Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

وليد الموج
وليد الموج
وليد الموج
Ebook351 pages2 hours

وليد الموج

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

وليد الموج رواية تعكس المأساة السورية بكل أبعادها لا سيما الإنسانية؛

فهي تبدأ بصاروخ مجهول المصدر دلالة على أن التدمير في سوريا لم يعد يُعرف مصدره يقيناً. يتسبب هذا الصاروخ بتدمير بيت عائلة مكونة من أب وطفلين وأم. الأم طبيبة نسائية وهي حامل في شهورها الأخيرة، والأب مدرس في إحدى المدارس. تنجو العائلة بأعجوبة ولكن بكثير من الخدوش والجروح البليغة. تقرر العائلة بعد ذلك الهجرة أسوة بكثير من العائلات السورية بسبب ضيق ذات اليد والوضع الأمني المتدهور جداً.

Languageالعربية
Release dateMay 5, 2024
ISBN9798224145119
وليد الموج
Author

أ.د. محيي الدين حميدي

أ.د. محيي الدين حميدي هو أستاذ جامعي في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة إيبلا الخاصة. درس في جامعات حلب، ليبيا، والسعودية. يعتبر من الباحثين المرموقين في مجال اللغة الإنجليزية والترجمة، حيث قام بترجمة أكثر من 30 كتابًا. حاز على جائزة خادم الحرمين الشرفين العالمية للترجمة في عام 2011 عن ترجمته لكتاب "اللسانيات السريرية". يعتبر عضوًا في اتحاد الكتاب في سوريا منذ عام 2007 وعضو في عدة جمعيات أدبية أخرى. أعمال صدرت للكاتب: قد صدرت لأ.د. محيي الدين حميدي عدة كتب ورقية، بما في ذلك ثلاث روايات منشورة وهي "غفران" من دار الفكر بدمشق، "حورية البحر" من دار الفرقان بحلب، و"أبحث عن طيفه" من دار استبولي بحلب.

Related to وليد الموج

Related ebooks

Related categories

Reviews for وليد الموج

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    وليد الموج - أ.د. محيي الدين حميدي

    رواية

    وليد الموج

    أ.د. محيي الدين حميدي

    إلى المجهول

    وقف أبو محمد على أنقاض منزله الذي تعرض لصاروخ لا يعرف مصدره؛ وكان محظوظاً جداً لأنه استطاع إخراج زوجته الحامل في أشهرها الأخيرة وولديه من تحت الركام بكثير من الخدوش والجروح والرضوض. اجتمع أهالي الحي يواسونه ويقدمون له يد المساعدة. أمضى ليلته في بيته المهدم على الرغم من إصرار أهالي الحي على إخراجه واستضافته. مع بزوغ الشمس، توضحت الصورة أمامه؛ فهذا البيت الذي أفنى عمره في بنائه وتزويده بكل أسباب العيش، وكان بمثابة العش الذي وُلد فيه أولاده وترعرعوا، قد تهدم.

    كانت أسقف الغرف أشبه ما تكون بقوقعة بيضة مهشمة، في حين كانت النوافذ مشرعة على مصارعيها، وكانت أدوات المطبخ والحمام مبعثرة في كل مكان.  نظر إلى سرير غرفة نومه حيث أمضى أمتع لحظات حياته مع زوجته ليجده قد تحطم، وكان أشبه بعش طائر صغير في أعلى شجرة هشمته الرياح العاتية وحبات البرد في ليالي الشتاء القاسية. مع تهدم البيت وضيق ذات اليد من ناحية، والأمل في مستقبل أكثر إشراقاً لأولاده، قرر [رفقة زوجته وولديه] الالتحاق بأحد مخيمات النازحين على الحدود التركية السورية لأنه لا يوجد أي مكان آخر يؤويه.

    بعد شهرين تقريباً من المعاناة التي لا تطاق والتي تم فيها امتهان كرامة الإنسان بكل معانيها، قرر الهجرة إلى أوربا حيث سبقه مئات الألوف من أبناء جلدته. وبعد مساومات كثيرة مع إحدى شبكات المهربين، التي قامت بسلبه كل ما يملك مقابل الوعد بإيصاله إلى الشواطئ اليونانية، التحق بمجموعة من الناس على شاكلته. وضعه المهربون مع عائلته في أحد الكهوف القريبة من الحدود، بحيث كان يفترش الأرض ويلتحف السماء. وكانت حالة زوجته تزداد سوءاً يوماً بعد يوم بسبب دنو موعد الولادة. كان بالكاد يؤمن طعام الأسرة بسبب ضيق ذات اليد من القرى المجاورة، وبُعد المكان عن مصادر الطعام والشراب الأساسية.

    في إحدى الليالي أصدر ابنه محمد، وهو الأكبر، صرخةً قوية بعدما آوت الأسرة للنوم. نهض أفراد الأسرة جميعهم، وكلٌ بيده شمعة صغيرة بالكاد تضيء خطوة أمامه يتسألون عن السبب. كان الولد يبكي بشدة ويشكو من ألم في إحدى رجليه.

    حاول الوالدان تهدئته؛ ولكن كان صراخ الولد يزداد ألماً، وبدأت رجله تتورم. بدأت الأم بالبكاء، وهي تحث أباه على فعل أي شيء لإنقاذه. وفي حالة من الإرباك والحزن، حمله والده على كتفه مسرعاً باتجاه أقرب مكان فيه أناس يحاولون الهروب إلى تركيا شأنهم شأنه. بالطبع، لا توجد نقطة إسعاف طبية أو طبيب في المكان. وبعد عدة مئات من الأمتار، وجد عائلة تستتر بأحد الكهوف؛ تقدم رجل، ربما كان رب الأسرة، منه وسأله عن سبب صراخه واستغاثته، أجابه بعدما انفجر بالبكاء:

    لا أدري ما الذي حدث لابني، كنا نائمين، ولكنه استيقظ باكياً، وكما ترى فإن رجله بدأت بالتورم؛ وأخشى أن يكون قد تعرض للدغة أفعى أو عقرب قاتل.

    ضع الولد على الأرض بلطف.

    أنزلَ الولدَ بلطف؛ ولكن كان الولدُ قد فقد وعيه؛ وبعد بضع دقائق، لفظ آخر أنفاسه من دون أن يستطيع أحد إسعافه. استيقظ بقية أفراد الأسرة، وبدأوا النحيب على ذلك الطفل الذي لم يبلغ العاشرة من عمره.

    حمله أبوه جثةً هامدةً عائداً باتجاه كهفه. ولدى وصوله، انفجرت العائلة برمتها بالبكاء. وضعه أبوه على حصيرته التي كان ينام عليها؛ ومع ارتفاع النحيب وزيادة الحركة بسبب الإرباك، شاهد حسن، وهو الابن الأصغر في العائلة، أفعى تنسل مسرعة من الكهف باتجاه الخارج؛ صرخ بأعلى صوته أفعى، أفعى؛ ولكن كانت الأفعى قد انسلت من باب الكهف ولفتها الظلمة بحيث لم يعد يُرى لها أي أثر.

    أمضت الأسرة بقية الليلة تنتحب فقيدها. وكانت الأم هي الأشد تأثراً كونها أماً وحاملاً. ومع بزوغ الشمس وانتشار الخبر بين العائلات في الكهوف المجاورة، تجمعت عدة أسر حول كهف الأسرة المنكوبة تشاطرها محنتها بالبكاء والشكوى من الأوضاع التي دفعت بهم لمحاولة ترك الوطن واللجوء إلى أي مكان. ومع صلاة الظهر، دُفن محمد في حفرة بالقرب من كهف أسرته.

    بعدما انصرف المعزون، جلس الأب منتحباً بصمت، اقتربت منه زوجته التي لم يكن حالها بأفضل منه، ولكنها حاولت التخفيف من حزنه، وبادرته:

    لا حيلة باليد يا أبا محمد؛ هذا قضاء الله وقدره؛ ولا نقول إلا ما يرضي الله حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا له راجعون.

    تمتم بهدوء، مطرقاً رأسه، والدموع تنهمر من عينيه بغزارة:

    يا أم محمد، تخيلنا أننا هربنا من الموت عندما غادرنا قريتنا؛ و تصورنا أننا سنجد ملاذاً أفضل إن نحن هربنا إلى أوروبا؛ ولكن كما ترين فقد خسرنا ابننا البكر حتى قبل مغادرة الأراضي السورية، من يدري ما الذي يمكن أن يحصل لنا مستقبلاً؟ الله يجيرنا من الأعظم يا أم محمد. يا أم محمد، هذا محمد الذي كنت أعول عليه كثيراً في بناء مستقبل للعائلة؛ هذا الذي كنت أخطط له بأن يصبح طبيباً مشهوراً قد أصبح الآن تحت التراب، هذا الذي كنت أحمله بين ذراعي بين أشجار الزيتون كي يستنشق الأكسجين الثلاثي اعتقاداً مني أن ذلك سيمنحه مزيداً من الأكسجين، وبالتالي سيقوى بدنه بشكل أفضل، هذا الذي كان يلاحق الصيصان في باحة المنزل وصوته يرن في أذني وكأنه فيروز صباحاً أو أم كلثوم ليلاً، هذا أملي الكبير قد دفنته بيدي وبأرض غريبة وبين صخور باردة. يا أم محمد لا أدري كيف سيتحمل جسمه الغض برودة التراب والصخور المحيطة به. يا ألهي ماذا فعلت أنا بمغادرتي القرية؛ بدأ نشيجه يرتفع ودموعه تنسكب بغزارة وكأنها شلال.

    تدخلت زوجته المنهكة سلفا وهي تمسح على رأسه وتربت على كتفه محاولة إخفاء دموعها بقولها:

    هذا قضاء الله يا أبا محمد، وما علينا سوى الصبر، ومغادرة هذا المكان بأقصى وسرعة.

    راحا يكفكفان دموعهما، ويواسي كل الآخر بحيث ألقى رأسه بين ذراعيها، في حين احتضنته وكأنه ابنها الصغير، وبقيا ينتحبان إلى أن غالبهما النعاس.

    بعد يومين يمرُّ بهم أحد أفراد شبكة التهريب محاولاً طمأنتهم بأن موعد التحرك أصبح وشيكاً؛ ولكن بعد أن ضاق أبو محمد ذرعاً بكذبه وتسويفه على مدى الأسابيع الماضية، يدخل معه في شجار كاد أن يتحول إلى صراع دام عندما اقترب منه صارخاً:

    متى سنتحرك؟ لقد دأبت على القول إننا سنتحرك خلال يومين منذ أكثر من شهر. لقد نفدت أموالنا، ومنذ يومين فقدتُ ابني البكر بلدغة أفعى. ولقد دفعت لك مسبقاً كل ما طلبت. ولا أخفيك سراً إذا ما قلت لك إن ما دفعته لك هو قيمة كل ممتلكاتي في قريتي، وبالأحرى في سوريا، فلمَ الانتظار؟ هل تتخيلني أنتظر أكثر من ذلك، وزوجتي حامل في أيامها الأخيرة؟ ولربما تسللت إلى الكهف أفعى أخرى ولدغت أحدنا أيضاً. إننا اقتحمنا على الهوام جحورها.

    يردُّ عليه بلهجته التسويفية المعتادة:

    حاضر، خلال يومين، سننطلق بإذن الله.

    وفعلاً بعد يومين من تاريخ ذلك اللقاء، ومرور حوالي الشهر والنصف منذ أول وصولهم إلى تلك البقعة من الحدود السورية التركية، يتم تهريبهم ليلاً عبر الحدود مع عدد من الأشخاص الأخرين؛ وكانوا محظوظين جداً لأنهم تجاوزوا الحدود سالمين حيث إن حرس الحدود التركي أطلق النار على الناس الذين كانوا يتجاوزون الحدود وأصاب وقتل منهم عدة أفراد. يتجاوزون الحدود، ويسيرون عدة كيلومترات في عتمة الليل، وكان ذلك الجهد متعباً جداً على أم محمد كونها في مراحلها الأخيرة من الحمل، وبسبب الحزن الذي كان يعتصر قلبها على فقدان ابنها منذ يومين.

    تنقلهم شاحنة كانت متوقفة على مسافة بعيدة من الحدود التركية إلى قرية نائية؛ وهناك جلسوا جميعاً مكتظين، وكأنهم حيوانات النو بانتظار عبور نهر الكونغو. اختلطت الأنفاس ببعضها، وانتقلت الفيروسات والجراثيم من المصابين إلى الأصحاء بكل سهولة بسبب قرب المسافة بين الجالسين والواقفين. زاد الضغط على أم محمد فلم تعد تستطيع التنفس إلا بصعوبة. وكانت تعليمات المهربين بألا يصدروا أي صوت كي لا يشعر أحد بوجودهم، وألا يفتحوا النوافذ كي لا يلاحظهم أحد، وبالتالي يعيدونهم جميعاً إلى الحدود السورية ثانية وبكثير من الإهانات.

    تمرُّ عدة أسابيع أخرى قبل أن ينقلهم المهربون إلى جزيرة على بحر إيجة.  وفي إحدى الليالي المظلمة، وقبيل الفجر بقليل، تم تكديسهم في قارب مطاطي على الشاطئ، وكانت أم محمد في أصعب لحظاتها حيث يبدو أن الجهد الكبير والحزن القاتل قد قرّبا من موعد ولادتها. فبعد أن ركبت القارب بعدة دقائق، فاجأها المخاض بقوة؛ ولم يكن بوسع أحد فعل أي شيء، بل طُلب من الجميع عدم إصدار أي صوت كي لا تكتشفهم دوريات الأمن التركية أو اليونانية التي تجوب المكان.  انطلق القارب مسرعاً في عرض البحر، وكان على أم محمد أن تكتم ألم المخاض خشية أن يكتشفهم أحد. ولكن وبعدما أن تجاوز القارب عدة كيلومترات اكتشفته إحدى دوريات حرس المياه الإقليمية اليونانية بفعل الأضواء المبهرة القوية التي أضاءت بها المكان فجأة من على ظهر أحد قوارب الدوريات، فأطلقت النار باتجاهه، في الوقت الذي ازداد المخاض شدةً. عاد القارب مسرعاً باتجاه المياه الإقليمية التركية تطارده الدورية اليونانية. كانت أم محمد في آخر مراحل مخاضها، وقد زفرت آخر زفراتها المؤلمة جداً عندما انعطف القارب مسرعاً ما أدى إلى انقلابه رأساً على عقب. في تلك اللحظة دفعت أم محمد وليدها من رحمها إلى الخارج، واستلقت مغمية عليها من شدة الإجهاد بين أقدام الركاب الذين كانوا يتساقطون إلى المياه بفعل انقلاب الزورق.

    بانقلاب القارب تبعثر الركاب على سطح الماء في عتمة الليل كمن يرش قطرات ماء على تربة عطشى؛ ومع أنهم كانوا يصرخون جميعاً من أجل النجاة إلا أن أحداً لم يسعفهم، وبدأ البحر يبتلعهم واحدا تلو الآخر. ولكن بغريزتها، لفت أم محمد الحبل السري لوليدها حول حقيبتها اليدوية ووضعته مع مشيمته فوق حقيبة تطفو بجانب القارب، ودعت الله في قلبها أن ينجيه.

    غالبها الموج، وبعد عدة ثوان غرقت كما باقي الركاب بسبب خوار قواها من ناحية ووزنها الثقيل وألبستها السميكة التي انتقعت ماءً. ومع انبلاج الفجر كان البحر قد أكمل مهمته بحيث ابتلع جميع الركاب. وبقي القارب المطاطي منتفخاً بمحتواه من الهواء رأساً على عقب، تتقاذفه الأمواج الهادئة نسبياً بحيث رصدته إحدى الدوريات القريبة من المكان. توجه القارب باتجاه الجسم المطاطي مسرعاً، فلم يجد أحداً، وقد علم طاقمه بحكم خبرتهم أن ركابه قد غرقوا جميعاً فانتابهم الأسى والحزن لأنهم لم يعثروا على أي جثة. وبينما كان أفراد الطاقم يهمون بمغادرة المكان، بعدما تأكدوا من عدم نجاة أحد، وعدم العثور على أي جثث، لمح أحد أفراده شيئاً أشبه ما يكون بجلد حمل صغير يطفو على صفحة الماء على بعد مئات الأمتار.

    أسرع أفراد الطاقم باتجاهه ليكتشفوا ولذهولهم أن ذلك الشيء هو طفل قد تمسك بمشيمته، ومازال حبل سره موصولاً فوق حقيبة تطفو على وجه الماء. أصيب الجميع بالذهول، فمنهم من انهمرت الدموع من عينيه، ومنهم من انحنى تعظيماً لقدرة الله على كيفية نجاة ذلك المولود. كانت مشيمة الطفل منجدلة بحقيبة نسائية يحتاج فكها لبعض الوقت من دون طبيب أو ممرض.

    تناول مكاريوس، و هو أحد أفراد الطاقم، المولودَ مع مشيمته والحقيبة، ولفّه مباشرة ببطانية خوفاً من وفاته برداً. انطلق الجميع مسرعين إلى الشاطئ، حيث يوجد مركز إسعافي بجانب مقر الشرطة للتعامل مع الحالات الإسعافية. تناولته ريتا وهي إحدى الممرضات دانماركية الأصل قد أتت للمساعدة في الأعمال الإنسانية على الشواطئ اليونانية، وضمته لصدرها مقبلة إياه بحنان ورفق ودموعها تنساب على خدودها ومن ثم على خدوده إذ إنه المريض الفريد الوحيد من نوعه الذي استقبلته بهذه الحالة طوال مدة عملها في الخدمات الإنسانية التي امتدت لفترة طويلة. كان لا بدَّ من تسجيله في قيود المركز الطبي، ولكن مع عدم وجود أي أثر لوالديه، ولا حتى أي وثيقة توضح اسم أبيه أو أمه أو جنسيته أطلقت الممرضة ريتا عليه مؤقتاً اسم وليد الموج.

    ***

    ريتا الكسندر ممرضة طويلة القامة بشعر أشقر وعينين زرقاوين وأنف مستقيم طويل قليلاً ؛ نحيفة نسبياً وبصدر بارز وبمنكبين عريضين في العشرينيات من عمرها. كان أبوها ضابطاً في البحرية الدانماركية، وأمها معلمة تربية بدينة متخصصة بتعليم فنون السباحة، وغالباً ما كانت تصحبها في تمارين السباحة. وبسبب ذلك، أحبت ريتا كل ما يتعلق بالماء. ريتا هي البنت الأكبر في العائلة إذ إن لديها أختاً تصغرها بعامين اسمها غيرترود، وهي فنانة مبدعة مغرمة بفنون الرسم والنحت.

    وقعت ريتا، عندما كانت في الثامنة عشر من عمرها، في حب شاب دانماركي اسمه فيغارد يكبرها بخمس سنوات، وهو مهندس طيران يحب ركوب الأمواج، وأصبحت عشيقته، وصديقته، وأحبا بعضهما حباً شديداً، وقررا إنجاب طفل بعد خمس سنوات من علاقتهما، وفعلاً حصل الحمل.

    حل الشتاء قاسيا بارداً بثلوجه وصقيعه كالعادة في الدانمارك عندما كانت ريتا في الشهر الثاني من حملها، ولذلك قررت صحبة عشيقها الذهاب في رحلة إلى شواطئ استراليا لممارسة رياضة ركوب الأمواج والاستمتاع بدفء المكان. وفي اليوم السابع من إقامتهما، قبّل فيغادر ريتا على عادته بعد تناول الإفطار في الشاليه، وتناول الزلاجة واتجه نحو البحر الذي كانت موجاته تزداد ارتفاعاً.

    كان منظر الأمواج مشجعاً جداً لممارسة رياضته، فانطلق وكأنه دلفين يداعب الأمواج. كان منفعلاً جداً لدرجة أنه تجاوز العلامات التحذيرية التي وضعتها هيئة حماية السباحين في المكان محذرة من احتمال وجود بعض أسماك القرش المفترسة التي تجوب المكان بين الفينة والأخرى بحثاً عن فرائس محتملة. نادت عليه ريتا تنبهه من عدم الابتعاد، ولكنه لم يسمعها إذ كانت كل أحاسيسه منصبة على مشهد الأمواج المرتفعة وكأنها هضاب متسابقة أمامه؛ وقفت ريتا عند باب الشاليه الذي لا يبعد سوى بضعة أمتار عن مياه البحر وهي تراقب حبيبها وهو يبتعد بسرعة عن الشاطئ، وقلبها خائف منقبض وكأنه يحسسها بحدوث فاجعة قريباً؛ ومع ذلك كانت سعيدة لسعادة حبيبها، وبدأ حجمه يصغر أمام عينيها كلما ابتعد أكثر، وكانت تتابعه بدقة إلى أن شاهدته يسقط من على الزلاجة؛ خفق قلبها رعباً وخوفاً، ولكنها كانت متأكدة من أنه سيصعد الزلاجة ثانية، ويتابع رياضته بحكم رشاقته وخبرته ومهارته؛ ولكن شاهدته يختفي تحت الموج، عندها انتابها خوف شديد...

    وفجأة لمعت في ذهنها فكرة أنه ربما كان يتعرض لهجمة من أسماك القرش. نظرت باتجاهه ثانية فوجدته يصعد على السطح، تنفست الصعداء، ولكنه اختفى بسرعة من دون أن يطفو على وجه الماء ثانيةً. انتظرت دقائق علّه يطفو ثانية، ولكنه اختفى من أمام عينيها تماماً؛ وضعت يدها على فمها من شدة الخوف إذ لم يعد بوسعها الكلام من هول ما تخيلته؛ وبدأت تركض باتجاه أقرب نقطة إسعاف؛ بعد عدة دقائق، وصلت وهي تلهث من شدة التعب، ولم تستطع نطق أي كلمة؛ نظر إليها المسعفون بدهشة، تخيلوا أنها في مصيبة وعندما سألوها عن سبب قدومها لم يكن بوسعها سوى الإشارة إلى البحر وموقع زوجها.

    ركب المسعفون زورقاً سريعاً باتجاه المكان؛ وصلوا بعد عدة دقائق، ولكن لم يعثروا على أي شيء سوى الزلاجة؛ ولكنهم شاهدوا بقعة باهتة من اللون الأحمر قد تلاشى معظمها في الماء. تأكد المسعفون أن الرجل قد افترسته بعض أسماك القرش أو غيرها من المفترسات البحرية، حيث أنهم وجدوا نتفاً من قطع لحم متناثرة في البقعة الضاربة للحمرة. عاد المسعفون حزينين مكتئبين إلى نقطة الإسعاف يحملون الزلاجة فقط. وبمجرد أن وقع بصرها عليهم انفجرت بالبكاء لأن هواجسها أصبحت حقيقة؛ وعندها فقط استطاعت التكلم، حيث شرحت لهم بلغة غالبها الشهيق والبكاء كيف أنهما تناولا الفطور سوية، وذهب لركوب الأمواج متشجعاً بارتفاع

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1