةٌ مُعظَم الوَقت، الوَجَبات مُمِلَّة وغَيرُ نَظيفة، صُرِفَت الخادِمَة الإضافِيَّة، وجاءَت الخالةُ إيما لِلزِّيارَة. الخالةُ إيما تَكبرُ الأُم بِكَثير، كانت تَستَعِدُّ لِلسَّفَر إلى الخارج لِتعمل مُرَبية أطفال، وقد شُغِلت بِتحضير ثِيابها المُهَلهَلة، والمُكوَّمة بفوضَويَّةٍ في كُل مَكانٍ الآن، فيما ماكينةُ الخِياطةِ تَملأُ فَضاءَ البَيتِ بأَزَيزها طَوال النَّهار ومُعظمَ اللَّيل، تُوْمِنُ الخَالةُ إيما بضَرورَة إبقاء الأولاد حَيثُ يجبُ أن يكونوا، وهم أَبدَوا استعدَادهم الكامِل لِرَدِّ الجَميل، إذ كانت فكرتُهم عن مساحَة الخالة إيما، أنها المَكانُ الذي لا يَشملُهُم

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1