Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شرح ألفية ابن مالك للشاطبي
شرح ألفية ابن مالك للشاطبي
شرح ألفية ابن مالك للشاطبي
Ebook696 pages5 hours

شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب في النحو شرح فيه الإمام الشاطبي ألفية ابن مالك فأوضح غوامضها وتيسر فهمها وقد ذكر تلميذه أحمد بابا شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار لم يؤلف عليها مثله بحثا وتحقيقا وعلما
ألفية ابن مالك والمسماة أيضًا بـ «الخلاصة» هي متن شعري من نظم الإمام محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، من أهم المنظومات النحوية واللغوية، لما حظيت به من عناية العلماء والأدباء الذين انْبَرَوْا للتعليق عليها، بالشروح والحواشي، ومتن اختصرها من منظومته الكبرى «الكافية الشافية»، والذي جمع فيه خلاصة علمي النحو والتصريف، في أرجوزة ظريفة، مع الإشارة إلى مذاهب العلماء، وبيان ما يختاره من الآراء، أحيانًا. وقد كثر إقبال العلماء على هذا الكتاب من بين كتبه بنوع خاص، حتى طويت مصنفات أئمة النحو من قبله، ولم ينتفع من جاء بعده بأن يحاكوه أو يدعوا أنهم يزيدون عليه وينتصفون منه، ولو لم يشر في خطبتهِ إلى ألفية ابن معطي لما ذكره الناس، ولا عرفوه. وحظيت ألفية ابن مالك بقبول واسع لدى دارسي النحو العربي، فحرصوا على حفظها وشرحها أكثر من غيرها من المتون النحوية، وذلك لما تميزت به من التنظيم، والسهولة في الألفاظ، والإحاطة بالقواعد النحوية والصرفية بإيجاز، مع ترتيب محكم لموضوعات النحو، واستشهاد دقيق لكل منها، فهي تُدرس في العديد من المدارس والمعاهد خاصةً الدينية واللغوية.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateFeb 28, 1902
ISBN9786379989689
شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Read more from الشاطبي

Related to شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Related ebooks

Reviews for شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شرح ألفية ابن مالك للشاطبي - الشاطبي

    الغلاف

    شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

    الجزء 4

    الشاطبي، إبراهيم بن موسى

    790

    كتاب في النحو شرح فيه الإمام الشاطبي ألفية ابن مالك فأوضح غوامضها وتيسر فهمها وقد ذكر تلميذه أحمد بابا شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار لم يؤلف عليها مثله بحثا وتحقيقا وعلما

    الحال

    هذا هو النوع السابع من المنصوبات التي ينصبها كل فعل متعديًا كان أو غير متعدٍ، وهو الحال، وابتدأ بتعريف الحال أولًا قبل الحكم عليه على غالب عادته، وهو الصواب؛ لأن الكلام في أحكام الشيء وأوصافه ثانٍ عن فهم معناه، فقال في تعريف:

    الحال وصف فضلة منتصب ... مفهم في حالٍ كفردًا أذهب

    فأتى بأربعة أوصاف مساق الجنس والفصول المترتبة في الحدود:

    أولها: أنه وصف، وهو الجنس الأقرب للحال، ومعنى كونه وصفًا أنه يصح أن يتصف به، لا أنه يريد الجاري على الموصوف، وهو النعت؛ لأن من شأن الحال ألا يجري على صاحبه وهو حال في الاصطلاح، بل إذا جرى عليه عاد وصفًا وخرج عن كونه حالًا، وهذا ظاهر.

    والثاني: أنه فضلة، والفضلة مقابل العمدة، وهو ما استغنى الكلام عنه، نحو: جاء زيدٌ راكبًا، فراكبًا لو لم يأت به لصح الكلام وتم بأجزائه، وكذلك إذا قلت: زيدٌ منطلقٌ راكبًا، فلو لم تأت للفعل بفاعل، ولا للمبتدأ بخبر لكان راكبًا فاعلًا مع الفعل وخبرًا مع المبتدأ، فكنت تقول: جاء راكبٌ، ويزيد راكبٌ، فيكون إذ ذاك عمدةً لا فضلة؛ لأن الكلام لا يستغني عنه، فلا يكون إذ ذاك حالًا. فهذا معنى كونه فضلة، فتحرز إذًا منه في قولك: قام راكبٌ، وزيدٌ راكبٌ، وإن كان وصفًا من الأوصاف، ويخرج عنه بذلك أيضًا المفعول الثاني في باب علمت، نحو: علمت زيدًا راكبًا، فإنه عمدة، فلم يتناوله الحد فليس بحال.

    والثالث: كونه منتصبًا، فبين بذلك أن إعرابه أبدًا النصب لا غيره من وجوه الإعراب، وخرج عن ذلك النعت أيضًا، نحو: جاءني رجل راكب، ومررت بزيد القائم، فإن القائم [والراكب] في المثالين وصفٌ وفضلة جاءت بعد تمام الكلام مع أنها ليست بحال.

    والرابع: أنه مفهم: في حال، أي مفهم هذا اللفظ المحكي الذي هو (في حال) هكذا مخفوضًا بغير تنوينٍ مهيأ للمضاف إليه كأنه اختزل من قولك: جاء زيدٌ في حال كذا، لأن تقدير الحال هكذا، فإذا قلت: جاء زيدٌ راكبًا، فالتقدير: جاء زيد في حال ركوب. وإذا قلت: جاء ضاحكًا، فالتقدير: في حال ضحك، وكذلك سائر المثل، فأتى بقوله (في حال) مقتطعًا من الكلام المقدر ليبين لك خصوصية الحال التي بها يفارق الوصف، وذلك أن راكبًا في قولك: رأيت رجلًا راكبًا وصف فضلة منتصب لكنه غير مفهم معنى (في حال كذا)، وإنما مفهومة رأيت رجلًا صفته كذا، لا في حال كذا، بخلاف: رأيت زيدًا راكبًا فإنه مفهم معنى: في حال ركوب، وكذلك إذا قلت: رأيت زيدًا الراكب لا فرق بينه وبين قولك: رأيت رجلًا راكبًا في منع تقدير (في حال كذا)، وهذا معنى تعريفه.

    ثم فيه بعد نظر. فإن هذه الأوصاف لم توف بالمقصود على ما ينبغي في التعريف، أما الأول فإما أن يريد بالوصف [الوصف] المعنوي، أي هو وصف من الأوصاف التي لصاحب الحال، وذلك لا يستقيم، لأن راكبًا من قولك: جاء زيدٌ راكبًا لا يقال فيه إنه وصفٌ معنويٌ، بل هو موصوفٌ بالركوب، والركوب هو الوصف المعنوي، وأيضًا إن كان المعتبر هو الوصف المعنوي لم يصلح له ما بعده من الأوصاف، وهي قوله: فضلة منتصب إلى آخره، لأن [هذا] شأن الألفاظ لا المعاني. فهذا الوجه غير متجه، وإما أن يريد الوصف الاصطلاحي، فراكبٌ في المثال وصفٌ بلا شك لكن إنما يدخل له من الأحوال ما كان مشتقًا، وأما ما كان جامدًا فلا يدخل فيه، كما في قولك: بعته مدًا بدرهم، وبعته يدًا بيد، وهو كثيرٌ جدًا بحيث لا يقال فيه: إنه قليل، أو إنه مقصور على السماع، فلذلك لم يعتبر به، بل هو كثير، وقد نبه على كثرته بقوله: ويكثر الجمود في سعر إلى آخره فالجمود على الجملة في الحال شهير كثير بحيث لا يخرج عن باب الحال، كقول الله تعالى {فانفروا ثباتٍ} وقوله {فما لكم في المنافقين فئتين}، {فتم ميقات ربه أربعين ليلة}، {هذه ناقة الله لكم آية} إلى أشياء لا تنحصر إلا أن الاشتقاق أكثر على كل حال، وإذا كان كذلك أشكل تفسير الوصف بكل تقدير.

    فإن قيل: إن التأويل فيما جاء من الأحوال الجامدة ممكن، فينصرف به الجامد إلى الاشتقاق، ولا يبقى في هذا الوجه إشكال.

    فالجواب: أن كلامه يدفع هذا حيث أثبت الجمود في الحال، وارتضاه، ولم يرتض القول بلزوم الاشتقاق، وتأويل ما جاء من الجوامد. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله، فالإشكال واردٌ.

    وأما الوصف الثاني فغير مخلص أيضًا، لأن الحال تأتي كثيرًا غير مستغنًى عنها، إذ لا يتم الكلام دونها [بل] إذا فرض طرحها صار باقي الجملة غير مفيد كقول الله تعالى {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} فكسالى حال لو فرض سقوطها لم يفد قوله {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا} فائدةً، وكذلك قوله {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} ومن ذلك كثيرٌ، وكذا قولهم: ضربي زيدًا قائمًا، وبابه، فإن الحال هنا غير مستغنًى عنه، وكل ما لا يستغنى عنه في الكلام فهو عمدة في ذلك الكلام، وبهذا المعنى بعينه اعترض بعض الناس على النحويين هذا الموضع؛ إذ يشترطون في الحال أن يكون بعد تمام الكلام، وهو معنى ما قال الناظم من كونه فضلة - بقول الشاعر، وهو عدي بن الرعلاء:

    إنما الميت من يعيش كئيبًا ... كاسفًا باله قليل الرجاء فكئيبًا حال مع أنه لا يتم الكلام دونه؛ إذ لا يصبح أن يكون قوله: إنما الميت من يعيش كلامًا حتى يأتي بالحال، فكيف يكون الحال فضلة لزومًا؟! وأما الوصف الرابع، وهو قوله: مفهم في حال فقد اعترضه عليه ابنه بأنه يشمل النعت؛ لأن معنى: مررت برجلٍ راكبٍ هو معنى قولك: مررت برجلٍ في حال ركوب، كما أن قولك: جاء زيد راكبًا في معنى: جاء زيدٌ في حال ركوب. وما قاله بدر الدين ابنه قد ألم هو به في التسهيل، وفي الشرح، فإنه قال في التسهيل حين عرف بالحال وهو ما دل على هيئةٍ وصاحبها متضمنًا معنى في غير تابعٍ ولا عمدةٍ. وقال في الشرح: إذا قلت: جئت ماشيًا، وزيدٌ متكئٌ، ومررت برجلٍ متكئٍ، فإن معناه جئت في حال مشيٍ، وزيد في حال اتكاءٍ، ومررت برجل في حال اتكاء ثم قال: فشارك الحال في هذا المعنى بعض الأخبار، وبعض النعوت فأخرجتها بقولي: غير تابع ولا عمدةٍ. فإذا كان كذلك فقوله: مفهم في حال يشمل النعت، ويشمل أيضًا بعض الأخبار إلا أن الخبر قد خرج بقوله: فضلة فبقي النعت كما قال ابن الناظم، ثم إن تقدير (في حال) غير مبينٍ ولا مبينٍ؛ فإنك إذا قلت: جاء زيدٌ راكبًا فكيف يقال في تقديره، هل يقال: في حال راكبٍ، فلا يصح؛ لأن الراكب هو زيدٌ نفسه، وأنت لا يستقيم لك أن تقول: جاء زيدٌ في نفسه، أو في حال نفسه، وأما قولك: في حال ركوب، فلا يفهم أيضًا من كلامه هذا دون الأول؛ إذ لا معين له، والإشكال أيضًا واردٌ فيه؛ لأن حال الركوب هو الركوب، ولا يصح أن يقال: جاء زيدٌ في ركوبه. فالحاصل أن هذا التعريف غير معرف.

    والجواب عن الأول: أن المراد الوصف الاصطلاحي لكن الوصفية في الحال ضربان: ضربٌ هي فيه صريحةٌ، وذلك حيث الاشتقاق، وضربٌ هي فيه بالتأويل، وذلك حيث الجمود حسب ما يأتي بحول الله، ولا يخرج الجامد بذلك عن كونه جامدًا، وأيضًا فالعمدة في مجيء الحال أن يكون مشتقًا؛ ولذلك قال: وكونه منتقلًا مشتقًا يغلب فجعله الغالب في الباب كما ترى، فهو المحدود إذًا، وما سواه يرجع إليه بالتأويل.

    وعن الثاني: أن الفضلة في الاصطلاح ما جاز الاستغناء عنه في الأصل أعني أصل التركيب، والعمدة ما لا يجوز الاستغناء عنه في الأصل، وقد يعرض لكل واحد منهما ما يخرجه عن أصله فيستغنى عن العمدة، كقولك: كل رجلٍ وضيعته، وأقائمٌ الزيدانِ؟ ويمتنع الاستغناء عن الفضلة كقولك: زيدًا، في جواب: من ضربت؟ ولا تخرج العمدة بهذا العارض عن كونها عمدةً، ولا الفضلة عن كونها فضلة، ويعبر عن هذا المعنى بأن معنى كون الحال فضلة وبعد تمام الكلام أن يكون الفعل قد أخذ فاعله، والمبتدأ خبره، وذلك حاصل في قوله:

    * إنما الميت من يعيش كئيبًا *

    ونحوه. والعبارة الأولى أعم.

    وعن الثالث: أن ما قاله ابن الناظم غير مسلمٍ، فإن النعت تخصيصٌ للمنعوت لتقع الفائدة في الإخبار عنه، فالنكرة الموصوفة توافق من جهة المعنى التعريفي الاسم المعروف، فكأنك لفظت باسمٍ واحدٍ مخصصٍ معرفٍ، بخلاف الحال فإنك لم تقصد به تخصيصًا ولا تعريفًا بل اكتفيت بما حصل لك من معرفته بالاسم المتقدم، ثم عبرت عن حالته التي هو فيها كما تخبر عنه بما شئت من الأخبار. والنعت ليس بخبرٍ عن المنعوت بالوضع اتفاقًا، وإنما هو من تمام المنعوت وتكملة له فافترقا، والدليل على ذلك أنه يصح الإتيان برأيت زيدًا قائمًا في جواب: كيف رأيت زيدًا؟ لأن معنى كيف: على أي حال، أو: في أي حال، بخلاف قولك رأيت زيدًا القائم، وما كان نحوه، لا يصلح جوابًا لكيف؛ وما ذاك إلا لأنه لا يفهم معنى: في حال كذا، فخرجت الصفة عن حده، ولعل ما قاله في التسهيل وشرحه لم يقل به ههنا. وهو الصواب. والله أعلم.

    وعن الرابع: أن قوله: مفهم كذا دال على أن المراد ما يصح معناه، وذلك أن يقدر: في حال ركوب، فهو المعنى المفهوم من الحال، ولا يفهم منه معنى: في حال راكبٍ، إذ لا يصح من جهة المعنى، فكأن الناظم لم يحتج إلى بيانٍ زائدٍ على معنى: في حال، لقرب فهمه، ووجه هذا الفهم أن راكبًا وإن كان زائدًا في المعنى لا يمتنع فيه تجريد معنى الركوب لأن راكبًا يدل على الركوب. ألا تراهم قد قالوا:

    * إذا نهي السفيه جرى إليه * أي إلى السفه، لما كان في الصفة ذكر المصدر، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن يفهم: جاء زيد في حال ركوبه، وإذا سلم أن معنى ذلك: جاء في ركوبه فلا يمتنع ذلك، كأنه يجعل الركوب ظرفًا لفعله مجازًا؛ لأن المصادر قد تكون ظروفًا نحو: مقدم الحاج، قال أكثر هذا المعنى الفارسي في التذكرة، فطالعه ثمة.

    وقوله: كفردًا أذهب مثال من الحال متقدم على العامل، والفرد بمعنى المنفرد:

    وكونه منتقلًا مشتقًا ... يغلب لكن ليس مستحقا

    يشترط في وقوع الاسم حالًا شروطٌ سبعةٌ، منها لازمة لا بد لكل حال منها، ومنها غالبةٌ على جمهور باب الحال، وقد يأتي الحال بدونها.

    فاللازمة: أن يكون منصوبًا، بعد تمام الكلام، مقدرًا بفي من جهة المعنى، نكرة. والثلاثة الأول قد تقدمت، وهي التي أتى بها فصولًا في تعريفه. والرابع سيذكره بعد.

    وأما الغالبة فأن يكون مشتقًا، منتقلًا، وصاحبه معرفة، فالشرطان الأولان هما اللذان شرع الآن في ذكرهما، وإن كان قد أشار إلى شرط الاشتقاق في التعريف لكنه لم يبين فيه ما يحتاج إلى بيانه. والثالث سيذكره بعد. ويريد هنا أن كون الحال منتقلًا وكونه مشتقًا يغلب في الاستعمال، وليس بوصفٍ لازم له، ولا يستحق الحال أن يشترط ذلك فيه لزومًا عند العرب. والانتقال معناه: أن يكون الحال وصفًا غير لازمٍ لصاحبه، ولا ثابتٍ له، كقولك: ذهب زيدٌ مسرعًا، وسار راكبًا، وجاء ضاحكًا، وما أشبه ذلك، فالإسراع لزيد ليس بصفةٍ لازمةٍ له لا تفارقه، وكذلك الركوب ليس بصفةٍ لازمةٍ له، وكذلك سائر الأمثلة. والاشتقاق: أن يتضمن معنى الفعل كقائمٍ، وقاعدٍ، ومسرع، وراكب، فهذان الوصفان غالبان للحال، وأكثر مجيء الحال عليهما. وقد يكون على خلاف هذين الوصفين، فلا يكون منتقلًا بل لازمًا، ولا مشتقًا بل جامدًا. فمما جاء منه غير منتقل قول الله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط}. فقائمًا حالٌ من اسم الله، وهو وصف ثابت لا ينتقل، وكذلك قوله تعالى {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلًا}، وقوله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وقوله {ويوم أبعث حيًا}، وقوله {طبتم فادخلوها خالدين}، وقالت العرب: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها. ومما جاء منه غير مشتق قوله تعالى {فانفروا ثباتٍ} أي: جماعات في تفرقة، فهذا غير مشتق، وكذلك قوله تعالى {فما لكم في المنافقين فئتين} حال ولا اشتقاق فيه، وقوله تعالى {هذه ناقة الله لكم آية}. ويكثر ذلك في السعر كما قال. ومما اجتمع فيه الثبوت والجمود ما مثل به سيبويه من قوله: هذا خاتمك حديدًا، وهذه جبتك خزًا. ووجه عدم التزام هذين الوصفين أن الحال خبرٌ من الأخبار، والأخبار لا يشترط فيها اشتقاق ولا انتقال باتفاق، فكذلك ينبغي أن يكون ما في معنى الخبر. وقد يسمي الحال خبرًا سيبويه في بعض المواضع اعتبارًا بأن ذلك معناه. وكأن الناظم نبه هنا على مسألتين: إحداهما: أن المستقر في كلام العرب من وصف الاشتقاق والانتقال أنه يغلب ولا يلزم. فقوله: وكونه منتقلًا مشتقًا يغلب بيان أن كلام العرب هكذا، ولا يريد أنه شرط للنحويين شرطوه غالبًا؛ لأن هذا لا معنى له، وإنما كان يكون شرطًا للنحويين لو قال مثلًا: والأحسن أو والأولى كونه منتقلًا مشتقًا أو يقول: ويضعف في القياس كونه غير مشتق أو غير منتقل أو ما أشبه ذلك. وعلى هذا يجري في كلامه كل ما كان نحوه كقوله: وغالبًا ذا التا لزم، وقوله: غالبًا جا ذا البدل، وشارع نحو خاف ربه عمر، وما كان مثل ذلك. وينبني على ذلك المسألة الثانية، وهي: أن شرطي الانتقال والاشتقاق عنده غير مشترطين بل يجوز عنده أن يأتي الحال جامدًا ولازمًا؛ إذ لم يستحق كونه كذلك في السماع، فلا يستحق ذلك في القياس خلافًا لمن جعلهما شرطين مستحقين، فإن طائفةً من المتأخرين يقولون بذلك، ويؤولون الجامد واللازم حتى يصيروهما في حكم المشتق والمنتقل، فيعود الشرط لازمًا قياسًا. وقال الشلويين ليس من شرط الحال الانتقال إلا أن تكون غير مؤكدة، فإنها إن كانت مؤكدة فقد تكون غير منتقلة، ثم أتى بقوله {ويوم أبعث حيًا} {ثم وليتم مدبرين}. ثم بين أن المؤكدة على خلاف الأصل، فعدم الانتقال على خلاف الأصل، فالاشتراط صحيح. وما ذهب إليه الناظم أصوب فقد تقدم أمثلة مما الحال فيه مبينة، وهي مع ذلك غير منتقلة، وقد تأول ابن عصفور بعض هذه الأحوال التي هي غير منتقلة وردها إلى معنى الانتقال، وهو على بعده لا ينجيه من وجود الحال غير منتقلة، وكذلك أولوا ما جاء من الأحوال غير مشتقة، وصححوا لزوم الاشتراط. والإنصاف ما قاله الناظم لكثرة ما جاء من ذلك، ولأن التأويل فيها لا يخرجها أو أكثرها عن كونها جامدةً. والضمير في (ليس) عائدٌ إلى كونه، أي ليس ذلك الكون المذكور مستحقًا للحال أن يكون عليه بلا بد، بل قد يكون على خلاف ذلك. ثم أتى بمواضع مجيء الحال جامدًا على غير الغالب فقال:

    ويكثر الجمود في سعرٍ وفي ... مبدي تأولٍ بلا تكلف

    كبعه مدًا بكذا يدًا بيدٍ ... وكر زيدٌ أسدًا أي كأسد

    يعني أن الحال يكثر مجيئه جامدًا في موضعين:

    أحدهما: السعر مطلقًا، وذلك نحو: بعته الشاء شاةً ودرهمًا، بعته الشاء شاةً بدرهم، وقامرته درهمًا في درهم، وبعته داري ذراعًا بدرهم، وبعت البر قفيزين بدرهم، وبعت السمن منوين بدرهم، واشتريت الخبز رطلين بدرهم، وأخذت زكاة ماله درهمًا لكل أربعين درهمًا، ولك الشاء شاةً بدرهمٍ شاة بدرهم، وما أشبه ذلك. ومنه مثاله: بعه مدًا بكذا، فمدًا حالٌ من الهاء، وبكذا بيان، كذا قال سيبويه كما كان (لك) في سقيًا لك بيانًا أيضًا، وهذا جار في الأمثلة التي فيها المجرور، وأما نحو شاةً ودرهمًا، فإن الواو فيه بمعنى مع، كقولك: كل رجلٍ وضيعته، فهذه كلها أحوال وقعت في التسعير من غير اشتراط للاشتقاق عند سيبويه، والحذاق، وإنما يقدرون فيها الاشتقاق تقديرًا معنويًا، وذلك غير كافٍ في اشتراط الاشتقاق، فقولك: شاةً ودرهمًا، أو بدرهمٍ في تأويل مسعرًا هذا التسعير، ودرهمًا في درهم في تأويل معادلًا هذا بذاك، أو باذلًا هذا البدل، وذراعًا بدرهمٍ في تأويل مقدرة أو مقومة هذا التقدير أو التقويم، وكذلك سائر الأمثلة المذكورة، وغيرها.

    والثاني من الموضعين: حيث يكون الحال الجامد يتأول بالمشتق بسهولة من غير تكلف ولا تعسف، وذلك قوله: وفي مبدي تأولٍ بلا تكلفٍ. فمعنى مبدي: مظهر، والتأول صفة المؤول، فيريد أن الحال إذا أظهر بنفسه المعنى الذي يؤول عليه من غير تكلفٍ حتى يصير في معنى المشتق بسهولةٍ. فذلك أيضًا يكثر عند العرب استعماله، وأتى لذلك بمثالين يحذى حذوهما: أحدهما قوله: يدًا بيد إذا قلت: بعته الثوب يدًا بيد، فيدًا بيدٍ حالٌ في تأويل معاجلًا أو مناجزًا. وهذا المثال دال على المفاعلة ومنه سايرته قدمًا بقدم، وقابلته دينارًا بدينارٍ، وفاخرته أبًا بأب، وما أشبه ذلك.

    والثاني: قوله: كر زيدٌ أسدًا على حذف المضاف المشتق كأنه قال: مثل أسدٍ أو شبيه أسدٍ، وهو معنى تقديره بالكاف في قوله: أي كأسد، ومنه عند المؤلف قول النميري:

    تضوع مسكًا بطن نعمان إن مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطرات

    أي: تضوع مثل المسك، ومنه في الحديث قوله عليه السلام: أحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا أي: مثل رجل، وما أشبه ذلك مما كان على حذف المضاف. فهذان نوعان من الأنواع التي يسهل فيها التأويل، ويظهر معناه من الحال بلا تكلف.

    ومنها: أن يوصف الحال بصفة مشتقة كقولك: رأيته رجلًا جميلًا، ومنه قوله تعالى: {فتمثل له بشرًا سويًا}. فالتأويل هنا قريب، لأن الصفة هي المقصودة فكأنه على معنى: رأيته جميلًا، وتمثل لها سويًا في صفة البشر.

    ومنها: أن يكون دالًا على ترتيب نحو قولهم: بينت له الحساب بابا بابًا، يريد مرتبًا سويًا، وادخلوا رجلًا رجلًا، يريد مرتبين هذا الترتيب، وتصدقت بمالي درهمًا درهمًا أي مصروفًا هذا النوع من الصرف.

    ومنها: أن يدل على أصالة نحو: هذا خاتمك حديدًا، ورأيت ثوبك خزًا، وفي القرآن {قال أأسجد لمن خلقت طينًا} تقديره: متأصلًا في هذا الجنس، أو مصنوعًا من كذا.

    ومنها: أن يدل على فرعية كقولك: هذا حديدك خاتمًا، وهذا ذهبك سوارًا، ورأيت فضتك خلخالًا، والتقدير: مصوغًا على هذا النحو.

    ومنها: أن يدل على نوع الشيء، كقولك: هذا تمرك شهريزًا، وهذا تمرك عجوة، أي متنوعًا هذا النوع.

    ومنها: أن يدل على تطوير وقع فيه تفضيل، نحو: هذا بسرًا أطيب منه رطبًا، وهذا الذهب سوارًا أحسن منه خلخالًا، وهذا عنبًا أحسن منه زبيبًا، وما أشبه ذلك، والتقدير: هذا مطورًا هذا التطوير (أحسن منه هذا التطوير) الآخر. فهذه ثمانية أنواع مما وقع الحال فيه جامدًا لقرب تأوله بالمشتق يقاس عليها ما سواها، والجميع ينتظمه كلام الناظم بإشارة التمثيل، وينضم ذلك إلى نوع السعر، فالجميع تسعة أنواع، وهو ما نص عليه في التسهيل بقوله: ويغنى عن اشتقاقه وصفه، أو تقدير مضاف قبله، أو دلالته على مفاعلة، أو سعرٍ، أو ترتيب أو أصالةٍ، أو تنويع، أو طورٍ واقعٌ فيه تفضيل لكن فصلها في التسهيل، وأجملها هنا في ضابط، وهو أن يكون الجامد يظهر فيه التأويل بلا تكلفٍ فهذا أخصر، والأول أظهر. والله أعلم، ثم إن كلامه يتم النظر فيه بذكر مسائل أربع: إحداها: أنه لم يصرح هنا بقياس في هذا الذي كثر ولا عدمه بل قال: ويكثر الجمود في سعر إلى آخره، والكثرة تحتمل أن تبلغ مبلغ القياس عليها، وتحتمل ألا تكون كذلك، لكن قوله أولًا: لكن ليس مستحقًا دليل على أنه قياس؛ إذ لو كان موقوفًا على السماع لكان الشرطان مستحقين، فهذا مشعرٌ بالقياس في هذه الكثرة.

    والثانية: أن قوله: ويكثر الجمود في سعر من غير تقييد بأن يكون التأويل غير متكلف، ثم قال: وفي مبدي تأولٍ بلا تكلف. فشرط عدم التكلف في التأويل دال على أحد ثلاثة أمور:

    إما أن يكون السعر غير محتاج إلى التأويل عنده (فكأنه يقول: ويكثر الجمود في سعر من غير افتقار إلى تأويل) بخلاف غير السعر فإنه مفتقر إليه، فيصح أن يقع الجامد حالًا في السعر من غير احتياج إلى تأويل، ولا يصح أن يقع حالًا في غير السعر إلا مع صحة تأوله بالمشتق.

    وإما أن يكون السعر قد كثر فيه ذلك، وإن كان التأويل متكلفًا فكأنه يقول: يكثر الجمود في السعر على التأويل، لكن لا يشترط ألا يكون متكلفًا، بل قد يكون كذلك وقد لا يكون كذلك، بخلاف غير السعر.

    وإما أن يكون التأويل في السعر ظاهرًا غير متكلف لزومًا بحيث لا يوجد الجامد في السعر إلا ظاهر التأويل بخلاف غير السعر فإن الأمر فيه يختلف، فيكون منه متكلف، وغير متكلف، فغير المتكلف هو الذي يكثر، والمتكلف قليل أو معدوم وكأن هذا الثالث أولى؛ لأنه الموجود في السعر كما تقدم.

    والثالثة: المتكلف التأويل من الأحوال الجامدة ظاهر أنه ليس بقياس، إذ أخرجه عن الكثرة في السماع فهو إما معدوم فلا يصح القياس، لأن القياس إنما ينبني على أصلٍ وقد فرض معدومًا، وإما قليل لا يقاس على مثله، إذ لو كان عنده قياسًا لم يخرجه عن حكم غير المتكلف التأويل؛ لأنه لا أثر للقلة والكثرة إذا كان الجميع مقيسًا عليه، فلا معنى لقوله: بلا تكلف إذًا، فإذا كان الأمر على هذا ثبت أن ذا التأويل المتكلف لا يقاس عليه أصلًا.

    والرابعة: ما ذو التأويل المتكلف المتحرز منه. فاعلم أنك إذا قلت: هذا مالك دينارًا، وجمعت دراهمي أربعةٌ، ومررت برفيقك رأسين، وما أشبه ذلك فتأويل مثل هذا بعيد متكلف لو قدرت معنى دينارًا قليلًا أو متنوعًا، أو قدرت معنى أربعة معدودة، وكذلك الباقي - بخلاف قولك: بينت له حسابه بابا بابًا؛ فإن معنى مفصلًا فيه تأويل ظاهر المعنى، والحال يدل عليه - فمثل هذا لا يقع حالًا، وإن وقع حالًا فمسموع لا يقاس عليه.

    والكر ضد الفر، وهو راجع إلى معنى الإقدام. وقوله: أي كأسد بيان لوجه التأويل في المثال؛ إذ لو لم يبينه لخفي مقصوده فكان البيان أولى. والله أعلم. [ثم قال] والحال إن عرف لفظًا فاعتقد ... تنكيره معنى كوحدك اجتهد

    هذا هو الشرط الرابع من الشروط اللازمة المنبه عليها قبل، ولم يأت به تصريحًا ولكنه أتى به ضمنًا، فمعنى كلامه أن الحال إن ج اء معرفًا بأحد وجوه التعريف، فليس في الحقيقة بمعرفٍ، وإنما هو منكر، وهذا الكلام لا يقال إلا فيما ثبت له التنكير أصلًا يرجع إليه، فيريد أن الحال لا يكون أبدًا إلا نكرة، نحو: جاء زيدٌ مسرعًا، وكر زيدٌ راجعًا، ومر بشرٌ ضاحكًا، وما أشبه ذلك، فإن ظهر في اللفظ تعريفٌ فليس في المعنى كذلك، وإنما كان كذلك؛ لأن الحال غالب أمره أن يكون مشتقًا، وصاحبه معرفة، والحال خبرٌ من الأخبار فألزموه التنكير؛ لئلا يتوهم كونه نعتًا لا حالًا، وأيضًا فإن الحال فضلةٌ ملازمٌ للفضيلة؛ إذ لا يكون في الكلام عمدةً أصلًا، فلا يقام مقام الفاعل كغيره من الفضلات: المفعول به، والمجرور والظرف، وغيرها. فلم يستحق أن يعرف؛ إذ لا فائدة لتعريفه، واستحقه غيره من الفضلات لوقوعه عمدةً، وقيامه مقام الفاعل، فجاز مجيئه معرفةً، بهذا وجه التنكير في الشرح. وإذا صح استحقاقه للتنكير فمتى وجدته معرفةً في اللفظ فاعتقد تنكيره في المعنى. والتعريف للحال يكون بالإضافة، ويكون بالألف واللام.

    فمما جاء مضافًا مثاله الذي مثل به، وهو: وحدك اجتهد، فوحدك حالٌ من ضمير اجتهد، ومثله جاء زيدٌ وحده، ومررت بهم وحدهم، ومررت بالزيدين وحدهما، فهذا ليس على ظاهره من التعريف، وإنما هو منكرٌ في المعنى؛ إذ معناه: منفردًا، ومنفردين، ومنفردَيْن، ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز: مررت بهم ثلاثتهم، وأربعتهم، وكذلك إلى العشرة. قال سيبويه: وزعم الخليل رحمه الله [أنه] إذا نصب ثلاثتهم فكأنه يقول مررت بهؤلاء فقط، لم أجاوز هؤلاء. كما أنه إذا قال وحده فإنما يريد أن يقول: مررت به فقط لم أجاوزه. ومثل ذلك: مررت بهم قضتهم بقضيضهم، وأنشد سيبويه للشماخ:

    أتتني تميم قضها بقضيضها ... تمسح حولي بالبقيع سبالها

    ومعناه: جاؤوا جميعًا، وهو من الانقضاض، كأنه يقول: انقض آخرهم على أولهم، ومنه: رجع عوده على بدئه، ومعناه عائدًا على بدئه، أي: راجعًا على طريقه. وقالوا: كلمته فاه إلى في، يريد مشافهًا له، وحكى ابن خروف عن الفراء: جانبته ركبته إلى ركبتي، وجاورته بيته إلى بيتي، وصارعته جبته عن جبتي، وناضلته قوسه عن قوسي، وحكى أبو زيد: بعته ربح الدرهم للدرهم. فهذه جملة من الحال المعرف بالإضافة، وهو الذي وقع التمثيل به.

    وأما التعريف بالألف واللام الذي شمله قوله: إن عرف لفظًا فمثاله قولهم: ادخلوا الأول فالأول، أي: ادخلوا مرتبين واحدًا فواحدًا، فهو في تقدير النكرة، وقالوا: جاؤوا الجماء الغفير، والناس فيها الجماء الغفير، ومعناه جميعًا. وقالوا: أرسلها العراك، أي معتركة، أنشد سيبويه للبيد بن ربيعة: فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال

    وقرأ الحسن {لنخرجن الأعز منها الأذل} معناه ذليلًا، أو أذل من غيره. وقد يكون التعريف بالعلمية نحو: جاءت الخيل بداد، أي متبددة، ومنه: ذو الرمة ذا الرمة أشهر منه غيلان، والمعنى: ذو الرمة مسمى بهذا الاسم أشهر منه مسمى بالآخر. فهذه كلها على خلاف الأصل؛ فلذلك أمر باعتقاد كونها في المعنى نكرات.

    وبقي النظر هنا في ثلاث مسائل:

    إحداها: أن كلامه يشعر بأن ما جاء من الحال معرفًا فإنما هو سماعٌ لقوله: إن عرف لفظًا يريد في كلام العرب، فهو قد أوصى بتأويله على التنكير. ولو كان قياسًا لم يحتج إلى ذلك بل كان يقول: إن الحال يجوز الإتيان به معرفة صح تأويله بالنكرة أو لم يصح.

    فإن قيل: أمره بالتأويل لا يدل على عدم القياس؛ إذ قد أحال على التأويل قبل هذا في قوله: وفي مبدي تأويل بلا تكلف. وقد تقدم أنه مقيس، فالتأويل لا ينافي القياس.

    فالجواب: أنه لم يقل هناك أول الحال الجامد بالمشتق إذا أتاك من كلامهم، ولو قال ذلك لكان سماعًا، وإنما عرف المقيس بكونه يسهل تأويله فذلك الذي لا ينافي القياس، وقال هنا: إذا أتاك المعرفة فأوله بالمنكر، ولا تعتقد تعريفه تعريفًا صحيحًا. فهذا ظاهر في أن تعريف الحال لا يصح قياسًا، وأنه لو كان قياسًا لم يحتج إلى تأويله.

    والثانية: في وجه اعتقاد التنكير، إذ قد أمر به في قوله: اعتقد واعتقاد التنكير قد يكون في ذي الأداة باعتقاد زيادتها، وفي ذي الإضافة باعتقاد كونها غير محضة، وفي ذي العلمية باعتقاد التنكير، وقد يكون بغير ذلك. والذي يشعر به كلامه اعتقاد التنكير من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ؛ فإنه قال: فاعتقد تنكيره معنى يريد أن تنكيره ليس من جهة اللفظ بأن تقدر اللام زائدة، والإضافة غير محضةٍ، فإن هذا أمرٌ لفظي، بل هو من جهة المعنى؛ لأن معنى وحده: منفردًا، ومعنى ثلاثتهم: جميعًا، وكذلك سائر المثل. وعلى هذا المجرى أجراه النحويون على أن بعضهم أجاز أن تكون الألف واللام فيما هي فيه زائدة، ولكن مثل هذا لا يجري في ذي الإضافة، فالأولي أن يكون التنكير بالتأويل المعنوي كما أشار إليه فهو المطرد.

    والثالثة: أنه مثل الحال المعرفة بوحدٍ فدل على أنه عنده حالٌ بنفسه، ويظهر ذلك منه في شرح التسهيل أيضًا. والنحويون في (وحده) مختلفون على ثلاثة أقوال: فمذهب سيبويه والخليل أنه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فالأصل في قولك: اجتهد وحدك: اجتهد منفردًا، فمنفردًا حال ثم وضع موضعه (انفرادًا)، فـ (انفرادًا) مصدرٌ في موضع الحال، ثم وضع موضعه وحدك، فوحدك اسم - لأنه لا فعل له في موضع المصدر الموضوع موضع الحال. وذهب قومٌ إلى أنه مصدرٌ موضوعٌ موضع الحال؛ إذ حكي يوحد وحدًا ووحدةً ووحادةً. وذهب يونس إلى أنه ظرفٌ بمنزله عند، أو منصوبٌ على إسقاط الجار، ولم يأخذ به سيبويه. وما ذهب إليه المؤلف مذهبٌ رابعٌ، فهو عنده اسمٌ جامدٌ حالٌ بنفسه على الظاهر من كلامه في هذه الأحوال المعارف؛ إذ بها مثل مع أنها ليست عند غيره بمنزلةٍ واحدةٍ، بل منها ما هو حالٌ بنفسه، ومنها ما هو مصدرٌ في موضع الحال، ومنها ما هو كوحده اسمٌ في موضع المصدر الذي في موضع الحال؛ ولجعله هذه الأنواع بمنزلة واحدة خلطتها أنا في التمثيل المتقدم كما رأيت، فإن كان الأمر فيها على ظاهر كلامه من أنها أحوال بأنفسها حقيقةً فله وجهٌ من النظر، فإنه قد تقرر أن الجامد من الأسماء يقع حالًا قياسًا إذا كان ذا تأويل غير متكلفٍ، ولا شك أن هذه المعارف كلها يصح فيها التأويل على غير تكلف كما تقدم. فهي إذًا في عداد: بعته يدًا بيد، وكر أسدًا، وما أشبه ذلك، وإنما خالفتها في القلة والكثرة، فقل الحال المعرفة فوقف على محله، وكثر النكرة فقيس، فكما لم يقدر في: يدًا بيدٍ ونحوه أنه اسم في موضع الحال، أو في موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فكذلك لا ينبغي أن يقدر هنا لأنه غير محتاج إليه. وإن كان مراده أنها وقعت أحوالًا على الجملة من غير نظر إلى نيابةٍ أو عدمها فصحيحٌ، ويكون موافقًا لغيره على هذا الوجه. ويدل على هذا القصد من كلامه قوله على إثر هذا: ومصدر منكر حالًا يقع فجعله - كما ترى - حالًا بنفعه، وهو مصدر، وعادة النحويين أن يقولوا في نحو: قتلته صبرًا: إنه مصدرٌ في موضع الحال، ولا يقولون عادةً: إنه حالٌ بنفسه، فكذلك يقدر جعله هذه الأشياء أحوالًا بأنفسها أمرًا جمليًا. وبهذا الوجه تظهر مخالفته ليونس في جعله وحده ظرفًا أو منصوبًا على إسقاط الجار، وهو مذهب مرجوح لم يره سيبويه؛ لأن معنى الظرفية فيه بعيدٌ، وأيضًا فإنه يلزم على قوله أن تقول: زيدٌ وحده، فتجعل وحده واقعًا موقع خبر المبتدأ، كان المبتدأ مصدرًا أو جثةً كسائر الظروف، وليس ذلك بجائزٍ عند سيبويه والخليل لما يلزم على مذهبها من رفعه، ولا يرتفع أبدًا. وعلى مذهب يونس لا يلزم رفعه؛ لأنه ظرف. ويبقى المذهبان الآخران أن يكون وحدك عند الناظم على رأي سيبويه والخليل، وأن يكون على رأي من يجعله مصدرًا في موضع الحال. فالله أعلم بمراده.

    ثم قال:

    ومصدر منكرٌ حالًا يقع ... بكثرةٍ كبغتةً زيدٌ طلع

    يعني أن المصدر المنكر يكثر في كلام العرب وقوعه حالًا كما تقول: طلع زيدٌ علينا بغتةً، فبغتةٌ مصدرٌ واقعٌ موقع الحال، وكان الأصل فيه ألا يقع حالًا؛ لأنه غير صاحب الحال لكنهم لما كانوا يخبرون بالمصادر عن الجثث كثيرًا مجازًا واتساعًا، كقولهم: زيدٌ عدلٌ، وزيدٌ رضا، وصومٌ وفطرٌ، و:

    * فإنما هي إقبالٌ وإدبار * فعلوا مثل ذلك في الحال؛ لأنه خبر من الأخبار كما تقدم، فقالوا: قتلته صبرًا، ولقيته فجاءة ومفاجأة، وكفاحًا ومكافحة، ولقيته عيانًا، وكلمته مشافهةً، وشفاهًا، وأتيته ركضًا وعدوًا ومشيًا، وأخذت الحديث عنه سمعًا وسماعًا، ومن ذلك في القرآن الكريم {ثم ادعهن يأتينك سعيًا}، {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية} الآية، {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية}، {وادعوه خوفًا وطمعًا}، {ثم إني دعوتهم جهارًا}، وأنشد سيبويه لزهير بن أبي سلمى:

    فلأيًا بلأيٍ ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوكٍ ظماءٍ مفاصله

    وأنشد أيضًا:

    ومنهلٍ وردته التقاطا

    يريد فجأة، وقال أوس بن حجر:

    فكان من أفلت من عامرٍ ... ركضًا وقد أعجل أن يلجما وذلك في الكلام كثير كما قال: بكثرة، لكن هذا اللفظ يشعر بأمرين:

    أحدهما: أن هذا المصدر حال بنفسه لا بالنيابة، وهو مذهب الجمهور. وذهب الأخفش والمبرد [إلى] أن المصدر ههنا منصوبٌ بفعل مضمرٍ نصب المصادر المطلقة، والفعل المضمر في موضع الحال، لكن حذف وقام مصدره مقامه، فأما الأخفش فذلك عنده على الجواز، ولم ينكر مذهب سيبويه. وأما المبرد وأصحابه فالتزموه، ولم يقولوا بغيره. قال السيرافي: كان المبرد يدعي أن هذا القياس قول النحويين قال: وكان الزجاج يذهب إلى تصحيح قول سيبويه، وهو الصواب؛ لأن قول القائل: أتانا زيدٌ مشيًا يصح أن يكون جوابًا لقول من قال: كيف أتاكم زيدٌ؟ وكذلك: كيف لقيت زيدًا؟ فيقول: فجأة، قال: ولو كان على قول المبرد لجاز: أتانا زيدٌ المشي، وهو لا يجيزه. هذا ما قال السيرافي. ورد غيره قول المبرد بأنه إن كان الدليل على الفعل المضمر لفظ المصدر المنصوب به فينبغي أن يجوز ذلك في كل مصدر له فعلٌ، وألا يقفوا ذلك على السماع، وإن كان الدليل هو الفعل الظاهر، فذلك لا يمكن؛ لأن القتل لا يدل على الصبر، ولا اللقاء على الفجأة، ولا الإتيان على الركض؛ ولذلك منع سيبويه من دخول السرعة قياسًا.

    فإن قيل: فقد أجاز سيبويه أن يكون (سيرًا) في قولك: سير عليه سيرًا على إضمار فعلٍ، وذلك قياسٌ. فهذا مثل ذلك. فالجواب: أنه إنما أجاز الإضمار لما كان عليه دليل، وهو الفعل الظاهر، فليس ذلك كمسألتنا؛ إذ لا دليل فيها. وتمام هذا الوجه في شرح ابن خروف فتأمله هنالك.

    والأمر الثاني: التوقف في القول بالقياس في هذا المصدر؛ إذ لو كان عنده قياسًا لم يحتج إلى قوله: بكثرة، فلما قال ذلك دل على أن في القياس مغمزًا. ومذهب سيبويه والأكثر أنه ليس بقياس، فلا تقول: أتانا سرعةً، ولا أتانا رجلةً، كم تقول: أتانا عدوًا، وأتانا ركضًا، وقاس ذلك المبرد في كل شيء يدل عليه فعل من المصادر، فأجاز: أتانا سرعةً، ورجلةً، لأن السرعة والرجلة من ضروب الإتيان، ولا يجيز: أتانا ضربًا، ولا ضحكًا؛ لأنه ليس من ضروب الإتيان. والمذهب الأول أولى، لأن الحال - كما تقدم - في معنى الخبر، فكما لا يقع المصدر خبرًا عن الجثة قياسًا، وإنما يكون بالسماع فلا تقول: زيدٌ ضربٌ - ولا: أنت قيامٌ ولا عمروٌ أكلٌ قياسًا على قولهم: زيد عدلٌ، وزيدٌ رضا، فكذلك الحال لا يكون بالمصادر قياسًا، وكذلك الحال وصفٌ من الأوصاف التي تجري على النكرات فكما لا تقول: مررت برجل ضربٍ قياسًا على قولهم: مررت برجل عدلٍ، فكذلك لا تقول: أتيته سرعةً كما تقول: أتيته سعيًا. وهذا ظاهر.

    وقوله: ومصدرٌ منكرٌ حالًا يقع بكثرة فقيد الكثرة فيه بكونه منكرًا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1